كـتـاب ألموقع

ندوب حامد الياسري// كريم عبدالله هاشم

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

 

الموقع الفرعي للكاتب

ندوب حامد الياسري

كريم عبدالله هاشم

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

 

((ما أنا الا عذاب وضعته الروح فيها ص85))

بهكذا مضمون يطرح الشاعر حامد حسن الياسري ندوبه وآثار أقدام الزمن عليه بصور شعرية متفرقة في 24 قصيدة تضمنها ديوانه الموسوم ((مقتل الزمن الثالث)) الصادر عن دار الجواهري للنشر والتوزيع في بغداد.

ويرسم لنا وقع الأقدام المتفاوتة بين الأنين والشجن والحنين ليقدم لنا رؤيته ويسلط لنا الضوء على مقاصده الشعرية لفترة 19 عاما حرجة في التاريخ الشخصي لكل منا وللتاريخ العراقي بأكمله خلال فترة امتدت من 1979 لغاية 1998 وهي تواريخ نشر هذه القصائد.

رسم لنا حامد الياسري اسئلته الوجودية وصرخته بلغة شعرية متزنة هادئة تتسم بالدلالات العميقة والأيحاءات المعبرة وتبعث في القاريء والمتلقي دفقا جيدا من المدلولات والمرامي التي يريد الشاعر ايصالنا اليها.

وقد حملت قصائد الديوان طابعها الزمني ولبست رداء الفترة المحصورة بين التواريخ أعلاه بكل مافي هذه الفترة من صفات ومالها من مدلولات يمكن ان يفسرها كل على هواه وكما يشتهي لكنها بكل التفاسير ستبقى تشكل فترة من فترات التردي والتدهور العراقي نحو المنحدر، حيث الحرب وقسوة النظام التي انعكست على كل شيء في العراق واستلاب الذات وفرضيات السلطة على المثقف وعلى الجميع. لنجد الشاعر حامد الياسري قد حاول جاهدا احتواء كل هذا بطريقة وأخرى والمضي بأسلوبه الخاص لتقديم رؤيته وطرح نموذجه الشعري الذي يتماهى ((بين بين)) ، بين مايسعى الشاعر لتقديمه وبين مامفروض عليه طبيعيا من سلطة الحاكم وسلطة الفكر المتسيدة واسلوب التدجين الفكري الذي اتبعه النظام في ذلك الوقت وتحشيده لغايات وطموحات الدكتاتور. في هذه الحقبة تتماهى قصائد الشاعر بين هذا وذاك لتوصلنا الى مبتغاها حين تخوض في ((عموميات الأمور)) بطريقة ماهرة لتكسر الطوق الحديدي العالي وتصل الينا مشبعة بنكهتها الشعرية المتجسدة في الصور والرسوم والدلالات التي يقودنا اليها أحيانا بشكل مباشر وأحيانا من وراء ستار شفاف نعرف جيدا كيف يسعى الشاعر لرسم مراميه خلفه بطريقة ذكية ((لاتستفز الطوق والنظام وتستعديه في معادلة خاسرة – ولاتمجده وتصفق له كما يريد)).

فيقودنا العراقي ابن الجنوب الحالم حامد حسن الياسري الى غواياته وثيماته المضمخة برائحة الأشجار والقصب وبيوت الطين، والى غربته وقلقه وشجونه بلغة شعرية جميلة تتسم بمفردات وتعابير تطرح نفسها ومعناها مباشرة، ومفردات وتعابير اخرى تطرح ماوراءها من صور وارهاصات بشكل غير مباشر.

فيتنقل بنا بلغته الشعرية هذه بين المرأة الحلم والمرأة الرمز والدلالة لأيام قاسية، واشتقاقات النفس والروح:

(( وكانت لها شفتان على ربوة حالمة / وعينان سوداوان في وحشة سالمة ص5))

أو: (( يدرك قلبي الذي علقته/ الهموم على مشجب الذاكرة.. / ومن أين أبدأ؟ /وأنا المنتهي ص6))

أو: (( فأني أحن الى شجرة جالسة/ وأذكرها عند مغرب روحي/ لوحشتها اليابسة.. ص7))

أو: ((فكم من مرة نشتكي للعذاب/ وليس لنا غير كأس نبللها بالشراب ص53)).

وينتقل بنا الى صراعاته الذاتية بين ماعليه الآن وبين مايعتمل في الصدر، الهم المستديم الذي يعاقره ، الحرب والقتال ، حيث تنبض القصيدة بمعاني مختلفة:

((هواك يطوف على ساتر الموت/ يوقظ في داخلي بيرقا من ليالي القتال .. / بدا مذبح العيد. . ينسل كالسيف ص9))

أو: ((تطلين.. مثل ليالي الحبيبات/ عطشى.. ويبتعد البحر.. يهبط/نسر الجنوب. .ص9)).

ومن الهم العام، هم الوطن، الى الهموم الذاتية والشخصية:

(( من الحرب والحب.. / هل نكتفي بالقتال ص10)).

وكذلك نجد الحماسة التي مانلبث أن نجدها في شعر فترة الحروب تلك:

((بين حدود الأعادي/ وحد العراق/ سلاما .. لكل العراق ص11)).

ونجد الفتى التائه في غربته بين الميمونة والسلام والبتيرة والرفاشية وكل قرى العراق وبين العاصمة والمدن والأضواء وتيه الفقد المتجذر والمتجدد فينا طويلا:

(( فلم يجد النوم فيهم / ولا صحوة الآخرين ص12))

أو: (( على الصمت ترقص أوجاعنا / والسنون ص13))

ونتلمس هم الجنوب المتوارث وغربته من خلال الصور الشعرية التي تتجسد فيها المعاني العميقة وتحمل أحيانا معانيها الرمزية:

((يبيت الهوى، في المصائب، بين الجراح/ وبين الدموع .. / وللصمت انا ذهبنا الى اللارجوع ص15))

وتتوالى الصور الشعرية التي تستيقظ اضاءات ذهنية وفكرية بترميزات واشعارات قابلة لأكثر من تأويل وأكثر من تفسير ومانحة لأكثر من معنى في باب المعاناة المتواصلة من التراكمات والهموم:

(( ثمة استجابة دائرية تحزم حقائبي / الى اسماء مفتوحة الجدران ص18 ))

أو: (( لكن هل يجوز ان تجري الرياح بما لا/ تشتهي السفن؟../ ان الأحتجاج دائما في أعالي الأشجار ص19)).

وتتسلسل الأيحاءات وأوهام الغد الحاضر و((الماء الراكد)) في ميراث الجن ((الماضي)) ، بصور شعرية تحمل الكثير من المعاني والأستعارات وأمواج الشجن العميق لوجوه متعبة ضائعة الملامح تناثر غدها مثلما تناثر وضاع حاضرها وماضيها، فهو:

((جنوب الغريب الذي عاشرته الصحارى ص22))

أو: ((اريد من الأرض الأوهام / وانني على عرش البرك ذات الماء/ الراكد في الأحشاء/ استوقف ميراث الجن ص20))

والزمن الثالث – المبتغى – الغد المقتول في حاضر راكد كماء البركة وماض موروث بحكايا الجن:

((أثقلني بالأثم الممهور على الأعناق ص26))

وتترك الأزمان بصمتها ووحشتها وأوجاعها في أزمنتها الثلاثة المقهورة:

((فنامت كل الأشياء المرسومة في تعذيب الزمن المنفي ص27))

ويعايش الشاعر حروب مرحلته ولظاها، وعليه ان يستجيب بشكل أو بآخر للهم العام وفق رؤيته هو:

(( اذ نبتت في العروق.. / وصارت حياة لنا.. موطنا../ عندها تستفيق البنادق ص30))

ويتجلى العشق والهوى المتأرجح بين حاضر الهزيمة ونفحات العشق التي تتسلل في قصائده في مواضع توحي بأنين وفقد ومجموعة خسارات:

((حتى آخر حد في أطرافي/ أحسب ان قوافل حبي تتركني/ صوب المجهول .. وماخانت / الا السفر الموحش في اجراس القدر الوهمي ص35)).

وتتداخل في بعض القصائد المقاطع مابين الحكاية والرمز والأسطورة والأستعارة التأريخية والأنثى والهوى الضائع، في توظيف جميل للكلمات لترسم لنا لوحة مرمزة بدلالات الهم والفقد والضياع وبأشارات حية للأزمان المقتولة من أولها الى ثالثها:

((في بدء الشفق المطعون بلون الشمس تموت الليلة أسلافي ص49))

أو: (( يأكل خبزا من تنور الحلوة / حين تراود ملك الليل الرابع والعشرين/ أمام القصر الخائف من آشور/ هذا الجد الساكن في المخبأ والمجهول ص49)).

أو: (( من يعرف كابوس التاريخ.. الحاضر يعرفني ص51))

ان قصائد حامد حسن الياسري في ديوانه ((مقتل الزمن الثالث)) تحاكي وقتها وتتفاعل مع ماينتجه ضغط محيطها كما وضحت في أعلاه. تنطلق معانيها واضحة أو مرمزة أوفي صور متأرجحة بين مايفرضه واقع الحال القائم وبين مايسعى النص لأظهاره ((قدر المستطاع)) من المعاني الكامنة والخلجات والشهقات المدفونة.

يمتلك الشاعر تجربته ومعرفته التي جعلت النص لديه وسيلة لدلالات واشارات توثق لمرحلة من الزمن لازالت تنتقل الينا بوجوه مختلفة وبنفس المضمون. ولدى الشاعر حامد الياسري الوعي الكافي في خط ورسم وتتابع الصور الشعرية في النص الواحد، بعض قصائده اتسمت بتلقائية وسهولة والبعض الآخر يفرض علينا النظر الى النص وتقليب صوره من جوانب ووجوه تمكننا من أن نستشعره ونستوعبه ونشعر بالتناغم معه، فنصوص حامد الياسري ليست مجرد الفاظ مرصوفة بغير دلالات وبلا قضية، كسيل الزبد الجارف الذي يطفو اليوم على ساحة الشعر والأدب بشكل عام.