كـتـاب ألموقع

في حوارٍ معها (الجزء 15) جبّارٌ يذوبُ رِقَّةً// د. سمير محمد ايوب

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

 

الموقع الفرعي للكاتب

في حوارٍ معها (الجزء 15) جبّارٌ يذوبُ رِقَّةً

د. سمير محمد ايوب

الاردن

 

منذ أيامٍ، لِخذلانٍ مُفاجِئٍ، كَبا قلبُه. أُدْخِلَ طوارئَ المَشفى في غيبوبةٍ إستطالتْ. لم يَفِقْ مِنها إلا حينَ إحتضنَ باطنُ كَفِّها لخَدَّه هامسا ومداعبا . تَململَ رأسُه. تَنهدَ بِبطئٍ وَوَهَنْ. ثم لهثَ ساحبا روحَهُ مِن قِيعانِ الغيبوبة. أفاقت عَيناه. رآها. فتسللت إبتسامَتُه حَيِيَّة. تَحَسَّسَ ظهرَ كفِّها بِيدهِ. إتَّسَعت إبتسامتُه. بادلناهُ متمتمين لله حمدا وشكرا.

 

نَقَّلَتْ وميضَ عَينيها، حيثُ عَينيهِ مراتٍ، ومَرَّةً حيثُ عَيني. كنتُ أقفُ في البعيدِ قُبالتها، متأملا تضاريسَ المَشهد. أدركتُ فرحتَها. فهززتُ رأسيَ لها مُؤكِّداً صِحَّةَ ما قالتْ بصمتٍ ، لَمْ يَسْمعه من الحاضرين أحدٌ سِوايْ.   

 

إنه طويلُ القامةِ، عريضُ المنكبين كالوطنِ الأكبر. ممتلئ ثقةٌ كَفِتيةِ الكهف. يُساوِرُ شعرَهُ شيبٌ مارقٌ أنيق. تَنُمُّ طَلَّتُه البهية ومشيته الواثقة، عن قوةٍ وشدةٍ، بل عن جبروت.

 

إستطاع في ظلِّ العلاقات النفعية الموجِعَة، أن يُراكِمَ في نفسه، أطواقَ نجاةٍ جميلةٍ نافعة. حرَّرَت مِحْرابَه، وأبْقَتْه معبده في صدره، وفي أن ينجوَ بِنَفسِه من التشيُّؤ. غيرَ مُتَطَلِّبٍ يأخذُ نَفْسَهُ، في جميع إنحيازاتِه ومُمارساته بصرامةٍ وقورة. مُتَمرّدٌ عنيدْ، لا تَحُدَّ حُريته حدودٌ ولا تُكَبِّلَه قيود. عِنوانُه كبرياءٌ إيجابيٌّ غيرَ مُحايد، يَعْتَدُّ بهِ ولا يُداريه.

 

شُموليُّ الثقافة. مُتأنٍ مُتَبصر. تَتَّكِئُ فكاهتُه وسخريتُه اللاذعة، على كثيرٍ مما نال من علمٍ ومعرفةٍ وخبرة. رغمَ قسوةِ الإعاقاتِ ومحدوديةِ الإمكاناتِ المُتاحة، حَرِصَت أمُّهُ على جَذبهِ إلى مَظانِّها الجادة.

 

وهي إمرأةٌ غيرَ عادية. تهفو كلَُّ نفسٍ سويةٍ لها. باقةُ ألطافٍ مُجَسَّدَةٌ، في كثيرٍ من الجمال والخِصال . عقلٌ مُبْهِرٌ ، وفرحٌ يغمرُ وجهَها كلما تَبَسَّمَتْ.

 

ذات شتاءٍ مضى من سنين، تزاملنا هي وهو وأنا، لأسبوعٍ في ورشةٍ نِقاشيةٍ، على حَوافِّ السدِّ العالي، في أسوان مصر. سألتني اثناءها مِرارا، مُباشرة ومُداورة عن الكثيرِ من خُصوصياته .

 

أذكر أنني قلتُ لها فيما قلته عنه: مظهرُه كَوْنٌ يا سيدتي. وبَينَ أضلُعِه كَونٌ آخر. وما أبعد هذا عن ذاك. فهو مِمَّنْ يُتْقِنُ التنقل من كَوْنٍ إلى كَوْن. في أعماقِه نسائمٌ، فراشاتٌ، عِطرٌ، وقلبٌ أخضر. لا تشير إلى أيٍّ مما في أعماقه راداراتُ مَظْهره. قادِرٌعلى أن يُنهيَ عبوسَه بإبتسامةٍ وديعةٍ، بِمرونةٍ لا تَتنبأ بها أرصادُ ملامحه.

 

قبل أن نحزمَ حقائبَنا عائدين، كنتُ قد أتقنتُ قراءتَه وقراءتَها. في الليلةِ ما قبل الأخيرة للملتقى، كنتُ وإياهُ، نتمشى بإسترخاءٍ على حواف بحيرة ناص ، مستمتعين بتشكيلاتِ الغروبِ على صفحاتها، عرّجْنا عَرَضاً على ذِكْرِها، فوجدتُ نفسي تِلقائيا أقولُ له ناصحاً: يا صديقي لا تَحمِلْ نفسَك على غيرِ ما يُطاق أو تُطيق . مهما قَسوتَ عليها، فلن تنجوَ مِن مِحنةِ القيلِ والقال. قُمْ لِقَلْبِكَ يا رجل، والتمس من تَغَلْغَلَتْ فيه حتى تَجِدْها. حَيِّها بِوردةٍ ، بإبتسامةٍ، وقُل لها ما تَنتظِرهُ منك. ولاتسأل مُطَوَّلا عما يُريبُك. فالحب صدقةٌ جاريةٌ كالولدِ الصالحِ والعلمِ الذي يُنْتَفَعُ بِه. لا تعتقل هواكَ، فُكَّ قُيودَه. وحَرِّرْ كوداتَ حياءِها، ففي داخل كل إمراة نساءٌ مُثرثراتٍ ، يمتلكن أسبابهن للصمتِ القوَّالْ.

 

وتذكر يا صديقي، أن الحب طريقةُ تفكيرٍ وقِيَمٍ، أكبرُ مِنْ شَكلانياتِ الزواجِ وأرصفته. مُتسعٌ كالوطنِ، منه تستمدُّ كاملَ حقوقكَ عندما يكونُ مُعافى. وما أصعب أنْ تكونَ مارِقاً فيه.

 

عميقاً تَنهدَ وهو يلتفت إليَّ، وفي عينيه سيلٌ من أسئلةٍ يتلاشى إصرارُها. فقلتُ: إرفع قبعتك، ولا تقِفْ مُطَوَّلاً عندَ حدود الأشراك الخُلَّبِيَّةِ، التي ينصبُها لك عَدَّادُ السنين. فَفيهِ وقارٌ أشدُّ ظُلْماً من جُلِّ حُكامِ العرب. ولا تُصغي مُطَوَّلا للإتزانِ المُجْتَمَعي فشائِعاتُه مُرْجِفَةٌ.

 

طَلَعا عليَّ قبلَ قليلٍ مُترافِقين، بقميصهِ الأحمر وسرواله الأسودِ القصير، وفُستانها الأسودِ الثري بباقة ألطافها. إني أبْصِرهما على المدى ، بين ما تبقى من ماء نهر الأردن المنهوب، وسماءِ البحر الميت، المُشاطِئ للعدوِّ المُحتل لفلسطين. وقد تحوَّلَ الجبارُ الوقورُ ، عاشقاً ، وإن أسْتَمْسَكَ بِكِبْريائه مُعْتَداً بِه.

 

الاردن – 20/9/2017