• قصة قصيرة : خريف الغربة

رحيم الحلي

 

 مساهمات اخرى للكاتب

·        قصة قصيرة : خريف الغربة

 

في مزرعة صغيرة مسيجة بجدران طينية عتيقة ، جلس الغريب على حافة النهر ، يسترجع شريط احلامه ،  نظر الى الافق الاخضر وقد حجبته شجيرات خضراء متنوعة ، توزعت بينها بيوت النحل وهي عبارة عن صناديق خشبية صبغت باللون الاخضر فيها فتحة صغيرة لدخول النحل ، احب هذه المخلوقات الغريبة رغم انه كان يخاف لسعاتها ، دار في رأسه شريط الماضي القريب ، صورة شقيقه وهو يوصله الى السيارة الكبيرة التي حملت أثاثه وأفراد اسرته ذاهبة به الى عمق الصحراء ، بينما انتظر اخوه انطلاق السيارة بلهفة ، وهو يقول لابد ان يرحل هذا المجنون الذي خرب عيشتنا الهانئة ، انه متمرد لعين ومغرور يرفع انفه للسماء ، لايعرف المجاملة ولايتنازل ، لابد ان تتنازل كي تعيش ، ثم التفت الغريب صوب النحلات وقال في نفسه : اف انها تحجب الافق حين تحلق في كرنفالات احتفالية لايدرك معناها ، ثم يفكرمتعجباً كيف استطاع هذا الصندوق الصغير ان يتسع لهذه الاعداد الغفيرة ، تذكر وطنه ومدينته وبيت والده الذي لم يتسع لزوجته وابنتاه الصغيرتان وله ، تذكر كلام شقيقه وهو يقول له : هل عدت من المنفى لتنافسني على هذا البيت الصغير ، احب هذه المخلوقات المتعاونة التي نسقت اعمالها بشكل عجيب بعيداً عن الفردية ، قال مع نفسه وهو يتذكر اسرته :

- ياليتهم خلقوا من طينة النحل ثم استدرك قائلاً مع نفسه

- لكنهم في تلك الحارة الملعونة سيتحولون الى ذباب .

 انتبه الى سرب الاوز الذي سبح في بركة الماء الصغيرة والتي بدا مائها ازرقاً بلون الاحجار التي غلفت جدرانه ، كانت هذه الاوزات تطرد احد الاوزات الصغيرات التي تعودت الذهاب الى قفص الطيور البيضاء ، التي حرص صاحب هذه المزرعة على اقتنائها ، تعودت هذه الاوزة الصغيرة على الدخول الى اقفاص الطيور والتقاط الطعام ، لكنها حين كررت فعلتها وعادت الى فصيلها تعرضت الى صياح الاوزات ولضربات قاسية من مناقيرها الحادة  ، احس برغبة مفاجئة في البكاء فهو احياناً يتذكر اصدقائه الذين رحلوا بشكل فجائعي ، انه يستذكر احدهم كل يوم ، يدير ذلك اليوم اشرطة الذكريات حتى ينفصل عن واقعه ، ثم يظل يتحدث لوحده معتقداً ان صديقه المحتفى معه في المزرعة ، فيذهب الى خابية النبيذ ، ويملأ إبريقاً كبيراً ، وعند بركة الماء البيضوية التي غطتها عرائش الكرم ، وعلى طاولة خشبية صُنِعَتْ من جذوع الاشجار ، وَضع كأسين له ولصديقه المحتفى ، كان شديد الحزن رغم انه يعيش في هذه المزرعة الجميلة ، التي اهتم بها صاحبها المهندس الزراعي و زين مدخلها واسوارها بانواع الورود ،  واختار الوانها المتناسقة بعناية وخبرة وذوق ، فبدت تلك المزرعة وكأنها قطعة من الجنان التي حلم الانسان بالدخول اليها ، كان صاحب المزرعة يتعجب من هذا الغريب الذي عرف قصته وتعاطف معه فقد غادر وطنه المتخم بالاوجاع والقسوة ، حيث قدم له مايشتهي من الطعام والشراب والكتب ، لكنه لم يستطع ان يقص جذور احزانه ، فكثيراً مايراه يتحدث مع نفسه بصوت عالي ويرفع كأسه ويطرقه بالكأس الاخر ويواصل حديثه ، الذي بدا مضطرباً مشوشاً ، لايخلو من العتاب والشجار احياناً ، ثم قال ماذا عساني اصنع له كي ينسى اوجاعه ، وذات يوم خريفي وجده طافياً على ماء البركة .

حتى لو عشت في الجنان ، ستظل غريباً ، وستظل حزيناً متورم القلب تطفوا مثل خشبة فوق الماء ، ستحملك الاسماك التي سُحِرتَ برقصاتها وبألوانها الفرحة ، سينطفيء توهجها وترفعك بزعانفها كعريس متوج ، اما ورد الحديقة سينام مذعوراً خائفاً ، فقد غاب خليله ، في تلك اللحظة فقط ستنطفيء اضواءك وستنتهي احلامك ولن تسمع صدى القذائف ولا انين المعذبين ، وهناك ستحلق صوب اصدقائك البعيدين بأجنحة احلامك النزقة ، الملونة بالوان حمراء وبرتقالية ، لم تخلق لهذا العالم الرديء ، فهناك ينتظرك عالمك الوردي الذي عجزت ان ترسمه هنا ، رغم كل هذه الاصباغ الجميلة وكل هذا الريش ، صرت زورقاً تهزه انسام الخريف ، وهاهي وريقات الاشجار الساقطة مثل سنوات عمرك ، التصقت بثيابك وسترحل معك ، دع هذا العالم لغيرك ، ربما انت لاتستحقه او هو لايستحقك ، وافرش علينا كل متاعك المتهالك وسنهديك كل افراحنا المبعثرة وحلوانا ، خذها متاعك في الرحلة ، وقارورة مائك  هي عسل محبتنا ، ارحل الى نجمك البعيد في ذلك النيزك الضاج بالاضواء الليزرية ، فهناك ستجد حانتك الجميلة واصدقائك المخلصين .