اصدارات

إصدار جديد "الحسين حاكما" لصالح الطائي

 

إصدار جديد "الحسين حاكما" لصالح الطائي

 

ليس مثل الحسين أحدا شرَّقتْ الأمة وغرَّبتْ في حديثها عن نهضته، فجميع النهضات تاريخيا كانت توصف وتصنف منذ اللحظات الأولى لها، مرة من قبل الحكام، وأخرى من قبل وعاظ السلاطين، وثالثة من قبل المؤرخين، حتى ولو كان التوصيف مخالفا للهدف المعلن الذي قامت من أجله، ربما لأن الحسين(عليه السلام) لم يكن شخصا عاديا، بل كان قد اختزل الرموز الإسلامية كلها في شخصه، فجده لأمه هو رسول الله محمد(صلى الله عليه وآله) وجده لأبية هو أبو طالب سيد البطحاء(رضي الله عنه) وأبوه هو أول الناس إسلاما وأقدمهم إيمانا وأكثرهم جهادا وأشدهم تمسكا بالعقيدة علي بن أبي طالب(عليه السلام) وأمه هي سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء البتول(عليها السلام)، وقد جمع الشرف كل الشرف من أرقى مواطنه وأعلى مناهجه وازكى أصوله وأطيب منابته وأعرق جيناته، فكان أوحد زمانه على وجه الأرض، لا ابن نبي غيره على وجه البسيطة، فهو النسغ الصاعد لآخر الأنبياء والرسل.

وحتى مع وجوب أن تشفع هذه الصفات له لتضفي عليه قداسة الرمز الديني، وهذا ما كان واضحا حتى في سلوكيات الذين حشدوهم لقتاله، حيث التردد كان باديا على تحركهم، نجد هناك من أباح قتله دونما تردد أو وجل، فهو وفق رؤية هؤلاء ليس أكثر من ثائر متمرد خارج على القانون، قتل بسيف جده!

وأعتقد أن هذه الرؤية بالذات فضلا عن الكثير من الجزئيات المهمة الأخرى؛ هي التي دفعت الجانب الآخر ليضفي القدسية المطلقة على كل حركة قام بها الحسين منذ لحظة ولادته الميمونة وإلى لحظة استشهاده وإيداعه التراب.

ووفق خارطة الأحداث لم يعد خافيا الانشقاق الكبير الذي تركه مقتله على كيان الأمة ووجودها، إذ أصبح التوهين بموقفه، مع البحث عن أعذار لقاتليه وللخليفة الذي أمرهم بقتله منهجا معلنا وصريحا لإحدى الفئات. وأصبح تقديسه ابتداء وإعطاء الحق الكلي له ابتداء ولوم بل ولعن من اشترك بقتله، هو المنهج المعلن الذي تتبناه الفئة الثانية.

في مرحلة المواجهة الفعلية، كانت كل فئة تبحث عن دواعم لمنهجها لكي تنصره، بالبحث في كتب التفسير والحديث والتاريخ والفقه والرأي، ومن ثم العمل على إعادة صياغة تلك الرؤى بما يتوافق مع منهجها. وفي هذه المرحلة تدخل الرأي بشكل فاعل في إعادة كتابة وتشكيل الأحداث، ووظفت الأحداث الصحيحة والمختلقة لتقوية أواشج القربى والاحتكاك بين الأتباع والعقيدة، فكلما كان الأتباع أكثر قربا كان من السهل توجيههم إلى الجهة التي ترتأيها القيادات العليا والوسطى وأجهزة الإعلام.

تسبب هذه الصراع في دخول الكثير من الدخائل إلى المناهج العقدية للفئتين، مما ولد عداء ظاهرا وخافيا كان يدفعهم إلى البحث عن دواعم للخطوط العامة. وكان الفقه الشيعي هو الاكثر احتكاكا وتعاملا مع واقعة الطف لأسباب كثيرة جدا لا مجال لذكرها ـ في الأقل ـ لأن الحسين هو الإمام الثالث في سلسلة أئمتهم الاثني عشر (عليهم السلام) ولهذا كانوا يهتمون بالحديث عن مظلوميته كجزء من منظومة المظلومية الشيعية الكبرى، وهذا دفع البعض إلى استنباط رؤى جديدة للنهضة الحسينية ليست من أصلها، ولا تمت لها، ولكنها وجدت من يستسيغها ويتقبلها. ودفع البعض الآخر إلى البحث عن قواعد فقهية تكفر من يتقبل تلك الرؤى.

يعني هذا أن من يروم الكتابة عن الحسين(عليه السلام) سوف يصطدم بهذه الاتجاهات لا محال، وهذا أمر شائك فيه الكثير من المخاطر، ومع ذلك آليت على نفسي أن أتابع رؤى كل الفرق، وأن أتخلى وأبتعد كثيرا عن نقول التاريخ، وأتسلح بفلسفة التاريخ، وأطلق العنان لعقلي ليتصور تلك النهضة العظيمة، وفق قواعد العقل والمنطق بعيدا عن مجال العاطفة وتأثيرها، في محاولة مني لفهم النهضة وإشاعة هذا الفهم، لأن الفهم وحده له قدرة تخفيف الأزمات وتلطيف الأجواء المأزومة، وتقريب الرؤى، وفتح المنافذ لإعادة التفكير في بعض أشد الأمور خطورة، ولاسيما تلك التي باعدت بين فرق المسلمين، ووضعت بينهم حواجز اسمنتية عالية جدا، لتفصل بينهم إلى الأبد.

وفق هذه المنهجية اشتغلت كتابي الموسوم "الحسين حاكما" الصادر عن دار المتن البغدادية، وقد خرجت بنتائج تخالف الخطأ الشائع، وتقترب من الصحيح الضائع، فهي على سبيل المثال ترفض أن يكون الحسين(عليه السلام) قد خرج بثلاثة وسبعين رجلا فقط، وتؤكد بالدليل أنه خرج بجيش  جرار مؤلف من عدة أقاليم إسلامية، وأن أغلب وحدات جيشه حِيل بينها وبين الالتحاق به، وأنه حينما وجد الميزان العسكري غير متوازن، طلب منهم الانسحاب والهرب لينجوا بحياتهم، وليتحمل لوحده تبعات ذلك الحراك..

ومنها الحديث عن ما يسمى بمحاورات أو مفاوضات كربلاء؛ التي ادعوا فيها أن الحسين بعد أن أحيط به تقدم إليهم ثلاثة شروط هي:

إما ان يسمحوا له بالعودة من حيث أتي.

أو يرسلوه جنديا بسيطا كأي جندي آخر إلى أي ثغر من ثغور المسلمين.

أو يرسلوه إلى أمير المؤمنين يزيد بن معاوية ليرى رأيه فيه.

حيث فندت بالدليل القاطع ما قيل عن هذه المفاوضات المختلقة، وأن كل ما قيل عنها إنما هو مجرد حراك إعلامي تسقيطي لا وجود له على أرض الواقع.

ومنها حديثهم بأن الحسين إنما خرج لطلب الإصلاح لا للحرب، حيث أثبتُّ وبالدليل القاطع أنه خرج للإصلاح عن طريق الحرب والاستيلاء على الحكم، ولا شيء آخر غير ذلك، فهو كان يخطط لتأسيس دولة إسلامية في العراق والشرق الإسلامي، ويترك لبني أمية دولة في الشام وفلسطين ومصر فقط، لأنه من غير المعقول أن يبدأ بالإصلاح من على منابر ترفرف عليها راية حكومة يزيد، بل إن الحكومة نفسها ما كانت لتسمح له بالتثقيف بمنهج يخالف منهجها.

لقد حاولت في هذا الكتاب أن أتحدث عن حقائق ليست خافية على أحد ولكن الأغلبية يحجمون عن التحدث عنها، ولذا اضطررت الى التحدث عن الدولة من مرحلة النشوء إلى هيمنة السلطة، ثم التحدث عن الخلافة من مرحلة النص إلى مرحلة الابتداع، ثم التحدث عن قاعدة الخلافة الشرعية، والأحكام والآداب السلطانية، ثم تحدثت عن علي بن أبي طالب من شرعية الخلافة إلى خلافة الظل والحسن من شرعية الخلافة إلى خلافة الظل، والحقبة المسكوت عنها، والهدنة بين الحسن(عليه السلام) ومعاوية التي هي كانت مجرد مثابة لإعادة ترتيب الأوراق، وبعد ذلك تحدثت عن الحسين، والحقبة المفقودة، وسنوات التخطيط، ومحاولات استرجاع الخلافة، وشرعية الخروج، وموجباته، ومؤشرات وجوب الخروج.

بعد ذلك تناولت الجزئيات المهمة بالبحث والتفكيك ومنها الحديث عن جيش الحسين وسياسته، وجيش الحكومة، والدعوة إلى الثورة، وسياسة الضد، ورواية إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، واختتمت البحث بحديث عن الحقيقة، الحقيقة التي عمل الجميع على تغييبها، والتي يجب أن نبحث عنها ونجدها ونزيل الدرن عن وجهها ونرفعها ليشرق نورها على أمة أدمنت الخلاف ونسيت كيف تتفق خلافا لما أمرها دينها به.

لقد جاء الكتاب جديدا بطروحاته وآرائه التي تمتد على مدى 379 صفحة من القطع الكبير، وقد صمم لوحة الغلاف الفنان العراقي المغترب الأستاذ بسام الخناق، له مني جزيل شكري وتقديري، وأجاد الأستاذ عامر الساعدي مدير دار المتن للطباعة والنشر في بغداد في إخراج الكتاب بحلة قشيبة، فله شكري وامتناني، وارجو أن أكون قد وفقت في طرح الآراء ومحاكمتها علميا وأكاديميا وحياديا بعيدا عن التشريق والتغريب... والله من وراء القصد... والحمد لله رب العالمين.