كـتـاب ألموقع

في حوارٍ معها (الجزء 16) في ظِلالِ النَّص// د. سمير محمد ايوب

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

 

الموقع الفرعي للكاتب

في حوارٍ معها (الجزء 16) في ظِلالِ النَّص

د. سمير محمد ايوب

الأردن

 

تَتَّكِئُ بدلالٍ، على زِنْدِ جبل صنِّين. تَلْتَحِفُ سَفحهُ الشرقي. تُيَمِّمُ وجْهَها نحو الشمش. كَفَلْقِ الرُّمانِ إحمرارُ قرميدِها. تغفو على خريرِ وادي البَردوني الظليل. عروسُ البِقاعِ اللبناني وعاصمته. أمُّ الكرمةِ، جارةُ الوادي، وتَوأمُ مدينة الشمس بعلبك. زحلة، نموذجٌ للمدنِ العربية التي أحبها وزرتها مرارا وتكرارا، كمسرى رسول الله بيتِ المقدس، وأرض الرافدين في عراقنا العظيم، والشام نبع الياسمين والجوري، ووادي النيل كنانة العرب، والمغرب العربي ومنابت العلماء والتصوف، واليمن السعيد وقهوته الساحرة، وبلاد الحجاز منبت النبوة والإيمان.

 

زُرتُ جُلَّ دُوَلِ العالم، لكني لم أجد بلدا أجمل من وطنِ العرب. زحلة جنة البردوني في لبنان، دُرةٌ من دُرَرِ المُدُنِ العربية. لا يختلفُ إثنان على تميزها وفرادتها شكلا ومضمونا. مهبط الكثير من شياطين الشعر والإلهام. فيها تسهرُ مع الأخطل الصغير، وأمير الشعراء أحمد شوقي. وتتمايل طربا مع فيروز ومحمد عبد الوهاب.

 

الى هناك، دعتني ذات صيفٍ، رفيقةٌ بعلبكية، لتناول طعامِ العشاء برفقتها. وصلنا مُبتَغانا مع شمسِ الأصيل. تجولنا على غير هدى، سَيْراً على الأقدام ، بين مقاهي وادي العرائش، النابتة على ضفافِ البردوني. على وقع خُطانا المُتَسَكِّعَةِ، نَبَشنا وبَحْبحشنا الكثيرَ من مطاميرِ الذاكرة المُشتركة، المُكْتَنزة بالكثيرِ من تضاريسِ زمنِ النضال الجميل، بِطُهر البدايات، نواياها، بوصلتها، قِواها، وأداؤُها وخطاياها. إستذكرنا الكثيرَ من مُطارَداتٍ للعدو شارَكْنا بها معاً، في كل مكانٍ كانت تَطاله قِوانا آنذاك.

 

مع دفقٍ مُتَّصِلٍ من قهوةِ صديق العمر المرحوم بإذن الله، أبو أنور محمود معتوق المضبوطة، تَبِعتْ عشاءً زحلاويا، لامَسَتْ أسماعَنا تقاسيمُ الأطرش، ألتي يستهل بها رائعته أول همسه، تَلَوتُ لها نَصَّا منْ نصوصي النثرية. ما أن إنتهيت منه، حتى سارَعَتْ ، بِشَفَتَيْها وعَيْنيها، تُشاغِب كعادتها وهي صبية، همزاً ولَمْزاً وكأنها تسأل: لِمنْ تكتبْ؟ وعمَّنْ تَكْتب أيها الشيخُ الهَرِم؟

 

قلت مجيبا وبسمة الواثق المستبد: الكتابةُ كشكلٍ إبداعي، في أيٍّ من الأجناس الأدبيّة، نابعٌ في الأساس يا رفيقتي، من إستجابةٍ داخليةٍ، بتشكلاتِها المعرفية الكثيرة، لِمُعطى في الواقع المُعاشِ أو المُتَخيَّل. وهو جزءٌ حقيقيٌّ وأساسيٌّ من القلق المشروع للكاتب، حيال التّعبير عن نفسه وعن أفكاره وجوانياتها.

 

قالت وهي تُحدِّقُ في عينيَّ، بعينينٍ مُمْتلئة فرَحا مُبتسما: لا يستطيع الكاتبُ أن يُنكرَ، حقيقة أنّ النّص، لا يتشكّل من داخله، إلاّ فيما يخصّ التّخومَ الأساسيّةِ للجنسِ الفنّي. أمّا مُعطياته ودوافعه وأفكاره، بل ومحركات ولادته، هي على إتّصالٍ مُباشرٍ بالضّرورةِ مع خارجه. إعترفَ المُبدعُ بذلك أم لم يعترف. فالكاتبُ معنيٌّ في الأساس، في أن يكون في أقرب مسافة ممكنة ممّن يقرأ ما يكتب. مع إيمانيَ العميق بأنّ النّصَّ الإبداعيّ له حياته وسيروراته الخاصّة، ألتي يبدأها منذ إكتماله وإنفصاله عن مبدعه.

 

ناولتها فنجال قهوتها لإسكتَها برفق، وقلت: لا أكتب هلوساتٍ فضائية. كتاباتي ليست كالفطر بلا جذر. بل وليدة أعماقٍ إنسانية عايشتها، أو سمعتُ عنها، أو رأيتها عن قرب. ألمضامينُ الفكرية لما أكتب، تحملُ بالتأكيدِ، شيئا من بصمات إدراكي، وظلالِ بعضٍ مما أعتقد. أمّا أفرادها ووقائعها  زمانيا ومكانيا، فهم ليسوا إيَّايَ. هم غرباءٌ عني، وعن حياتي المُعاشة، في كل شئ. فأنا لا أكتب عن حياتي الشخصية.

 

قالت : طالما أن صاحب النص ، ليس مُفَسِّرا أو مُعلِّما أو مُعلِّلا لِما يقول.... وتوقفت دون أن تُكْمِل ما كانت تود قوله.

 

فتابعتُ أنا مُختَتِما: أتفق بالضرورة، مع من يظن أن  النّص الجميل كرؤية لواقع، هو النّص الذي يُسلس قياده ويصدع، لمنظومات إدراك المتلقي. ملكات المتلقي، أدواته ومهاراته، تمكنه من تذوق جماليات النص وانارة أركانه على إتساعها. كبوابة لتأويله ووعتبة لتفكيك رموزه، علَّه يجد في النص شيئا من نفسه. جُل النصوص، تعج عادة بالكثير من الرسائل المشفرة والوشايات المضمرة، والتمويهات المتخابثة. 

 

الأردن – 27/9/2017