كـتـاب ألموقع

في المرأة وفلسفة القهوة– النص 22// د. سمير محمد ايوب

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

د. سمير محمد ايوب

 

عرض صفحة الكاتب

في المرأة وفلسفة القهوة– النص 22

الدكتور سمير محمد ايوب

 

القهوةُ المالحة

ذاتَ أحدٍ مضى، تذكرتُ بأنَّها مِمَّنْ يؤمنون بأنَّ لقاءَ الأحدِ مع الرَّب، يُعطينا القوَّةَ لنعيشَ الحاضرَ بثقةٍ وشجاعة. ويُمَكِّنُنا مِنَ السير قُدُما برجاء. فنحن لا نذهب إلى القدَّاسِ يومَ الأحد، أو للصَّلاةِ مِنْ يومِ الجمعة، لنعطيَ الله شيئا، وإنما لننال مِنهُ ما نحن بحاجةٍ إليه فِعلا. فرَجَّحتُ أنْ تكون الدكتورة مريم، أرملة صديقَ عُمري الحاج محمد، في كنيستها تصلي. وصلتها قبل أن تبدأ الصلاة. ناولتُها رسالةً إئتُمِنتُ عليها. شَهَقَتْ ودمعا يتقافز من عينيها، وهمهمات تَبَيَّنتُ منها: هذا خطُّ زوجي، وهذا عطره. من أين لك بها؟ قلت: إقرئيها وبعدها سأفسر. وجَلستُ في الكنيسة خلفها أناجي ربَّ كلِّ الناس.

 

ما أنِ إنتهى القدّاسُ، تَلفَّتَتْ تبحثُ عني بعيونٍ دامعة. تقدمَتْ مني وقالت: خد إقرأ يا شيخَنا. أمسكت بالرسالة مبللة، وقرأتُ:

مريم، يا أجمل ما مضى في عمري،

وأنتِ تُتَوَّجينَ بمرتبةِ الشرفِ الأولى، دكتورةً في هندسة الأنفاق، مع عاصفة التصفيق وقوفا، كُنتِ ملفتةً لإنتباهِ الجميع. كمهندسٍ إستشاريٍّ مَعنيٍّ بتخصصك، تابعتُ دفاعك عن مشروعِ تخرجك، من موقعي في الصف الأول.

 

منذ إعتليتِ المنصة قبلَ أربعين عاما، وضَعَكِ بصري في عقلي. وحينَ أمْسكتِ بيَ مُتَلبسا بالتَّفرُّسِ بملامحك، كنتُ أرقب غمازةً، تُراقِصُ خدَّكِ الأيمنَ بِدلال. تَبسَّمْتِ ليَ بِخجلٍ مُحتارٍ وَدود.

 

إنتصبَتْ قامتُكِ وأخَذتِ نفَسا عميقا. وبتمهُّلٍ رتَّلتِ قائلةً: أبي وأنتَ منذُ مُؤبّدٍ، في مسالخ الصهاينة، ولثلاثين مُؤبدا كما يزعمون، أهديك وفلسطين كلها، هذا الجهد العلمي المناضل. ليتك معي الآن. إرتجف صوتك وإنقطع. أدمعتني وكثرةً منَ الحضور.

 

ما أن أتمَمْتِ، سارع قلبي لإعادة رسم ملامحك. ولم يعد سهلا عليَّ تحمل إرتباكي، سعيتُ لهدنة معه. تعمَّدتُ أن أكون آخر المباركين لكِ. قدَّمتُ نفسي. وتمنَّيتُ عليكِ قبولَ دعوتي لفنجان قهوة.

 

فوجئتِ بطلبي، بحزنٍ ساحرٍ حملَقتِ بيَ، وأنتِ تقولين: يُقال يا سيدي، أنَّ ذوقَ عشاق القهوة رائع، مزاجُهم مَرِحٌ، وجَلَساتُهم مميزةٌ لا تُمَلُّ. لا بأس من خلط قهوتك، بفرحتي الليلة. شرط أن أكونَ أنا الداعية. فالليلةُ ليلتي. وأتشرف في أن تكون أنت فيها، كلَّ أسرتي المُغَيَّبة، وعرَّابَ فرَحيَ المنقوص بالنجاح. أومأتُ بالمُوافقة. وحينَ سألنيَ النادلُ، كيف أشربُ قهوتي؟ قلتُ بعجلةٍ مُتلعثما: بملحٍ قليل.

 

نَظرتِ إليَّ بإستغرابٍ مُبتَسمٍ، وسألتِني بحيرةٍ إنْ كنتُ بخير. أجبتُكِ بتلقائيَّةٍ: نعم، الظاهرُ أنني بِتُّ الآن بخير، بعد أنْ كنتُ أموتُ إلا قليلا. فعاودتِ السؤال بفضولٍ مُباشرٍ: لِمَ فعلتَ هذا إذن؟! أهيَ عادةٌ؟! أجبتكِ مُرتَبِكا: عندمآ كنتُ صغيراً، كنتُ أعيشُ بالقربِ من سور عكا، أتذوق ملوحة بحرها كلَّ يوم. وفي كلِّ مرَّةٍ أشربُ فيها قهوتي المالحة، أتذكر طفولتي في فلسطين، وبقايا أهلي وأصدقائي هناك. ساعتَها لمحتُ، بارِقا يَعبرُ أفقَ وجهَكِ. وانثالَ الحديثُ بسلاسةٍ بَيْننا.

 

كانت راحتاكِ تحتضن فِنجالَك. تحتسين بلهفةٍ قهوتَك. وأنا على مهل السلحفاة أشرب. لم تكن قهوتي تَعبرُ بُلعومي، بل تتسامى إلى الأعلى. تُدغدغ مزاجي. كنتُ أشربُ وعينايَ تَغمُرُ عينيك، محاوِلا إستكشافَ المخبوء. فشلتُ في إقناع عينايَ أنْ تصمِت. إزدحم الحنينُ الخجولُ فيها وفاح.

 

وحين سألتك عن باقي الأسْرةِ، أنَّتْ عيونُك. وباتت مثلَ عكا، جميلةً حتى بالحزن. فعرفتُ ساعتَها، أنَّ أباكِ البطل الأسير، لم يكن كلَّ الساكنينَ في وجعك. بل أخوينِ شهيدين، وأمٍّ مضت كمَدا على الجميع. مع أوَّل فناجيلي برفقتك، بَدأتْ أقداري تُسلِسُ قِيادَها لقلبيَ، الذي كان صائما قبل تلك اللحظة. فإهتدى القلبُ قليلا. إستمرَّت لقاءاتُنا. وحين إقتنعنا أننا متكاملين تزوجنآ. وعشنا حيآةً رآئعة، أهدتنا قرَّةَ أعينِنا: آمنة، مريم، زينب، تيريز، نضال، وديع، جهاد وعائد.

 

وبقيت يا غالية، طيلة اربعين عاما تقريبا، كلمآ قدَّمتِ لي قهوةً، تضعين فيها شيئا من الملح، لأني أحبها مالحة كما كنت قد أخبرتك. وأنا الآن بين يدي الله سبحانه. أرجوكِ أن تسامحيني على كذبةِ حياتي. وهي بالتأكيد، الأولى والأخيرة التي كذبتها عليك.

 

أتذكرين أوَّلَ لقاءٍ بيننا؟ كُنتُ مضطَرِبا وقتَها، حتى أنني حين أردتُ طلبَ سكَّرٍ لقهوتي من النادل، طلبتُ الملحَ بدلا منه. وخجلتُ مِنَ العدول عن طلبي. فتابعتُ وشربتُ القهوةَ مالحةً لأجلك. وأنا في رحمة الله الأن، لستُ قلِقا من كشف الحقيقة. فأنا لا أحب القهوة المالحة. لكنني شربتها طوال حياتي معك، إحياءً وتكريما لتلك اللحظة التي إلتقينا فيها أول مرة. ولم أكن أشعرُ بالأسفِ أو بالندم. وجودُنا معا كعبقِ القهوة، كان يطغى على كلِّ ما سِواه. لَوْ أنّ لي حياةً أخرى في الدنيا، لتمنيتُ أنْ أعيشَها معكِ. حتى لو إضطررت ثانية لشرب القهوة المالحة.

 

أمسَكَتِ الدكتورة مريم بيدي اليمنى، وبعيون متمنية قالت: هيا بنا نزوره. وفي الطريق إلى المقبرة، سالتني حكاية الرسالة. فقلت: ليلة رحيل زوجك، كنتُ آخر زواره في المشفى، ناداني هاتفيا فسارعتُ إليه. وهناك ناولني الرسالة وهو يقول: يا شيخنا هذه أمانة، تسلمها لزوجتي، بعد ثلاثة أشهر من رحيلي، ان رحلت قبلك. تضاحكنا كثيرا. وفي الصباح، علمت خبر رحيله بالسكتة الدماغية.

 

ما أن دلفنا بوابة المقبرة، ألقينا السلام على السابقين. وسرعان ما إحتضنَتْ قبرَ زوجها. أهدتهُ قراءة الفاتحة. وسَمِعتُها  بنكهةِ الأشتياقِ تُناجيه:

 

حبيبي، أنت عَصِيٌّ على النسيان. أرَتِّبُ أمنياتي كلَّ ليلةٍ، لتبقى عنوانا لها. أنتَ باقٍ حيثُ لنْ يَصِلَ إنسانٌ ولا نِسيان. وأنا ما زلتُ مُتَّكِئةً على ما بسطتَ لي من قلبك. إبتسم يا حاج، فقبلَ أيَّامٍ سألَنيَ أحدُهم: ما طعمُ القهوة المالحة يا سيدتي؟ على الفورِ أجبته: إنَّها حُلْوَةً بطعمِ المرحومِ زوجي.

 

الأردن – 11/3/2019