كـتـاب ألموقع

الكون والانسان .. تحيه!// محمد عارف

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

 محمد عارف 

 

 

الموقع الفرعي للكاتب

الكون والانسان .. تحيه!

محمد عارف

مستشار في العلوم والتكنولوجيا

 

«في الفراغ بين عينَي القارئ والسطور التي يقرؤها هنا غبار نجوم ونبض مجّرات وكلام وموسيقى وصور ومخلوقات حية وعرائش من الفضاء البعيد».. كان ذلك عنوان تقرير مسهب كتبته قبل نحو ربع قرن، وذكرتُ فيه أن الأثير، الذي يحيط بنا، مكتظ بجزيئات عناكب وفراشات وبشر عاشوا قبل آلاف الأعوام، وإشعاعات قادمة من مجرّات، استغرقت رحلتها ملايين السنين قبل أن تلامسنا. ولو أن للإنسان عيناً مجهرية إلكترونية أو جهاز رصد فلكي راديوي، فسيرى في القَدَم المُكعب من الهواء حوله فيضاً من كل شيء تقريباً في كوكب الأرض والفضاء البعيد.

 

وعرضتُ في التقرير دراسة «ديفيد بودانيس»، من جامعة «أكسفورد»، عن ملايين الأمواج والإشعاعات والجزيئات تلامس أجسامنا، وبعضها يخترقنا والكرة الأرضية من دون أن نراها أو نحس بها، وكثير منها ولد داخل نجوم بعيدة وقذفتها عبر الفضاء موجات فوق صوتية، سرحت في التيه الفضائي الصقيعي مليارات السنين قبل أن تعبر إلى المجال المغناطيسي لمجرتنا، وتلتقطها جاذبية الأرض. وإلى جانب الإشعاعات تعصف بالفراغ حولنا مئات المخلوقات الحية التي لا نشعر بها لصغر حجمها، ولا نرى في هواء غرفنا الذي يبدو ساكناً عواصف حقيقية تلطم الكائنات المجهرية بسرعة مخيفة في جميع الاتجاهات.

 

و«دليل للجينات البشرية سيساعد على معالجة الأمراض الوراثية والمزمنة»، عنوان تقرير لي منشور على الصفحة الأولى في أغسطس عام 1991، تناول «الجينوم» موضوع الساعة آنذاك.

 

و«الجينوم» مجموع «الجينات»، وهي تراكيب من الحمض النووي، بمثابة شيفرة كل كائن حي. وعدد جينات كل «جينوم» بشري 20 ألفاً، هي الإنسان كله، حسب الاعتقاد السائد آنذاك. وعرضتُ في التقرير لقائي مع العالم البريطاني «والتر بودمر»، وحديثه عن أمراض عدة سببها خلل معين في «الجينات»، بينها أمراض القلب، وتليّف المثانة، وضمور العضلات، وروماتيزم المفاصل، وسرطان الرئة، والأمراض الوراثية العقلية، والإدمان على الكحول.. كلها بسبب خلل جيني يمكن إصلاحه.

 

واليوم نعرف أن «الجينوم» ليس الإنسان كله، والإنسان نفسه ليس الإنسان كله. فأكثر من نصف جسم كل إنسان ليس بشرياً. ويُقدِّر العلماء نسبة الخلايا البشرية في جسم الإنسان بنحو 43% فقط، والبقية ميكروبات وفطريات وفيروسات مستوطنة، وكائنات لا هوِية لها في كل ركن وصدع من أجسامنا، لا تزول مهما غسلنا جيداً، وأكثرها حشداً في القسم المعتم المحروم من الأوكسجين في الأمعاء الغليظة. والإنسان مغلوب جينياً، حسب «روث لي»، الأستاذة بمعهد «ماكس بلانك»، والتي قالت لمراسل «بي بي سي»، إن جسم الإنسان ليس جسمه فقط، «وإن نفهم النصف الخفي من تكويننا البيولوجي المجهري، فذلك سيغير بسرعة فائقة فهمنا للأمراض، من الحساسية حتى الباركنسن». وما يجعلنا بشراً هو تركيب «الحمض النووي» الخاص بنا، إضافة إلى «الحمض النووي» للميكروبات في بطوننا، والتي تعزز عمل «الجينوم» البشري. وقد تضاعف تكويننا الميكروبيولوجي من 20 ألفاً إلى 20 مليون «جين». واتحاد حمضنا النووي والحمض النووي للميكروبات داخلنا، يجعلنا بشراً. و«أنت بالأحرى جرثومة أكثر مما أنت إنسان»، حسب «روب نايت»، الأستاذ بجامعة «سان دييغو» في كاليفورنيا.

 

ويكتشف العلم بسرعة فائقة دور الميكروبات في الهضم وإدارة جهاز المناعة، وإنتاج فيتامينات بالغة الحيوية. وهذه طريقة جديدة للتفكير بالعالم الجرثومي. وقد كانت العلاقة بالميكروبات علاقة حرب، استُخدمت فيها «المضادات الحيوية» التي حفظت حياة كثير من البشر، لكنها زادت بشكل مفزع أنماطاً جديدة من أمراض التهاب القولون و«الباركنسن» والحساسية، والسرطان، وحتى الكآبة والتوحد.

 

وتحية العلم الذي يبدعه الإنسان للكون، وللإنسان الذي جاء في الكون ولا يعلم من أين، حسب الشاعر إيليا أبو ماضي: «لكني أتيتُ، ولقد أبصرتُ طريقاً فمشيتُ، وسأبقى ماشياً شئت هذا أم أبيتُ».