اخر الاخبار:
محافظ نينوى يزور مطرانية القوش - الثلاثاء, 16 نيسان/أبريل 2024 10:33
زيارة وفد هنغاري الى دار مطرانية القوش - الثلاثاء, 16 نيسان/أبريل 2024 10:32
طهران تتراجع عن تصريحات عبداللهيان - الإثنين, 15 نيسان/أبريل 2024 11:24
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

مبدعون وابطال الحرية

• شهيدة الناصرية والحزب الشيوعي سحر الأمين سفاحو البعث أعدموها في ريعان شبابها

د . جمانة القروي

شهيدة الناصرية والحزب الشيوعي سحر الأمين

سفاحو البعث أعدموها في ريعان شبابها

 

 

 

على أطلال المدينة السومرية اور، مهد الحضارات الإنسانية العريقة الأولى.. شيدت مدينة الناصرية.. تلك المدينة الجنوبية التي ورثت الإهمال والتهميش منذ تأسيسها، ومن قبل جميع الحكومات التي تعاقبت على حكم العراق.

في دماء وعروق أبناء هذه المدينة، تجسدت معاني الشموخ والاباء.. الحب والرومانسية.. الحنان والوفاء ..التضحيــة والعطاء.. الشجاعة والصمود.. فقد حبت الطبيعة أبناء تلك الأرض الكثير من الصبر والصلابة.. فعندما كانوا يواجهون ظلم وقسوة الطبيعة حينما تجرف مياه الفيضانات محاصيلهم التي شـــارفت على الحصاد.. يقفون مكتوفي الأيدي وأحلامهم تضيع.. ويتبدد جهدهم وعرقهم.. ليذهب أدراج الرياح أمام ناظرهم... لكنهم يتحملون المصائب والنكبات بهامات مرفوعــة.

من طينة تلك الأرض جبل مئات الأبطال من شهداء العراق.. وبالأخص شهداء الحزب الشيوعي العراقي.

في يوم قائض شديد الحرارة مغبر حيث الهواء المعبأ برمال الصحراء الحمراء من شهر آب عام 1964 وفي إحدى المناطق الشعبية بمدينة الناصرية «حي الاسكان» أحست الأم بالآم الطلق، فاستعدت لاستقبال القادم الجديد الذي سيكون ترتيبه الثامن في العائلة، كانت تذرع حديقة الدار ذهابا وايابا، مستعينة بذلك على تحمل الأم المخاض.

في بيت يتميز بالحب والطيبة حيث لا وجود للحقد أو الضغينة بين ساكنيه ولدت ســحر التي كانت آخر العنقود وأحلاه.. تميزت بعينين سوداوين كبيرتين.. ووجه مدور وبشرة بيضاء، تزين الوجه الجميل غمازتان تضيفان لجمال الطفلة الوليدة جمالا أكثر.. نشأت سحر وترعرعت في أجواء الحب والعاطفة والحنو والصداقة من قبل أخواتها، واخوانها بالرغم من الفارق العمري بينهم.

لم تتمتع سحر بطفولتها كباقي الأطفال مع انها شاركتهم ألعابهم، فبلوغها وهي لم تتجاوز العاشرة بعد، جعلها تشعر بانها اكبر من أقرانها سنا.

منذ سنوات طفولتها الأولى تميزت بحيويتها ونشاطها ومرحها، وحب المزاح وسرعة البديهة.. أحبت الرقص والغناء، وكان لصوتها عذوبة خاصة.. انتمت إلى فرقة الطلائع (التابعة للحزب الشيوعي العراقي) في مدينة الناصرية وواظبت على التدريبات التي كانت تقام في مقر الحزب الشيوعي ولم يكن عمرها، آنذاك سوى تسعة أعوام.. عن طفولتها وذكرياته معها يحدثنا شقيقها أمير الذي كان اقرب الجميع اليها رغم السنوات العشر التي تفصلهما فيقول «دخلت سحر المدرسة وهي في سن السادسة لان اختنا الأكبر» موناليزا «كانت حينها معلمة في ناحية «البطحاء» فكانت ترافقها للمدرسة لتغيبا أسبوعا كاملا، وما أن تعود حتى تقص علينا كل صغيرة وكبيرة مرت بها.. كان يشوب وجنتيها الاحمرار ما أن تسمع مديحا من احد ما، لم تكن تحب مدح نفسها وتردد دائما مقولة «من مدح نفسه فقد ذمها.. حسب قول أخي أمير»...!! من أمتع أوقاتها وأسعدها حينما ترافق والدتنا لزيارة العتبات المقدسة لم يكن الدين هو ما يعنيها، انما السفر وصحبة النساء وسماع أحاديثهن.. في ذات الوقت شغفت بسماع قصص عن بطولات ومآثر الشيوعيين، فكثيرا ما تسال عن استشهاد فهد وسلام عادل وعن أسماء رؤساء الأحزاب الشيوعيــة.. وتكتب أسماءهم على أبواب البيت لكي تحفظها».

اما أخوها سمير فيحدثنا عن فترة أخرى من حياة سحر عاصرها هو.. فيقول: "تركت بيت الأهل في الناصرية، حينما كان عمر أختي سحر 14 عاما، أتذكر ملامحها الجميلة المميزة، خاصة عينيها السوداوين وحاجبيها اللذين كثيرا ما سببا لها مشاكل في المدرسة مع مدرساتها.. كانت متعددة المواهب فبالإضافة إلى عذوبة صوتها، حفظت العديد من أبيات الشعر الشعبي والعمودي، وأحيانا كانت ترتجله..امتازت أيضا بجرأة غريبة، واستقلالية الرأي والكيان".

ست سنوات ما يفصل بين سحر وأخوها الرابع جمال، عن طفولتها يقول: "أتذكر تماما، حينما كانت ما تزال رضيعة في المهد وتبكي.. فأسرع إلى والدتي مشفقا، وخائفا عليها من كثرة البكاء، وكثيرا ما بكيت على بكائها.. الحقيقة لم تكن طفولتها تختلف عن أية طفلة أخرى تعيش في منطقة جنوبية.. فكانت مع بنات المحلة وأحيانا الأولاد تمارس الألعاب المتعارف عليها آنذاك، ربما الشيء الوحيد الذي ميزها عن بقية الفتيات ذهابها إلى مدرسة بعيدة بالقطار، وغيابها عنا لأسبوع أو أسبوعين مع اختنا موناليزا، قضت حوالي أربع سنوات هناك... عادت بعد ذلك إلى الناصرية والتحقت بمدرسة قريبة من بيتنا اســـمها على ما اذكر (ابتدائية حطين).. بالرغم من وجود مدارس قريبة من بيتنا، لكن موناليزا أخذت سحر معها إلى مدرستها، (لماذا سحر بالذات دون أخواتها الأخريات؟ لا اعرف وكأن القدر رسم، وخطط لكلاهما الاستشهاد والموت ببطولة!!)".

نشأت سحر وتربت على مبادئ الحزب الشيوعي والفكر الماركسي.. وقد تعزز ايمانها بهما، بعد سفرها صيف 1976 إلى ألمانيا الديمقراطية للمشاركة في مهرجان طلائعي عالمي، وقد اختيرت ضمن أربعة أطفال ليمثلوا العراق.. آنذاك لم يتجاوز عمرها الـ12.. بعد عودتها من المهرجان، أصبحت انسانة ناضجة، وكأن الفتاة الصغيرة التي سافرت قبل شهر واحد، كبرت فجأة.. صقلت هذه التجربة شخصيتها تماما، وأخذت منحى آخر أكثر جدية ومسؤولية.. يقول جمال عن هذا الحدث "تغيرت أختي خلال تلك الثلاثين يوما بشكل أذهلنا جميعا، أضفت تجربة حضور المهرجان، على شخصيتها بطابع مميز اتسمت به.. كما أثرت على تكوينها ووعيها السياسي لاحقا، وبدا ذلك جليا بزيادة قراءتها، واهتمامها بالجانب السياسي ثم انضمامها للحلقات الماركسية الصغيرة والتي أهلتها للدخول في صفوف اتحاد الطلبة، و العمل الحزبي لاحقا".

في منتصف عام 1978.. نزع وحش النظام، قناعه المزيف، ليكشر عن أنيابه المسمومة ليفترس، ويسحق دون رحمة كل من يخالف أفكاره ومعتقداته، ولم يكن يعنيه من هو خصمه رجلاً كان أو امرأة أو حتى طفلاً..!! اضطرت سحر وأخواتها الأكبر منها لترك مقاعد الدراسة لأنهن رفضن الانتماء للاتحاد الوطني لطلبة السلطة.. ومع ازدياد وحشية وبطش السلطة وخروج معظم اخوانها من العراق عام 1979.. رحل أفراد العائلة المتبقية إلى بغداد في نهاية عام 1980 تاركين وراءهم، كل شيء، حتى ذكرياتهم.. إلا أن سحر أبت اللحاق بهم واختارت البقاء في الناصرية.. ومن هناك واصلت السير في الدرب الذي اختطته لنفسها.

لم تبالِ بما قد يؤول إليه مصيرها، وما مدى الوحشية والقسوة والتعذيب الذي قد يطالها لو وقعت يوما بأيديهم.. وأبدت استعدادها من اجل التضحية في سبيل ذلك... فقد آمنت سحر منذ طفولتها وتفتح أولى براعم شبابها بالأفكار الثورية والتقدمية، ولم يثنها الإرهاب، ولا كسرت شوكتها الملاحقة لعائلتها، أو أثـــر طردها وأخواتها من المدرسة على ايمانها بالمبدأ الذي شبت عليه.. بل على العكس عمق في نفسها التحدي.. يقول أخوها جمال: "على الرغم من صغر سنها إلا انها كانت ذات ادراك كبير، وتميزت بذاكرة قوية ومتوقدة، بالإضافة إلى انها كتومة جدا... لذلك اعتمد عليها الحزب في الكثير من الأمور.. ان إصرارها على الصمود، كان ناتجا عن ثقتها التامة بهذا الطريق.. ربما لم تكن سحر قد استوعبت المبدأ بكل حيثياته وأبعاده، لكن دافعها الوحيد هو حبها الفطري للحزب.. ليس إلا".

عاشت في احد البيوت الحزبية السرية بضواحي مدينتها ومكثت هناك أكثر من عام مع مجموعة من الفتيات بسنها أو اكبر منها بقليل، حيث كن ينقلن البريد الحزبي.... كان أخوها جمال يتابع أخبارها من خلال صاحب هذا البيت.. انتقلت إلى بيت آخر في "الحي العسكري" وعاشت في هذا البيت فترة اختفائها في الناصرية، وفيه أيضا تعرفت على زوجها الشهيد صباح طارش ..

كان الحنين إلى والدتها والارتماء في أحضانها الدافئة.. يشدها لزيارة العائلة بين حين وآخر.. فتأتي إلى بغداد.. لم تكن سحر تتخلَ عن نضالها حتى في تلك الأيام، فخلال وجودها في بغداد حاولت الاتصال بالعديد من الرفاق والرفيقات، الذين تواروا عن الأعين، لإعادة صلتهم الحزبية.. كما كانت تنقل البريد الحزبي من محافظتها إلى العاصمة وبالعكس.

القي القبض على سكرتير الحزب بمحافظة الناصرية الشهيد علي جبار فتسلم بعده صباح طارش، مسؤولية إدارة التنظيم... يقول جمال اخو الشهيدة سحر والذي عاصر سنوات نضالها "ازدهر، وأينع الحب في قلب سحر وصباح.. ولابد من ان يتوج هذا الحب بالزواج.. وبتكتم تام جاء طالبا سحر.. باركت هذا الزواج.. وقد أسعدتهم موافقتي كثيرا، إلا أني لم احضر عقد قرانهما الذي تم بتكتم تام عام 1983عند احد سادة المدينة وذلك لظروفهما الخاصة والصعبة في آن.. كان عمرها آنذاك 19 عاما".

في احد تلك البيوت المتفرقة هنا وهناك بحي سومر.. والبعيدة والمستترة عن أعين السلطة وكلابها.. عاشت سحر وزوجها، كان اختيارهم لهذه المنطقة موفقا جدا حيث توفرت لهم التغطية الكاملة للعمل السياسي والسري وقد جعلوا منه بيتا فيه كافة مستلزمات البيوت الحزبية،..واستطاعوا لفترة طويلة،الاختفاء فيه ، لولا وشاية خائن.

ما تزال أسرار عملية اقتحام بيتهم غامضة لليوم، ولا يعرف بالضبط كيف رصدت عيون الأمن ذلك البيت الصغير المنعزل، إلا ان المرجح هو ان اختراقات حصلت في تلك الفترة للتنظيم ، مما أدى للكشف عنه والإيقاع به.

بعد انتصاف النهار بنحو قليل في يوم قائظ من شهر تموز عام 1984 طوقت الحي السكني والبيت بشكل خاص.. مفرزة مكونة من ثلاثة ضباط وحوالي عشرين من منتسبي الأمن، حاملين مختلف الأسلحة الخفيفة والمتوسطة.. وتعالت أصواتهم مطالبة سكنة الدار بتسليم أنفسهم.. إلا ان صباح لم يستسلم، وقاوم ببسالة، فقتل منهم ثلاثة، احدهم برتبة ضابط.

في هذا الجو المفعم.. بالموت، ورائحة البارود وصوت أزيز الرصاص لم تفقد سحر شجاعتها ورباطة جأشها حيث قامت بإحراق وإتلاف كل ما يتعلق باسرار الحزب من أسماء وعناوين، وأساسيات التحرك الحزبي، هي والرفيق مهدي النجار حتى لا يقع في أيدي السلطة ما قد يؤدي بحياة أو امن الآخرين.. استمرت المواجهة العنيفة أكثر من ساعتين ولم تستطع المفرزة اقتحام البيت، فتصورا ان أكثر من واحد يقاومهم.. ولم يتمكنوا من دخول البيت إلا حين وجه صباح الطلقة الأخيرة من مسدسه لتستقر بصدغه..!! كما حاولت سحر قطع لسانها حتى لا تضعف، أو تخونها شجاعتها وتشي بما تعرف.. لم تكن قد تجاوزت العشرين ربيعا، إلا انها كانت واسعة الإدراك لخطورة الموقف الذي تجابهه.. فحبيبها وزوجها بين الحياة والموت.. ورفيقها مهدي يضرب ويهان بوحشية أمامها.. والدماء التي تسيل من فمها بعد محاولة انتحارها، والطفل الذي في بطنها، حينها كانت في الشهر الثامن من الحمل. اقتيدت سحر إلى مستشفى الناصرية وتحت حراسة مشددة، منعت عنها الزيارة وأوقف بباب غرفتها حارس على مدار الساعة.. حاولوا إنقاذ حياتها بشتى الطرق، ليس عطفا، أو إنسانية منهم انما لانتزاع معلومات و لمعرفة هوية من معها.. لكنها لم تنطق بحرف واحد.. ولم تذكر حتى اسم زوجها؟ فقد حيرهم من يكون هذا الذي انتحر بآخر طلقة من مسدسه.. سيما ان ملامحه قد تغيرت نتيجة اصابته بالرأس.. عثروا بحوزته على عدد من الهويات وبأسماء مستعارة .. فلجأوا إلى عملائهم من الأمن والمخابرات في كل منطقة من الناصرية لكي يتسنى لهم التعرف على شخصيته من خلالهم.. وبهذه الطريقة توصلوا إلى حقيقة شخصيته.. بعد اقل من يومين فارق الحياة.. ثم سلموا جثته إلى أهله ومنعوا مراسيم العزاء.. تعرضت سحر لشتى أنواع القسوة والإرهاب ومورست ضدها أبشع أساليب التعذيب للحصول على معلومات سريعة.. إلا انها ظلت صامتة لم تنبس بنبت شفة.. ولم يتمكنوا من كشف أي بيت من البيوت الحزبية التي كانت على صلة بها.

في دجن الليالي، والأيام وأنينها الصامت.. وبين هاوية الموت وأمل الحياة، ابتسم لها محمد ففرحت سحر بوليدها، وثمرة حبها، كأي أم.. على الرغم من المحنة التي تمر بها، وقساوة ووحشية مَن حولها، وقصر الوقت وسرعته، فلم تكن سوى دقائق قليلة تلك التي رأته فيها، وضمته إلى صدرها.. إلا انها استطاعت تحديد ملامحه قبل انتزاعه عنوة منها، ليترك في ملجأ للأيتام، يواجه مصيره.

في غضون أسابيع تماثلت سحر للشفاء لتنقل إلى مديرية امن الناصرية. ثم إلى أقبية امن بغداد.. تحدث احد شهود العيان إلى أخيها الكبير، عن بطولاتها، دون ان يعرف انها أخته.. فقال: "لم أرَ شابة بهذه الجرأة.. وهذا المراس.. شديدة الاباء.. تمشي للتحقيق شامخة وبثقة عالية بمبدئها ونفسها... كانت تقول لنا ارفعوا رؤوسكم.. ولا تطأطئوها أبدا.. نحن لسنا مجرمين.. انما نحن مناضلون!!".

مكثت سحر في سجن الرشاد للنساء فترة انتظارها لتنفيذ حكم الإعدام بعد ان حكمت محكمة "الثورة" بتاريخ 31/ 12/ 1984. عليها بذلك. ومن هناك بعثت رسالتها الأولى والأخيرة إلى أهل زوجها ترجوهم البحث عن طفلها وتربيته، والعناية به .

منتصف شهر نيسان من عام 1985 أزف وقت رحيل سحر، لتلحق بمن أحبت.. فتقدمت مرفوعة الهامة.. كشجرة نخيل لتعتلي المشنقة.. وما ان طوق الحبل رقبتها حتى أطلقت الزغاريد.. لتذهل وترعب قاتليها.. ولترسم احدى أجمل صور البطولة والشموخ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

د . جمانة القروي

جريدة "البينة الجديدة" ص16

الأربعاء 11 / 8 / 2010

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.