اخر الاخبار:
محافظ نينوى يزور مطرانية القوش - الثلاثاء, 16 نيسان/أبريل 2024 10:33
زيارة وفد هنغاري الى دار مطرانية القوش - الثلاثاء, 16 نيسان/أبريل 2024 10:32
طهران تتراجع عن تصريحات عبداللهيان - الإثنين, 15 نيسان/أبريل 2024 11:24
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

هرمينوطيقا الحديث من خلال التجربة النبوية// د. زهير الخويلدي

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

 

الموقع الفرعي للكاتب

هرمينوطيقا الحديث من خلال التجربة النبوية

د. زهير الخويلدي

كاتب فلسفي/ تونس

 

" أعطيت جوامع الكلم" حديث شريف

 

يطرح هذا المفهوم المستحدث وفق هذه الصيغة الإشكالية مسألة علاقة الهرمينوطيقا من حيث هي دراسة العلامات والرموز والقصص والمجازات والاستعارات من جهة والحديث بماهو أحد العناصر التكوينية التي يدور حولها المقدس الديني ويعمل على الربط بين البعد الإلهي والتجربة التاريخية من جهة مقابلة.

 

يدور الاهتمام المركزي عند التعامل مع ظاهرة الحديث بالجانب الدنيوي من التجربة النبوية أكثر من البعد الغيبي ويتم التركيز هاهنا على تأثير في قومه وأصحابه والمصغين إليه من أهل الكتاب والأعاجم وحرصه على تغيير شكل التاريخ ووجهته وطبيعة المجتمع وإزالة السيئ من العادات والثقيل من التقاليد.

 

كما يتطرق إلى منزلة الدين في الحياة وصورة الإنسان بين الكائنات وحضور المرسل إليهم في العالم وعلاقتهم ببقية الأمم والشعوب الأخرى أكثر من تناول بصورة مكثفة مسألة علاقة النبي بالله وكيفية تلقيه الوحي واتصاله بالملائكة ومحاورته للغيب والمصير الذي ينتظره في الآخرة والمعاد والبعث والشفاعة.

 

منذ زمن غير بعيد  تم ملاحظة انزياح خطير وتحويل مربك للطريقة التي يقع وفقها تأويل التجربة المحمدية. في البداية كان الأمر يتعلق بمبررات شعائرية تعبدية تدور حول تخليص صورته من بعض الشوائب الأسطورية وتنقيتها من التبسيط والاختزال من ناحية ومن التهويل والتضخيم من ناحية مقابلة.

 

والحق أنه توجد مفارقة حول الشخصية النبوية فهو المختص بالجانب الدعوي والدعائي ويتم التعامل معه بوصفه المعصوم من الأخطاء من جهة الاصطفاء الإلهي والتسيير الرباني لمسيرته في الحياة وتصبغ عليه صفات الإنسان الكامل من ناحية ولكن من ناحية أخرى يعتبر الأسوة الحسنة بالنسبة إلى المريدين ونموذجا بالنسبة إلى الناس في عصره ويحرص الجميع على التعامل معه بوصفه قدوة في العلم والسلوك.

 

بيد أن الطريقة التي يتم التعامل من خلالها مع النبي تتمثل في إسقاط بعض الانتظارات والحاجيات التي تطرح في عصرنا وإلصاقها به مثل أن يكون المحارب الأقوى والخطيب البليغ والسياسي الأكثر مهارة والطبيب الشافي والعارف الأكبر والحكيم المتبحر والعامل الأكثر مثالية واتقانا لأعماله والمناضل الأكثر وفاء لمبادئه والمخلص لشعبه والمضحي من أجل وطنه والمؤثر لغيره والمنكر لذاته والشاهد على زمنه.

 

 هذه الصفات التي تبدو مواتية لصورة النبي ومتفقة مع منزلته الكريمة ومحققة للتكليف الرباني التي حظيت به الحقيقة المحمدية في كتاب الملكوت ولكنها قد تؤثر في كيفية تحليل شخصيته و أساليب تدبر مناقبه وفي أشكال الاستفادة من الأبعاد العرفانية والمظاهر المقاصدية التي تحفل بها سيرته المشرفة.

 

 تظهر الخشية من أن يقود التعامل العقلاني مع الشخصية الرسالية الى تدنيس المقدس والتلاعب بالحقائق الكونية والأنوار الربانية وذلك اما بجعل الظاهرة النبوية ظاهرة طبيعية تمشي في الأسواق وتأكل القديد وتقول الشعر وتؤثر في اللعبة السياسية عن طريق اكتساب المهارة في الخطاب وتضع القوانين وتوجه الأوامر وتتعامل مع النموذج النبوي وفق تأويل دنيوي عادي للزعامة الكاريزماتية وأما أن تلغي البعد البشري تماما وتوغل في المثالية وتضفي عليه القداسة المطلقة وتمنحه الصفات الالهية والقدرات الروحانية وتركز على النداء الباطني وحدسه للغيب والطابع المعجز لذاته والخاصيات الملغزة في حياته.

 

كيف يمكن رسم الخطوط الأساسية لهذا التغيير في المنهج عند المنعطفات المصيرية في مقاربة الظاهرة النبوية؟ وماذا يمكن أن تضيف الهرمينوطيقا لمختلف المقاربات الأخرى والمناهج المعرفية المعتمدة؟

 

يفترض أن تؤدي هرمينوطيقا العلمنة أو العلمنة الهرمينوطيقية التي تطبق على التجربة النبوية إلى دراسة النبي كما كان يوجد في العالم ويعيش في وجوده الزمني وفي إطاره التاريخي  وضمن الوسط الواقعي له دون إهمال الأبعاد الكونية التي أضافها والمطمح العالمي الذي غمره والقيم الإنسانية التي سعى إليها.

 

إن الاعتقاد في مصداقية النبوة واثبات وجاهة البعث هو منح معنى التصديق بالرسالة وتأسيس الدعوة بالوعي بالظروف التاريخية والقوى المادية والعناصر المؤثرة  من جهة الانطلاقة في الهجرة من الواحد إلى الكثير ومن الأصل إلى الفرع ومن المنبع إلى الرافد ومن المركز إلى المحيط وتجديل العلاقة بين الغيب والشهادة وبين الروحي والجسدي وإيجاد توازن في القراءة المتعاكسة بين الحديث والعقل والتاريخ.

 

يفترض أن يقع الإبقاء على شخصية النبي موحدة بالرغم من الانقسام الإجرائي بين الجانب الأخروي والجانب الدنيوي وبين الطابع الفردي والبعد العلائقي الاجتماعي ويجدر التقريب بين الإلهي والبشري.

 

لقد عرفت حياة النبي محمد الكثير من المرونة والانفتاح والثراء بحيث مكنته هذه الخاصيات من التطور والارتقاء والتميز وفتحت لها رحلاته وتجاربه الأبواب من أجل امتلاك القدرة على التجديد والابتكار.

 

لو كان النبي من فئة الملائكة الروحانية التي تقرب بين الآلهة والبشر والوسائط النورانية بين السماء والأرض ولم يكن بشرا مثل بقية الكائنات الآدمية له مجموعة بشرية تحميه وحياة خاصة وإطار اقتصادي مشترك مع غيره وفضاء ثقافي وأخلاقي مليء بالقيم التربوية لما استطاع أن يؤدي دوره الرسالي ويساهم في الانعتاق من الرق والخلاص من الجاهلية ومقاومة الربا المالي والفساد الاجتماعي والظلم السياسي.

 

والحق أن النبي يمارس دوره التربوي من حيث هو ذات اعتبارية تتجسد فيها مجموعة من الشيم الأخلاقية التي تم التعارف عليها مثل الإخلاص والأمانة والعفة والشرف والصدق والبر والكرم والضيافة والجود. كما أن يقوم الرسول من حيث هو مربي بوظيفة اجتماعية أصيلة تتمثل في تعيين هوية جديدة لجماعة تاريخية بالاعتماد على مجموعة من الاحداثيات والرموز غير المعهودة مستوليا على أحكام ومفاخر نبيلة.

 

غني عن البيان أن الدين هو رسالة خلاص  مكتوبة بلغة واضحة موجهة إلى الإنسان من حيث هو إنسان دون الأخذ بعين الاعتبار الموقع الاجتماعي الذي يحتله والدرجة الثقافية والرتبة العلمية التي حصل عليها.

 

تمثل إشكالية نزع الأسطرة عن الأنبياء الكلية العضوية التي تتنزل فيها مسألة العلمنة والإطار المعرفي الذي يبرز الطابع السلبي للايدولوجيا بإرجاعها إلى الأحداث التاريخية التي ساهمت في ظهورها بتنزيلها ضمن تأويل الثقافة التي يقوم به الوعي النقدي الذي يأتي مكان وجهة النظر العفوية ويؤسس للتاريخية في التجربة الدينية وينخرط ضمن حركة جدلية بين الاعتقاد والمعرفة وبين الإيمان والعقل وبين الدين والعلم.

 

يقوم المنهج الهرمينوطيقي بالتمييز بين ماهو مقدس مفارق وماهو عادي دنيوي في شخصية النبي وما تركته من آثار وعبر وسيرة ذاتية وتقوم بتدبير المعنى الذي تفيض به أفعاله ومواقفه وقدرته على زرع القيم الكونية في سلوك أتباعه واستصلاح الواقع الاجتماعي الذي ينتمي إليه وتخليصه من الأمراض.

 

تنقسم التجربة الهرمينوطيقية إلى بعد مرئي ظاهر للعيان ويمكن قراءته وتأويله من خلال أشكال تجليه وبعد لامرئي غامض ومتكتم ومغطى من طرف طبقات الميراث والتقليد والمعتقات ويقرأ ويؤول بعسر.

 

لقد نتج عن المشاركة في الحياة الدينية للجماعة التاريخية من جهة رموزها وأحداثها ووعودها وآمالها وانتظاراتها اختلاط في المشاعر بين المؤمنين الذين لهم نوايا حسنة والذين لهم نوايا سيئة وبين من له إيمان مطلق ومن له إيمان نسبي وبين الانتماء النبوي إلى عالم الملكوت الإلهي وعالم التاريخ البشري.

 

افد اعتبر البعض من المؤمنين النبي كائنا مقدسا وشخصية فوق بشرية له تأثير سحري على القلوب ولكن دلالة النبوة من الناحية الهرمينوطيقية تظل مفتوحة على عدة دلالات على غرار الزعيم السياسي والمربي الفاضل والمشرع الأخلاقي ولذلك تدخل خصال الرأفة والطيبة والشفقة في جوهر الفعل الإيماني الذي يترجمه النبي في مجموعة من الأفعال تجاه غير من الناس وفي علاقة بتدبيره للذات من حيث حضورها .

 

على الرغم من خضوع النبي للضرورة الإلهية وتلقيه لسلطة الوحي عليه إلا انه قادر على تعليم الناس معنى الحرية في الفعل الإرادي والحكم المعرفي على حقيقة الأشياء وطبيعة الأشخاص وذلك بتحطيم الأوهام وإزالة الأقنعة عن الواقع وضبط الأهواء عن الوقوع في الزيغ والتحكم في الوضعيات الدرامية.

 

لا يقتصر اهتمام النبي بالتفصيل المعرفي لظاهرة المقدس على الصعيد النظري وبالتدقيق الميداني بالمعتقد على الصعيد العملي وإنما يضع قواعد للحكم المعرفي والتوجيه التربوي ويجمع بين بينة الحق والواجب ويقوم بانتقاء اللغة المناسبة القادرة على التعبير عن التجربة الدينية وتخليص الحرية من الإكراه والسلطة الاجتماعية وذلك لكي يجعل من الإيمان تطلعا إلى المطلق من خلال الروح والتعلق بالمتعالي.

 

لقد اغتنى النبي بلغة قومه وجمع بين العبارة الموروثة واللغة التقنية من أجل التعبير عن الإيمان الحي ولكي يتمكن من التخاطب مع مريديه من خلال المؤسسات الدينية التي ابتكرها ولقد بذل جهودا كبيرة قصد تقديم أجوبة لمختلف الأسئلة التي طرحت في زمانه من أهله وجيرانهم حول الأصل القبلي وأحكام الشريعة وأسرار العالم والمصير البعدي وطبيعة العلاقة بين المؤمن وربه والصلة بالعالم وبالآخر.

 

لقد استثمر النبي الحس المشترك حيث لم تكن الكلمات تعني أسماء علم ولا مسميات لبسائط فجعله حسا سليما وربطه بالإرادة الطيبة والفطرة السليمة والنية الحسنة والبراءة الأصلية وأكد على الطهارة من الدنس والرجس ومنح هذه المفردات دلالات بدئية ومعان نبيلة وقيد الذائقة الدينية بالتدريب والتهذيب على الخلق الكريم والتحضر والإنسية ونصح بالتعاون بالبشر والتواصل بين الذوات وتفادي الضرر والمفاسد.

 

يجعل النبي من العالم الذي يرنو إليه موطنا للإنسان ويضفي عليه مسحة من النظام والجمال ويدفع الناس إلى قضاء حاجياتهم المادية وإرضاء اهتماماتهم الفكرية والروحية وتلبية نداء الواجب المنبعث من ضمائرهم ويتركهم ينتظرون تحقق الأمل والرجاء في المستقبل حول إقامة العدل في الأرض بمحاربة اللاّمعنى والظلم والقسوة وتحقيق القسط بين الناس والقسط في المعاملات بين المجموعات والإنصاف.

 

إن العناية بالحياة في معظم أبعادها هي المهمة التي جعلت من النبي بشرا فاعلا وأوكلت له مهمة تدبيرها بطريقة بشرية وبالتالي معرض للصواب وللخطإ وشجعته على احترام السياسة وانشغال بمشكل الأزمة ودفعته إلى ابتكار سرديات وقصص عن طريق المخيال الاجتماعي تحث على الفعل وتدرب على الحياة.

 

إن قيمة الإنسان الديني تكمن في المعرفة الدينية بالإنسان اللاّديني وجعل الأنا الفاعل في خدمة الغير وذلك من خلال احترام القاعدة الإيتيقية التالية: "يجب أن يحب الإنسان الخير لغيره مثلما يحب الخير لنفسه".

 

ينبني الإيمان بالنبي على التصديق بنبوته والإقرار بوجود الله والشهادة على جبروته في الكون والإقرار  Temoignage هو الحركة التي يؤمن من خلال المعرفة المباشرة على مصداقية الموضوع الديني.

 

بيد أن الإقرار يبقى يتحرك في دائرة ذاتية النبي ويظل التصديق به متأتي من المعرفة المباشرة وإخلاص الذات المقرة بموضوعها المطلق الذي يحضر فيها ولا يمثل الإقرار دليلا على وحدة المعرفة الحاصلة.

 

يتم التركيز من طرف النبي على الجانب الدنيوي العادي للمريدين ويعمل على إصلاح الأبعاد الطبيعية للذوات البشرية وذلك بالتعرف على الجذور التاريخية للمعتقدات الموروثة وغربلتها وتنقية الجيد منها والتخلص من الرديء وتحطيم أصنامه وتجميع المؤثرات الدينية في الناس من أجل بناء مؤسسات منتجة تكون قادرة بشكل نسبي على الربط بين الأبدي والزمني وبين الروحي والجسدي وبين الرمزي والمادي وذلك من خلال التأمل من التحت إلى الفوق أو المحادثة من الأعلى إلى الأسفل وتنمية أشكال من التدين الأساسي  الذي يحرص على ترجمة المشاعر الطبيعية مثل أفعال التقوى والتعالي والتسامي التي تعد الكائن الحي للمرور من طور إلى آخر من الحياة وتقريبه من المطلق دون الخروج به من دائرة الاعتقاد.

 

يقوم النبي بإعادة إنتاج التجربة الدينية الأصلية من أجل إرجاع الجماعة إلى الإيمان المتدفق في مساره التاريخي ويحرص على تربيتهم على الفضائل وإبعادهم على الرذائل وتقوية مشاعر القربى والأخوة بينهم من خلال تشريكهم في سياسة أنفسهم وعبر الاقتصاد في الاعتقاد والتعلق بالمطلق دون مبارحة النسبي.

 

بعد ذلك يمكن الإشارة إلى أهمية تحليل التجربة الدينية للنبي من جهة اللغة التي نطق بها والحوارات التي جادل بها قومه وعلى ضوء التجارب الدينية للأنبياء الذين سبقوه ونفي الطابع الالغازي عنها بحكم أن الله يبعث لكل أمة نبيا في كل حقبة زمنية من أجل إصلاحهم وتنبيههم على ترك الباطل ونصحهم بفعل الخير. 

 

والحق أن ظاهرة النبوة ليست سرا بل جهر بها النبي بع فترة من الدعوة السرية والتكتم الوقائي وليس لغزا عصيا بل إعجازا لغويا حرص طوال مسيرته على بيانه وشرحه للصحابة بالاستعانة بآيات القرآن.

 

النبوة حدث تاريخي حصل في العالم ومرتبط بالحياة الدنيوية بالرغم وجود بعض العناصر الغيبية التي يعجز العقل التجريبي عن إدراكها وهي كذلك ظاهرة كلامية يمكن للمؤمنين بها المشاركة التفاعلية فيها.

 

من المعلوم أن إضافة المكافحة النقدية إلى التوضيح البياني الذي تقوم به الإنارة الهرمينوطيقية للحديث تجعل من النبوة تعبيرا عن تجربة الكائنات الآدمية بماهي موجودات في العالم الأرضي لها ارتباطات معينة روحية بالسماء ومازالت تحتاج الوجود المفارق لتدبير معاشها وصون موضعها وصنع مصيرها.

 

هكذا تكون النبوة تعبيرا عن تجربة الكائن الآدمي من حيث هو موجود في العالم ويعيش بين الآخرين ويتقاسم معهم تاريخ مشترك وتراث ولغة متداولة ومصير واحد، وبالتالي تمثل النبوة الوعي بالوجود التاريخي للبشر في لحظة يكون فيها الناس شهودا على حضور المطلق في الواقع وتجليه في التاريخ.

 

أن فهم اللغة التي عبر بها النبي عن تجربته الوجودية مع المطلق اللامتناهي والتعرف على طرق توظيفه للمقدس في الحياة الاجتماعية من أجل سياسة المدينة وتنظيم الشأن العام هو المنهج الأكثر ملاءمة لظاهرة الاعتقاد الديني وتأثير التجربة النبوية في سلوك الجماعة التاريخية وفي تحديد الحالة الدينية للمؤمنين.

 

ما يجدر الانتباه إليه هو أن النبوة هي التي تعمل على جعل الدين يكون مرئيا بالنسبة إلى المؤمنين وأن يفعل في التاريخ والمجتمع ويغير الواقع وتوفر فرص ة للتفاعل معه والاستعانة به لاسترجاع الإنسانية المغتربة بما ارتكب الناس أنفسهم من فساد وتعد وخرق وإجحاف في حق أنفسهم وغيرهم في المعمورة.

 

تتضمن اللغة النبوية جهدا بيانيا حول الفرق الوجودي بين الخالق والمخلوقات وبين الانتماء إلى عالم الألوهية والانتماء إلى العالم البشري مع توضيح للرؤية النبوية للحياة الدنيوية من جهة المعايير والقيم.

 

ليس الكلام النبوي نسخة مطابقة للأصل عن الواقع اليومي بحيث يأتي مرآة عاكسة للأحداث في لحظاتها التاريخية بل يعمل على التعبير عما كان في الماضي عماهو كائن في الحاضر  وعما سيكون في المستقبل بطريقة إجمالية حدسية ونبوئية تراوح بين النقد والتنظير وتستذكر الحقائق الكلية وتسمح للتجربة بأن تفهم ذاتها بذاتها من حيث هي تجربة لغوية تتضمن مختلف أبعاد الوضع البشري في حوارية تفاعلية توليدية.

 

لقد كانت غاية النبي تأسيس جماعة بشرية جديدة بالانطلاق من الجماعة القديمة وذلك بإفراغ الأفئدة من الدنس والحقد والثأر والضغينة والشوائب والعادات الجاهلية وضخ قيم المحبة والرأفة والغفران فيها. لم يكن الهدف الرئيسي للنبي التصدي للإلحاد والمروق والخروج عن الصف وإنما جعل من مقاومة الشرك والبغي والردة فرصة لتغيير الذهنية وصقل النفوس وتهذيب العاصفة وأنسنة التوحش وتمدين البادية.

 

تتمحور خطة النبي حول كسب الثقة وتجديد الولاء له وتوثيق العهد معه ومواصلة المسيرة من طرف الصحابة وفي المقابل العمل على تخليصهم من الألم والعذاب والكسل وإكسابهم مهارة العمل والأمل. لذا تستند النبوة إلى تقديس الحرية الإنسانية وتجاوز العادات السيئة والمحافظة على العادات الجيدة وتدبير الاختلاف والتواصل مع المختلف والعيش في التعدد ومنح المعنى للوجود المغاير والشعور بالآخر.

 

لقد جعل النبي من الحياة الدنيا منزلة وجودية ليس للعلب واللهو والعبور السلبي وإنما ميدان كفاح وأرض ثورة وشرط تحرر وأدار بحكمة متقنة سياسة تنظيم العلاقات بين المجموعات  التي تتشكل إما على أساس العرق مثل العشيرة وإما على أساس الدين مثل الملة أو على أساس اقتصادي مثل التجار والحرفيين وكان له الفضل في جعلهم شركاء بإحداث وسائط رمزية بينهم وإبعادهم عن الانغلاق والتعصب واللاّتسامح وغرس قيم الانفتاح والتعايش والتعاون فيه بالتركيز على العمل الجماعي والبعد المشترك في أفعالهم.

 

لقد مثل الإسلام ثورة على الظلم والرق والربا والتفاوت ورفض كليا الطبقية والاحتكار والنفاق وتعامل مع الثورة على أنها مسار اجتماعي وطريق سياسي وتجربة مدروسة يدفع إليها نسق معرفي وقيمي غير معهود يجب السابق ويؤسس للجديد وليست وضعية عرضية وحدث معزول وعنصر مباغت في التاريخ.

 

لقد قام النبي بإحداث تحول جذري في شكل التدين بحيث لم يعد الإيمان موغل في الطهرية والروحانيات وينحرف لغلظته إلى التعصب والنفاق والغنوص بل ربطه باليقين اللين والعمل  بالجوارح والكلام العلني وأجرى انقلابا في مفاهيم دينية مثل الخطيئة والاعتراف بالذنب وطلب المغفرة بأن صارت تشير إلى خصال إنسانية وممارسات بشرية بعد أن كانت تمثل صفات للذات الإلهية ومهارات يحتكرها رجال الدين.

 

لم يعد الخلاص عند النبي أمرا يمكن تحقيقه بالعادة التي أفرغت مهجة العبادات وحرفت المقصد من أداء الشعائر والطقوس وإنما يتحقق بالعمل المنتج في الدنيا وكسب الصالحات والحسنات من أجل الربح في الآخرة ولزوم التواضع في الإنتظارات والتصالح مع التناهي والنسبي والتعلق بالمطلق والاحتذاء بالأبدية.

 

لقد جعل النبي من لهجة فريش اللغة الدينية من خلال تلاوة الوحي المنزل عليه وقراءة أهله معه ما يتلى عليه وحفظهم له عن ظهر قلب خشية نسيانه وخوفا من ضياعه وكان ذلك هو الاستعمال المهيمن للكلام وقد تغلغل هذا الخطاب التوجيهي في رؤية المسلمين للعالم وأثر البعد التربوي في فهمهم الإيتيقي للحياة ضمن رؤية كونية تلامس المطلق في التاريخ وترتقي بالجزئي لمرتبة الكلي وتنهض بالمادة إلى الفكرة.

 

في الواقع لا توج وراء الكلمات النبوية والأحاديث الشريفة معان وتصورات وأفكار وإنما مقامات وجودية وأفعال سديدة وتجارب إيتيقية تطرح مشكلة الحياة التي لم تجد طريقا للحل وفقدت معناها منذ غزو العالم.

 

لو تعمقنا في تحليل اللغة النبوية من جهة المبنى والمعنى فإننا نستنتج أنها تحيل إلى تجربة ثرية تدعونا إلى التفكير والاعتبار لما يوجد فيها من حقيقي وكوني وأصيل ولأنها لا تكتفي بإعادة إنتاج ماهو موجود بنسخ الواقع المعطى وإنما تحاول ترجمة أهم العلاقات اللاّمشروطة التي تمثل الطابع الإلاهي للكائنات.

 

تأتي اللغة النبوية لكي تستبعد اللهجات المتعددة التي انتشرت على كافة أركان الوجود الاجتماعي في زمن ما قبل تشكل الدولة وذلك من أجل الخروج من التعدد والكثرة والفوضى للمكوث ضمن الوحدة والنظام والهوية وإيجاد أشكال من الحياة والعاب من اللغة وأفعال من الكلام تعبر عن ثراء المقامات الوجودية .

 

لقد تطور المعنى النبوي ضمن تطور الأدوار التي تقوم بها الأشياء المستعملة في الرسالة والحركات التي تحدث للأشخاص الذين واكبوا الحدث وتفاعلوا معه بالايجاب أو بالسلب وبانتقال الاستعارات والمجازات نحو الاحالة على أوضاع جديدة بعدما كانت تدور في فلك قديم وووقع اختراع كلمات غير معهودة من أجل الاشارة على أحداث مستجدة والتعبير عن انتظارات الصحابة وتطلعات المشاركين في التجربة.

 

ليس الحديث النبوي مجرد معطى إخباري عن وقائع وأحداث تاريخية مقترنة بالمعطيات الغيبية والعالم الروحي ولا يتكون من بنية لغوية تحليلية مغلقة لا تحيل إلا إلى ذاته بل يتضمن داخله الكثير من العوالم ويشير بشكل محايث إلى أصل كل شيء موجود في العالم ويروي قصة الحياة الكبرى بشكل تفصيلي.

 

لم يكن الفعل الوحيد الذي يجب على النبي القيام به هو إصدار الأحكام وإملاء القرارات على أتباعه وإنما الأخذ بالرفق والمعاملة باللين والمشاورة في أصعب القضايا ولقد كان خطابه متعدد الأصوات والدلالات ويفضي إلى القيام بأفعال كثيرة ومفيدة وذلك لكونه يصدر عن ذات مفردة تعبر عن النحن وذات جماعية تصغي وتتكلم مع جميع عناصرها وتعبر عن مختلف آمالهم وطموحاتهم دون تكلف أو ترفع أو تمركز.

 

لقد أمن النبي بالحوار والمجادلة والإعلام والاتصال وارتحل في المكان عبر تنظيم مجموعة من الهجرات التجارية وسافر كذلك في الزمان من خلال ظاهرة الإسراء والمعراج الاعجازية وتوغل في عالم الخيال واستجمع الذاكرة واسترجع التراث وعاد إلى التاريخ بالصعود إلى البدايات من الأزمنة الأولى من الخلق وأصغى إلى ينابيع اللغة وحاز على القدرة في تسمية الأشياء وجوامع الكلم وعلى مهارة الوصف والقص.

 

لقد تنزه النبي عن الشعر والسحر والجنون والتملك والتسلط وكان يقوم بمهامه الإنسانية على نحو تأويلي ومن أجل إعادة تشكيل الواقع الذي يعيش فيه النسا بلحمهم ودمهم دون استغراق في العموميات والتنظير.

 

يبقى الحديث النبوي في حالة دلالية متماسكة وكأنه مرسل إلينا نحن البشر في أي عصر نكون وضمن أي ثقافة وأي مجتمع ننتمي وبأي لغة نتكلم وضمن أي جغرافيا أرضية وسياسية نتحرك ونفعل ونتأثر ونسير.

 

يبقى الحديث النبوي يحرك فينا السواكن ويحرض على النهوض ويدفعنا إلى التفكير والاعتبار من ظواهر الكون ويحملنا إلى جواهر الأمور وقلب الأحداث ويبحر بنا إلى الأعماق ويربطنا بجذورنا وكل ما حولنا.

 

يتميز الحديث النبوي بالأسلوب الرشيق والصور المجازية المثيرة والأمثلة المناسبة والقصص الفني المفيد ويمارس جاذبية جمالية على المتلقي وتأثيرا على السامع ويسحر الألباب ويلهب المشاعر ويزرع الآمال.

 

لعل التكرار الذي يتصف به الحديث لا يحدث الملل وليس دليل ضعف ولا موطن تغليط وإنما يمنح فائدة بيداغوجية من أجل تيسير الأفكار العسيرة وتقريب التصورات الغريبة للأفهام وتعجيل النظر بحق العمل.

 

كما يعرض النبي الحوار بالحجاج اللغوي من أجل تفادي الخلاف والتنابذ ويجعل من اللغة الدينية فضاء للتعايش وأرضية للتفاهم وميدان للتسامح وفرصة للتعايش بين المتزاحمين وحاجتهم الوجودية للاتفاق.

 

  والحق أن الحديث النبوي يؤكد في مواضع عديدة على ضرورة تقاسم الجماعة البشرية كل من اللغة والدين من أجل صناعة التاريخ لأن الجماعة الدينية هي جماعة لغوية تتنازع من خلال المقدس حول المصالح والمواقع وتأخذ الكلمات للاستيلاء على العلامات والرموز التي تستعملها في إنتاج الخطاب.

 

تتمثل وظيفة النبي بالمعنى الروحي للكلمة في رعاية الجماعة التاريخية من خلال تنظيم قوانين اللغة التي يتكلمونها وتوجيه الأنظار نحو  المعان المحايث للوجود البشري وتقاسمها بصورة منصفة فيما بينهم والابتعاد عن التصورات المفارقة وعن المعاني المتعالية وعن المشاكل العويصة التي تتعلق بالغيبيات.

 

إن البني الرمزية التي تساعد الناس على تلقي اللغة النبوية هي التي تنتقل من مشاكل الحاضر إلى آفاق المستقبل عبر الاهتداء بدروس الماضي وتستفيد من العبر التاريخية التي يتم استذكارها وقصها وتتراوح بين توجيه الرسالة واستجابة المتلقين وبين النداء والإصغاء وبين إلقاء السؤال والتفاعل مع الهدي النبوي.

 

والحق أن اللغة تقوم بإنتاج حاضر يعيشه الإنسان المتكلم بصورة مطلقة في أوضاعه النسبية يتحسر فيه على ضياع الماضي ويخشى على نفسه من قدوم المستقبل دون الاستعداد له ودون تهيئة الظروف الملائمة ويقوي الرغبة في تغيير الحاضر بالخروج من الاغتراب والعثور على الدليل إلى الفعل والحلم بالتمدين.

 

تبدو اللغة النبوية في الظاهر مطلقة ومتعالية ومثالية ولكن الجماعة التاريخية التي تتلقاها وتتحدث بها تخرجها من نصوصها إلى الواقع وتبعث فيها الحياة وتمنحها الحركية والدافعية وتعطيها رونقا وراهنية وتقلل من عناصر الغرابة والتكتم والإعجاز فيها وتضفي عليها عناصر الألفة والقرابة والوضوح والبيان.

 

جملة القول أن اللغة النبوية غادرت أرض الأبدية وحلت في الزمانية ودخلت التاريخية وصارت لوحة كونية تتجلى عليها أخلاقية الكائن بقيامهم بأفعال حسنة والابتعاد عن الأفعال السيئة وتجد فوقها التجارب المرصعة بالمحبة والأمل مكانها وتصير أشكال التلفظ مقامات وجود والاستعارات الحية إلى قيم دنيوية.

 

بطبيعة الحال يكافح الخطاب النبوي من أجل أن يفهم الإنسان ذاته ويؤصل صلته بالوجود المطلق الإلهي ويرافع على حرية الغير في الاعتقاد دون قيد أو شرط وأن يعبر عن نفسه ويظهر للعالم في اختلافه وذلك ليصبح كل موجود رحمة وتتحول كل رحمة في الكلام إلى تراحم بين الناس في الوجود والكلام المتداول.

 

فمن يمنح الحديث النبوي الهدوء النظري لكي يبوح للمتقبلين بكل أسراره وتفيض أنهار رمزيته بدلالاتها؟

 

كاتب فلسفي

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.