كـتـاب ألموقع

ثرثرة في الحب (14) - جدل الكبرياء والكرامة// د. سمير محمد أيوب

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

د. سمير محمد أيوب

 

عرض صفحة الكاتب

ثرثرة في الحب (14) - جدل الكبرياء والكرامة

عشوائيات فكرية للتأمل

د. سمير محمد أيوب

 

كُنتُ لا أجدُ، أروعَ من إبتسامةٍ عينيها عنوانا لي. كانت تصنعُ ليَ من الحبِّ إبتسامات ولا أشهى. كانَتْ هُنا وفي كل مكان. إبْتَسَمَتْ، ثم مع مَرَضٍ مُسْتَبِدٍّ غَيْرَ مُمْهِلٍ، رَحَلَتْ. وبَقيتُ، كُلَّما أوجَعتني الحياةُ أو أرهقتني هُمومُها، ومَسَّنِيَ مِنْها ضَرَر، أسافرُ إلى ابتساماتٍ ، كانت وما تزال وطناً يُحييني. 

 

ذات صباحٍ مُختلفٍ، ضاقت بيَ الدُّنيا وَزَحمَتُها. كنتُ أمرُّ بحالةِ إختناقٍ. أمْضي بعواطفَ راكدة. لا وَرْدٌ يُعجِبُني. تَستعصي الكلماتُ على لِساني. ويَعجزُ القلمُ عن مقاربةِ حُروفي أو ترتيبها. ضَجَّ الفُؤادُ وسُدَّتِ الأبوابُ، وباغَتَني حُزنٌ مُفاجئ سمعتُه بِكلِّ حواسي، دون أنْ أدريَ له سبباً. أدركتُ ساعتَها، أنَّها هناك تشتاقُ لي بشدَّة، حَدَّ التألم. فتألمتُ مِثلَها. حاولتُ أنْ أوقِفَ صُراخَ حُزْني، حتى ما عُدْتُ أحْتَمِلْ.

 

لم يكن من عادتي أنْ أحكُمَ على الحزنِ عندما يقتَحِمُني. ولكنِّي كنتُ أصدِّقُ ما يود الحزنَ أنْ يقولَه. إسْتَقَمْتُ كما أُمِرْتُ، لا كما كنتُ قد أحببت. فَيَمَّمْتُ وَجهيَ في لَهفةٍ إلى مَن يَملِكُ الدُّنيا وما عليها. وبدأتُ بَثَّ شَكواي. ما أن قلتُ هامِسا يا رب، وجدتُ نفسي أبحثُ عن غريبٍ أبوحُ له بأوْجاعيَ، ليَحمِلَها ويَرْحل، دون أنْ يتداوَلَها مع أحدٍ منَ الناس.

 

أثناء البحثِ، إلتقيتُها في ممراتِ معرضِ الكتاب الدولي في عمان. أنثى تقتربُ من الخمسين ، يحتلها جيشٌ منَ النساء, جُنونُها العاقلُ ناضج. بصدقٍ تحتضنُ قلبَها وعقلَها. تلعبُ في ممراتِهِما. تبتسمُ وتبكي في شرفاتِهِما. حيَّتْني بلهفةٍ وهي تُمسكُ بِكَفِّيَ بِكِلْتَيِّ يديها، قائلة: ما بِكَ يا شيخي مهموماً، مُتجهما على غيرِ عادتِكْ؟ أبحثُ عنكَ من أشهُرٍ. هيّا نخرجُ إلى الهواء الطَّلِقِ. أحتاجُ أنْ أفَضْفِضَ أمامَك شيئا مِمَّا في دواخلي.

 

سألتُها مُستَغربا: وأينَ عَنْكِ صديقيَ زوجُك.

قالت مُتَبَرِّمة: خَرَجتُ منه قبل أن تنهارَ كرامَتي؟

قلت مستنكرا: أهكذا بكل هذه البساطة تقولينها، بعد كلِّ هذه السنينَ الطِّوال من العِشْرة؟

 

قالت مُتأفِّفَة: طِوالٌ صحيح!، ولكنها سنيناً عِجافا. سكَنْتُهُ طيلَتَها دونَ أن يسكُنَني. أخَذْتُه على محملِ الجدِّ، حتى حفِظْتُه، إنَّه شجرٌ إصطناعي، مهما أسقَيْتَهُ لا يُثْمِر. قرَّرْتُ تحدِّيَ تَشفِّيَ البعض، وأنْ لا أعودَ إليه.

 

سألتُ بحيرة: لِمَ وهو الأكاديميُّ المرموق، وأنت المبدعة الأشهر؟

قالت بشئ من السخرية: صاحبُكَ أكاديميٌّ أمي. يُتقِنُ علومَ القراءةِ وأصولَ الكتابةِ وفنونَ الهندسة. لكنه لا يُتْقِنُ شيئا مِنْ مُقتَضَيات الشراكة الإيجابية، ولا شيئا من  مهارات الحب، ولا آداب المغفرة المتكررة. في ظنِّهِ أنَّ الشراكةَ عقدٌ ورقيٌّ بَيْنَ جسدين، وفستانٌ أبيض، وحفلة طرب. وأنني محضُ رَحِمٍ للحَرْثِ، ومَشتلٍ للتَّكثيرِ البيولوجي. بينما كنتُ أراها جوازَ مرورٍ لحياةٍ أجملَ وأفضل، ثرية بالعبادات الدافئة والمسؤوليات الحنونة. نتنازلُ في ظلاله، عن الكثير من الكبرياء، دون أن نتنازل عن ذَرَّةٍ من الكرامة. خاب ظني. في يومياتِنا، حزنٌ طازجٌ مُقيم. لا تُحكى خوافيهِ لأحدٍ. فَشِلَتْ مُحاوَلاتي في جذبِ روحه، وفَشِلتُ في إبقاءه قُرْبي. جسدي لم يَعُدْ يراه.

 

سألتُ بقلقٍ موجوعٍ : منذ متى وأنتما في هذا الحال ؟

 

قالت بوجع بَيِّنٍ: منذ رحل أبي. تَوَقعتُه أن يبسط لي ذراعه لأستندَ عليه. ولكنَّه تحوَّلَ إلى مقبرةٍ خرساء، أمواتُها أحياءٌ يعيشون في أحشاءِ قلبِه وتلافيفِ عقله. لم يعد كما كان. أرهقتني إستفزازاتُه. طحنتني حدَّ الإبتلاء. أفتقدت صبر أيوب لمواصلةِ العيشَ معَه. أدارَ لَهُ قلبيَ ظهرَه، ولَمْ يَعُدْ يُجامِلُه . بِتُّ لا أعرِفه. تعرَّى حُلُمي. تعبَ وانكسر. إعوجَّ ظهري. صار يؤذيني باسم تلك الورقة. فأفْلَتَتْهُ يدايَ. ومَضيتُ بِلا وداع.

 

كنا نتمشى في ساحةٍ جانبيةٍ للمعرض، حينَ توقَّفَتْ، ثمَّ أطرَقَتْ. لم تكن تَبكي ساعتَها، بل كانت تذوب. بِلا رعدٍ وبِلا بَرْقٍ، أمطَرَت عيناها شيئاً لا يُشبهُ البُكاء.

 

أمسكتُ بِيَدِها وقلتُ مُواسيا بنبرةٍ قويَّةٍ: أديبتنا الكبيرة، الحياةُ لا تقفُ لتُراعيَ حزنَ أحد. لتستمتعي بِتغيُّر الأحوال، لا تُغلِقي عَيْنَيكِ من شدة الحزن. التغيُّر حتميٌّ. قِفي رغمَ انكسارك، ولا تحرسي كلَّ ما مضى من أشياء، ولا تَجْتَرِّيها كالجِمال. هناك أشياءٌ دعيها تمضي برضى. وأخرى بقناعة دعيها تنتهي. وارْضِي بما ابتلاك به ربك. فلِلَّهِ في خَلْقهِ شؤون. حِكَمُهُ في الشجَنِ بالغة. لا تُدركها العقول، مهما اجتهدت، في البحث عن منافذَ غيرَ مُعْوَجَّة.

 

الاردن – 13/10/2018