اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

ثرثرات في الحب (الثرثرة 38)- إغتراب في جسد// د. سمير محمد ايوب

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

د. سمير محمد ايوب 

 

عرض صفحة الكاتب

إغتراب في جسد

ثرثرات في الحب (الثرثرة 38)- إغتراب في جسد

د. سمير محمد ايوب

 

ما أنْ أدارَ صديقيَ المُتقاعد، محرِّكَ سيارته مُتَّجهَيْن إلى مهرجان جرش، إلتفتَ إليَّ قائلا: تَعلَمْ يا شيخنا أنني لست في الستين ولم أعُدْ في الثلاثين. مع كلِّ نظرةٍ حانيةٍ وأخرى قاسية، أكبرُ وأصغرُ مرَّاتٍ عِدَّةٍ في اليوم الواحد. هذا التذبذبُ اللزجُ في واقعٍ مُقيَّدٍ ، سَمِجٌ . يُبقي قلبيَ حُرّا مُحتَفِظا بِعُذريَّةٍ لا فائدةً مِنها. على قارعة الطُّرُق، ما بين عُمْرٍ وعُمْرٍ، صِرتُ مُنتظراً مَنْ يُمسِك بقلبي، ليخلِّصَني من شباكِ تِيهٍ يُبقيني مُغترباً في جسدي ، عالقاً في شباك عقلٍ ظنَّانٍ ، وغارقاً في أوردة قلبٍ مفجوع.

وأنا أعلم أنْ لا قيمة للاشياءِ التي قد تاتي متأخرةً، جئتك لتأخذني إلى مدينةٍ تعرفُ المطرَ وأغنياتَه، ويفوحُ من شوارعها عبقُ قهوة يمانية. فأنت مِمَّن يتقنون قراءة الدمع في عيونٍ لا تبكي ، خجَلاً من الوقار.

 

قلتُ مُتَلَهِيا بِحباتِ سبحةٍ تُركيَّةٍ تُداعبها أصابعي: يا صديقي، عندمـا لا يكون لكَ مكانٌ في قلـب إمرأةٍ توصيك خيرا بنفسك، فأنتَ بالقطعِ مُشــرَّدٌ واقفٌ بمحاذاة الموت. وإنْ فَشِلتَ في العثور على شريكٍ يخرج للبحث عنك إن ابتعدت ولو قليلا، أو عجزت عن الدخول في علاقة عاطفية، فقد صنفتك منظمة الصحة العالمية منذ سنين عديدة ، مُعَوَّقاً نفسيا من ذوي الاحتياجات الخاصة. وعليك ان تخضع لاعادة تأهيل متعدد المساقات ، للتخلص من اعاقتك.

 

قال مُقهقها: أما زال الحب حقا هنا، أم أنَّ ما نسمع عنه أو منه، هو مجرد تهويمات لا أكثر؟!

قلت بشيء من الاستنكار: رغم كلِّ أشكالِ المجاعاتِ العاطفية التي نشاهدها او نسمع عنها، فالحبُّ يا صديقي ما زال مُمكنا، بِلا سَببٍ يأتيَ وبِلا قيود. كلُّ ما يحتاجه، إرادةٌ تُغلِقُ النوافذَ المُطلةَ على ضجيجِ التَّردُّدِ وإثمِ الظَّن. الحبُّ قدرٌ، بطُهرِ النوايا تنثالُ طلائعُ سِحرهِ مُتتاليةً كالفجرِ ، فقط لِعاشقٍ صَدَقَ وأتقن.

 

قال بِتمهُّلٍ لم أفهم سِرَّه : كيف لي أنْ أعرفَ أنَّ الهوى قد بلغ النِّصابَ. وكيفَ تكونُ زكاته؟

قلتُ مُحاولا احتواءَ مُراوغَتِه: إن جاءَتْكَ مُتَمْتِمَةً لا تُطِلِ النَّظرَ، فالكثير من التضاريس الظاهرة ما عادت تشبه أصحابها. جُلُّ الناس مغتربون في أجسادهم. ولكن ، إذا ما مسّ الهوى قلبَك وأوْقَدهُ ، قايِضْ جُزءاً منك بِجزءٍ منها . إرْتَبِطا حينَ تَتناغمُ عيونُكما، وتمارسُ لعبةَ الاحتضانِ، أو حين يصبحُ وقتُكما أسرع ، ويصيرُ البردُ مِنْ حولِكما أدفء ، والخوفُ مِنْ سِباقاتِ العمر أوجع.

 

قال مُبتَسما وهو يُشعل لفافته : كيف أبْحِرُ في اللَّهفَةِ بِسلام؟

قلتُ وقد أدَرتُ وجهيَ إلَيه: تحرَّر منَ القيود التي تُعرقل إبحارك بعيدا عن موانئ الوقار. ألْقِ بنفسكِ في خِضَمِّ الرياح. وأنصت لصوتٍ هادئٍ لا يتسلَّلُ إلاَّ لِلارواحِ المُنْتَبِهَة . وسطَ كلِّ هذا الغَرَقِ، سيطفوَ أحدُهُم خفيفا بجانبك ، كجذع شجرةٍ يصلحُ طوقاً للنجاة . برفقته تَعِشِ الحياةَ وترى العالم.

 

قال ضاحكا : وما الذي يُبقي الفتى حيَّاً ؟

قلتُ بِجدية بيِّنَةٍ: لحياةٍ لا تُشبهُ ما اعتدتَ عليه من حياة ، تعلَّمِ الاهتمامَ ، وواصل استكشافَ المُشتركِ معها، لا بحثا عن ذاتك فيه، بل لتتقن صنع ذاتك وفق معاييره ومقتضياته، وأعدْ هيكلةَ ذاتِك لتحسن تذوقه. فمَنْ يدلُف عتباتَ الحبِّ ، يغدو طفلا مُحباً للجنونِ العاقل، أو يخرج منه مُسِنَّاً لا يُدرك إلى أيِّ منفىً يَتَّجه . وواصل ترتيبَ بيتك ، فالقادمُ شريكٌ مُستحقٌّ لحفاوةٍ أكثر مِما ينال الأتباع.

 

ونحن في هذه المرحلة من الحوار، توقف صاحبي أمام بوابة مقبرةٍ على يمينِ طريقنا، فترجَّلْنا. وبعدَ أن قرأنا الفاتحة على أرواح السابقين، التفت إليَّ والحَزَن بادٍ في عينيه بِلا دمعٍ، وقال: تَعْلَمْ أنَّني قد كابدتُ تجربةً وخرجتُ مِنها موجوعاً . رغم هزيمتي ما تُبتُ ولا استغفرت ، وبقيَ القلبُ خصبا.

أدْركْتُ ما يومئ إليه هذا التوقُّف، فقلتُ وأنا أحملِقُ في عينيه: ثِقْ بأنّ كثرةً من النيام هنا، أفضلُ ألفَ مرَّةٍ مِن بعضِ الأحياء هناك. بيادرُ الحبِّ خصبة، فيها النِّعمة وفيها النَّقمة. ولكن يا صديقي لا تندم على حبٍّ أنْضَجك، ما أسخفَ العشاق إنْ تابوا. بعضُ الاوجاع لا تحتاج حلولا، بل لكفٍّ تُربِّتُ على كتفك. شيئان كما يقال يستحقان صبرا جميلا لا ينفذ: وطنٌ حنونٌ وشريكٌ يُضيفُ المُتعة.

 

قال: تَيبَّس كل ما في حدائقي وانطفأت مشاعلُه ، واستوطَنَني وجعٌ أعوجٌ. فلَمْ أعدْ قادراً على العِتاب. ولمْ يَعُدِ التَّغاضي والتَّجاهل قادرا على حماية علاقتنا. ما العملُ، وقد مات شيءٌ جميلٌ كنتُ أكِنُّهُ لها، اغتربنا في أجسادٍ لمْ تعُد ترتطمُ إلاّ بحكمِ الواجب؟

قلتُ حزينا : قيمة الاشياء ليست في ديمومتها، بل في زخم حدوثها، فلا تعتقل نفسك في شراكة تشعر فيها بالوحدة. ويخضع ما بينكما لوقار موهوم، يحوِّله مجرَّد رؤية بصرية تلهو بالغرائز المغتربة. الحبُّ الحيُّ يا صديقي نظام حياة. يُعيد ترتيبَ نفسَه باستمرارٍ، ليتَّسع للتّغاضُب والتَّحكيم والتَّرميم بلا حِياد. إنْ لَمْ تَعُدْ عاشقا لِسُكَّرِها في قهوتك، ولم يَعُد سمعُك يألفها ولا يُبصرُها قلبُك، وباتَ وجودها فائضَ قيمةٍ في حياتك، لا تحرقا كتابَ حياتكما من أجلِ صفحةٍ سوداء فيه. ولا تنزعاها بعنف، بل اطوياها بلطفٍ غيرَ مُتعجل، تمرَّدا معا على حصارات الغضب، تخارجا وتفارقا باحترام وعدل. عيشا خُلُقَ الفراق كما يليقُ بما كان من عِشرة ، فالرحيلُ الأنيقُ وجهٌ من أوجه الحب. وتذكرا أنّ الحبَّ إن عَقَّه قلبٌ أحْرَقَهُ، وإن تَكلَّمَ بعضُه، بَصقَ على كَثرةٍ مِنَ الأشباهِ والأدعياء، فحاذِرا أن يكونَ أيّكما منهم.

 

الاردن – 5/8/2019

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.