مبدعون وابطال الحرية

• عن الراحل قاسم عبد الأمير عجام

عن الراحل قاسم عبد الأمير عجام

في ذكرى استشهاده السادسة منبر معرفة.. ومشعل تنوير*

 

اسمحوا لي، ونحن نجتمع هنا اليوم لاحياء ذكرى الشخصية الوطنية والثقافية الكبيرة - الشهيد قاسم عبد الأمير عجام، ان أتجاوز المقدمات وادخل في الموضوع متسائلا: الامَ نعود في فقيدنا؟ وماذا نتأمل من جوانب شخصيته؟ وبأيّها نحتفي؟ عارفوه عن كثب، ومتابعو مسيرته الحياتية الناضجة، الممتدة أربعة عقود من السنين ونيف، يحارون ربما في الإجابة على هذه التساؤلات.

فأمام أبصارهم ينهض الفقيد بلطفه وحضوره الودود الباسم، بغنى شخصيته وسعة ثقافته، بحيويته ومثابرته، بعمق معارفه وتواضعه، بعطائه السخي المتجدد، بحبه الغامر للحياة واحتفاله بها، بتفاؤله.. واستبشاره أبدا بالنور ينبلج من رحم الظلمة الحالكة، بنقاء روحه ونفاذ بصيرته، بمبدأيته وانفتاحه، بالإنسان البهيّ فيه.. وأصالة حسه ونزوعه الإنسانيين، بانحيازه للحرية والخير والجمال، بانشغاله الدائم بهموم السواد المحرومين المعدمين، وإيمانه بضرورة إنصافهم.. وإحقاق الحق وإقامة العدل، وسعيه المثابر المتفاني الى ذلك. يحكي زميله في المدرسة، المترجم صلاح السعيد – وأنا انقل هنا من كتاب "القابض على الجمر – من مذكرات ويوميات الشهيد قاسم عبد الأمير عجام" الذي أعدته وقدمت له الدكتورة نادية العزاوي – يحكي ان الفتى النحيل قاسم الذي انتقل عام 1959 الى متوسطة الحلة قادما من المسيب، كان ذا وجه ودود مشرق لا تفارقه الابتسامة، وانه أصبح في بحر أيام صديقا لجميع الطلاب في صفه الثاني. ويضيف: "كان يحدثنا بأشياء عجيبة جديدة علينا، يحدثنا عن السلام والإنسانية والجمال والحب، ومتعة قراءة الكتب والمجلات. وكان الكتاب لا يفارقه إلا في ما ندر. وبعدها استطاع ان يجمعنا في حلقة أسبوعية، ونحن ننصت اليه مبهورين بحديثه وقوة حجته".

كان الفتى قاسم يومها ابن أربعة عشر عاما لا أكثر! وحين شبَّ وبلغ السابعة عشرة من العمر، وبدأ يتهيأ لامتحان البكالوريا في الخامس الإعدادي، اقتيد الى السجن – حسب رواية صديقه المحامي مهدي الانباري - بسبب حيازته كتاب "أزمة الفكر الاقتصادي" من مؤلفات الدكتور إبراهيم كبة! ولم يمر بضعُ سنوات حتى كان يكتب في يومياته عن "عالم الفكر"، الذي حين قرر ان يدخله، أحس في الحال – مثلما قال - "بالحياة تعود للروح، تنعشها وتفتح نوافذها لكل تيارات الإنسان.. يبني مستقبله.. اذ يهدم سجنه ويدوس سجانيه".

وبعد شهور من ذلك، في شباط 1967، صرخ محتجا في وجه أعداء الفكر، الجلادين بكلامه الفصيح: "كل آلامي التي أعيشها منذ أيام، تمتزج بآلام كل المعذبين في بلدي، وتصرخ بكل ما في الأعماق من لوعة، وبكل حرارة الشكوى: لتـَطلعْ ايها الفجرُ! ولتـَتمزقْ يا ظلامَ الطغاة السفلة!". هكذا راح قاسم الفتى والشاب ينمو وينضج، وها هو ولما يتجاوز العشرين الا قليلا، يغدو رجل قضية ومشروع مثقف عضوي بامتياز.

ولا يبدو من قبيل المصادفة انه في تلك الفترة بالذات، في أواسط الستينات، ووفق معلومات وإشارات واستدلالات مختلفة، وجد طريقه الى صفوف الحزب الشيوعي العراقي.

تنبه الدكتورة نادية العزاوي في كتابها آنف الذكر، الى ان من يعرف الشهيد قاسم شخصيا، ومن يتعرف عليه من خلال الكتاب، يلمس عمق الجذر الديني في شخصيته، الدين – حسب قولها - بما هو مفهومٌ جامع للخير والتقوى ومكارم الأخلاق، والدين بما هو تطهير في طقوسه وفروضه وشعائره. وتتحدث عن عجبها – الذي يشاركها فيه لا ريب كثيرون – كيف وفـّق قاسم بين النشأة الدينية المحافظة على طقوسها، وبين انتمائه اليساري؟ كيف يلتقي الدين بما فيه – من بعض وجوهه – من نزوع ماضوي غيبي تسليمي تقديسي مطلق، بالفلسفة المادية والفكر التقدمي النقدي، ذي النزوع المستقبلي المنفتح على التغيير والتحديث؟ لا تضرب الكاتبة أخماسا بأسداس، بل تفتش عن الجواب لدى الفقيد نفسه، فتجده في دفاتر يومياته.. حيث يقول: "مستعيدا جوانب أخرى من بداياتي الدينية، ومعها استعيد إجاباتي على تساؤلات كثير من الرفاق والأصدقاء، عن تحولي من الديانة الى اليسار السياسي، فأؤكد بفخر ان بداياتي تلك كانت الأساس الصلب والنقي لتطوري الفكري. فقد رضعت في كنف الدين أسس الصدق وحبَ الخير واحترامَ الناس والسماحة والانحياز للحق واتباع المُثل الرائعة أفكارا او شخصيات وهكذا ارتبطت منذ الصغر بنماذج النزاهة والثورة والصدق، التي مثلها عليٌ (عليه السلام) وأولاده وشيعتـُه الأوائل، بوجه الانحراف والظلم. فكان ذلك تمريني الأول على الانحياز لكل ثوار العصر الجديد، وأخلاقيات التقدم الثوري الاجتماعية. لم أجد تناقضا.. بين أساسي الديني وانحيازي اليساري، بل كان تطورا. كانت الأفكار التقدمية قد وجدتني مهيئا بحب الخير ومصلحة الناس، والتطلع الى عالم نظيف لا جور فيه ولا مظالم".

دوّن فقيدنا هذه السطور في خريف 1983. وكان حينها، ومنذ السبعينات بنحو خاص، قد احتل موقعه بين الساطعين من وجوه الثقافة والتنوير، والمتفانين في جهدهم الوطني وسعيهم التقدمي.  وصار ملء الأبصار والأسماع وهو يتحرك ناشطا لا يعرف الكلل في شتى ميادين العمل الأدبي والفني والبحثي والثقافي عموما، والسياسي والإعلامي والعلمي والمهني. وعرفته المنابر الأدبية والفنية في بغداد والحلة وغيرهما، ودور العرض، وقاعات المحاضرات، وصفحات الصحف والمجلات، والندوات والمؤتمرات العلمية، وشاشات التلفزيون، والحلقات الدراسية المختلفة، والإدارة والعمل الزراعيان، وموائد النقاش السياسي، والمختبرات العلمية، وساحات النشاط الثقافي، وحتى مواقع العمل النقابي – المهني والتعاوني.  كانت الحياة تأسره، والرغبة في تغييرها لتصير حرة كريمة جديرة بالإنسان، تعصف به. كان كل ما فيها يجتذبه، فينخرط فيه مجربا.

لكنه يبقى في النهاية مسكونا بالقضيتين الجوهريتين، اللتين تشكلان لب الحياة وحركتها ومآلها: قضية الثقافة – والأدب منها في الصميم، وقضية السياسة.. وما بين الأدب، او الثقافة، والسياسة. وفي خضمهما وما ينسج بينهما، يبصر الحقيقة التي لا يراها البعض، ممن يخشون على الأدب (او الثقافة) من طغيان السياسة. كتب في احد دفاتره في آب 1983 يقول: "ما بين الأدب ومنه الى عموم النشاط الفني، وبين السياسة ومنها الى عموم النشاط الفكري، يتوزع القلب منذ ان اكتشف ذاته ضحى يوم عزيز. وما بينهما جرت الخطى ونهيرات الأمل وجداول الطموح، فلا الأدب اصطفاني اليه، ولا السياسة منعتني من تجاوز منطقها في أحيان كثيرة. ربما لأنني وجدت طريقي اليها من خلال الأدب. بل لعلني أكثر دقة إذ أقول :انني فهمت الأدب وأحببته من خلال السياسة. اجل، هكذا، وما زلت احملهما في الصدر، مع كل الهموم والآمال. وبوحي من توحدهما في الوجدان كانت المعاناة.. ولكني لا أنكر ان بي حماسا لأي إغراء سياسي باستدعاء الأدب، حتى ليمكنني ان اسخر واثقا من اولئك الذين يتباكون خوفا على الأدب من غول السياسة. فبالسياسة تثقـل موازين الأدب، وبصراعاتها تتفجر صراعات الإنسان مع ذاته وأهله ومجتمعه.. فلا اذكر دافعا كان يحرقني للكتابة شوقا، كما يفعل الهم السياسي.. حتى وأنا أفكر بمشروع أدبي، تنثال علي صورٌ ومواقف ومشاعر، كانت السياسة امَّها وأباها وكلَّ عشيرتها". مع توالي السنين.. مع الخوض المتعمق المتواصل في قضايا الحياة والثقافة وفي الشأن العام، والانشغال بالناس وهمومهم وأحلامهم، وبالمجتمع ومعضلاته، والوطن ومستقبله، ومع الانخراط في النضال الملموس المتفاني من اجل انعتاقهم ونمائهم وارتقائهم، وفي خضم الامتحانات والمحن الكامنة في كل مقترب ومنعطف على هذا الطريق، بلغ قاسم مراحل النضج، واستوى قامة عالية - ثقافيا ووطنيا وإنسانيا.

صار قاسم عجام منبر معرفة ومشعل تنوير، واستردت الثقافة عنده مغزاها العميق كعامل تغيير للإنسان والمجتمع، ومحفز على السعي للارتقاء بهما وبالوطن الذي يحتضنهما. فلا ثقافة حقيقية ً من دون جهد كفاحي يجسد جوهرها، ويسعى لخير منتجيها ومستهلكيها معا، لخير الناس المبدعين والمجتمع بأسره.

الا يكفي هذا سببا لتصويب الماسورة الصماء المميتة الى صدر أبي ربيع الجياش بالحياة، ورأسه المضطرم بالأنوار والأحلام.. والى روح الإنسان الجميل الصفيّ فيه؟ وكان ذلك عينه، ولا شيء سواه، وراء جريمة إطفاء حياة رفيقه كامل شياع، بعده بأربع سنوات.

اختم بما أوردته الدكتورة نادية العزاوي في آخر كتابها، من عرض لدراسات الشهيد الراحل ومقالاته وأنشطته المختلفة الأخرى. وهو عرض حافل حقا، وان لم يكن شاملا كما تقول. عرض يستغرب الإنسان معه، وهو يطل على ثرائه وتنوع مفرداته، شكوى صاحبه قبل سنوات من استشهاده، من ان "العمر يجري دون انجاز حقيقي"! ليت الكثيرين منا ينجزون بعضَ بعض ِ ما أنجز، كما ونوعا! وليتنا نقرأه جيدا، ونتمعنُ في انجازه، ونتعلمُ منه ومما تركه لنا، هو وأمثاله، من رفاقه وغير رفاقه، الكبارْ بعقولهم وقلوبهم، وبروحهم المبدعة المكافحة، وإنسانيتهم الثرة العميقة!.

وتشير الدكتورة نادية العزاوي في كتابها المذكور، الى ان يوميات الشهيد تعكس انحيازه الى اليسار، رابطة ذلك بـ "انتمائه المبكر الى الحزب الشيوعي العراقي". لكنها لا تذكر تاريخا معينا لهذا الانتماء. وقد يصح القول في ضوء بعض التلميحات والإشارات، التي يتضمنها الكتاب واليوميات ذاتها، انه تم في أواسط الستينات، حين كان الفقيد في حوالي العشرين من العمر.

وربما يتساءل قارئ الكتاب، مثلما تساءلت الكاتبة نفسها متعجبة: كيف وفـّق قاسم بين نشأته الدينية المحافظة على طقوسها، وبين انتمائه اليساري؟ صديقه ورفيق دربه كامل شياع، الذي تسامى من بعده ومثله شهيدا للوطنية والثقافة، نوّه بشخصيته كمثقف انساني النزعة، وببصيرته النافذة، ونقائه الروحي، وحرارته الإنسانية، وحبه الغامر للحياة. والاكاديمية المعروفة د. نادية العزاوي، جامعة ودارسة يومياته ومذكراته، التي خرجت بالكثير منها السنة الماضية في كتاب "القابض على الجمر"، افتتحت مقدمتها له بالحديث عن "الحضور الإنساني البهي.." للفقيد، "الحضور المحتفل بالحياة، المتوهج بمشاريع واعدة ومتجددة".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* نص الكلمة التي ألقيت في حفل افتتاح الدورة الأولى لـ"ملتقى قاسم عبد الأمير عجام للتعبير الحر"، الذي أقيم يوم 17 أيار الفائت بمدينة الحلة، في مناسبة الذكرى السادسة لاستشهاده.