اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

من حوار معها (الجزء الثلاثون)// د. سمير محمد ايوب

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

 

الموقع الفرعي للكاتب

من حوار معها (الجزء الثلاثون)

د. سمير محمد ايوب

الاردن

 

أرملةٌ على حافة الإنتظار

في الطِّيبَةِ تُشبه جدتي لأبي. وقارَبَتْ في العمر عمتي الحجه فاطمة. وتشبه أمي في الجَمال. زرافةٌ محتشمةٌ، تُناوِشُ الستين من عمرها. بصماتُ النُّبْلِ في جمالها طبيعيةٌ. لم يتدخل في ترميم ما خلق الرحمن، شئٌ من النفخ والشد، أوالملونات، المبيضات، التنميض، التخبيص، الأقنعة، البواريك. ولا يلوث اناقتها شئ من تكاذب الأعمار.

 

بعد إغتيال الصهاينة لشابين من أهلي في سفارتهم بعمان، عصر يوم الاحد 23/7/2017، إلتقيتها في اعتصام ضد القتلة. يطرِّزُ صدرها رسمٌ، لشاب وسيم صبيح الوجه مليح القد. إقتربتُ منها أكثر، سائلا وأنا أشير إليه، أهو شهيدٌ من شهداء السفارة؟

 

قالت: لا ، ولكنه ....

تمهلَتْ وهي ترفع رأسها إلى السماء مُتمتمة، قبل أن أسمعها تُكْمِلُ، في شئ من فخر حزين: إنه بالنسبةِ لي على ألأقل، بنفس الأهمية. لهُ في دواخلي سهوبٌ جميلة، لم تكتمل أحلامُها.

 

بقيتُ مُنصِتا دون أن أتابع أسئلتي. وملامحُ وجهي تشي بفضولٍ، يتمنى عليها أن تُكمِل. إبْتَسَمَتْ وقد فَهِمَت صمتي وقسمات وجهي، فقالت ونحن نتمشى جيئة وذهابا، قريبا من حشد المُعتصمين:

 

في لحظة إبتلاء ولا أقسى، فقدتُ أسرتي، زوجي وإبنتي الوحيدة ووالديَّ، دفعة واحدة مع العشرات من بني قومي. في حادثِ إغتيالٍ آثم، إقترفَتْه طائراتُ الصهاينة، يوم الرابع من شهر آب عام 1968، حين قَصَفت مدينة السلط ومغاريبها. إثرها تعثرتُ حياتي. يأست، وفقدت شهيتي للفرح. أغلقت قلبي بعد أن غادرتني ألمعاني الجميلة للأحلام.

 

قبل عشرين عاما، كنت أقود تلامذتي في رحلة إلى صرح شهداء ملحمة الكرامة في غور الأردن. إلتقيته أول مرة هناك، على ضفاف الكرامة. تعثرتُ به على أولى عتبات الصرح. أمسك بيدي، أنهضني قبل أن أكمل سقوطي. وطيَّبَ خاطري. لحظتها إبتدأ اللقاء، باللباقة والسمع والنظر، فتولد ألإستحسان. بعد شهر نبَتَ للإستحسان ريشُ مودة، حين دعاني للغداء معه في مطعمٍ بسيط، في مدينة الشونة الشمالية حيث عمله. فهو مهندس زراعي من كبار المستثمرين في البيوت الدفيئة هناك. بعد الغداء ونحن نجوب سيرا على الأقدام، أرجاء واحدة من مزارعه، حدثني بوجع قائلا: أنه من قرى مغاريبِ إربد، عروسِ شمال الآردن. فقد زوجته وولدية، أوائل كانون ألأول 1968، في ما بات يُعرف بمجزرة كفر أسد، ألتي إقترفها الصهاينة بغارات طيرانهم على شمال الأردن.

 

أدمعتْ عيناي وأجهشتُ في البكاء. توقف عن المسير مُندهشا مُتسائلا عما بي. توقفتُ على بعد خطواتٍ منه، وأنا أقول: نحن، أنت وأنا، ضحايا العدو نفسه. فَمَن قتل أحبتك، كان قبل أشهر قد إغتال أسرتي. وحدثته عن مجزرة السلط. أمسك بيدي وأكملنا التجوال. ومع العصر، ركبت سيارتي وعدت إلى بيتي في عمان.

 

بعد أسبوع دعوته إلى العشاء معي في ضواحي عمان. متجردا من أنانيته ومن غرضية الصيد في عُكارةِ حزني جاء، وامتص بإنصاته الكثير من وجعي. وإكتسى عُودُ المودة محبة. إمتلأتُ به هوى، وتضخمتُ به عشقا . بفيضِ طاقته ألإيجابية، صرتُ أفضل وأجمل وأرقى. علمني لغات إرتقت بِعشقنا إلى زواجٍ دام خمس سنين، زلزل بها روحي، وأنبت التقدير اللائق به. قبل أن يرحل في حادث سيرٍ مريع.

 

مسَّ صميمَ شخصيتي وجوهرها. إعتبرَني وديعةً تليقُ به. إستدرجني بهدوءٍ بعيداً عن وِحْدتي وحوافها السلبية. أحاطني بدفءٍ مشترك آمِنٍ مُهذبٍ، يليق بنا معا. فوَلَدتُ معه من جديد.

 

منذ أن رحل وقد سكَنني، لا أجد كلما إشتقت له، إلا أن أطرز وجهي بمشروع إبتسامة، كانت بسحرها تُضئُ وقتنا. البسمة يا شيخي، تَهَبَني إياه من جديد. كلما داهمني يأسٌ مُشاغب.

 

بَقيتُ صامتا، منصتا لحديث الروح، وهي تُكمل برضا: أحرص على أن أُبقيهٍ حيا في كل مفردات الخير المباشر. حوَّلْتُ عباءاته سجاجيدَ صلاة. أنفق ما أورثني من أموالٍ طائلة، كفالات لأيتام قُصَّرٍ، وغذاء ودواء لمحتاجين في بيوت المسنين، وكتبا وأثاثا وماء سلسبيلا أوزعها على حضانات ألأطفال، وتسديدا لديون فقراء القرى، وتزويدَ مختبرات مدارس الأقل حظا بما يلزمها من أدوات ومعدات ومواد مخبرية.

 

غادرنا موقع الإعتصام وهي ما تزال تردد: أسألُ الرحمن الرحيم لزوجي، مغفرةً واسعةً وجناتِ المتقين. لقد كان وحده بِكِفَّةٍ، وَالدُّنْيَا بِكُلِّ مَنْ عَلَيْهَا بِكِفَّةٍ أُخْرَى. وَأُلَانَ وهُو خَارِجَ الكِفَّتَيْنِ، بيقينِ ما عرفتُ عنه ومنه، بِثقةٍ أُزَكيه لله سبحانه.

 

قلتُ وأنا أرى لؤلؤةً تُشبهُ الدمعَ تتدحرجُ على صفحةِ وجهها المبتسم: يرحمه الله يا سيدتي. هنيئا لكما ما مضى، وماهو عند رب العالمين.

 

الاردن – 17/11/2017

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.