اخر الاخبار:
"انتحارات القربان المرعبة" تعود إلى ذي قار - الإثنين, 22 نيسان/أبريل 2024 11:16
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

ثرثرات في الحب– الثرثرة 31- فائضُ حُزْنٍ في برزخ الظن// د. سمير محمد أيوب

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

د. سمير محمد أيوب

 

عرض صفحة الكاتب

ثرثرات في الحب– الثرثرة 31- فائضُ حُزْنٍ في برزخ الظن

د. سمير محمد أيوب

 

قَبْلَها، ما كُنتُ أعلمُ في أيِّ قلبٍ هُوَ رِزقي. من رَفَّة الرُّموشِ عرفْتُها. نصفُ جمالها في صدق عينيها. والنصف الآخر في حلاوةِ لسانها وطلاوةِ حديثها. والنصف الثالث في سُمرةِ وَجْنَتيها. والرابع في شعرها المنكوش. منذُ التقيتها أخذتني على مَحمَلِ الجَدِّ. أيقظتني ورُحتُ أطاردها وأحاول الهرَبَ منها. ولكنها سرعان ما اخْتَصَرَتِ الجميعَ ولَمْ تَعُدْ هامِشاً، وصِرْتُ أنا الأكيد. أتْقَنَتْ عيونُنا ابتداعَ أبجديةٍ خاصة. وأبحرنا معا في التفاصيلِ.

 

لا شيء يحدث عبَثا بالتأكيد. فداخل كلِّ مقاديرنا قَدَرٌ يُمَهِّدُ الطُّرُقَ لقدرٍ ساخر. بعد عقد من الزمن ترنَّحَ صرحُنا. بلا مقدمات غزاها جرادٌ وسواس. غَلَبَها شَكٌّ هُلامي، إحتضنها ظنٌّ قاسٍ لم تتجاوزه ، طوى صَخبُه نقاءَ مشاعرٍ لمْ تَتلوث. آثَرَتِ الإبتعاد تَسلُّلاً. نَأتْ بِرفقٍ والبسمةُ في عينيها. لم ترحل بل هجَرَت هجرا جميلا، دون أن تضع نقطةً آخر السطر، أو تسدل الستارة وراءها. تركَتْ مكانَها فارغاً. لم أتَفَهَّمَ مُبرِّرات تغريبتها المستجدة. بقيت حاضرة في كل تفاصيلي، فهي فِطْنَةٌ تُدركُ أنَّ النساء لا تتشابه في قلبي، فأنا ممن يحاذرون استكمال فراغٍ بِزيفٍ عابر.

 

ما توقفَ الزمنُ بعدَها وإن بكى. ولكني بِتُّ مكتظا بفائضِ جِديَّةٍ مُتطرفة. تُشَتِّتُ روحيَ بين صمتٍ لزج، وضجرٍ رجراج. إجتاحتني معها حاجةٌ ماسة لنسائم أيلولية، تذروا عني ما إصفرَّ مِنْ ورق. تجمَّدَ الكثيرُ من الأشياء حتى بتُّ أعمى، بلا عُذر وبلا قوة تهزم تبعات فقدها. لم أعد أطيق الإبحار في عيون أحد، ولا الثرثرة مع أيٍّ منها. إحتراماً لتَمتماتِ عينيها، بتُّ أغضُّ البصر حتى لو تعثَّرتْ. ومع هذا لم تغدو سرابا بل بقيت نبع ذكرياتٍ متدفقٍ. ما أن تطوف بي نسائمه، تتقافز ووشوشات عطر يتحدث عنها بأناقة، وتمتمات دفء تطوقني.

 

في زحمة الشوق، حاصرني منذً أيَّامٍ واقِعٌ لا أجيد فهمه. تمرد جسدي معاندا. لم أعد مشتاقا للقهوة، ولا التماهي مع الموسيقى، وغادرتني اللهفة لِلْكَلِمِ، مَكتوباً أو مَسموعاً أو مَرئيا. لم أعد قادرا على حماية صمتي. وخفت أن يغتصِبَ حَزَني شوقٌ متمردٌ لها. بَدَت روحيَ هشّةً، غافيةً على حوافِّ إنطفاء. وكان قلبي عاريا تواقا لفرح. بدا كلُّ شيءٍ حوليَ غريبا مُغْلَقا مُبعثرا. إنعدمَتْ رغبتي في العتاب. وغدَت قدمايَ مُترعةً برغبةِ إعتزال، حيث لا زوابع ولا حتى هديل. فقررتُ الإبتعاد مُكتفيا بنفسي، لألملم عشوائيات غيابها، وأجعلها بالترميم أقل ضررا.

 

بكامل حُزْنيَ قطعتُ مسافاتٍ في شوارع عمان المكتظة، عصر الأمس الحار. حتى بانَ من البعيد سَرْوٌ باسِقٌ، على ضفاف مشاريق السلط. يتثنى مُتمايلا مع نسائم حَييَّةٍ تُدَغْدغه وتعابثه. بعد بضع منعرجات في جوانب المكان، تَرجَّلْتُ في بقعةٍ مُطِلَةٍ على حوض البقعة، تنطوي ظلالها على عالم من الحنين، اعتدنا سوية غرسه وتشتيله هناك.

 

لست أدري كم من الوقت كان قد مضى، وأنا محتضن بين راحَتيَّ، رأسيَ المُتَوَكِّأ على عكازتي، غارقا في أملٍ يُصارعُ ضَياعا. مُتمنيا على الله أن تَنَزَّل عليَّ أو أن تُباغِتَني في الحضور، وأنا أعلم أنها لَنْ. إرتجَّ المكان على حين غرة، واحتشد بصوت صاحبتها، آتيا من كل حدب وصوب، ووجهُها دانيا بهدوء يملؤ الأفق، سمعتها تسألني مشفقة والحيرة في عينيها: ما إعتدتُ أن أراك وحدك هنا يا صديقي؟ 

 

قلتُ وبواكير بسمةٍ تتسلل إلى عيني: قبل أن أجيبك، دعيني أسالك: هل سبق لك وأن ناديت أحدَهم في السر، ثم لبَّى وأتى، أو لبَّى واتصل؟ 

 

قالت مجيبة بصوت مشوب بسخرية خجولة: ولكنَّ طور سيناء حيث ناجى موسى ربه، ليس هنا يا سيدي. وأثق أنك تعلم، أن جبل نِبُّو حيث أطَلَّ كليمُ الله على الجبارين في فلسطين، ليس هنا هو الآخر، إنه كما تعلم ، هناك في مأدبا.

 

قلت متجاوزا نبرة كلامها: كلما إستبدَّ بي ضِيقٌ أو هَمٌّ أو غَمٌّ، أريدُني معها، لِنُغَربِلَ تجربتنا سوية، علنا نقترب من صواب مشترك. وحتى لا يغدو الصمت راعيا لمشنقتي، أستنجد بمشكاة شوقي، لتُنبِتَ للقلب أجنحة، أسري بها لاجئا إلى هنا. فهنا كما تعلمين مَثابَتُنا وبَرزَخُنا. أتسلل بحثا لها عن عذر، يغسلني ويشذب حُزْنِيَ، ويجمع شيئا مما قد تناثر منا. وإن عجزت أعتصم بصبر جميل لا يغتالني، إلى أن يبدل الله حالنا بحال أحسن. 

 

خُيِّلَ إليَّ أنَّها تُحملق بي وهو تسأل ثانية : أما زلتَ غاضبا منها؟

 

قلت بأسى بَيِّنٍ: لأني أتقن قوة التماسك، إحتضنتُ غيابَها من أول يوم. أرتل وجعي بالتأكيد، ولكن دون أن أسمح لدهاليز التخلي أن تحتلني بالغضب.

 

قالت بصوت مشوب بفرح حذر : ما حال قلبك الآن؟

 

قلت مجيبا وأنا أشدد على مخارج كلماتي: الحب يا سيدتي، بكل فصوله وأسبابه شراكة. وإن بدَت أحيانا غيرَ مُتكافِئَة، في إتقان فنونِ الإنتظار. ولكن الحب رغم هذا التفاوت، إنْ بقيَ بِلا ضمٍّ محجورا عليه، لا يُعَوَّلُ مُطوَّلاً على مناعته. فما أصعب العزف على أوتار الحياة مع شريك هلامي، ترينه يوما مفعما بحبك، ويوما لا تدرين من يكون.

 

قالت: سأحاذر التطفل وانا أسألك لِمَ لا تذهب إليها؟ فمهما عبَثَ الأبالسةُ بِكُما، لا شيء يقوى على حب بالأمل زُرِع. تَمَسَّكْ بِمَنْ تختلف صِحِيَّا معه. فالحب إنْ صَدَق، أقوى من كلِّ  شكٍّ أو ظنٍّ  وأكملت تقول بصوت يتباعد تباعا: قُمْ يا رجل. أنت من علَّمنا أن الحب لا يليق بالهواة ، ولايطيق الجبناء. ويمقت الحيارى العالقين على أبواب الترقب الغبي. تبسم لوجعك وإنِ إتسع، فلا يمكن لصامت مهما إرتقى أن يحلَّ مُشكلةً. قُمْ وجَدِّدْ وضوءَ شوقِك، ورتِّل كلَّ ما فيكَ مِنْ حنينٍ إلا قليلا. ومن هنا سابق ظلك سعيا إلى ألطافها. ستسمعك وسيبدو كلُّ شيء جميلا.

 

وغدا في مثل هذا الوقت، أنا وصاحبك، ننتظركما هنا كما اعتدنا، مع طاسة من القهوة التي تُحِبُّ أنت، وكمشةِ فيروزياتٍ من إنتقائها هي.

 

الاردن – 10/6/2019

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.