كـتـاب ألموقع
استراحة مقاتل!// عبد الرضا المادح
- المجموعة: عبد الرضا المادح
- تم إنشاءه بتاريخ الجمعة, 16 أيلول/سبتمبر 2022 19:46
- كتب بواسطة: عبد الرضا المادح
- الزيارات: 1593
عبد الرضا المادح
استراحة مقاتل!
عبد الرضا المادح
في شهر أيلول عام 1980 قررت قيادة قاطع بهدينان لقوات الحزب الشيوعي العراقي (الأنصار)، تشكيل أول مفرزة قتالية كبيرة للتوجه للمناطق التابعة لمحافظة دهوك وسهل الموصل، والمسيطر عليها من قبل قوات النظام الدكتاتوري الصدامي، المفرزة كانت بقيادة الرفيق أبو ماجد وهو من أبناء قرية دوغات التابعة للقوش، ضمت المفرزة حوالي 42 رفيق يحملون مختلف الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، عند الساعة الثالثة فجر يوم 15 أيلول بدأ المسير من وادي كوماته، وأول عقبة يجب أجتيازها هي نهر الخابور الجارف الذي يقع على الحدود مباشرة مع تركيا، كان العبور يتم بواسطة (كرسي/صندوق) معلق بعجلة وسلك معدني بين الضفتين ولا يستوعب اكثر من شخص، لذا استغرقت عملية عبور المفرزة ساعتين.
بدأ المسير صعوداً بموازات الخابور ثم الهبوط إلى وادي ضيق طويل في وسطه نهر جاف، وهو الحد الفاصل بين العراق وتركيا، يقع على الجانب العراقي جبل ذو منحدر صخري حاد لايمكن السير عليه، أما الجانب التركي فكانت هناك فسحة مريحة بين النهر والجبل، ولكن لا يمكننا استغلالها للمسير لوجود فصيل للشرطة العسكرية الحدودية التركية (القرقول)، كان المسير وسط النهر مُتعِباً لوجود الصخور الكبيرة، وكان الرفيق الرائع آمر المفرزة أبو ماجد يعاني من الربو وضيق التنفس، لذا كان يضطر للأستراحة كل ربع ساعة، مما جعل التحرك بطيئاً وهذا أرهق الرفاق، وأنا (أبو أنتصار) كنت أحل السلاح الأثقل (العفروف) ووزنه حوالي 17 كيلو، بعد مسير ساعة مررنا بجنب معسكر القرقول، فكانوا ينظرون إلينا وبالتأكيد يحصون عددنا وانواع اسلحتنا، ولكنهم لم يتعرضوا لنا خوفاً، فعددنا كبير وهم معزولين في منطقة نائية ويعلمون أننا لا نستهدفهم، بل كنا نساعدهم أحياناً بتزويدهم بالشاي والسكر والسكائر.
عند الساعة العاشرة صباحاً، وصلنا إلى فسحة كبيرة تقع على الجانب العراقي مقابل قرية (آروش) التركية فتوقفنا للأستراحة، وكانت الأستراحة طويلة نسبياً أتاحت للرفاق الفرصة لتناول الخبز والشاي، عند الثانية عشر بدأنا الصعود لأول قمة جبل بأتجاه العمق العراقي، لنجتاز المنطقة المحرمة (15 كلم) والمنزوعة السكان قسراً من قبل النظام، من فوق القمة لاح لنا من بعيد مقر فوج للجيش العراقي ويقع على قمة تشرف على نهر الخابور، كان الفوج بين فترة وأخرى يقصف مقرنا ومقر الحزب اليمقراطي الكردستاني في كلي كوماته، بمدفع هاون 120 ملم.
كان الأرهاق واضحاً على وجوه الرفاق، وكنت أعاني بشكل مضاعف لثقل سلاحي، وقد لاحظ ذلك الرفيق أبو قيس (استشهد لاحقاً)، وعرض المساعدة بأن يأخذ سلاحي العفروف ويعطيني الكلاشنكوف، فكنت أرفض رغم أنه كررها بين وقت وآخر، وصلنا إلى عين ماء عذب على السلسة الجبلية المطلة على قرية هرور المهجرة، بعد استراحة قصيرة واصلنا السير، كنت أراقب اشكال قمم الجبال والأحجار والأشجار والوديان وكل ما يساعد في تحديد وجهة المسير، حل المساء وبدأ النور يجرّ أذيال ثوبه الأرجواني بين القمم، عند قمة يبدأ منها وادي يؤدي إلى قرية ( قـُمرية ) المهجرة، طلب الرفيق أبو قيس وبلهجة حازمة أن اعطيه سلاحي، وافقت بشرط أن يعيده لي في القرية، شعرت بفرق الحمل الذي كان ينغرس في لحم كتفي !
وصلنا إلى القرية حوالي الساعة العاشرة، جميع بيوت القرية القليلة تم هدمها، ماعدا بناء من غرفة واحدة هو جامع القرية وأمامه باحة صغيرة، دخل قسم إلى الغرفة والباقي ألقوا بأجسادهم المنهكة على أرض الباحة بعد مسير 18 ساعة، أسندتُ ظهري إلى جذع شجرة وجميع الرفاق متقاربين، اخبرونا بأن مجموعة ستذهب لأستطلاع منطقة عبور الشارع الأسفلتي الرابط بين زاخو وناحية كاني ماسي، المنطقة خطرة تتوزع فيها ربايا الجيش وتُـنصب فيها الكمائن والدوريات، فترة الأستطلاع لا تقل عن ساعة، وهذه فرصة للجميع لتجديد النشاط بنومة قصيرة، ساد الصمت المطبق وذلك يدلل على أن الجميع قد نام.
فتحت عيني فصُعقت لهول المفاجأة، فالأشباح التي كانت ممددة حولي أختفت جميعاً، أدركت فوراً أن المفرزة غادرت المكان وتركوني، عند الأرهاق الشديد تقل قدرة الدماغ على التفكير، فكان المفترض أن يجري التعداد للتأكد من وجود الجميع عند التحرك ! نظرت لساعتي فكانت الثانية عشر ليلاً، حملت البندقية وانطلقت بأثر المفرزة، بعد مسافة توقفت وأنا أركز نظري في الأتجاهات المبهمة وأتصنط للصمت، لا شيء سوى طنين البعوض، لا أستطيع المواصلة لأني لا أعرف الطريق ! فكرت أن أعود للقاعدة في كوماته وهي مجازفة، والبقاء أنتحار فالمنطقة خطرة، وإذا طلع الفجر قد تكتشفني ربايا الجيش ! إنطلقت أمشي بسرعة وأصابع قدميَّ تصطدم بالأحجار فحذائي المطاطي ( السمسون) مهشم من الأمام، في المقر قالوا لي لا توجد أحذية وسيشترون لك في أول قرية، الألم والدم ليس ذي قيمة في تلك الظروف !
صعدت إلى القمة ثم وصلت إلى عين الماء، أرتويت وشعرت ببعض الراحة وملأت الزمزمية، تبعتُ أثر ولكن بعد مسافة أدركت أني سلكت الطريق الخطأ، فعدتُ لعين الماء لأسلك الأثر الصحيح، في تلك الطبيعة القاسية والموحشة وحيداً، تجعل التفكر يفرض نفسه بالجيش والأكراد المتعاونين مع النظام (الجحوش) والمهربين المسلحين والدببة والذئاب والحيايا، حيث لا تعرف مصيرك وماذا يصادفك !
وصلت إلى سفح آخر جبل ومن قمته أهبط للوادي الحدودي وفسحة الأستراحة مقابل قرية آروش، بزغ ضوء الفجر وقد مرت ستُّ ساعاتٍ وأنا شبه أجري بلا توقف، عند القمة تفاجأة بثلاث مسلحين بزي كردي يصعدون بأتجاهي، صوبت بندقيتي وصرخت بالكردي (توكي) وتعني قف من هناك، وهم أيضا صرخوا (توكي)، لحظة حرجة جداً، بادرت لحسم الموقف وقلت (أنا رفيق من الحزب الشيوعي)، فأجابوا (نحن من الحزب الديمقراطي)، سلمنا على بعض وقالوا بأستغراب شديد (لماذا أنت هنا وحيداً ؟!)، أخبرتهم بما حدث وطلبت منهم أن يعطوني خبزاً فالجوع أنهكني، كما طلبت أن يخبّروا رفاق مفرزتنا أذا صادفوهم في منطقة برواري بالا، علمتُ لاحقاً أنهم وبعد عبورهم الشارع الأسفلتي ليلاً، إلتقوا بمجموعة من مفرزتنا الذين جاؤوا للبحث عنّي، فأخبروهم بأني في طريقي للمقر، كما علمتُ أن رفاق مفرزتنا اكتشفوا غيابي صباح اليوم التالي عند أستراحتهم على سفح جبل متين قرب قرية بليزان ! وأنهم أشتروا لي حذاءً، ولم أستلمه ( يا فرحة اللي ماتمت !).
في استراحة آروش حرصت أن لا يشاهدني أحد، قيل أن هناك عائلة على الجانب التركي مشكوك بتعاونها مع القرقول، بعيداً عن الفسحة رميت بجسدي المحطم تحت شجيرة كثيفة وإستسلمتُ لنوم عميق وأنا أحضن بندقيتي.
بعد الظهر فتحتُ عيني على مشهد مفاجيء مجموعة من الرفاق في الأستراحة، وكانت لهم مفاجأة أيضاً من أين ظهرتُ كالجن خرج من باطن الأرض ! قصصت لهم الحكاية، ضيفوني بما توفر لديهم من طعام وشاي، وكانت معهم كاميرا فصوروني (ويظهر أيضا الرفيق أبو سرمد البصري)، كانت المجموعة متوجهة للقاعدة الجديدة (هيركي)، عرضوا أن يرسلوا رفيق معي ويعطوني مخازن عتاد أضافية، لأنه كان مع البندقية مخزن واحد، رفضت وكان هذا خطأ مني !
ودعتهم حوالي الساعة الرابعة أملاً أن أتجاوز معسكر القرقول قبل أن يحل الظلام، وبعد أكثر من ساعة بدأ الظلام يزحف سريعاً في باطن الوادي، وكلما أقتربت من المعسكر كانت الأشياء تختفي أكثر، حتى باتت الرؤيا لا تتجاوز المترين، كنت أتحرك ببطء وحذر شديد محاولاً إلتقاط أصوات الجنود، كل شيء ساكن كصمت القبور، بندقيتي موصوبة وجاهزة للرد حتى على (خيال المآته)، دُرت حول حجر كبير بلون الظلام، صُعقت ولكن تمالكت نفسي فها أنا في مدخل خيمة الجنود ولا مجال للتراجع، كانوا خمسة منشغلون بتناول العشاء من أناء واحد (القصعة)، ضوء الفانوس العليل لم إلاحظه بسبب الحجر الكبير، بنادقهم ملقات على قماش الخيمة وبندقيتي مصوبة نحوهم، رفعوا عيونهم نحوي وهم في حالة صدمة وخيم الصمت لدقائق ؟! أكيد في تلك اللحظة أعتقدوا أنهم وقعوا في الأسر! لم يلاحظوا أي سلوك يدل على أنه هجوم مُدبـّر! بعد أن شكّ أن هناك خطأ ما تشجع مسؤولهم وسألني بالتركية، هززت رأسي وقلت بالكردية ( تركي نَزانم ) لا أعرف تركي! فترجم أحد الجنود بالكردية ( مَن أنت ومِن أين؟!) قلت (من مقر الشيوعيين)، تيقنوا أني عابر سبيل ولا خطر ينتظرهم، هم معزولون ولا تأتيهم الأرزاق بسهوله، سألني المسؤول (هل لديك سكائر؟)، أجبت بلا ، رغم أن لدي في جيبي علبة جديدة لسكائر أريدوا العراقية، فكرت حينها ربما محاولة لأشغالي لكي يفاجؤوني ويخطفوا من يدي بندقيتي، بقيت في حالة أستعداد وأصبعي على الزناد ! قال (أنت تسير على الأرض التركية وهذا ممنوع، أذهب ولكن على الارض العراقية!) هززت رأسي وبدأت اتحرك للخلف وعيناي وبندقيتي مصوبة بأتجاههم، بعد عشرة أمتار أستدرت وأنطلقت بسرعة مبتعداً، لا أزال على الأرض التركية ففي الظلام مستحيل السير في وسط النهر الحدودي بسبب الأحجار، فكرت بأنه لابد من وجود دورية للقرقول، فشغّـلت لاقطتي الأذنين بكامل طاقتيهما، وفعلا سمعت صوت حديث جنود متوجهين نحوي، جلست خلف حجر كبير بجنب الممشى الترابي، فمرّا جنديان بالقرب مني دون أن يشعرا بوجودي، ثم أنطلقت بسرعة و وصلت إلى قطع جبلي مرتفع من احجار هشة على الجانب التركي، الأنزلاق والسقوط في نهر الخابور موت محتم، المصباح اليدوي الصغير (قلم) في آخر أنفاسه، أعطيت أشارات (مورس) لحارس سجن مقر الحزب الديمقراطي الكردستاني والذي يقع عبر نهر الخابور وبقيت أنتظر، وفعلا سمعت صوت (توكي) ففرحت وكانت بشرى النجاة، كانا مقاتلان من بيشمركة الديمقراطي عبرا ليساعداني للوصول وعبور النهر.
استقبلني رفاقي من فصيل الأدارة وهم غير مصدقين، فقد ضنوا أن مفرزتنا تعرضت لسؤ وأنا نجوت، كما جاؤوا مسرعين من فصيل القيادة رفاق وعلى رأسهم الرفيق أبو يوسف (سليم اسماعيل البصري) عضو اللجنة المركزية والمستشار السياسي لقاطع بهدينان، حكيت لهم القصة بأختصار، ثم غرقت في نوم عميق، وسكتت شهرزاد عن الكلام المباح لمدة 42 عام، وها أنا أسرد لكم الحكاية بتفاصيلها وبأمانة تامة، لأنها جزء من تاريخ الحركة الأنصارية.
عبد الرضا المادح
النصير أبو أنتصار
15-09-2022
* الصورة المرفقة أخذت لي في أستراحة قرية آروش.
المتواجون الان
601 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع