كـتـاب ألموقع
درب التبّانه- قصة قصيرة// عبد الرضا المادح
- المجموعة: عبد الرضا المادح
- تم إنشاءه بتاريخ الأحد, 05 أيار 2024 10:37
- كتب بواسطة: عبد الرضا المادح
- الزيارات: 1020
عبد الرضا المادح
درب التبّانه- قصة قصيرة
عبد الرضا المادح
* لسنين طوال وكلما إستذكرت المعركة أحداثها،
تعود الروح للجسد المتبقي،
بل إنها تسكن هناك لم تغادر.
كانت السماء صافية على غير عادتها في بداية الشتاء ، فأستغلت أشعة الشمس غفوة الغيوم على قمم سلاسل گارة ومتين، لتنشر بدفء أشعتها نشاطاً حيوياً في وديان وتلال منطقة الدوسكي، حيث استمر الفلاحون بتقطيع الاشجار وجمع الحطب، استعداداً لشتاء قارص يحل عليهم كل عام في دورة الطبيعة السرمدية.
في أحد تلك الوديان بين نهر الخابور وقرية ملهم باني، كان الدخان ممزوجاً برائحة الشاي ينبعث من مواقد متباعدة تحلق حولها الانصار يسردون حكايات الصبا والاهل القادمة من ازقة انتشرت على خارطة العراق، تحمل عطر الصبايا وحلاوة التمر وهدهدة حول مهد، وارتعاشة جسد درويش على ترنيمة لأم فقدت إبنها الذي لم يعد من الجامعة في يوم قائظ من صيف عام 1978.
من أعلى التلة صاح أبو سحر (النجفي) متخفياً خلف أغصان شجرة صغيرة:
ـ يارفاق وصلت مفرزة زاخو.
ـ مرحبة يارفاق.
تعانقوا وتبادلوا القبل والابتسامات ترتسم على شفاههم ، حيث لم يلتقوا منذ اشهر فلكل مفرزة منطقة لنشاطها السياسي والعسكري. ثم إنتشروا على شكل مجاميع صغيرة وبدأوا ممارسة طقوس النار، بخفة وسرعة تنم عن خبرة إلتقطوا الاغصان اليابسة المنثورة في امتداد ظل اشجار الچلو (البلوط)، التي إصطبغت اوراقها بحمرة من نور الشمس الباهتة، تكومت الأغصان على شكل هرم دائري تتوسطه قطعة صغيرة مأخوذة من احذية المطاط (السمسون) التركية الصنع، حيث يحرص الأنصار على حملها معهم في العليجة ( كيس يحمل على الظهر)، خاصة في الشتاء لتعالج بلل الاغصان، فتطلق دخاناً اسوداً كثيفاً مع رائحة نفاذة ثقيلة، بعد دقائق بدأ يتراقص لهب النار ليحتضن الزمزميات وعلب الألمنيوم لحليب النيدو، والتي غيرت لونها لتنسجم مع لون الفحم والرماد المترسب في قعر المواقد اليومية. رفع أبو نضيلة الأصلع يده منادياً رفاق مفرزة زاخو:
ـ تفضلوا يمنة رفاق تغدّوا وشربوا چاي .
أجاب من بعيد أبو عثمان:
ـ جاييكم ... جاييكم بلچن تحضرون القوزي.
ـ لا والله عدنه اليوم مسگوف قواطي اذا يصرف. علق الرفيق جيا مبتسماً.
ـ هاي شنو أبو فهد أشو صاير أبيض..؟ قهقه أبو إزدهار غامزا بعينه للرفاق الذين إفترشوا الأرض حول الموقد.
ـ نعم لان الشمس ماتعبر جبل بخير فصرت أشگر.
ـ ههههههه رنت ضحكات الرفاق عبر الوادي. ثم أضاف أبو إزدهار بخبث:
ـ بلكي تاخذون أبو أنتصار يمكم چم شهر تبيضوه.
ـ ملاعين آنه أشگر بس صابغ جسمي بالسخام حتى مايشوفوني حرّاس الربايا. علق أبو انتصار نافخاً صدره، واستطرد:
ـ هذا أخي زهير بياضه يشهد.
ـ شنو تريد تقشمرنه هههههه.؟ علّق عمودي.
ـ ولا يهمك أبو انتصار آنه أشوفلك مره شگرة مثلك. ضاحكةً قالت أم إزدهار.
ـ شنو صار بيهه زواج ديروا بالكم علينه. صاح علاء (البصري) من حلقة اخرى وهو يدير وجهه عن الدخان الأبيض.
ـ أيـِّـــسْ. أجابته أم هيفاء.
ـ هذا تحيز ضد مفرزتنا. علق أبو رشدي من بعيد.
ـ شباب مفغزتنا يستاهلون، آنه اخطبلهم بنات حلوات بعدين تشوفون. علقت أم طريق بلكنتها المتميزة وهي تناول كأس الشاي لزوجها.
ـ شگرة.. سودة شمايطلع من ايدكم نعمألله. قال أبو ربيع موجها كلامه لأم طريق وهو يعدل وضع بندقيته على كتفه الايسر.
التفت أبو انتصار إلى مجموعة آم طريق قائلا :
ـ اخطبيلهم من منطقتكم ولاتقربون على الدوسكي خاصة قرية بروشكي.
تغامز الرفاق وعلقت أم هيفاء بصوت منخفض ملتفتةً إلى الرفيقة سلوى التي علت الابتسامة وجهها:
ـ تره الأكراد ماينطوك مَره..!
وهو يقترب من المجموعة علّق شورش بلغة عربية ذات لكنة خفيفة:
ـ إذا يصير كردي ننطيه مَره.
ـ تجي الأيام ونشوف. قال أبو انتصار متحديا وهو يعبث بالجمر المتوهج الضارب إلى الحمرة بواسطة غصن صغير.
ـ المهم شنو اخباركم... عملياتكم...؟ إستفسر أبو نضيلة وهو ينظر لرفاق السرية الأولى .
بدأ الأنصار يشرحون لبعضهم، العمليات العسكرية التي نفذوها في مناطقهم، فمفرزة زاخو (السرية الرابعة) بقيادة ابو محمود، تتحرك من مناطق مجمع بيكوفة باتجاه قضاء زاخو حتى سميل والشارع الدولي الذي يربط بينهما. أما مفرزة السرية الأولى بقيادة أبو ليلى فيمتد نشاطها من ناحية كاني ماسي في وادي برواري بالا مروراً بمنطقة صبنة والدوسكي حتى أطراف مدينة دهوك.
لاحظ الرفاق ان آمري السريتين والمستشارين السياسيين أبو لينا وأبو ربيع، قد عقدوا حلقة في ظل شجرة مبتعدين عن المجاميع المنتشرة في الوادي الضيق، الذي ارتسمت في قعره حفر مملوءة ببقايا نهر ارتحل في نهاية الصيف نحو الجنوب مع تيار نهر الخابور.
ارتفع صوت شجي أطرب العصافير التي حطت على الاغصان فبدأت تزقزق وتتلفت لمصدر الصوت وهي تهز بذيولها، فجاء الغناء الريفي الجنوبي عذباً مع هزّة معتادة برأسه وهو يفرك سبحته البنية اللون.
ـ تعيش أبو السوم. قالها أبو قصي لسامي دريجه وهو يعدل الجمداني (اليشماغ) على رأسه. ثم جاء صوت نجاح من بعيد:
ـ كوم إبزخ عمودي شنو بس گاعد.
ـ ههههه... قهقه عمودي ولم يحرك ساكناً. فدفعه أبو نضيلة من كتفه برفق وهو يحثه:
ـ گــوم...گــوم.. هاي اشبيك...!؟
ثم علق زهير:
ـ هو تغدّه اليوم جبن جاجيك وخبز وصارت عنده دوخه.
ـ يعني متهبهب. اضاف أبو شذى.
ـ هههههه. ضحك الجميع.
صاح الحرس أبو قيس من أعلى المرتفع وهو ينظر باتجاه مدينة زاخو:
ـ رفــاق... طيران هليكوبتر بعيد.
سرت همهمة بين الانصار وتحرك بعضهم ليربطوا أحزمة القابوريات الجلدية على ظهورهم.
التفتت أم هيفاء إلى الجهة التي تواجد فيها أبو ليلى مستفسرةً:
ـ شنو رفاق نطفي النار وننتشر.؟
ـ لا ماكو داعي، بس كونوا حذرين وجاهزين.أجاب أبو ليلى.
كان حذر رفاق مفرزة زاخو يعبر عن نفسه بشكل أكثر وضوحاً، لانهم يعملون في مناطق يتردد عليها الطيران وتمتاز بتلال أقل وعورة ، مما يزيد درجة الخطورة في مواجهة الهلكوبتر التي اشتهرت بقدرتها على التحرك بين زوايا الطبيعة كالجرادة باحثةً عن أي أثرٍ للمقاتلين، واحياناً يفرغ طاقم الطائرات بعضاً من حمولتها بشكل عبثي في الوديان، لتنشر الرعب بين القرى، وتفرّ الاحياء من مخابئها بأتجاهاتٍ لاتعرف كيف تحددها.
بدأ قرص الشمس ينساب رويداً رويدا باتجاه المثلث العراقي ـ السوري ـ التركي، تاركاً خلفه أشعته الحمراءـ البنفسجية لتصبغ صفحة السماء الملساء كبطانة محارة استخرج منها اللؤلؤ ليُنثر قطعاً صغيرةً من الغيوم فوق سهل صبنه بين سرسنك وبامرني.
قال أبو ليلى بصوت مسموع لأغلب الأنصار:
ـ رفاق بعد ساعة نتحرك للقرية.
بدأت الطيور تلوذ بسكون الأغصان وهي تتسامر بزقزقة خفيفة لتعبّر عن رغبتها للخلود إلى الراحة بعد عناء البحث عن الطعام الذي بدأ الحصول عليه يسبب مشقةً لها، خمدت النيران في المواقد وسكنت الزمزميات في جعبها، و نثر بعض الرفاق حزام الظهر ( البشتين) على الارض ليعيدوا لفه حول الخاصرة بحركة راقصة، ليستقر عليه الحزام الجلدي مع مخازن الكلاشنكوف الأضافية. الجميع أصبح جاهزاً للتحرك إلى إحدى القرى حيث يستضيفهم الفلاحون، كما درجت العادة منذ عشرات السنين، فالجماهير الكردية احتضنت الحركات المسلحة بما تيسر بدون كلل.
إقترب أبو ليلى من الرفيق نوزاد دليل المفرزة في تلك الفترة وهو من أبناء المنطقة هامساً باذنه:
ـ رفيق نحن نتوجه الى قرية آرادن العليا ومفرزة زاخو إلى آرادن السفلى. ثم التفت الى آمري الفصيلين مكملاً:
ـ يَـلَّـه تحركوا رفاق.
وكرر الرفيقان أبوقيس و نجاح ( أبو الهيجا ) الأمر بصوت مسموع إلى الرفاق، ليبدأ المسير برتلً فردي تاركين مسافة مترين بين كل واحد منهم ، صعودا مع اخدود الوادي، بينما انحدرت سرية زاخو باتجاه الغرب حيث تقع القرية هناك على تلة طويلة مسطحة. اقتربت السرية الأولى من قمة الوادي حيث يضيق، لتبدأ المسير على أرض منبسطة لعشرات الأمتار ثم تهبط في وادٍ آخر يصعد بها تدريجياً نحو القرية مباشرة.
كان أبو ليلى يسير في الثلث الاول من الطابور فالتفت إلى الرفيق الذي خلفه وهمس في اُذنه سر الليل:
ـ بغداد.
فحملت الشفاه بحرص السرّ لينتشر على شكل موجة متوالية ليصل أول اُذن وآخر اُذن في الرتل، دون ان تسرقه آذان الافاعي المنتشرة بين الأحراش المتربصة إلى كل حركة تقترب منها. بدأت اضواء فوانيس القرية تتراقص مع اهتزازات أجساد الرتل، التي بدأ عرقها يبلل أطراف أوراق الأشجار المتصادمة معها، محدثة خرخشة تداعب سكون الفضاء المظلم إلا من نور باهت، يتسرب مع امتداد التلة المرتفعة التي تفصل بين گلي (وادي ) الدوسكي وگلي مانگيش. تعالى نباح كلاب القرية معلناً قدوم غرباء، حيث تقف مُباعدةً بين اقدامها وماطةً رؤوسها بأتجاه مَقدم المفرزة، ليزداد سعير نباحها كلما اقترب الرتل، وتبدأ بالتراكض مرتبكةً باتجاهات مختلفة، لشعورها بالعجز من مواجهة انسياب الأجساد بين بيوت القرية، ذات الجدران الحجرية المتماسكة بالطين والمعقودة سقوفها بجذوع اشجار السبيندار الأبيض ( شجر القوق ). في وسط ساحة القرية الصغيرة، وقف بعض الرجال يحمل احدهم فانوساً وآخر انشغل بطرد الكلاب ملوحاً بعصاً خفيفةً مردداً:
ـ برو...برو...(إذهبي).
إنتشر ضوء الفانوس على جسد ضخم تجاوز الخمسين يتوسط الرجال، له قامة طويلة تنتهي في الأعلى بلفة مزدوجة للجمداني (يشماغين) لتعبر عن ثراء صاحبها وتأريخ اقطاعي إرتبط بالعمالة لنظام بغداد، فبترت أرنبة اُذنه وانفه من قبل أحد مسؤولي الحركة الكردية عقاباً له. تقدم المختار خطوتين سانداً جسده المترهل الضخم على عصاً غليظةً بيده، حركها بشكل متناسق مع حركة قدميه، قائلا بكلمات مزج بهما بين العربية والكردية:
ـ اهلا...اهلا...سرچافا.
اجابه أبو ليلى ماداً يده لمصافحته:
ـ السلام عليكم...چواني برا.؟ (كيف حالك أخي؟).
ـ اهلا وسهلا...
تجاذبا الحديث قليلا واستفسر آمر المفرزة عن أحوال القرية وعمّا إذا كان لديه اخبار عن تحرك الجيش في المنطقة، وهل لاحظ أهل القرية مجيء آليات اضافية لمعسكر الفوج في ناحية مانگيش.
ـ قط نينا ( لايوجد أبدا ) اجاب المختار، ثم اردف:
ـ كم عددكم.؟
ـ اربعين.
ـ يعني كل اربعة في بيت.
ـ تمام شكراً.
اشار المختار على الفلاحين أن يصطحبوا المقاتلين لبيوتهم . ثم التفت أبو ليلى لنجاح قائلا:
ـ هل نظمتم الحراسة..؟
ـ نعم رفيق.
تحرك المختار بهدوء باتجاه بيته وبجنبه أبو ليلى وأبو لينا وجيا وأبو انتصار. في حين لا زالت الكلاب تُعبّر عن قلقها، مما اثار قطيع الماعز في الزريبة محدثة ضجة بأظلافها وهي تضرب الارض باضطراب. دفع المختار باب غرفة انفتح على مساحة واسعة نسبياً، فجاء صوت زوجته مرحباً:
ـ اهلا ...تفضلوا.
قالتها بلغة عربية جيدة ، حيث يقال انها من مدينة الموصل وكانت تعمل راقصة في أحد الملاهي التي كان يتردد عليها الاقطاعي فاُعجب بها وتزوجها. وجه المرأة الأربعيني المدوّر ذو البشرة البيضاء لايزال يحتفظ بمعالم جمال يلفت النظر. جلس الضيوف على أفرشة صُفت إلى جانب الجدران حول الغرفة، ساندين ظهورهم إلى وسائد عدة إنسجمت الوانها مع البساط الذي غطى نصف الأرضية، والتي توسطها برميل معدني ذو فتحة من الجانب لها باب صغير، واخرى في الأعلى عليها غطاء، ينتصب بجنبها أنبوب يخترق السقف لينفث الدخان بعيداً في برد الشتاء.
تحركت المرأة باتجاه باب غرفة اخرى لتعدّ العشاء للضيوف. حول جسدها الممتليء، تلتف اثواب خفيفة ذات ألوان عدّة، ويتدلى من ذراعيها، نهاياتها لتعقدها خلف ظهرها مشكلة قوساً قزحياً مقلوباً، يترنح بتناسق مع اهتزاز ردفيها.
إنطلق الحديث بين الجالسين ووجوههم مليئة بضوء المصباح النفطي ( اللوكس ) المنتصب على طاولة صغيرة على يمين المدفئة، حيث أجاب صاحب البيت على سؤال أبولينا، مستعرضاً أحوال الفلاحين ومحصول الموسم الهزيل، محاولاً أن يُبرّر بؤس الفلاحين المتوارث من آبائهم، وعلى عكس مايقول، فالملاحظ أن فلاحي قرى الدوسكي الأخرى، يعتبرون من الأغنياء قياساً بفلاحي برواري بالا، وذلك لتوفر أراضي زراعية أوسع تمتد على ضفتي الخابور، بالاضافة الى دفء الجو وقربها من الطرق المعبدة التي تسهل لهم نقل محاصيلهم للمدن القريبة.
دلفت زوجته إلى وسط الغرفة راسمة بظل جسدها على وجوه الحاضرين، خطوطاً تماوجت برقة مع حفيف ثيابها، محتضنةً بين ذراعيها صينية كبيرة، توزعت عليها اطباق الطعام، الذي تسربت منه رائحة طيبة عبر ثوبها الشفاف لأنوف الجياع المتلهفة. تراجعت خطوات إلى الوراء لتجلس على يمين زوجها قائلةً:
ـ تفضلوا...
ـ تفضلوا... ردد زوجها.
ـ شكرا...
شعروا بخدر لذيذ يسري في أجسادهم، بعد ان امتلأت بطونهم بطعام يعتبر فاخراً قياساً لليالٍ عديدة أمضوها في برواري بالا، حيث تحجرت بطونهم بالبرغل الذي يصادفهم كل ليلة تقريباً، مع بعض التغييرات أحياناً في طريقة إعداده. بدأت المرأة بسكب الشاي من إبريق كبير تستخدمه في هكذا مناسبات، كان الشاي مُعدا على الطريقة الكردية، ذو لون خفيف وطعم باهت، ليس كما ابناء الجنوب، فهم يفضلون الشاي ثقيلاً غامق اللون.
ـ دشلمة...؟ استفسر صاحب الدار.
ـ لا...لا...شكرا. أجاب الجميع ماعدا جيا الذي تناول قطعة سكر مكعبة ليضعها تحت لسانه أثناء شربه الشاي. واصل الحضور حديثهم، فعرجوا على الحرب العراقية الايرانية، وكيف أن الجنود من الأكراد بدأوا بالهرب من جبهات القتال، واللجوء إلى المناطق الآمنة البعيدة عن متناول السلطة، ولكن هذه الظاهرة لاتزال في بدايتها، وهي مرتبطة بشدة المعارك على الجبهات. وشاركت المرأة في حديثهم، بأستفسارها معبرةً عن اعجابها ودهشتها لوجود مقاتلين عرب مع البيشمرگة وخاصة الفتيات بنات المدن البعيدة، وهل يشاركن حقاً في العمليات القتالية. أجابها الرفيق جيا، شارحاً لها صمودهن وتضحياتهن في ظروفٍ ليست باليسيرة على الرجال.
فعلقت قائلةً:
ـ أري والله... زيركن. (نعم والله... حقاً بطلات ).
ثم طلبت من الضيوف أكياس النايلون التي كانت معهم، لكي تضع فيها بعض من الخبز والسكر والشاي وما تيسر من طعام لنهار اليوم التالي. كما جلبت لهم بعض الافرشة، فحملوها وبرفقة صاحب الدار الذي أرشدهم الى غرفة واسعة تعود لدار يقع في طرف القرية، حيث تجمع الانصار قادمين بجلبتهم وقعقعة بنادقهم، ففرشوا أرضية الغرفة متراصين حتى استوعبتهم، متكدسين كالتمر المكدوس في صندوق خشبي. أطلّ زهير من الباب الصغير قائلا:
ـ سلوى... وكاوة... رفاق دوركم بالحراسة.
ـ حاضر رفيق .
ـ ديري بالچ رفيقه لايخطفچ واوي. مبتسماً ومعلقاً قال أبو نضيلة الأصلع.
ـ لا...لا...لاتخاف نام برغد. أجابت سلوى وهي تضحك.
ـ اذا زهير الدعلج سِلم منهه، فالليلة سلامات. علّقت أم هيفاء بلكنة بصرية واضحة.
بدأ النعاس ينتشر مع انتشار الفانوس على الجدران، ليتسرب الى الوسائد التي احتضنت وجوهاً تخشّن ملمسها بفعل البرد والشمس المباشرة في السماء العارية طول النهار. تعالى شخير في الزاوية القريبة من كوة صغيرة محفورة في الجدار استقر فيها مصدر النور، تحرك جسد ليعدل وضعه مع الحزام ومخازن الكلاشنكوف المتمددة في جعبها الجلدية. كل حركة تصدر من الحراس في طرف القرية، تتلقفها أصوات الكلاب لتحملها مسافات بعيدة، فيأتي الصدى واضحاً من قرية أرادن السفلى حتى مطلع الفجر. دخل آخر الحراس إلى الغرفة ولا يزال خيط الظلام يجرجر أذياله.
ـ رفاق صباح الخير.
نهض الجميع بتثاقل ورغبة في البقاء في أحضان الدفء، تأخر أحدهم على وسادته وجاء صوته ليُشخّصوه:
ـ خلوني اكمّل الحلم.
ـ عيني أبو ازدهار كمل حلمك بالگلي. أجابه كاوة وهو يتثاءب.
تسربت المفرزة كالأفعى تتلوى مع منحنيات الطريق الضيق، الذي رسمته على الأرض أقدام القرية ودوابها، منحدرةً باتجاه نهر الخابور. بدأ الضوء يرسم ملامح الأشجار والوديان وما تبقى من الأنهر بشكل واضح، التقت المفرزتان في الوادي الذي اتفقوا عليه والذي لايختلف كثيراً عن جيرانه.
ـ صباح الخير...
ـ صباح النور...
تبادلت الوجوه المتشبثة بآخر الاحلام التحايا، وتفرقت على شكل مجاميع تبحث بين الأحجار والأشجار عن فسح تصلح لأجسادهم وأسلحتهم والموقد القادم. تسلق أحد مقاتلي مفرزة زاخو أعلى تلة للحراسة، ولم يتضح وجهه حين غاب بين شجيرات الچلو المبعثرت هناك. لم يستعجل الرفاق النار بل احتضن أغلبهم دفء الارض ورطوبتها ليخلد الى غفوة، بأنتظار قرص الشمس ليبدد أضواء المواقد ويمنعها من التسرب لأعين الحراس في الربايا أو أعين المندسين في بطون الوديان أو نهايات التلول في غفلة من الليل.
ـ دمــــ....دمــــــ.....إنفجاران تلتهما أصوات رشقات رصاص من بعيد، حملهم ضباب الفجر المترسب بين ثنايا التلال الباهته.
ـ أصوات معركة رفاق. صاح الحرس.
ـ وين..؟ من ياجهه..؟ صاح أبو محمود موجهاً كلامه للحرس.
ـ من جهة شارع زاخو ـ كاني ماسي.
ـ طيب رفيق انتبه لأية حركة في المنطقة أو طيران.
ـ يبدو إنضربت ربية. علّق أبو شذى.
ـ ربما كمين على الشارع. أضاف أبو سحر وهو يحاول أن يلملم قمصلته حول جسده المتكور حول نفسه.
لم يكترث الأنصار كثيراً، فقد تعودت آذانهم على لعلعة الرصاص، وخصوصاً في لحظات ترنّح نهايات المسافات بين الظلمة والنور،غيرُ آبهةٍ بما يجري في باطنها وفوق قشرتها، إستمرت الأرض بالتدحرج نحو الشرق، لتحتضن أشعة الشمس، فتغادر طيور القبچ ( الدجاج البري ) مكامنها، لتعيد بريق ريشها وتنفث عنه حبات الندى المتساقطة من سقوف أوكارها. افترش الأنصار موائدهم ونثروا ما احتوت خزائن أكياسهم، من رقائق الصاج، وبعض من الجبن المجفف ( الجاجيك ) ذو الرائحة النتنة والسكر والشاي وربما بقايا أطباق مرّوا عليها في آخر ليلة، إنعقدت من جديد حلقات الذكر والأحلام، وأخبار السياسة وبغداد. مرت السويعات، لتختلي لجنتا المفرزتين بمسؤوليها العسكريين والسياسيين، في اجتماع لم يدم طويلا لينادي أبو ليلى على أبو انتصار ونوزاد، وكذلك فعل أبو محمود فاستدعى أبو فهد، وانفردت المجموعة عن بقية الأنصار ليعلن أبو ليلى:
ـ رفاق سنذهب بعد ساعة من الان لغرض الاستطلاع فكونوا جاهزين.
ـ صار رفيق.
ـ ما أريد أي حديث حول الموضوع أمام الرفاق.
ـ نعم رفيق.
تحركت المجموعة باتجاه الشرق لتختفي بعد قليل بين ثنايا الأرض، ثم تظهر لتختفي حتى ابتلعتها خضرة المكان، مارّة جنوب أطراف قرية بروشكي الممتدة على منبسطٍ واسع، تحت ظل التلة الفاصلة مابينها وناحية مانگيش حيث تقبع السلطة بجنودها المنتشرين في مقر الفوج، والربايا ( مواقع عسكرية صغيرة محصنة ) اللعينة المغروزة في القمم، المتطاولة على القرى المجاورة لتقع في مرمى هدفها. توقفوا في منخفض يطرّز قاعه انسياب جدول أصيب بالنحول الخريفي، والذي لم يكن وحيدا بل إستأنس برفقة الحشائش،رافعاّ رأسه عالياً من خلال النسغ الصاعد في السيقان البيضاء الفارعة الطول لشجر السبيندار.
ـ سنرتاح هنا قليلا. قال أبو ليلى وهو يلهث بأنفاس متقطعة.
اخرج علبة سكائره ( الأريدو) من العليجة الصوفية الحمراء اللون ذات الخيوط والخطوط المنسوجة بأصابع ناعمة منثورة بين جدران الطين والماعز الجبلي، نفث الدخان مع كحّة مكبوتة واستفسر أبو انتصار:
ـ هل القرية تبعد كثيراً من هنا يارفيق؟.
ـ نه خير .. بنج دقّه..نزيكه. (لا.. خمس دقائق ..قريبه) أجاب نوزاد.
نظر إلى سيكارته وهو يحركها بين أصابعه، محاولا أن يقدر المسافة للقرية المعنية، فحساب المسافات بمقياس أهل القرى، لاينطبق على حسابات أهل المدن، مضافاً لها خداع البصر في الحواضن الجبلية. مفاجأة لم تكن سارة حيث اقترب فلاح بزيه الكردي الازرق ـ الابيض المخطط بقميصه وسرواله، معتمرا الجمداني بشدته البهدينية المميزة، مبادراً بالتحية:
ـ السلام عليكم...برا. (أخوتي).
ـ وعليكم السلام... برا.
ـ من اي قرية برا..؟ (أخي). سأله أبو ليلى.
ـ من قرية بروشكي...أحوال چاوايه..؟ ( كيف أحوالكم ). موجهاً سؤاله للجميع.
ـ كلگ باشين..سپاس.( جيدة جدا..شكراً ). أجابه أبو ليلى بنبرة تدلل على رغبته في إنهاء الحديث، لكي لايسترسل الفلاح بفطرته وفضوله، فيطرح اسألة تؤدي إلى كشف سبب وجودهم في تلك البقعة القريبة من الاحتكاك بأعوان السلطة. رفع الفلاح يده مودعاً وحث الخطى بعد أن شعر بالموقف لينصهر في شق الأرض الصاعد إلى القرية الكبيرة بروشكي . استجمع الرفاق قواهم وتنكبوا بنادقهم ليتبعوا الدليل بأتجاه قرية كرَيمة، التي يتمترس فيها الجأش ( مرتزقة النظام من الأكراد )، وقيل أنهم ستة إلى ثمانية وكلهم أقارب العميل المدعو عزّو كرَيمة. الذي تحدى قوات البيشمرگة (مقاتلي الأحزاب المعارضة ) وأعلن بقاءه في المنطقة الخالية تقريباً من أمثاله. اقترب نباح يدلّ على حركة راعٍ يهوى جمع الحليب من بقايا النباتات في أضرع قطيعه. توقف الدليل وقال:
ـ رفيق ابو ليلى مانگدر نتقرب اكثر هناك راعي من القرية أخاف يشوفنه.
ـ طيب رفيق.. وين القرية.؟
ـ اللعنة على الكلاب وين مانروح تفضحنه. علق أبو محمود باستياء.
ـ شوفوا ذيچ التلة وبجانبهه إلى الأمام قليلا مقبرة القرية، ويقع إلى شمالها أحد البيوت والبقية تختفي في منخفض خلف المقبرة. قالها بلغة عربية مرتبكة.
ـ البيوت بعيدة عن المقبرة.؟ استفسر أبو فهد.
ـ لا.. لا.. قريبة ، البيوت مباشرة بعد تلة المقبرة.
ـ يعني البيوت المستهدفة،( واستدرك أبو انتصار) بيت عزّو مكشوف أمام المقبرة..؟.
ـ أري... أري. (نعم...نعم). أجاب نوزاد مؤكداً.
ـ هل يتجمع الجأش في بيت واحد؟. سأله أبو ليلى وهو يقترب من المشهد من خلال ناظوره الطويل نسبياً وذي العدسة الواحدة، وكأنه مصمم خصيصاً لعينه اليمنى السليمة.
ـ بلي .. يجتمعون مساءً في بيت عزّو الواقع في الطرف العلوي من القرية، لينظموا الحراسات.
ـ واين شارع السيارات.؟ سأل أبو محمود.
ـ انه يمتد من آخر بيت في أعلى القرية بأتجاه التلة مروراً بربية الأسناد ليعبر إلى مانگيش.
ـ وكم تبعد الربية عن القرية.؟ سأل أبو انتصار.
ـ حوالي خمسمائة متر. أجاب نوزاد واثقاً من تقديره، بعد أن لاحظ بريق الشك في عيون رفاقه.
مازالت الكلاب تحرك انوفها، لتلتقط في الهواء بقايا ذرات رائحة غريبة، فتطلق صوت ذو نغمة خاصة، تترجمها خبرة الفلاحين والماعز ودجاج القرية لتنتشر العدوى الى جنود الربية، بأن هناك على مبعدةٍ تتحرك أشباح لم تألفها. بدأ نباحها يبتعد تدريجياً خلف ظهور الأنصار المتوالية نحو الظلام.
سرت همهمة في القرية بأن الأشباح ملئوا الوديان، لهم عيون ملوّنة فيها الزرق والسود والنرجسية ومن كل الألوان، يظهرون ويختفون في القمم والوديان، وقيل عن آبائنا أن لهم ذيولاً طويلة وقروناً كالثيران. فاختلطت الأقاويل بالخوف وبالحذر وروايات الجان.
إلتقت المجموعة بالمفرزتين عند صعودها إلى قرية ملهم باني، والتي تقع إلى الغرب من بروشكي، في سلسلة تتناثرُ فيها حبات القرى كمسبحة رمادية اللون تطوق عنق التلة التي تفصل مابين الجند والجان. توزع الأنصار حاملين أسرارهم ويقظتهم، فالهمس لغتهم والظلام أنوارهم والمسافات لوحاتهم، فالربية تتنصت بآذانها من فوق التلة، على مبعدة يطالها النظر عند انعكاس الأضواء مابين زوايا الجدران. في غرفةٍ دار الحديث حول المواشي والمدن والبستان، أجاب صاحب الدار ذو الوجه الممتليء والهندام الحسن، بأنهم في أحسن حال وأخذته النشوة ليُفصح عن مكرمة، فيمد يده اليسرى ليكشف عن ساعة يد طُبعت عليها صورة " القائد"...! إلتفت إليه أبو انتصار وأبو شذى في نظرة عتاب وحيرة، وعبثاً حاولا إقناعه. أطل شاب من خلف الباب وألقى بالتحية، ثم إختلى به أبو انتصار في باحة القرية، حيث جرى بينهم في أكثر من لقاء أحاديث طويلة حول الظلم والطغيان ، وعرض عليه الالتحاق بالأنصار، فافصح الأخير عن مطمعه في حصوله على زمالة دراسية إلى البلدان البعيدة، فأدرك أبو انتصار أنه اخطأ الهدف. كان المبيت في مدرسة القرية، وهي بناء حديث يضم غرفاً قليلة وفيها معلمتان، اعتادتا على مفارز الأنصار، بعد أن نزعتا الخوف الذي البسهما، حديث السلطة عن وحوش الغابة وتعطشها لدماء الفتيان. تبضّع الأنصار، السكائر والبسكويت وبعض الحلوى، من دكان صغير إنزوى في غرفة بيتٍ في وسط القرية، ليودعوها في الفجر قبل أن تغفوا النجوم على وسادة السماء ، لم يدرك أهل القرية في أي اتجاه إبتلعت الظلمة طابور الأنصار. جاء النور ليكشف عن أرنب تمزقت أقدامه الخلفية بفكي مصيدة محاولا عبثاً الافلات، فتزداد بقعة الدم حوله لتُغيّر لون فرائه البني ـ الرمادي.
ـ خوش صيد. قال أحدهم من وسط الرتلِ.
ـ اتركوه سيأتي صاحبه ليأخذه. أجاب الدكتور أبو ظفر.
في هذا اليوم السادس من ديسمبر في عام 1981 كان القرار، الحذر من العيون، لتحطّ المفرزتان رحالهما في باطن الأرض قرب نبع يسيل ماءه رقراقاً صافياً، فتروي الزمزميات عطشها للشاي الذي بارك بعطره ولونه أجساد الثوار.
ـ ها أبو لينا (ولد سالك ) أشو بَسّطت الگهوة من وكت.؟ قال أبو رشدي مبتسماً.
ـ والله الزباين اليوم كثار... هههه. أجابه وههو ينفخ في النار مستعجلا أزيز الزمزميات والعلب الممتلئة بالماء.
ـ شنو الچاي اللي عندك ابو لينا.؟ استفسر أبو عثمان من بعيد.
ـ أصلي سيلاني...هسّه جابوه من مراكب الهنود بشط العرب.. تفضلوا.
ـ شكراً نجيك بعدين.. تدري آنه ما افوِّت عزيمة الچاي وخاصة من ايدك الطيبة. أجابه أبو رشدي.
ـ هلة بيكم..
بعد الرابعة عصراً إنتشر الخبر، بين دفء المواقد، ليجتمع الأنصار الذين سيشاركون في العملية، وعيون الاخرين ترنوهم بالحسد والخوف عليهم. طوقت الأنصار حلقة الصمت في فسحة صغيرة امتدت مابين إلتقاء تلتين.
ـ راح ننفذ عملية اليوم رفاق. إستهل أبو ليلى كلامه وإستطرد.
ـ راح نضرب بيت عزّو في قرية كرَيمة، وهذا من المتعاونين ويّه السلطة وعنده مجموعة مسلحين من أقاربه، راح ننقسم إلى ثلاث مجاميع، المجموعة الاولى، الاحتياط وموقعها أسفل التلة الكبيرة المشرفة على القرية، والمجموعة الثانية للاسناد فوق التلة، ومعهم رامي العفروف أبو همسة يساعده أبو رشدي وتضم رفاق آخرين، والمجموعة الثالثة لاقتحام القرية ويكون موقعها تلة المقبرة ومعها سلاحَيْ ـ الآر بي جي ـ وسأكون معهم وأنا اعطي إشارة البدء، وسيكون سر الليل واحداً مع بقية المفرزتين وسيتوجهون إلى قرية مِسْـكة.
بعد أن أكمل شرحه وإجابته على الاسئلة، إنتقلت النظرات في صمت العيون وهي تتسائل، هل سنعود سالمين..؟ فالمعركة ليست مع الجيش والربايا المكشوفة لفوهات البنادق، وهي الأولى من نوعها، حيث سيتصارع فيها من لم يخبْر أرض القرية مع ساكنيها وجهاً لوجه. إلتقت عيون أبو انتصار وأبو سرمد فأرتسمت ابتسامة فراتية خجولة على وجه الاخير، الذي يحلم بهدوئه في العودة لصفوف التدريس، لينثر ورود المعرفة على طلابه الذين تركهم هناك مُكرهاً.
توادع الرفاق وعانقت النصيرات أزواجهن وهمسن بأحلامهن القديمة، التي تركوها في الأزقة وعلى مصطبات حديقة الزوراء وكورنيش أبو نؤاس وشط العرب، عودوا لنلملم الذكريات ونمسح عنها تراب الزمن.
بدأت تبتعد المجموعة القتالية عن الأنظار، سلكت طريقاً التفافياً أكثر جهدا للأبتعاد عن إضاءات المصابيح الكهربائية لقرية بروشكي، التلال المحيطة بقرية كرَيمة تقترب بصمت، بين لحظة وأخرى يطلب آمر المفرزة من الدليل ان يتوقف للتصنت وتقدير المسافة، ثم سلكت المجموعة طريقاً منبسطاً يمتد بين القريتين لتهبط في منعرج وتهدأ الحركة هناك، تحت أشجار السبيندار العالية، كان نباح الكلاب قد بدأ منذ فترة ليست بالقصيرة.
ـ گندي..گلگ..نزيكه..( القرية جداً قريبه ). قالها الدليل بصوت خفيض حذر.
سحب بعض الرفاق زمزمياتهم من مُستقراتها ليبللوا شفاههم ويستعدوا للحركة، جاءت الاشارة لتنطلق مجموعة الاسناد فتلحقها مجموعة الاقتحام، تاركين مسافات بينهم، كان نباح الكلاب ينتشر في الفضاء فيملأ الآذان من كل صوب، ليتحول إلى حالة هستيرية عندما بدأت مجموعة الأقتحام تتوجه إلى موقعها فوق المقبرة، أرعب النباح الأنوار فخرست، إنطلقت رصاصة تحذير في الهواء من بندقية في آخر القرية كانت تتنصت لإرتجافات الحجر التي تسبق الزلزال، عيون المقاتلين تقرأ في الظلام المشوش بإطلالات النجوم كل الزوايا والأحجار والأشجار وأشباح الهواء، ظهرت أنصاف جدران منزل إلى يسار الممر الضيق، بين الأموات والأحياء المرعوبين في زرائب تشبه البنيان. إنبسطت التلة الصغيرة تحت أقدامهم لتُعلن لهم،عن أسماء ساكنيها بنقوش رُتبت على عجل فوق شواهد تبعثرت في ظل أشجار معمرة من غابر الزمان. إتّخذ أبو إنتصار موضعاً له خلف شاهدة، فقرأ في ارتفاعها عجزها عن صد الرصاص الذي سوف ينهمر، انحدر مع سفح التلة إلى الأمام ليجد ضالته في شجرة إنتصب جذعها عالياً. إلتفت إلى اليمين فتعرف على أشباح أبو فهد وأبو ظافر، إلى خلفهه تعرف على صوت أبوهيفاء وأبوعلى (حسين)، الاخرون توزعوا في الخلف بين القبور وأجسادهم، فكانت تلك الشاهدة تحتمي بنصف ظل شبح لأبو سرمد.
من قاذفة أبو انتصار إنفجر اللهب، ليبرق السهم، ويلحقه الرعد المدوي فيأتي صداه من بطن الجدار، إنهال الكون، رصاص .. رصاص..رصاص.. من كل صوب، إنطلق صاروخ يزمجر من قاذفة أبو فهد، فإنتشر الضوء خلفه ليكشف عن وجوه القبور التي نسيت طعمه، خَرُست الكلاب وقبعت لتبلل جحورها، إصطدمت الأصداء بالسلاسل الجبلية لتنتقل ريحها بين القرى والمواقع العسكرية فتلوذ الأخيرة بالصمت. خلف جدار بعيد كان رشاش گرينوف هناك، يصب حممه لتمزق الأجساد في القبور، أرسل أبو انتصار له قذيفة اخرى لتنحرف باسلاك امتدت بين الأعمدة، أزيز رصاص ..شظايا تتطاير.. وأبو سرمد مشغول بعطب رشاشه، تسللت رصاصة بين الشاهدة والظل، لتنطلق حشرجة من الجسد الذي تكوم على القبر.
ـ إنــه...إنــه.. صوت ..لا..لا... إعتصر قلب أبو انتصار وتفجر غضباً.
ـ يارفاق..لدينا رفيق جريح. صاح أحدهم من وسط التلة.
ـ رفيق إنطيني قذيفة. قال أبو انتصار موجهاً كلامه لمن بعده.
لم يستلم جواباً، فأنسحب أمتاراً للخلف زاحفاً على مؤخرته، ليأخذ قذيفة من أبوهيفاء ويعود لموقعه خلف الشجرة، أدرك أن الأسلاك ستحرمه من هدفه، فخرج إلى يساره كاشفاً عن جسده للرصاص ورأسه للخلف مع انحدار الأرض... رصـاص...رصـاص...رصـاص.
ـ ماذا تفعل يارفيق.؟ صرخ أبو فهد.
ـ يجب أن أقضي على الگرينوف وصاحبه.
ولكن الگرينوف اختفى في عتمة جدارٍ، فعاد لموقعه خلف الشجرة وإذا برشقة من خمس نيازك حمراء، تتجه نحو صدره متوالية كعنقود مصابيح اعراسٍ فيشعر بلهيب اذيالها لتنطفيء في التربة مابينه وابوعلي.
بعد دقائق جاء الأمر بالانسحاب، وكان بعض الرفاق قد سحبوا الرفيق الجريح إلى منحدر التلة الخلفي، ناول أبو انتصار القاذف لأحدهم ومد يده ليرفع رأس أبو سرمد، فشاغت روحه لتلتقي بروح الجسد التي تحاول التسلل من ثقب تركه مخرج رصاصة في مؤخرة الرأس، ضغط بأصابعه على الروح الطرية الدافئة، واحتضن الجسد ليلقيه على ظهره مهرولاً، انساب دم الحياة ليخضب جسد أبو انتصار بطوله، وأحسّ بالرعشة الأخيرة، فصرخ الكون وانشقت السماء فهبطت الملائكة تحمل الرايات والشموع والأجراس، يتقدمهم الملاك الأكبر ليحتضن بصدره النور الصاعد من الجسد الراعش في العتمة، سار الركب بلحنه الإلهي ليطوف فوق أرض السواد ويصعد بعيداً... بعيداً... بعيداً...، فتلألأت نجوم درب التبـّانة للفرح القادم.
احسّ أبو انتصار بثقل على ظهره يتعاظم، وصل خلف تلة الإسناد، انحنى برفق فتلقف الرفاق الجسد، مدّ الدكتور أبو ظفر يده يتحسس فتبللت أنامله بطراوة تعشق الحياة.
ـ إستشهدَ يارفيق.. فات الوقت. قالها أبو انتصار والصدمة تخنق عبراته.
فإنهارت دموع أبو ظفر وتهدّج صوته.
ـ ليس وقت البكاء يارفيق. قالها أبو انتصار تفادياً لإنفلات العواطف، وهرول بإتجاه المنخفض ليقطع شجرتي سبيندار بحربته ويلفّ حولهما البشتين لصنع حمالةً، فيُسجى الجسد عليها لتتلقفها الأكتاف وتتدافع طول الطريق لتحضى بنصيب في حملها.
مرّ الموكب المهيب بصمت في قرية بروشكي، لم تنبح الكلاب وانكفأت الأضواءُ، وخلسةً قرأ حرس الربية الفاتحة. توقف الموكب عند مقبرة القرية في الطرف الشمالي الغربي منها. أحسّ أبو ليلى أن لاطاقة للرفاق في المواصلة ومنتصف الليل قد أعلن حضوره.
ـ سندفن الشهيد هنا. والتفت إلى الرفيق نوزاد مكملا :
ـ رفيق نحتاج أداة حفر من القرية.
شدّت أيدي الرفاق على الادوات، وبهمة وضعوا الجسد في القبر المؤقت، وحاولوا أن لا يتركوا أثرا خلفهم. ثم إنحدروا نحو قرية أرادن السفلى.
إنبلج نور الصباح، كان الحزن عنوانه فخيم صمت رهيب على الوادي، لم تشدُ العصافير ألحانها، ومر خرير النُهير خلسةً بلا صوت، انحبست الكلمات حائرةً في الصدور.
ـ روح إغسل ملابسك رفيق أبو انتصار. قالتها أم إزدهار وماء الساقية يترقرق في مقلتيها.
ـ هسّه أروح. قالها وهو يكبح جماح عواطفه وتسلل ببطءٍ نحو الماء.
غمس ملابسه المتيبسة وشعر ببرودة الماء، فإنتشرت الصبغة القانية وتسربت لما تبقى من الحيوات والخضرة لتبثّ فيها الحياة من جديد. تهيأت مجموعة لنقل الشهيد إلى مثواه الأخير، ليدفن بين الماء والأشجار في منحدر تلة، في وادي بالقرب من قرية كوسه التى طالما تحدث لها أبو سرمد عن أحلامه وعشقه وشوقه الدافيء لأهله.
عبد الرضا المادح
02/12/2006
* هذه القصة التسجيلية، واقعية بشخوصها ومواقعها وقد كتبت في الذكرى الخامسة والعشرين لأستشهاد النصير الشيوعي البطل علي منصور والقصة مهداة إلى الشهيد الخالد.
المتواجون الان
356 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع