اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

خطوات مضيئة// حسين السنيد

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

 

الموقع الفرعي للكاتب

خطوات مضيئة

حسين السنيد

 

اعمى منذ الولادة ...

لم يبصر النور ابدا, ولا الالوان ولا الاشكال.. كان يعيش في العتمة. يسمع الاصوات فتخترق اذنه وتمر عبر خط مستقيم الى عينه وتتشكل هناك اشكالها.. اقصد اشكال الاصوات.

مثلا صوت والده كان عاليا وفيه بحة خفيفة, فكان يتصوره شكلا اسطوانيا كبيرا  يمتد من الاعلى حيث السواد .. الى الاسفل حيث السواد مرة اخرى.

اما صوت امه فكان ناعما كصوت طفلة, وحين تداهمها نوبات البكاء القاسية يشبه مواء القطط في ليالي شباط. لذلك كان يتصور امه شكلا منحنيا متعرجا.

لم ينس ابدا تلك اللحظة الخالدة عندما ابصر للمرة الاولى خطا مضيئا يخترق الجهة اليسرى من عينه ليمرق من اليمنى بسرعة, حدث ذلك حين طوحه والده  وراح يتلقفه ويعيد الكرة مرة اخرى. حينها شعر انه يسبح في فضاء غريب وان آلاف الفراشات تداعب عيونه برفرفة جناحيها, في تلك اللحظة بالضبط , كما قلت لكم, ابصر ثمة خط مضيئ يهرب منه, ثم وضعه والده على الارض وقال له:

-    امش .. يا حبيبي ..امش.

ومشى باقدام مرتجفة, ببطئ وخوف.. لكنه مشى وداس على وجه الارض. سمع  رفرفة الاف الفراشات وابصرهن على هيئة نقاط صفر وحمر وزرق.

ومنذ تلك اللحظة عشق المشي وعشق الطرق. وكيف يمكن لاعمى مثله الا يعشق الطرق! فهي لا تمل منه ابدا. حتى في تلك اللحظات الصعبة التي كان يشعر بخيبه امل والديه وحزنهم الشديد, كان يخرج ويمشي لساعات وساعات, انها الطرق, صديقته الوفية التي منحته الومضة الوحيدة في حياته.

وصار يحفظ الطرق ويعرفها. مشى حافيا.. مشى باقدام مجروحة.. مشى بحذاء رياضي.. بحذاء جلدية.. مشى على الرمل.. على السيراميك.. على الاسفلت.. على ارض حارة.. رطبة.. وباردة .. منزلقة وجافة.

وكان يستشعر طعم الطرق المختلفة ويشم رائحتها ويميز صوت ضربات قدمه عليها.

مشى لساعات طويلة محاولا رؤية الخط الابيض. الا ان الخط لم يكن يظهر له بوميضه الساحر ولا الفراشات التي داعبن عيونه باجنحتها عدن الكرة مرة اخرى.

مرت السنين وهو مايزال يبحث عن ذلك الخط اللامع دون ان يراه, وكلما مر يوم او اسبوع او عام, زادت في ياسه وحزنه وشوقه لرؤية الخط المضيئ مرة اخرى.

ذات فجر شتائي ماطر.. حيث كانت الصنابير تتجمد والطرقات تتصقع, لبس ملابسه الصوفية وحمل حقيبة ظهره التي تحتوي على خبز وجبن وماء وبعض القطع من الكيك التي كانت تطهوه امه, بالاضافة لبعض الفواكه المجففة. ثم بدأ بالمشي تحت المطر. مشى ثم مشى.. حتى شعر بشعاع الشمس الاولى.

بالحقيقة لم يكن لمشيه مقصدا واضحا وبالوقت عينه لم يكن مشيا عشوائيا غير هادف بالمرة, بل بين هذا وذاك. لم يكن ليستطيع منع اقدامه من المشي, ويشعر ان اقدامه منفصلة عن باقي جسمه وان النصف الاعلى من جسمه يركب على قدميه فقط. دون اي تاثير آخر وان لاقدامه افكار وقرارت وقوة لايمكن ايقافها وهي غير خاضعة للعقل او القلب او اي جزء آخر من جسمه.

لا اعرف كم مشى بالضبط, هو ذاته لم يعرف كم مشى. ثم شعر انه يدخل في دوامة من الفوضى عبر باب ضيقة مر عبرها بسهولة ويسر.

في بادئ الامر كان يجلس ليتناول شيئا او لينام, اما بعدما دخل عبر تلك الباب الضيقة ,فقد السيطرة تماما فراح يأكل وهو يمشي وينام ماشيا لاوقات تطول او تقصر.

عبر حقلا.. شم رائحة السنابل المتفتحة ورائحة الدجاج تحت المطر. عبر سكة القطار.. وسمع اصوات الاطفال الذين يتحضرون لرمي القطار بالحجر. ثم مر من امام مدرسة للبنات وسمع اصوات قهقهاتهن اثناء اللعب.

عبر جسرا خشبيا وعرفه من خلال الصرير الصادر من اهتزازه. ربما مشى لاسبوع كامل او شهرا او عاما! من يعرف؟

توقفت اقدامه فجأة.. في مكان انتشر فيه عبير الورود بشكل عظيم, قال لنفسه انه في حديقة للورود من دون شك, فرح لانه استعاد السيطرة على اقدامه المجنونة وشعر بتعب كل الايام الماضية تسقط في اقدامه بغتة, ثم خطى الخطوة الاولى في الحديقة.. داس على زهرة حمراء ثم صفراء وكان كلما داس على واحدة تتفجر رائحتها في الفضاء. استمر بسحق الزهور متلذذا بمداعبة وجوه الزهور لباطن قدمه المتعبة والمتورمة.. احس بفرح وراحة كبيرتين.

صاح صوت من بعيد:

-    هي.. هي... انت .. ماذا تفعل في مكب النفايات الزجاجية!! اخرج... ستؤذي نفسك يا مجنون!!!

مد يده نحو قدمه و شعر بالدم الحار يتدفق من باطن قدمه. وعرف انه لم يكن في حديقة للورد.. كيف اخطاء طريقه؟

ركض بجنون وكان الناس واقفين ويشاهدونه بدهشة يتسائلون.. من هذا المجنون الذي اقتحم مكب النفايات الزجاجية باقدام حافية؟

راح يركض وراح الناس يصرخون. كلما كثر صراخ الناس, راح يجري بسرعة اكثر وصرخات الناس تطرق رأسه بثقل, ومع كل طرقة ثقيلة كانت الورود الحمراء والصفراء تمد رأسها من بين قدميه وتنبت من اطراف الطريق ومن الاعلى والاسفل ومن الجهات كلها.

خرج من الحقل راكضا بسرعة جنونية, سمع صوت منبه عال وممتد لسيارة وصاح احدهم من خلفه:

-    احترس ....احترس ...يا مجنون انت في الطريق العام.

ثم كانت الصدمة, صدمة قوية طوحت به الى السماء وكأنه لا وزن له, كريشه تطير في السماء في يوم عاصف. وفي منتصف تلك الفوضى الرهيبة من الصراخ وابواق السيارات فيما كان مايزال يطوف بالجو, لاح له الخيط الابيض المضيئ مرة اخرى! بدأت الاصوات تخف من حوله حتى ساد الصمت, وشعر بميل كبير للنوم.

ارتطم بالارض مبتسما.. واحس برفرفة الاف الفراشات على وجهه وابصرها نقاطا ملونة كما في طفولته.

لم يكترث بالعاصفة الهوجاء التي كانت تلفه.. قام من فوره غير مكترث بالناس, باقدامه الحافية المدماة ورأسه النازف. واصل الطريق متعقبا اثر الخيط الابيض.

 

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.