كـتـاب ألموقع

من حكاوى الرحيل- 21: إمرأةٌ من زمانٍ مضى// د. سمير محمد أيوب

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

د. سمير محمد أيوب

 

عرض صفحة الكاتب 

من حكاوى الرحيل- 21: إمرأةٌ من زمانٍ مضى

د. سمير محمد أيوب

 

عَمَّتي يرحمها الله، كيف لا تكون جميلة؟ وهي في كل شئِ انيقة. في فقرها، في وجعها وفي حزنها. إبتلتها الحياة بمئة سببٍ لتبكي. فأنْبَتَت الفَ سببٍ لتبتسم بقوة. ما اكثر ما رحل الفرح من حولها. وأبقى في قلبها، شيئا من حزنٍ نَزَّازٍ، لم يكن يعلمه الا الله سبحانه، وسهوبا لا تضيق، ثرية بالرضا وصبر الشاكرين.

 

كيف لا تكون جميلة؟ وكانت متحررةً من سطوةِ اذنيها. لم تعامل الناس إلا بما كانت تراه منهم. ولا تراهم الا بعيونِ عقلها. تحضننا عندما تغضب . تبتسم عيناها عندما تصمت. عندما تتجاهل تشيح عنك بوجهها. كان صمتها عِتابها الصابر، لكل من خاب الظن بهم.

 

كيف لا تكون جميلة؟ وهي إمرأةٌ من زمانٍ مضى. تُشبه كل أمٍّ، وكل عَمَّةٍ وكل خالة. قلبها لم يكن مهجورا. ممتلئة كبرياء بلا عبث ، عنفوانا ايجابيا وانفة وإباء، وصدقا محايدا . وحقا عادلا وحكيما.

 

لم تكن نطفة في رحم المحال. بل عَبَرتِ الدنيا مطرا حلالا. كانت يوسفيةَ الجمالِ، ايوبيةَ الصبر، مؤمنةً كخليل الرحمن ابراهيم، واثقةً كعيسى بن مريم، راجيةً كزكريا، مُدَبِّرَة كنوحٍ، طاهرةً كالعذراء البتول، صادقةً كالأمين محمد ( صلوات الله عليهم جميعا ورضوانه ).

 

خلقها لم يكن مُستعاراً في شئ. بل دَثارا ووقارا ومهابة. كانت تُتقن مهاراتِ الترفع. فتبتعد عن صغائر الصغار. وهي تَعْلَمُ مَثالبَ التكبر. كبياض وجلال وطُهرِ حليبِ الأمهات قلبها. وكرذاذِ ندى الصيف حضورها.

 

ما اقربها. في مضارِبهِا كل الأوقات مُتاحة. كنا نُقرِّرُ مواقيت الإياب الى حضنها، ومتى نفرنقع. في كل مدارج حياتنا، كان لرعايتها وسقايتها ورفادتها حضورٌ مُبَلسِم. في حضرتها لم تكن تتعب توقعاتنا. طلباتنا لم تكن تستدعي تحَجُّجا او تبريرا او تكرارا. لم يكن انتظارنا يطول، حتى تحيط بنا قبائل غيثها. وجودنا في حياتها لم يكن ومضا عابرا. كانت مكتظة بنا. تُلَمْلِمُنا من رمادِنا وتُرَممنا. أنضَجَتنْا . أمام بصرها ، فأورَقْنا ، أزهرنا وأثمرنا.

 

عانَدَتْ وقائع في واقعٍ كان لا يُحتَمَلْ. شَقَّتْ طُرُقاً. وفي عَتْمِ بعضها ، أسرجَتْ من وجعها قناديل ، لتوسع لنا حواف الطرق . بكت بلا دموعٍ . وصرخت بلا فمٍ.

 

كانت مطمئنة للمستقبل، إطمئنانا لا يتعثر. لم يتأتئ وهي تحاول استكمال أحلامها بنا. علمتنا ان لا نتوه تحت اي ظرف. وأن لا نبدد شيئا من حزننا الجليل بالبكاء. زودتنا بالجذور العميقة، وبالأجنحة الطليقة. علمتنا الأخذ بالأسباب، مع دعاء صامت، لا يسمعه عند كل تصحرٍ، إلا رب العباد. من ينابيع معاناتهن، توالدت إنجازاتنا وتشاطأت . ما أحببنا النجاح في شئ ، إلا ليفرحن.

 

منذ ان إمتلكت وعيا نقديا مُتبصرا، أدركت أنني قد حظيت بوالدة عظيمة. حملتني تِسعاً. وبعد الولادة، حظيتُ بإثنتين من الأيوبيات، باذخاتِ الأمومة. الأم - الوالدة، والأم - العمة. إتسع لي صبرهما الحنون. فحملنني بلا تمنينٍ، وهْناً على وهنٍ، كلَّ سِني العمر.

 

لا يصح الحديثُ عن الأم – الوالدة، لا يكتمل ولا يجوز إلا بالحديث عن توأمها، الأم – العمة. كان لنبعِ الحنان والطيبة والطهر والصبر والرضا، أسماءٌ حسنى كثيرة: فاطمة الحَرْب، الحجة فاطمة ايوب، أم عدنان، مَرْت خالي الحج عطية موسى ايوب. عمتي، مُرَبِّيَتي، مَلاذي الآمن. لا تعجبوا، فأنا ممن رزقهم ربهم وأكرمهم بالكثير، وإبتلاني بالكثير، مما يستلزم الحمد والشكر المستدام.

 

قيل لي ذات يوم: ان أرواح الراحلين بالموت، تشعر كثيرا بمن تُحِبْ. أحتاج في مشيبِ القلب، لحضنٍ يتسع لضعفي. أتكئ عليه واحتمي فيه. لتهدأ نفسي وتطمئن.

 

ما اقسى الشوق لغائبٍ عند ربه. فحزنُ الشوقِ لمن رحلوا لم يُخلَق عبثا .اصبحتُ اليومَ وفيني من لوعتِة أوجعه. ساءلت روحي: كيف لقلبي ان يحتمل كل هذا الشوق؟ بكيتُ نفسي. إبتسمتُ. وهرولت الى أرواحٍ أحبها. تنام في رياض قبور، منذ أمَدٍ وإلى أمَدْ.

 

وأنا حبيسُ الضعفِ والعجزِ، إقتربتُ من التراب هناك. أمسكتُ بشاهدِ اللحد من كتفيه. بادلني تمتمةً بِتمتمةٍ وهو يستعد لضمي. وفي ومضةٍ القيتُ بنفسي في حضنه. فالدمعُ لا يَصِحُّ في حضرةِ الموتِ وُقوفاً.

 

أمي عمتي، وعمتي أمي. يا ما أنصتُّ لكل ما صَمَتُّنَّ عن قوله او البوح به. بعد رحيلَكُما، هَرِمْنا أيتاما. وغاب الخصب الحلال. تعبنا من الوقوف، وما زال في قلوبنا الف حكاية وحكاية.

 

هل اعجبَكُنَّ الرحيل؟ إذن، قُلْنَ لنا كيف نجد أحضانا تتسع لضعفنا، اوتحتوي شيئا منه على الأقل؟

 

كلما نظرت الى زيتونة، او إلتفت الى ياسمينة مزهرة، ألمح ابتساماتٍ عالقات بين اوراقها. معلقة بين الحمد المُتْقَنِ، ومهرجانات الفرح المُتصوف، وينابيع الرضا الذي لا يَضِلُّ ولا يُضَلَلْ.

 

سلامُ اللهِ على كل من رحل ، من الأمهات والآباء والأحبة.

 

الاردن –

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.