اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

فينكس !!// حسين السنيد

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

 

الموقع الفرعي للكاتب

فينكس !!

حسين السنيد

 

كم اتمنى ان اكون طفلا مرة اخرى ...

كان يكرر هذه الجملة جارنا "حاج حمد" مرات ومرات في اليوم, وهو يجلس على كرسي بلاستيكي قديم ,بعينين صغيرتين وجفون متورمة, مرتديا ثوبا يبدو انه كان رصاصي اللون في يوم ما.

ثم يبدأ يبث شكواه عن غلاء الاسعار وارتفاع الايجار ومرض الاطفال وتذمر الزوجة وتكاليف مراجعة الاطباء, مصاريف المدراس وضيق ذات اليد.

وكان محقا في شكواه هذه .. كيف يمكن لنجار بسيط يعيش على تصليح الطاولات القديمة اوالابواب العتيقة للبيوت المهملة في اطراف المدينة ان يعيل 9 اطفال وزوجة تحمل في رحمها الطفل العاشر؟

كان يقول حاج حمد:

اتمنى ان اعود طفلا مرة اخرى حتى لا اخطأ, كل هذا الكم الهائل من الاخطاء التي ارتكبتها طيلة عمري. فلا اتزوج وانا في السابعة عشرة من عمري واذا اردت الزواج فلن اتزوج ابنة عمي ولما كنت عملت مع والدي في محل النجارة كل سني مراهقتي. لفعلت مثلما فعل اغلب اصدقائي, اسيح في الارض شرقا وغربا قافزا من حضن حسناء الى اخرى كبلبل عاشق يتقافز من نخلة الى اخرى.

ثم كان يصمت وهو يطير بعينيه الى الافق, ويستدرك :

هل تعرف كم صديق لي  في اروبا وامريكا؟ كنا نلعب معا في هذه الدروب في صغرنا؟ هم الان في اجمل بلدان العالم فيما انا ما ازال امشي على نفس دروب الطفولة.

قال لي ذات ليلة مقمرة: انا اعشق السفر ..الا اني لم اسافر في حياتي, ابعد مكان وطئته اقدامي هي قرية في اطراف المدينة حيث اخوالي .

كانت بطن زوجته تكبر, والجنين فيها ينمو .. وكان حاج حمد يحدق في بطن زوجته ثم يزفر بحرقة: مسكين هذا الطفل!  كان يمكن ببساطة ان يكون طفلا لاحد اثريا المدينة وتجارها, ابن ضابط كبير او موظف عالى الرتبة. ولكن حظه السيئ قاده نحو حاج حمد!! النجار المغمور الفقير! ببساطة كان يمكن ان يسافر هذا الطفل ويكون اكثر سعادة في اسرة اخرى, يا لحظك السيئ ايها الطفل, يا ابني ..اذا كنت ولدا فلن تكون اكثر من فقير يعيش على هامش الحياة واذا كنت بنتا فلن  تكوني الا امرأة جليسة الدار, تطبخ وتنظف وتحمل وتلد !

وكان هاجس حاج حمد في السفر يزداد يوما بعد يوم, حتى انه جمع عددا كبيرا من صور المدن من الجرائد القديمة ولصقها على جدار دكانه, وراح يتكلم عنها بشغف, عن نقاء هوائها وجمال طبيعتها واريحية فتياتها.

هذا برج ايفل .. وهذه مدريد ..  وهذه امستردام  .. وهذا برج بيزا وهو مائل مثل الشجرة المائلة امام دكاني!

هذه الصورة لمدينة البندقية ولي صديق طفولة يعيش فيها ويعمل كسائق سيارة اجرة ..طبعا هناك يستقلون القوارب بدل السيارات, ولكنه سائق اجرة على اي حال.

وبكين فيها سور عظيم  يمتد لمئات الكيلومترات. وهذه الهند وفيها تاج محل .

 

امتلأ جدار دكان الحاج بصور العواصم والمدن كلها, مئات الصور التي كانت ملصوقة على جدار قديم رطب, وصارت افكار السفر والعواصم والبلدان تستقر في رأس الحاج حمد وتنمو دون توقف. ينام حاج حمد ليحلم انه على ساحل البحر ويتمدد على الرمل بجسم نصف عاري, يستيقض من نومه فيغط في افكاره وخيالاته متصورا انه يستقل القطار الرابط بين مدينتين خضراويتين في صباح شتائي ماطر وينظر عبر نافذة القطار التي ترشقها قطرات المطر الى الشجيرات الراقصة.

 

في ليلة خريفية اشتدت الرياح فيها, لمحنا السنة نيران تتصاعد من مكان ما في الحي, وحين هرعنا الى ذلك المكان حاملين بيدينا دلاء الماء والتراب وجدنا انفسنا امام دكان نجارة "الحاج حمد" والنيران كانت تلتهم الدكان باخشابه ومحتوياته كوجبة اثيرة. وصل الحاج حمد مهرولا بقدمين حافيتين وهو يعض على طرف ثوبه وهم ان يقتحم السنة النيران دون تردد, كل محاولات الرجال والشباب لثنيه لم تفلح! وما اثار استغراب الكل انه لم يكن يريد اطفاء النار, بل كان يصرخ بوجه متعرق وعيون تقدح: جدار السفر .. الصور ... هذه المدن كل حياتي وذكرياتي! كان يصرخ بجنون, لم يفهم احد عن اي ذكريات كان يتحدث؟ فهي صور جائت من الصحف القديمة فحسب! قفز الحاج حمد في كورة النار وراح يجمع الصور من على الجدار, وكانت السنة النيران تحاصره من كل مكان, كلما كان يطلق صرخة كانت النار تعلو وكأنها تصرخ هي الاخرى ..بدأ النار يجلد جدار الصور والحاج حمد مايزال مصرا على حمايته! لصق نفسه على الجدار وبسط يديه وهو يصرخ بوجه مليء بالرماد المتطاير. وفي هذه الاثناء كنا نحن في الخارج نحاول جاهدين اطفاء النار, الدكان القديم المتهرئ لم يصمد امام هجمة النيران تلك, فخر السقف واطلق حاج حمد صرخة مدوية كصوت صاعقة, سمعها كل اهالي الحي, وصمت.

حين كنا مشغولين باطفاء الدكان المحترق وكان الحاج حمد يحاول ان يحمي جدار الصور بكل وسيلة, حتى بجلده ولحمة .. في الجهة الاخرى من الحي .. حيث داره المتواضعة والكئيبة. احست زوجته بالم المخاض .. وشعرت بانها ستضع مولودها الان ..

تزامنت صرخة الاولى لطفل الوليد مع الصرخة المدوية الاخيرة للحاج حمد.

***

بعد اعوام واعوام .. وكانت ماتزال حادثة مقتل الحاج حمد تتناقل على الالسن حتى انها صارت اشبه باسطورة يقصها الاباء الحي لابنائهم .. وكيف ان فرق الاسعاف لم تجد جثة حقيقية له الا بقايا من رماد ملابسه.

وكان يقول البعض ان شخصا ما قد رأى الحاج حمد على ساحل بحر والاخر يدعي انه تسلق جدار الصور وقفز على سطح دكانه ليفر بعيدا. والآخر كان يؤكد انه رأى جثته في المشرحة وهي مغطاة برماد الصور تماما وكانه اصبح مومياء.

وخلال هذه الاعوام المليئة بالاساطير والاخبار والكلام عن الحاج حمد, صار ذلك الطفل شابا يافعا, اقصد الولد الاصغر, آخر العنقود الذي تزامنت صرخة ولادته مع الصرخة الاخيره لوالده.. واذا نظرت اليه سترى بكل تأكيد الحاج حمد بلحمه وشحمه اذ كان يشبهه الى درجة عالية, ولكن ذلك الشاب لم يكن يرى كثيرا في الحي ودروبه او في بيتهم او دكان والده القديم, يقول اهل الحي انه من عشاق السفر والترحال, ويقضي ايام واسابيع واشهر في السفر والتنقل بين البلدان والمدن الجميلة حتى ان الكثير من الاهالي شككو بوجوده اصلا!

رأيت ذلك الشاب للمرة الاولى والاخيرة, وكانت الشمس شقت الدجى باشعتها للتو, خرج بالتزامن من بداية زقزقة العصافير وصفير البلابل, حاملا حقيبة سفر على ظهره ويصفر هو الآخر مناغيا الطيور والصباح والشمس الوليدة للتو. اندهشت حين وقعت عيني عليه, بدا لي انه الحاج حمد, مشى الشاب باتجاه دكان والده القديم ثم ضاع في دروب الحي القديمة.

 

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.