كـتـاب ألموقع

من حكاوى الرحيل- الحكاية الثالثة: كَثُرَ الغائبونَ والمُتَسرِّبون// د. سمير محمد أيوب

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

د. سمير محمد أيوب

 

عرض صفحة الكاتب 

من حكاوى الرحيل- الحكاية الثالثة: كَثُرَ الغائبونَ والمُتَسرِّبون

د. سمير محمد أيوب

 

قالت: نَشوةُ فَرَحي منقوصةٌ، وصدى وجَعي منقوصٌ هو الآخر. وكِلاهُما ليس أصَمَّا ولا أخرَسا، وإن بدا غامِضاً. جِدالُهُما أصعبُ من قُدُراتي على التحمُّلِ أو التَّجَمُلْ. أظنني آيلةٌ لِلسقوط.

 

قلت بقلقٍ وتعجب بيِّنٍ: يا ساتر يا رب! عَسى ما شَرْ؟

 

قالت مُتَنهدة: كَثُرَ الغائبونَ من قلبي، والمُتسرِّبونَ مِنْ دفاتري يا شيخي.

 

تابَعَتْ وأنا مُطرقَ الرأسِ مُنصِتا: تَعَدَّدتْ أسبابُهم، ولا تَسَلْني عنها . كُلُّها مُتَعرِّجَة، تبدءُ مِنْ عِندِهم ولكنها تنتهي إلي. لا أُخفيك، دواخِلي تَضِجُ ببعضهم ، وبعضُهم ألتَقي نَفْسيَ فيه،  وبعضُهم يَتقافَزُ مِنْ حوليَ  في كلِّ المعارج، يتقاسمون بلا رحمةٍ ، تفاصيليَ وتضاريسي. بِتُّ لا أدري أنتظرُ مَنْ مِنهم، ومَنْ لا أنتظر. ولكني بكبرياءٍ مَوهومَةٍ، أخشى ضَياعَهُم جميعاً. جِئتُك أطلُبُ فهماً.

 

قلتُ وأنا أحدٍّقُ مُبتسما في عينيها مباشرة: سبقَ وأنْ إتَّفقنا معاً يا سيدتي، على أن للرحيلِ أوِ الغيابِ ذوقٌ رفيعٌ، يَنتقي الأعَزَّ دائماً، كما ينتقي الموسميين كذلك.

 

إنتظري المعذورينَ، فأنتِ بهم أحقُّ مِنَ النِّسيان. ولكن إحذري، فما بين المعذورين وغير المعذورين، سَديمٌ غيرَ مُتناهِ من التفاصيلِ الصغيرة. بعضُها يُلامسُ عِزَّة النَّفْس. ولا يُدركُها ، إلاَّ كلُّ مَنِ إكتوى بِنواقيسِ الحِكْمة، وأتقنَ مَزاميرَها، حتى لا يَخِرَّ صريعَ الكِبرياء.

 

وتابعتُ وابتسامتي تتسع: ليكونَ وجَعُكِ جميلاً، ليتَك لا تُبالي برحيلِ بَعْضِهِم. أضبطي صواعقَ وَجَعَكِ على مواقيتِ ذاكرتك، وعلى نبراتِ أحلامك. وكلّما إمتلأتِ بدمعٍ عشوائيٍّ، أو حنينٍ عشوائيّ، لا تَموتي مرَّتَيْن.

 

ولكن، إيّاكِ أن تَكسِري العصا، بعد أن تُبْصِري. ساعتها، كلُّ مياه الدنيا لن تُغْرِقُك، إلا إذا تَسلَّلَ الكبرياءُ الأرعنُ إلى دواخِلِكْ، أو سَيْطرَ التشاؤمُ على روحِكْ.