مبدعون وابطال الحرية

كمال يلدو: سلاماً للقائد الأنصاري نجيب حنا عتو (حمه سعيد ـ أبو جنان)

 

كمال يلدو: سلاماً للقائد الأنصاري نجيب حنا عتو

(حمه سعيد ـ أبو جنان)

 

تعتبر عملية صناعة "الرمز" أو "البطل الوطني" في بعض دول العالم عملية تراكمية ايجابية يقوم بها المعني، لحياته الخاصة أوللمجموع، أما في مشهدنا العراقي فيضاف لها عناصر أخرى هي سلبية بظاهرها لكنها تعتبر مكملة لبناء ذلك "الرمز". وتُحدثنا سير المناضلين عن شتى انواع المعاناة، مع الاجهزة الامنية في الزنزانات والمعتقلات، في المنافي والجبال، عبرالحدود او مختبئين في اقصى زوايا الوطن، لابل حتى ان بناء العائلة وتربية الاطفال كانت أقرب الى الخيال منها للحقيقة. هذه الوقائع فرضتها العقليات المتخلفة والنظرة الدونية لفكرة الحرية والتعددية وقبول الرأي الآخر في مجتمعاتنا الشرقية، فكانت النتيجة ندوب وعلامات تركها الزمن القاسي، وقوافل من الشهداء رحلوا قبل اوانهم وقبل ان يقطف الوطن ثمار عطائهم. لكن تبقى "العبرة" و "النموذج" من سير هؤلاء المناضلين، نبراساً على مدى العصور، قد يأخذ مداه في حدود الوطن أو قد يسافر وينير طرقات شعوب اخرى.

****

ولد القائد الأنصاري نجيب حنا عتو عام ١٩٤٤ في ناحية عنكاوة التابعة لمحافظة أربيل، وفي محلة وردة. درس الابتدائية في مدينته، والمتوسطة في كركوك، ثم دخل الثانوية في أربيل. وفي العام ١٩٧٤ حصل على بعثة دراسية للأتحاد السوفيتي في معهد العلوم الاجتماعية. اقترن بالسيدة غزالة حنا توما وأنجبت له ثلاث بنات وولدان (جنان، جنيد، ميلاد، ريزان وليليان) ولهما الآن ثلاثة احفاد، يقيمون حاليا في مملكة السويد.

يستذكر الاستاذ "نجيب حنا عتو" سني شبابه الأولى ورحلته مع عالم السياسة بالقول: تفتحت عيوني في بيت كانت مفردات السياسة فيه متداولة بشكل كبير، فوالدي كان عاملاً في شركة النفط، اضافة لكونه عسكري سابق، لكني علمت بهويته السياسية بعد ثورة ١٤ تموز، وربما لأسباب امنية حسب ظروفهم آنذاك. كانت المرة الأولى التي اتعرض بها للأعتقال في عام ١٩٦٢، حينما اقمنا احتفال علني بعيد (نوروز) عند "مزار مريم"  وكنت حينها مسؤول اتحاد الطلبة العام في مدينة عنكاوة، وكان الامر ناتج عن وشاية قدمها أحدهم للجهات الامنية، وعندما مثلتُ امام حاكم التحقيق، دافعتُ بصلابة عن موقفي، مما أثار اعجابه، فنهر (الجاسوس وصحبه) وقال لهم: هذا موجود هنا لأنه متهم، لكنه أكثر شجاعة منكم وأنتم تقدمون افادتكم كشهود، فاطلق سراحي في حينها.

بعد انقلاب ٨ شباط الأسود، يُكمل الاستاذ نجيب حنا عتو ويقول: كنتُ حينها في بغداد، اكمل دراستي في احدى الاعداديات المسائية، فقررت انا وبعض الاصحاب مغادرة بغداد واللجوء (الى الجبل) حتى لا نكون فريسة سهلة للحرس القومي، وفعلا انطلقنا من جهة كركوك (خوا نوزان)عبر قرية كانت معروفة، ومن الطريف القول، بأن الليلة الاولى قضيناها في السجن هناك من قبل (عناصر كردية) ربما لاسباب أحترازية آنذاك، لكن الأمر الطريف كان مصادفتي بالسجان الذي كان زميلا لي في المدرسة، فأنتهت الامور الى سلام. بعد ذلك تواصلنا مع الانصار والشباب الآخرين الذين صعدوا الجبل ايضا، وصرنا نؤسس القواعد، ونحمي انفسنا من قوات النظام والمندسين في المنطقة، ونتجنب الاحتكاك او الانسياق لمعارك جانبية مع الاحزاب الكردية، وأستمر عملنا في تلك القواعد حتى قيام الأخوة الاكراد ب (طردنا) من المنطقة بعد أن وقعوا بيان ١١ آذار مع الحكومة آنذاك.

ثم يسترسل الاستاذ نجيب حنا عتو بالذكريات ويقول: قصدت العاصمة بغداد وكنت امارس مهامي السياسية رغم ظروف التوتر في الشارع، وعملت ايضا كمصحح في القسم الكردي من جريدة الحزب الشيوعي (الفكر الجديد ـ بيره نوي)، واضيف لها مهمة التصحيح في الصفحة الثقافية التي كان يشرف عليها الاستاذ سعدي يوسف.

لم تمض الامور على ما يرام وبدأ النظام بشن حملته الاجرامية على اعضاء واصدقاء الحزب الشيوعي منذ اوائل ١٩٧٨، وصرنا نترقب الوضع عن كثب حتى حانت ساعة اختفائي في بغداد، ثم التوجه الى (أربيل) التي لم تكن الحملة الاجرامية قد طالتها آنذاك، وقد تمكنت من الوصول الى (مقر الاقليم) والالتقاء بالرفيق ـ ابو حكمت ـ حيث كلفوني بواحدة من اصعب المهمات آنذاك، وهي اعادة تأسيس قواعد لقوات الانصار، وكنّا في ظرف سياسي معقد، فنحن نتحرك في منطقة جغرافية صعبة جدا، وبأمكانيات مادية وعسكرية شبه معدومة، اضافة الى عدم معرفتنا برد فعل القوى الكردية على تواجدنا المسلح في المنطقة، ولكن مضت الامور على خير ، حيث لم ندخل لفترة معينة بأي صدام مسلح او نقوم بهجوم عسكري، إذ كنا في مرحلة البناء ومرحلة استقبال المتطوعين الذي صاروا يقصدون الحزب من الداخل ومن دول العالم المختلفة.

ثم يتذكر "أبو جنان" واحدا من المواقف ويقول: في طريقنا للالتحاق بكردستان من بغداد، قصدنا منطقة (دار بسار) ، انا ومجموعة من الملتحقين الجدد، حيث كان لنا بيت صغير هناك، وبعيد عن الانظار، وكان يحوي على آلة الطابعة والرونيو وورق الاوفسيت وقمت بادارتها آنذاك، ووصل عدد الانصار الملتحقين حوالي (٩٤) فيما كان عندنا (٢٥) قطعة سلاح مدفونة تحت الارض، تبين صلاحية (١٤) منها وتلف الباقي. وأستمرينا في النضال في تلك الظروف الصعبة والتحديات الكبيرة وكان لي الشرف ان أكون مسؤول الاعلام المركزي لفترة من الوقت في عقد الثمانينات اضافة للعمل في الصحافة السرية آنذاك.

وبالعودة للوضع السياسي، فقد كان في غاية التعقيد نتيجة ترافق ارهاب السلطة مع حرب خارجية، وهذه الصورة بالترابط مع تشابك المصالح الدولية قد عقدت مهمتنا النضالية في التعجيل باسقاط الدكتاتورية، التي تمكنت اخيرا من استعادة زمام المبادرة بتصفية خصومها هذه المرة (بالاسلحة الكيماوية) فيما سميت آنذاك  (الانفال) سيئة الصيت، فأنسحبنا عام ١٩٨٨ باتجاه الحدود الايرانية، ثم عبرها الى (تركمانستان) في الاتحاد السوفيتي وبعدها وصلت الى (المملكة السويدية) وها نحن نعيش هنا منذ العام ١٩٩١، وسعيد جدا بأن احصل على الرعاية الطبية اللازمة، وأن يكون ابنائي واحفادي وزوجتي الغالية معي بأستمرار، وكما يعلم العديد من أحبتي بأني اخضع الآن للعلاج من (مرض السرطان) وتبدو النتائج جيدة جدا، الا ان امراض العمر (السكري وارتفاع ضغط الدم) هي التي تعقد الصورة اكثر، لكني اشعر بتحسن كبير، لابل ان الاطباء مندهشين من طريقة تعاملي مع المرض وروح التفاؤل العالية وقوتي في مجابهة تبعات هذا المرض اللعين.

 

ولعل الصورة لا تكتمل دون الحديث الى توأم "أبو جنان" عقيلته، السيدة غزالة حنا توما فتقول: نشأت في عائلة وطنية، وكان كل من فيها يتعاطى السياسة ويعمل او يتعاطف مع الحزب الشيوعي، وقد قدمنا للوطن شهيدان، كان الأول شقيقي (نصير حنا توما) والآخر ابن عمي (توفيق سيدا توما)، ومنذ صباي كنتُ احلم أن اقترن بإنسان مناضل يضع في اولوياته خدمة الوطن والحزب اضافة للعائلة، وربما اكون من المحظوظات اللائي تحقق حلمهن، فقد كان (نجيب عتو) يتردد الى بيتنا بحكم عمله السياسي، ومن هنا نشأت تلك العلاقة التي توجت بالزواج. وعندما أقف (تكمل السيدة ام جنان) وأنظر للوراء، فأن حياتنا الزوجية كانت جميلة، رغم كل اسقاطات الوضع السياسي السلبية عليها، فمثلاً اضطررنا الى ترك اثنان من اولادنا عند الأهل في عنكاوة ولم نشاهدهما الا بعد سنين طوال، كما إني التحقت بالعمل الانصاري مع أبو جنان لمدة ثمان سنوات وتحملنا كل ما تحمله الانصار الابطال، لابل ان ثلاثة من ابنائنا ولدو في ظروف غير طبيعية، حيث ولدت (ريزان) في الجبل، فيما ولدت (ليليان) اثناء هروبنا الى ايران، اما الآن فإني سعيدة بأن يجتمع شمل العائلة كلها، ونعمل ما في وسعنا للتعويض عما فاتنا لكن، تبقى السياسة وقضية الوطن في صلب اهتماماتنا. لقد قامت علاقتنا على الاحترام والمحبة والود ومازالت لليوم مورقة بالمفاهيم الانسانية الراقية.

شهادات

في مسيرة نضالية طويلة تمتد لعشرات السنين، مرت بكل منعطفات السياسة العراقية، كان لابد ان يكون لها شهودا، عاشوا وتقاسموا تلك السنين: 

** الكاتب والاعلامي النصير سامي المالح الذي يقول: الذكريات الأولى مع الرفيق والأخ (أبو جنان) تعود الى بداية السبعينات، حينما كان كادرا حزبيا في مدينة كركوك، فيما كنت انا في بداية مشواري مع السياسة، وأتذكر إن والدتي (حني)، وحينما كان يمر "ابو جنان" من امام دارنا كانت تومئ له وتقول ((شيوعي بطل)). اما اللقاء الحزبي الاول بيننا فكان إبان الحملة الارهابية  في نهاية السبعينات، فقد التقيته متخفيا في مقر الأقليم بأربيل، وبقينا هناك لمدة اسبوع، خرجنا بعدها الى (دشت كويسنجق) لنكون جزء من المفرزة الانصارية الأولى في (قاطع أربيل). ثم قضينا معاً فترة في بناء (قاعدة ناوزنك) والفصائل الأولى، وأفترقنا عندما انتقلتُ الى قاطع السليمانية للعمل في أول إذاعة للحزب في (جبل نوري). بعد سنوات عديدة التقينا في المجلس العسكري لقاطع أربيل وبقينا قريبين من بعضنا ونعمل في اللجان او بتنفيذ العديد من المهام، فيما كان أبو جنان في مكتب (محلية أربيل) وأنا أعمل في (قيادة قاطع أربيل) .أما لقاءنا الأخير ونحن انصار فقد كان في (ناوزنك) بعد الأنفال المشؤومة وقبيل انتفاضة ١٩٩١.

طوال تلك السنين (يكمل النصير سامي المالح): عرفتُ الرفيق (ابو جنان) مناضلاً صلباً ثابتاً متواضعاً وحريصاً على المتابعة وتطوير امكاناته الفكرية والثقافية التي أهلته أن يناقش ويساهم في الحوارات الرفاقية وتطوير نضالات الحزب والمنظمات التي عمل فيها، وأعطته الجدارة لمواجهة الأعداء والأنتهازيين بصلابة وحنكة.

اما اجتماعيا، فقد ربطتني به وبعائلته الكريمة (ام جنان) ومعي العشرات من الانصار، رفقة رائعة سادتها المودة والوفاء التي عوضتنا في الكثير من المحطات والمواقف عما كنّا نفتقده نتيجة بعدنا عن عوائلنا، وما تعرضت له من اضطهاد على يد اجهزة الدكتاتورية البغيضة.

** النصير صباح كنجي يتذكر بالقول:  تعود علاقاتي بالنصير (حمه سعيد ـ ابو جنان) الى العام ١٩٧٩ حينما توجهنا الى أربيل قادمين من بغداد لنلتحق بالعمل الانصاري ونتشرف بإعادة بناء القواعد من جديد، وجمعتنا الكثير من السنوات، لقد كانت ايام رائعة لا تنسى مع كل ما رافقها من مشقة وصعاب، وهنا لابد لي من أن اتمنى للرفيق وعائلته الكريمة كل الصحة والمودة.

** اما السيد عبد فرنسيس صليوا فيقول: مع ان علاقة عائلية تربطني بالمناضل نجيب عتو (ابو جنان) ، الا اني  لم أره او اخالطه كثيرا لفارق العمر ونتيجة سفري المبكر للخارج، لكن ما اعرفه وأسمع عنه كاف لأن اقول: إن هذا الانسان، وزوجته الرائعة يمثلان قمة النضال والتضحية والصدق، وهما اعلى مثل يمكن لبلدتنا الغالية (عنكاوة) ان تحتفل بهما دوماً، انهم مشاعل نضالية ومدارس في الوطنية، ولا يسعني الا ان اتمنى له ولعائلته الكريمة كل الموفقية والصحة والسعادة.

 

يعود القائد الانصاري نجيب عتو ( حمه سعيد ـ ابو جنان) للقول: لقد مرت عقود من الزمن منذ أن دخلتُ عالم السياسة شاباً يافعا، وشهدتُ السجون والملاحقة والحرمان، شهدتُ الانتصارات والانكسارات، شهدتُ النجاحات والاخفاقات، إلا أن امراً واحدا لم يتغير عندي وهو قناعتي التامة بحسن اختياري لهذا الفكر المنير، وأرتباطي الكلي بقضية الشعب والوطن، تلك التي سخرتُ لها حياتي وعائلتي وأنا فخور بها. نعم ان وضعنا الراهن معقد ومفتوح على كل الاحتمالات، ولم يعد هناك أمراً لم يُجرب في هذا الوطن وعلى هذا الشعب المسكين، لكن في النهاية "لايصح إلا الصحيح" وأنا على يقين بأن ما نعيشه الآن هو مؤقت وآمل أن يزول بزوال المؤثر، ولعل المظاهرات التي انطلقت منذ أشهر ومازالت تنطلق لليوم وبحماسة كبيرة تؤكد صحة استنتاجي، بأن هذا الشعب لن يُقهر، وفيه طاقات وطنية كامنة لابد وأن تنطلق وأن تجد طريقها للنور، كما وأني على يقين بأن المظاهرات ستصل الى اهدافها طالما بقت بوصلتها واضحة وأهدافها مرئية للجماهير وأن تبتعد عن التجاوزات والفوضوية.

اما لوطني الغالي (يقول ابو جنان): أتمنى له تجاوز هذه المحن، وأن يرسوا على بر الأمان، ولأهلي وأبناء شعبي النازحين، وفي كل مناطق العراق، العودة الى قراهم ومزارعهم وحياتهم الطبيعية، وأن تقوم الدولة بواجبها المفروض في محاربة الارهاب وتوفير الامن والامان للمواطن، وأخيرا ستثبت الايام بأن الهدف السامي الذي ناضلنا وضحينا من اجله باق ومتجذر في اعماق الناس وتثبت الايام صحته، من اجل: وطن حر وشعب سعيد!

 

كمال يلدو

تشرين الأول ٢٠١٥