كـتـاب ألموقع

ومن أجمل ما قرأت (النص 21 - بتصرف)// د. سمير محمد ايوب

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

 

الموقع الفرعي للكاتب

ومن أجمل ما قرأت (النص 21 - بتصرف)

د. سمير محمد ايوب

الاردن

 

أعلمُ جيدا كم تُحبها

بعد أكثر من عشرين عاما من زواجي، وجدتُ بريقاً جديداً من الحب. فقبلَ فترةٍ بدأتُ الخروجَ مع إمرأةٍ غير زوجتي. كانت فكرة هذا الخروج من بنات أفكار زوجتي. فاجأتني ذات ليلٍ بالقول: أعلمُ جيدا أنك تُحبها. وأعلم كم تُحبها. وأعلم أنك مشاغل العمل ومسؤولياتك الوظيفية الجمة، تشغلك عنها كثيرا، ناهيك عن مشاغلك معنا في الأسرة. كلها معاذير واهية، تقضمُ حقها عليك بالرفقة، وتجعلها نادرة.

 

هيا، إتصل بها. سافر اليها. واخرج معها. إقضيا وقتا طيبا معا. منذ إلتقيتكَ قبل أكثر من ربع قرن، أعلم أنها سيدةٌ وسيمةٌ، مثقفةٌ، رائعةُ الطيبةٍ. تَرمَّلَتْ منذ أكثر من عشرينَ عاما. تُتبابِعكَ عن بعد، تُحبك وتَقلقُ عليك. وأنتما ألإثنان بأمَسِّ الحاجةِ لرفقةِ بعض.

 

من لهفي عليها وشوقي لها، ما أن أنهتْ زوجتي حديثَها، إتصلت بها فورا. ودعوتها إلى العشاءِ مساء الغد.

 

 سألتني: "هل أنت بخير؟" . كانت غير معتادة على مكالمات مني، متأخرة ليلا. فهي مكالمات تقلقها في العادة وترتابُ منها .

 

أجبتها: "نعم يا ست الكل. أنا بخير والحمد لله" .  ولكني أتمنى أن أقضي  معك وقتا، من أجمل الأوقات.

 

تَساءلَتْ مُتعجبة: "نحن فقط، أنت وأنا؟!" .  تَمَهَّلَتْ قليلا. تَنَهَّدَتْ كثيرا.  وقالت كأنها تُرتِّلُ شيئا من صلاتِها: "ياألله كم أحب ذلك، أحتاجه وأشتاقه".

 

مساء يوم الخميس، بعد العمل، تأنَّقْتُ وتَعَطَّرتُ، قبلَ أن أُسرِعَ إليها في سيارتي ألمُنَظَّفَةِ خِصيصا لها. كنتُ مُضطربا قليلاً. وعندما وصلتُ إلى بيتها، وجدتها قلقةً هي الأخرى. كانت تنتظرني عند باب بيتها، بكامل زينتها. مرتدية ملابس جميلة. ويبدو أن فستانها الذي رتدته لتخرج به معي،  كان آخر فستان قد اشتراه المرحوم بإذن الله لها، قبل وفاته.

 

 إبتسمت كملاكٍ وهي تقول: "قلتُ للجميع، أنني سأخرجُ اليومَ معك . فرح الجميع. وهم بانتظار الأخبار التي سأقصها عليهم بعد عودتي".

 

 ذهبنا إلى مطعم يتكئ على تلةٍ، تُطلُّ على بحيرة المدينة. تحيط بها أشجارٌ تتراقصُ مع نسيم المساء، وموسيقى العصافير. كان المطعم الذي إخترته لها، غير عادي بجماله وهدوئه.

 

 تمسَّكَتْ بذراعي وكأنها السيدة الأولى في هذا الكون. بعد أن جلسنا، بدأتُ أقرأ لها قائمة الطعام، لأنها لا تستطيع القراءة بِيُسر، إلا الأحرف الكبيرة. وبينما كنت أقرأ لها، كانت تنظرُ إليَّ بإبتسامةٍ عريضةٍ، يسترخي ألقُها على كل تضاريسِ وجهها، الذي يُسبِّحُ لخالقه طيبة، وفي عينيها دفءٌ مُشع، وعلى شفتيها المجعدتين فيضٌ من الرضا.

 

 قاطعتني وأنا اقرأ لها، لتقول: "أتذكر يا ولدي، كنتُ أنا من يقرأ لك، وأنت وحيدي الصغير؟!".

 

 أجبتها بكلِّ حنان الدنيا،  وما فيها من عِرفان: "حان الآن يا أمي، موعد تسديد شيء من ديني بهذا الشيء. ارتاحي أنت  يا ست الحبايب، وليت ابي يرحمه الله، معنا الآن".

 

تحدثنا كثيراً أثناء العشاء، عن زوجتي وعن أولادي، عن عملي وعن دراستي، عن طفولتي، وعن والدي يرحمه الله، وعن القرية وعن أقاربنا. قصصٌ قديمة وحكايات جديدة ، لدرجة أننا قد نسينا الوقت، إلى ما بعد منتصف الليل.

 

 وعندما وصلنا إلى باب بيتها قالت: أوافق أن نخرج معا مرة أخرى، ولكن هذه المرة على حسابي يا ولدي.

 

قبلتُ باطن وظهر يديها وأنا أودعها. بعد أيام قليلة توفيت أمي، بنوبة قلبية حادة. حدث ذلك بسرعة كبيرة ، لم أستطع عمل أي شيء لها.

 

 وبعد عدة أيام، وصلني عبر البريد رسالة، من المطعم الذي تعشينا به أنا والمرحومة باذن الله امي، مع ملاحظة مكتوبة بخطها: "دفعتُ الفاتورةَ مُقدماً" . كنتُ أحس أنني لن أكون موجودة معك. ألمهم يا ولدي، أنني دفعتُ قيمة العشاء لشخصين ، لزوجتك ولك.

 

ليتك تعلمْ الآن معنى الوقت الذي منحتني إياه تلك الليلة بالنسبة لي. أحبك يا ولدي".

 

الاردن – 23/9/2017