كـتـاب ألموقع

انتقام القانون// صائب خليل

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

صائب خليل

 

عرض صفحة الكاتب

انتقام القانون

صائب خليل

16 كانون الأول 2018

 

كانت مقهى "أبو فاتح" في بغداد، مركز التقاء لاعبي الشطرنج القدماء، الذين كانت التسلية والتمتع بتبادل التحدي، والمراهنة على من يدفع الشاي والضحك همهم الأول، وليس التطور في اللعبة. اخترق المقهى في السبعينات والثمانينات، لاعبون جدد شباب، بعثوا فيها الحيوية، ولكن لم يكن الأمر دون بعض المضايقات الظريفة لروادها الأوائل الذين وجدوا انفسهم امام شباب يتحدون خبرتهم، بموهبتهم ودراستهم العلمية لأسس اللعبة.

في احدى المرات وجد أحد روادها القدامى نفسه في وضع صعب، وبدأ يحوص، بينما رسيله (اللاعب المقابل) الشاب وبقية متفرجي اللعبة يضحكون في سرهم لأنهم يعرفونه جيداً. كان الجميع يترقب بشوق نقلة صاحبنا التالية والمسرحية التي ستنتج عن خسارته المتوقعة، بينما بدا هذا يحرك رأسه ويديه قلقاً. هدأ الرجل وبدا وكأنه يفكر في أمر بعيد والمتفرجين ينقلون نظراتهم بين وجهه ورقعة الشطرنج وقد بدا عليهم نفاذ الصبر. وفجأة رفع هذا رخه من مكانه وأخذ به حصان رسيله، في نقلة "غريبة"!

 

نظر اللاعب الشاب الى نقلة رسيله، ثم إلى وجهه، وابتسم. لاحظ انها نقلة "غير قانونية"، لكن قبل ان يعترض، اكتشف انها كانت فوق ذلك، نقلة سيئة، وأنه يستطيع ان يستفيد منها. فقرر أن يصمت ويقبلها، فأخذ رخ رسيله بوزيره الجاثم بعيداً، واستمر ينظر الى الرقعة كأن شيئاً لم يكن. وهنا رفع الرجل الكبير وزيره وضرب به ملك اللاعب الشاب، وقال: "مات"! وابتسم منتصراً.

نظر الشاب الى الرجل الأشيب وقال باحتجاج: ما يصير، هذي نقلة غير صحيحة.. الوزير لا يتحرك هكذا.. هذا خلاف قانون الشطرنج!!

فقال الرجل: والنقلة التي قبلها؟ ما كانت أيضا "غير صحيحة" و "خلاف قانون الشطرنج"؟

سكت الشاب محتاراً.. فأكمل الرجل:

"لما كانت النقلة المخالفة لقانون الشطرنج تربحك، ما كان عندك مشكلة، ولما مخالفة قانون الشطرنج تخسرك، تصير المخالفة مشكلة؟" أنتظر لحظات لترسخ كلماته في ذهن الشاب ثم أضاف بإصرار: "إذا الأولى تجاهلت القانون ومشيتها، الثانية هم تمشي!"

وبينما كان الشاب حائراً في البحث عن جواب وشاعراً بحرج موقفه وكأنه وحيد في أرض بلا قانون يتمسك به، نهض الرجل الكبير وهو يبتسم كمنتصر كسب الدست، وترك المكان قبل ان يتيح لخصمه فرصة أخرى للاعتراض، بينما انقسم المتفرجون بين مبهوت ومقهقه.

 

ما حدث في مقهى أبو فاتح، يحدث في العراق والمبدأ لا يقتصر على رقعة الشطرنج، فالأمانة هي الحارس للقانون، وكثيراً ما ترشى أمانة الشخص أولاً ليتخلى عن القانون الذي يحميه، مقابل نفع له، ليدفع الثمن بعد ذلك غالياً. فما فعل صاحبنا مع الشاب في الحقيقة هو أنه أخذ لأمانته "رشوة" بشكل مخالفة قانونية تنفعه، فسقط الشاب في الفخ وتخلى عن القانون، ثم لما حان وقت ظلمه، لم يجد قانوناً يقف بجانبه. القانون انتقم منه، وإن كان انتقام القانون على الرقعة مزاحاً فهو على الأرض، أمر آخر تماما.

 

بعد الانتخابات الأولى قامت رايس برشوة أمانة خصوم الجعفري ليخالفوا القانون ويقبلوا استبداله (كانت رايس تأمل ان يفوز تابعهم عبد المهدي). الرشوة كانت بقاء الحكومة، ووافق الجميع، فماداموا في الحكومة فما الفرق بين الجعفري او غيره؟ الفرق هو أن لدينا في الحالة الأولى: "جعفري مع دستور مصان"، مقابل حالة: "غيره مع دستور مخذول".. ما رآه الجماعة هو “الجعفري” و “غير الجعفري” فقط، اما بقية محتويات الصفقتين (دستور محترم، ودستور مخذول)، فأشياء تصعب رؤيتها بالعين المجردة من بعد النظر، ولم يكن لديهم ما يكفي منه لذلك.

 

النتيجة كانت ان صار لدينا "مالكي" مع دستور مخذول، يريد الانتقام منا لكرامته.

فيما بعد، وجد الأمريكان رجلاً اكثر استعداداً لخدمتهم من المالكي، واتفقوا معه على اسقاط البلاد في ديون صندوق النقد الدولي وتنازلات لكردستان ومؤامرات أخرى لتقسيم البلاد (لم ينجح بها مثل الحرس الوطني). ترشيح العبادي كان يحتاج إلى تجاهل الدستور وتجاهل كرامة العراقيين بتجاهل اصواتهم. لكنهم لم يواجهوا صعوبة كبيرة حيث انهم لم يجدوا امامهم إلا دستور مخذول وكرامة تم اهدارها، وهذان لا يحسنان الدفاع عن احد. وطبيعي ان تعيين العبادي كان فيه المزيد من قتل الدستور وتحطيم لكرامة المواطن، لذلك توجب تقديم "رشوة" إضافية لأمانة العديد من الجهات، خاصة تلك التي كرهت المالكي (عن حق لكثرة مساوئه)، فقبلت هذه الجهات باستبداله بل وقام الجعفري الذي تم سحب الحكومة منه في المرة الأولى بتزوير تواريخ بعض الأوراق الضرورية لذلك. وكانت الرشوة موجهة أيضاً لأمانة الشعب العراقي ليسكت، وكانت نسبة عالية منه تكره المالكي (عن حق غالباً) ولا يعنيها كيف يتم استبداله وما سيذبح في الطريق إلى ازالته، فقبل الرشوة. وفي النهاية قبل المالكي أيضا رشوة بمنصب رمزي فأوقف مناداته باحترام الدستور والقانون، وسكت.

وبكل هذا الذبح والإهدار للدستور والكرامة، لم تجد السفارة أية مشكلة في المرة الثالثة، بتقديم منصب رئيس الحكومة إلى رجل معروف من رجالها ومن احد اشد أصحاب السوابق في الفساد وتقديم التنازلات – عبد المهدي، والذي يحمل مشاريع تحطيم العراق بما لم يعرفه من سبقه من قبل. وهذه المرة كان التقدم في تحقير الدستور اشد صراحة ووضوحاً، حيث ان المرشح لم يكن من الكتلة الأكبر، والتي لم تحدد أصلا، وتم تجاهل الدستور الذي يؤكد على أن تشكيل الحكومة يجب أن يتم بتكليف مرشح الكتلة النيابية الأكثر عدداً.

كل المتنطعين بالدفاع عن القانون والمحلفين بحماية الدستور، قبلوا الرشوة ولم يدافع أحد عنه. وبدلاً من اتباع المسار الذي يحدده الدستور، تم تنصيب عبد المهدي بكلمات ما انزل بها الله او الدستور من سلطان مثل "اتفاق الكتل" أو "الأغلبية اتفقوا".. رغم أن الدستور ليس فيه ذكر لـ "اتفاق الكتل" او "الأغلبية يتفقون" او غيرها.. ونحن هنا نتحدث عن نص دستوري، يفترض أن إضافة او إزالة حرف جر من أية جملة فيه تتطلب تصويت ثلثي مجلس النواب إضافة إلى إجراءات أخرى اشد صعوبة!

 

القضية هي أن الشعب لم يكن في الحقيقة يهمه من سيأتي، فهو يشعر انه قد خسر المعركة منذ زمن، وصار يعامل نفسه كخاسر يجب ان يقبل ما يقدم اليه، فقبل ولم يحتج كما يفترض. وهكذا تمت الرشاوي لأمانتنا وتمت إهانة الدستور، مرة أخرى، واطبق الصمت على جميع القياديين، وكأن كل واحد منهم لص يخفي شيئاً ويخشى ان يفتضح. وهكذا وبعد ان جربت السفارة رشوتنا وتنصيب شخصيتين الأولى مجنونة بالمنصب ومستعدة لكل شيء من اجله، والثانية هلامية لزجة لا شكل ولا شخصية لها وقابلة للضغط وتنفيذ الأوامر، حصلنا هذه المرة على رجل معروف بأنه امريكي المواقف ليحكمنا. فجاء يحمل برنامجاً في الخصخصة وديون البنك الدولي وتحويل ثروة النفط الى شركة لكي يمكن حجز أموالها أو بيع اسهمهما مستقبلا، وترك البلاد وشعبها لمصيريهما.

 

تعيين عبد المهدي كرئيس حكومة لم يكن فقط انتقاماً من قبل الدستور المخذول، من الشعب الذي خذله، بل أنه أسس أيضاً إهانة جديدة أقوى للدستور. كان تلاعب السفارة فيما يتعلق بتنصيب العبادي، هو بتحديدها الشخص الذي تريد، ولكن ضمن “الكتلة الأكبر”. أما في حالة عبد المهدي، فكان الامريكان أحراراً تماما في اختيار من يريدون وبدون أن يتحددوا بحصر اختياراتهم ضمن الكتلة الأكبر، وهذا تقدم كبير.

بالطبع فأن تلك الخطوة في تقدم حرية السفارة في تعيين من تختار، تم بتغطية ضوضاء حول ضرورة ان يكون المرشح "مستقلاً" (وهي مهزلة). واخيراً لم يتم الإلتزام حتى بهذه المهزلة وقدم واحد من اعرق أحزاب الفساد بعد ان مهد لنفسه بأن "يستقيل من الفساد"!

 

واليوم، ها هي مسخرة مجلس النواب في اختيار الوزراء وكأن المجلس هو مقر عصابة مافيا يعقد فيه مؤتمر تتحرك فيه المسدسات تحت الجاكتات والألسن، ويتقبل الشعب الاحداث التي ستقرر مصير بلده دون ضجيج يذكر. أما الأسئلة التي تبقى في الرأس فيكفي لكبحها تقديم تبرير يحمل لهجة التهديد، بأن فلان جاء بفرض من "سليماني" وأن "احداً لن يقف امام أرادة الشعب".

وهنا أيضاً كان هناك "رشوة" لجهة مستفيدة لتمرير كل تلك المراوغات والدفاع عنها بشراسة بوجه الجهات المتضررة. ويبدو أن الأمر يسير في طريقه المعتاد. فكلما نجحت رشوة، فإنها تعبد الطريق للتالية. وكلما مرت مسخرة وجدت المسخرة التالية الموانع اقل وكلما صمت الشعب عن "مخالفة قانونية" أو إهانة لعقله وتفكيره او كرامته، سهل عليه الصمت عن التالية.

أن إهانة الدستور وسيادة المراوغة ورشوة الأمانة والاعتداء على الحق القانوني قد تم تطبيعها، وتحول الخطأ الى جزء من المشهد، إلى درجة أن الصحيح صار نشازاً. فلو قال احدهم في هذا الجو "افضل أن لا يمر مرشحي، على ان يمر بشكل يكسر الدستور!"، لبدا مثيراً للضحك!

 

كذلك تم تطبيع التنازل عن المعرفة والحق في الرؤية والشفافية. فلا أحد يسأل عن دليل ولا احد يستغرب لاعوجاج منطق، والصراخ بالشعارات سيد الموقف. فحتى الآن لا يعرف الشعب من هي "الكتلة الأكثر عددا" ولا يعرف من بالضبط قام بترشيح رئيس حكومته من الكتل، ولا كيف تم اختياره وكيف انجز ذلك خلال ساعة أو أقل، رغم ان منصب رئيس البرلمان احتاج اسابيعاً طويلة من الصراع! فقياديو الشعب السياسيين والدينيين لم يقدموا له أي توضيح، ولم يشعر أي منهم بأنه مطالب ان يقدم أي تفسير! الأصوات الوحيدة التي تسمع هي اصوات الاحتجاج البسيط المدافع عن شخصية ما من قبل جماعته مقابل أصوات الهجوم عليها. أما القانون والدستور فلا يكاد احد يهتم بهما، إلا بعد ان يحتاج اليهما! ولكن ذلك متأخر دائما. فالدستور قد خذل وصارت الفوضى والعفترة سيدتا الموقف في أرض بلا قانون.

 

لا أتصور اننا لو أتيح لنا ان نشهد مؤتمراً نازياً لوجدنا المناقشات مختلفة كثيرا. بل ان تلك التهم لم تكن تختلف لا في مصداقيتها ولا في طريقة القائها، عن تلك التي القاها صدام حسين على رفاقه في "ليلة السكاكين الطويلة". ولعل رفاق صدام الذي سقطوا تحت مقصلته في تلك الليلة، تذكروا ايضاً بحسرة تلك الرشاوي التي قبلتها ضمائرهم فخذلوا القوانين المرة تلو الأخرى وسمحوا لذلك الخلل ان يتغول وينفرد بهم في ارض بلا قانون، ليبتلعهم في النهاية.

 

لست هنا بصدد ندب الحظ والتبشير بالخراب، لكني اطرح الأمر لإيضاح كيف تتم هزيمتنا بأمل أن يُدرك حجم الخطر ويكون دافعاً للبحث عن حل، والحل هناك، وإن كان طويلاً. فعلى المستوى الشخصي، بقدر ما تمنع امانتك من الارتشاء، وتمتنع عن التقاط المكاسب التي تقدم اليك كرشوة لتسهم باغتيال الدستور او تدافع عمن يفعل ذلك، فسيكون من حقك ان تطالب بتطبيق الدستور لمصالحك أيضا. وإن فعلت العكس، ومهما راوغت ضميرك بذكاء، فستجد نفسك ضحية وحيدة في ارض بلا قانون.

 

لقد سرنا في الطريق الخطأ مسافة طويلة، وأصيب القانون والضمير بانكسارات وجروح. وتحتاج إعادة "التطبيب النفسي" للقانون والدستور صبراً وتضحيات إضافية من مواطنين يؤمنون ان هذا هو الطريق الوحيد لبناء بلدهم. يجب رفض رشوة الأمانة ورفض البحث عن حجج ومراوغات لتزيينها، حتى لو كنا الوحيدين الذين نفعل ذلك في البداية. فمثلما تسهل الرشوة الأولى قبول الرشوة الثانية، فأن التضحية معدية أيضاً وتشجع الآخرين على التضحية ورفض الارتشاء. إن لم نجد الطريق إلى ذلك، فعلينا ان لا ننتظر سوى انتقام القانون! ولكن هذه المرة ليس بطعم خسارة دست شطرنج، بل بطعم الفقر والفوضى وانعدام الأمن وتحطم التعليم والصحة والصناعة، وتنصيب غير شفاف وغير مفهوم لا بمصدره ولا بطريقته، لحكام لا يبدو عليهم الاهتمام بالشعب والرغبة بتطوير بلده، بل يركزون على الخصخصة ونهب البلاد وإغراقها بديون مؤسسات القرصنة الدولية الخطرة، وما اشده من انتقام!