اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

أندلسُ العذبُ الزُلالُ// محمد عارف

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

 

الموقع الفرعي للكاتب

أندلسُ العذبُ الزُلالُ

محمد عارف

مستشار في العلوم و التكنولوجيا

 

«أزورُكَ أم تزورُ فإنّ قلبي، إلى ما مِلتمُ أبداً يميلُ، فثغري موردٌ عذبٌ زلالُ، وفرع ذؤابتي ظلٌّ ظليلُ». بيت الشعر هذا الذي كتبته الشاعرة الأندلسية «حفصة الركونية» إلى حبيبها الشاعر «أبي شحفر بن سعيد» لم يغادرني خلال ولا بعد الأسبوعين الماضيين الذين قضيتهما في الأندلس. والعذب الزلال تذوقته ماشياً صباح مساء على امتداد كورنيش مدينة «بنالمدينا» من تمثال عالم النبات الأندلسي «ابن البيطار» غرباً وحتى ميناء المدينة المكتظ بالزوارق والمقاهي والمطاعم شرقاً.

إلى يميني البحر الأبيض المتوسط، وإلى يساري السفوح الصخرية المتداخلة مع مباني فنادق وفيلات ومقاهٍ ومطاعم، تتسلقها سلالم أندلسية متدثرة بجذوع أشجار نخيل بلح وجوز الهند، ودوالي الجهنمية بزهورها البنفسجية والحمراء والذهبية، تتدلى فوق الصخور وحولها، أو تنبثق من داخلها. وصنوبرات عملاقة وقزمة كتماثيل منحوتة بألوان الأخضر الغامق المائل للزرقة، والأصفر، والأحمر الملتهب، وأشجار دفلى زهورها وردية، وبنفسجية، وبيضاء.

وتجتذبُ وسامة «ابن البيطار» وملابسه العربية الأنيقة وعيونه المسبلة، المصطافين الذين يلتقطون صور أطفالهم في حضنه، ولو أن «قلعة البلبل» المغربية الحمراء، المحاذية للتمثال، متحف لبحوثه، لكانت أجمل متاحف العلوم في العالم، فالحدائق الساحرة على امتداد الكورنيش حقول «ابن البيطار» الذي يُعتبرُ كتابه «الجامع لمفردات الأدوية والأغذية»، «المؤلَّف الأكمل في علم النبات التطبيقي في شبه الجزيرة الإيبيرية في القرون الوسطى»، حسب «خواني فيرني»، و«خوليو سامسو» الأستاذان جامعة برشلونة. وفن الرسم، موروث «ملقا» مدينة ميلاد الأندلسي العبقري الآخر «بيكاسو»، يفاجئنا في مخطوطات مفردات «ابن البيطار» المزينة برسوم أعشاب ونباتات، وأشجار تتدفق مجارٍ من شقوق في جذوعها يُحدثها أشخاص يحملون أكوازاً لجمعها، وجداول صيدلانية تتضمن أسماء نباتات و«منفعتها في جميع البدن»، بينها نيلوفر ودهن اللوز والآس «لعلاج الأورام السرطانية، والحكة، والجرب ويذهب الإعياء».

ويعيا الإعياء على سواحل الكورنيش، حيث سابحات من أجناس الأرض المختلفة، اسكندنافيات ذهبيات الشعر والبشرة، والعيون الشذرية، وسمراوات إسبانيات، وعربيات تكتشفهن حتى لو سبحن دون حجاب، وأفريقيات بسواد الليل الأبنوسي العميق. وحشود أزواج وأطفال بملابس صيفية ملونة، يلح في دعوتهم نوادل مطاعم الكورنيش، وروائح مشاوي كباب اللحوم الحمراء، والدجاج، والقريدس الذي لا يُقاوم.

وأشدّ ما فاجأني أسف إسبان الأندلس لما فعلوه بعرب الأندلس. لم أصدق أذني عندما ذكر ذلك المرشد السياحي «روبرتو مسينا»، وتطّلعتُ حولي فلم أجد علائم دهشة في وجوه السياح، ومعظمهم إنجليز وألمان وإيطاليون وهنغاريون، وكأنهم لم ينتبهوا لفخر «روبرتو» بأشجار زيتون وحمضيات جاء بها العرب وغيّروا التاريخ العالمي، فروائح زهور البرتقال والليمون الزكية طردت البعوض ناقل الملاريا في «أرض الأرانب»، وهو معنى اسم «إسبانيا»، ووهبت سكان «شبه جزيرة إيبيريا» الإسبان والبرتغاليين فيتامينات «سي» تحميهم من مرض «الإسقربوط» الذي كان يفتك بمجتمعات أخرى، وجعلتهم أول البحارة عابري المحيطات ومستكشفي قارتي أميركا، ولحق بهم الإنجليز في القرن السابع عشر عندما استوردوا «النارنج» من إسبانيا وسمَّوه «برتقال إشبيلية» وتعلموا أن يصنعوا منه مربى يُسمونه «مَرْمَلاد» وتعني «مرض البحر» بالفرنسية.

وبعد يومين من مغادرتي إسبانيا فُجعتُ، لكن لم ينقص فخري بقومي العرب، بالحادث الإرهابي في برشلونة، الذي أودى بحياة 15 شخصاً. «بَرِحَ الخفاء فأيّما بك تكتمُ، ولسوف يظهر ما تُسر فَيُعْلَمُ. يا ليت أنك يا حسام بأرضنا، تُلقي المراسيَ طائعاً وتُخَيّم. فتذوق لذة عيشنا ونعيمه، ونكون إخوانا، فماذا تنقمُ». غنت ذلك وعزفته على العود أول شاعرة أندلسية اسمها «الجارية العجفاء»، وفيه قالت: «مِمّا تضمَّنَ من عزيز قلبه، يا قلب إنك بالحسان لمغرمُ».

 

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.