كـتـاب ألموقع

المَملَحة والكَافوُرُ// يحيى غازي الأميري

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

 

المَملَحة والكَافوُرُ

يحيى غازي الأميري

مالمو/ السويد

 

اِضطرابٌ وفوضى لكتلٍ بشريّة، يعجُ فيها المكان، صَخَب الباعة المتجولين وتدافع الجنود ومكبرات الصوت تزداد حدة، بينما الشمسُ بدأتْ تجرُ أذيالها متجهة نحو الغرب، كانت أضواء أعمدة الكهرباء العالية تحاول أن تأخذ مكان الشمس الآفلة!.

ضجيج ٌوأصواتٌ تتعالى وتتداخل وتتقاطع،الحشود تكبر في المنطقة.

اكتظت الساحة والأرصفة والشوارع بهم، ألف، ألفان ... الأصوات تتعالى أكثر، على بعد خطوات صوت جندي بملابس (مرقطة) يصرخ بهستريا:

ـ لا توجد سيارات، من الصباح لحد الآن لم تأتِ أيّ سيارة متجهةٍ للبصرة!

العديد من مجاميع صغيرة من الجنود، بوجوهٍ حائرةٍ غاضبةٍ، تتسارعُ باندفاعها تتقافزُ راكضةً باتجاهاتٍ مختلفةٍ، وهي تحملُ على ظهـرها أو بيدها حقيبةً أو كيسَ ملابس أو أكثر، وقع أصوات (بساطيلهم) ـ أحذيتهم العسكريةـ  يشدُّ إليه الانتباه فهي توحي بالقوةِ والصلابةِ والصرامةِ.

أزدادَ تجهم وجه (مُظَفَّر) وهو يسمع أخبار الحرب ويشاهد الفوضى العارمة التي أمامه، بنظرات حزينة وخطوات متكاسلة راح يرصد ما حوله.

 المكان يغصُ بمئاتِ العربات التي تبيع أنواع متعددة من المأكولاتِ، فيما عشرات من النسوةِ يفترشنَّ أرض المكان، و يشاركنَّ الرجال إعداد وبيع المأكولات والشاي؛ دخان وألسنة نار اللهب تتصاعد من(مواقدَ) عدةٍ أُعدتْ لعملِ أباريق الشاي.

في هذا المكان تباع أغلب انواع المأكولات والمشروبات الساخنة والباردة، بعربات منتشرة بدون نظام على جانبي الطريق وتغص بها الساحة الرئيسة لمَرْآبِ (ساحة النهضة) وكلما ازداد حلكة الظلام يزدادُ توهج الاضاءة حول العربات من الفوانيس (اللوكسات) التي علقت بمواضع عالية نسبياً؛ فتبدد عتمة الليل وما حول العربة وما تحتويه من أنواع الأكلِ، في هذه المطاعم المتنقلة كل ما يخطر ببالك من أنواع المأكولات؛ فكل عربة متخصصة بنوع أو أكثر من الطعام (التكة والكباب ومعلاك، والمخلمة والجلفراي، والبيض المقلي والمسلوق والشوربة والهريسة، والباقلاء بالدهن، والقيمر والعسل أو الدبس، والجبن وللبن والفلافل والعمبة والطرشي والصمون والشربت إضافة لبائعي الباجة)؛ فيما أصوات بائعي (السكائر والعلكة والحب) تصدحُ في كلِّ مكانٍ لتجلِب الانتباه إلى بضاعتها!

(أم جاسم) إمرأة قاربتْ الخمسين من العمرِ تفترشُ الأرض، وحولها ألتفت حلقة من الجنودِ، بين جالسِ القُرفصاءِ وواقفٍ، يرتشفون الشاي، في هذهِ الأثناءِ وقفَ(مظفر) بالقربِ منها وحياها بودٍ:

كيفَ صحتك خالة أم جاسم (هكذا يناديها معظم الجنود)

ألف هلا بيك ، ربي يسلمك من كل شر، ردتْ عليه (أم جاسم).

 أختار(مُظَفَّر) أحد المقاعد الأربعة بقرب (أم جاسم) والذي فرغ للتو، وبسرعةٍ عدلَ (الصفيحة المعدنية) وجلسَ عليها  واضعاً حقيبته على ركبتيه ضاماً لها لصدره، بدت المرأة الخمسينية التي يلفها السواد فيما يعلو وجهها ابتسامة مغلفة بحزنٍ عميق، وكأنها لا تتوقف عن الحديث والترحيبِ بمن يجلس ويقف حولها وهي تقدم لهم أقداح الشاي.

ـ تفضل وليدي، أشربْ بالعافية.

برشفاتٍ متأنية من (استكان الشاي) راحت عينا (مُظَفَّر) تسرحُ وتتجول في المكان، وتحلّق بعيداً... ؛ فلقد أنقضى أسبوع الأجازة سريعاً، بينما الهجوم على قاطع البصرة الفيلق السابع (الفاوـ المملحة)* لم يزلْ على أشدِ ما يكون ضراوةً. صوتُ المذياع من أحدى عرباتِ بيعِ المأكولات التي بجانبهِ يصدحُ عالياً بأغنية**:

( يا كاع ترابج كافوري، علساتر هلهل شاجوري).

 (مُظَفَّر) يقشعرُ بدنه عند سماع هذه الأغنية، يتخيل نفسه جثة هامدة عارية ملقاة في (المغيسل)، إذ كان والده قد قصَ عليه كيفية تغسيل جثث الموتى بـ (الكافورِ)*** قبل تكفينهم.

كلما زادَ إيقاع صوت الأغنية صادحاً كانَ يسري رعب مخيف في بدنه ويتسلل لقلبه، نهضَ من مكانه فزعاً مرعوباً وراحَ يحثُ الخطى بين الجموعِ، وهو يحدثُ نفسه:

(ست سنوات مضتْ يا(مُظَفَّر) وأنتَ جندي مشاة أحتياط، ست سنوات وأنتَ تجوب جبهات الحروب متنقلاً ما بين موضعٍ موحلٍ رطبٍ وملجـأٍ مظلمٍ نتنٍ، تطوفُ السهول والوديان والجبال وأنت مسلوب الإرادة والرأي، تُسيّركَ وتقودكَ الى حتفِك الأوامر والتوجيهات والقوانين الصارمة،ها أنتَ تلفُ البلادَ طولاً وعرضاً أينما أشتد سعير القتال، تقذفُ بكَ إليها الاقدار والأوامر! ... إلى متى تبقى هكذا بلا زوجة بلا بيت بلا أولاد بلا رأي بلا هدف لحياتك، قلْ ليَّ بأيّ شيء نفعك بكالوريوس الفلسفة، وتعلقك بهذيانها.)

يقهقهُ (مُظَفَّر) مع نفسه: ويرددُ فَلْسَفة تعني (حب الحكمة) و(طلب المعرفة) أو (البحث عن الحقيقة)، ها قد مضتْ (عشر) سنوات على تخرجك؛ فهل جمعت خيوط البحث عن الحقيقةِ لفلسفةِ البطشِ والحروبِ والدمارِ وآخرها القتال في (المملحةِ)، يظهر يا (مُظَفَّر) إن حقيقةَ نهايتك وكافورك ستكون المملحة وملحها!

الساعاتُ تمضي مسرعة الواحدة تلو الاخرى، وهو يَركْضُ مع الحشودِ الهائجة ذات اليمين وذات اليسار، كانت كلُّ حافلة كبيرة لنقلِ الركابِ حين تقتربُ من (ساحةِ النهضةِ) ومع وصولها، تبدأ حشود غاضبة من العسكرِ، سباق الوصول اليها، والجري بِجانِبها وخَلفها، وهي تصرخُ وتضربُ بأيدها على بدنِ السيارةِ، تحاولُ جاهدةً أنْ تحاصرها وتوقفها؛ ولقد حوصرتْ أكثر من سيارةٍ، رغم الشجار والصراخ وسيول الشتائم التي يطلقها العسكر الغاضب، لكن معظم السائقين لم يفتحوا ابواب سياراتهم.

عادَ(مُظَفَّر) ليجلس على ذات (الصفيحة المعدنيّة ) المحاذية لـ (أم جاسم) ، سلمَ عليها بمودةٍ، فهو يعرفها من كثرةِ تردده على كراجِ النهضةِ لسنواتٍ عديدةٍ ، فـ (أم جاسم) منذ بداية الحرب وهي تبيع الشاي بذات المكان، وبمثل هذا الوقت من المساءِ حتى صباحِ اليومِ التالي!

ناولته (استكان شاي) وهي تسأله:

ـ تزوجت بعدك، ما شفتلك بت حلال؟

أجابها على الفور :

ـ يظهر القسمة بعدها ما تريد تصير!

ـ ألله كريم ولدي لا تّكُول هِيج، كل ساعة وإلها فرج.

يصمت لحظة وهو يدور بالملعقة في (استكان) الشاي:

ـ الله كريم والله يستر.

عيّنا (مُظَفَّر) تراقب منظر الجنود المتزاحمة في حركتها وهرجها، لكنه يسرح بعيداً بتفكيرهِ، وهو يرتشفُ الشاي؛ فيعيد الموقف الصادم الذي واجهه قبل اسبوع ساعة وصوله البيت في هذه الاجازة من جبهة الحرب، والذي كاد أن يلقي فيها حتفه  قبل أن يتسلم اجازته هذه بثلاثة أيام، فقد بوغتت وحدته العسكرية بهجوم صاعقٍ ساحق، راح فيها معظم منتسبيها بين أسيرٍ وشهيدٍ وجريحٍ و مفقود، لم ينجُ من هذه المأساة إلا بضعة جنود، ومجموعة صغيرة اُخرى فقط (عشرة جنود) و(مُظَفَّر) معهم إذ كانوا في مهمة خارج المنطقة في نفس الساعة التي حدث فيها ذلك الهجوم المشؤوم.

يحدث نفسه رباه... ماذا حدث لي آنذاك؛ فما أن وصلت عتبة الباب، أحسست أو هكذا كان شعوراً بداخلي، أن شيء ما قد حدث في البيت أو حوله، الشارع فارغ، والوقت ليلاً الساعة قاربت السابعة مساءً، والشتاء والبرد والظلام والسكون يُخيّـم على المكان، وحين فتحت باب الحديقة، واندفعت متجهاً للبيت أخذتُ اقطع على عجلٍ بخطوات متسرعة الممر حتى باب المطبخ؛ فطرقتها طرقاً خفيفاً، كانت (أمي) متشحة بالسوادِ، وماهي إلا لحظات حتى تفتح الباب بسرعةٍ وتهجم عليَّ وتحتضنني وهي تقبلني عدة قبلات في رأسي و وجهي، ولم تنقطع من الكلامِ وهي تقبلني:

ـ الحمدُ الله على وصولِكَ سالماً، محروساً بالله، الرحمن يحرسك ويرعاك.

قبلتُ رأسها ويديها ونظرتُ الى وجهها كانتْ الدموع تسيلُ على خديها، وهي تنشج بالبكاء، وقفتُ كالمذهولِ أحدق بها،قلبي يخفقُ بقوةٍ ووجلٍ، فيما دارت عيناي في البيت تبحث عما يوجد فيه من الأهل، لا صوت ولا حركة في البيت زاد خوفي أكثر.

ـ ماما خير أَشو ولا واحد بالبيت، أين أبي أختي سعاد، أخي راضي؟

عاجلتني بالجواب: أسمعْ أبني (خطوبتك ما راح تصير بهذه الاجازة)

كدتُ أسقط من هولِ ما سمعت، لكني تمالكت نفسي لأستمع حتى نهايةِ الخبرِ.

 وأردفت قائلة:

ـ صديقكَ (حسان) أخو خطيبتك (هناء) قبل ساعتين (شيعوه) إلى جوارِ ربه؛ وأبوك وأخوك (راحوا وياهم للنجف)، وأختك (سعاد) عندهم الان في البيت. وتصمت لحظة وتردف بتأفف وهي تهز برأسها بحسرة وألم:

ـ يظهر مَملحمة الفاو راح تصير علينا مقبرة الفاو!

أصوات من جموع الجنود تتصاعد بالقرب منه وحوله.

سلمَ (استكان) الشاي بيد (أم جاسم) وهو يردد معه نفسه:

 ـ (مَملحة وكافُور) يبين قربت نهايتك (مُظَفَّر).

أنتصفَ الليل، رغم الملابس العسكرية الشتوية الثقيلة التي يلبسها (مُظَفَّر) لكن برد شهر(شباط) قد بدأ يدب في أطرافه؛ وخصوصاً قدميه، الكتل البشرية لحشودِ الجنودِ أزداد عددها بشكل كبير باتتْ عدة آلاف ضاقتْ بهم الساحة والأرصفة، وبدأت تنزل إلى الشارع الرئيسي ذي الاتجاهين؛ فانقطعتْ تماماً حركة السيارات في الشارع، لكن لم تنقطعْ الأناشيد والأغاني الحماسية وهي تنطلق من عربات الباعة.

 نهض (مُظَفَّر) من مقعده، عدل ملابسه، وأحكم شدَّ (النطاق) ـ الحزام العسكري ـ على خصره، وحمل حقيبته على ذراعة، وغاص بين جموع الجنود الباحثة عن حافلةٍ تقلهم؛ فعليه أن يصل بالوقتِ المحددِ الى مقرِ (الفيلق السابع) في (البصرة) ومن هناك سوف يعرف اين سوف يصبح مقر ما تبقى من وحدته العسكرية، هكذا كانت التعليمات عندما سلمت له الاجازة الدورية.  

على بعدِ مئاتٍ من الامتارِ من مَرْأب (ساحة النهضة) وفي شارعٍ جانبي تقف عدة حافلات كبيرة لنقل الركاب، موصدة الأبواب يدور حول كل واحدة منها مئات من الجنودِ الحانقةِ.

توقف برهة أمام لافتة كتب عليها (دورة مياه عامة) شعر بحاجة شديدة للتبول، رائحة (اليوريا) المنبعثة من المكان تُزكم الانوف لكن عليه ان يدخل المكان، إذ لا يوجد في المنطقة غير هذا المكان، ربع ساعة بقي يراوح في مكانه حتى جاء دوره للدخول، ودلف داخل التواليت، وأحكم اغلاق الباب خلفه، المكان قذر والرائحة فيه مقرفة، وعلى عجلٍ فتحَ (سحاب) سرواله، وأفرغ مثانته وخرج مسرعاً، وليجد الازدحام على أشده على (مغسلة التنظيف) الوحيدة في دورة المياه، فتح صنبور الماء جاء الماء المتدفق بارداً وهو يدعك (بالصابونة) بين كفيه، شعر أن يديه كادت أن تتجمدا؛ غادر دورة المياه، بعد ان نقد الرجل الذي يجلس في الباب على كرسي متهالك، عملة معدنية صغيرة، ثمن دخوله، غادر المكان بخطوات سريعة وراح يتنفس بقوة هواءً منعشاً جديداً باردً؛ فشعر براحة تسري ببدنه.       

نشراتُ الأخبار لم تزلْ تؤكد استمرار القتال الضاري لصدِ الهجوم في قاطعِ (الفاوـ المملحة)؛ فيما نداءآت تحث المواطنين (للتبرع بالدم) لم تنقطعْ منذ عدة أيام؛ صوت مسجل معلق بأحدى عربات بيع الأكل يبثُ أغنية (أحنا مشينا للحربْ) يصدحُ بأعلى قوته، يطغى على نداءآتِ التبرع بالدم!

صوتٌ مُحْتد يُلقي خطاباً على رهطٍ من الجنود التي تلتف حوله، والتي بدأت دائرتها سريعاً تتوسع، بينما (مظفر) يحاول الدخول وسط هذا الرهط لسماع ما يدور؛ فيما صوت هائج حانق يتوعد في دائرةٍ اخرى تكونتْ سريعاً بالقربِ منه.

مع اقتراب ضوء فجر الصباح، بدأت زخاتٌ كثيفة من الرصاصِ تهز المنطقة، وتفزع الحشود، لكن لم يُعرف مصدرها، ولم يأبه أحدٌ بها.

بلبلةٌ وهيجانٌ كبير ينتاب المجامع المنفعلة من الجنودِ التي بدأتْ تركل بأرجلها وقبضات ايديها الساخطة أحدى الشاحنات الكبيرة الواقفة؛ فيما مجموعة كبيرة أخرى من الجنودِ وهي تطلق العنان لهستيريا صراخها تحاول أن تقلب الشاحنة الأخرى التي تقف بجانبها. الأصوات الغاضبة تتعالى أكثر، تزداد الحشود التي تلتف حول الشاحنات وهي تحاول قلبها، العسكر الهائج يقلب الشاحنة (السائق ومساعده) داخل الشاحنة المقلوبة يستغيثان ويحاولان الخروج من شبابيك الشاحنة.

جَمْهَرة أخرى من الجنود تقلب السيارة الثانية وآلاف من الجنود تتجه مزمجرة هادرة نحو السيارات الأخرى، أصوات وقع كعوب اقدامها وهي تضرب في اسفلت الشوارع تزيد الموقف اكثر هيجاناً واندفعاً، الشارع الرئيسي (هائج مائج) بالجنود المنفعلة والتي بدأ يعلو أكثر صُخب صراخها وهتافها. فوضى عارمة تطغي على هدير اصوات أغاني المعارك، الحشود الساخطة تقلب سيارات أخرى وتهشم زجاجها، وعلى غفلة إحدى الشاحنات تشب فيها النار، وتبدأ النار تلتهمها بسرعة أصوات هائجة تحذر من الاقتراب من السيارات خوفاً من انفجارها نتيجة الحريق.

زخات متقطعة من الرصاص تنطلق من جديد، حشود الجنود تتشتت تركض بمختلف الاتجاهات، كما الأمواج المتلاطمة، تتداخل اصوات أزيز الرصاص والصراخ والعويل والصياح وصخب الأغاني والموسيقى والنداءآت والهتافات، حالة من الفوضى المجنونه تضرب المكان.

أصوات تنادي: {المكان مطوق أينما تذهبون، هنالك قوات من الحرس الخاص، ولواء من الحرس الجمهوري المدرع والانضباط العسكري والاستخبارات العسكرية تطوق المكان}.

يعود (مُظَفَّر) مسرعاً الى موقد (أم جاسم) ويقف بالقرب منها يراقب المشهد، أحد المقاعد فارغ يحوله بالقرب منها ويقف ممسكاً بالمقعد بين رجليه واضعاً الحقيبة فوقه.

تلتف (أم جاسم ) إلى (مُظَفَّر) وتسأله بصوت مرتجف:

ـ شكو يمه، شنو إلي صار؟

(مُظَفَّر) يدنو برأسه بالقرب منها وبصوتٍ خافتٍ حذرٍ، يهمسُ بإذنها:

ـ الحكومة تطوق المكانْ.

حركة الجنود تزداد سرعة وعنفاً، ركضٌ وتدافعٌ وصراخٌ هستيري في عدةِ أماكن، عشرات من الجنودِ تتحدثُ في وقتِ واحد وهي تصرخُ بشكلٍ منفعلٍ تحاولُ أنْ تهدَأ الجنود الغاضبة.

صوتُ أزيز الرصاص يهدرُ من جديدٍ وبكثافةٍ ودويٍ أشد، أصوات مدافع رشاشة تطلق زخاتٍ متتاليةً من الرصاصِ الكثيفِ من عدةِ أماكن، تُطغي على كلِّ الأصواتِ، أنها كأصوات مدافع الرشاشات المدرعة في جبهات القتال، مجاميع عديدة من الجنودِ تتراكض من جهةٍ إلى أخرى، اضطراب وفوضى عارمة تعم المكان، يقتحمُ لفيف من الجنودِ المتدافعين مواقد الشاي، أصوات تكسر الاواني والأقداح المرتطمة بالجنودِ والأرضِ، تسمع مع صوتِ الرصاصِ الذي ينطلقُ مدوياً من كلِّ الجهاتِ، يسقطُ أحد الجنود على موقدِ وأواني الشاي التي أمام (أم جاسم) ووجهه مضرج بالدماء، تطلقُ (أم جاسم) صرخة مدوية وهي تحاول جاهدة أن تنهض من مكانها لمساعدتهِ؛ لكنها تسقط بـ (صلية) من الرصاص الذي يخترق ظهرها، لينبثق الدم كالنافورة من خلفِ عباءتها، فتسقط على وجهها جثة هامدة.

انحنى (مُظَفَّر) صارخاً بهستريا كمن فقد عقله خالة (أم جاسم) محاولاً مساعدتها؛ فيما قبضة ككماشة من الفولاذِ تمسك برقبته وأخرى بذراعيه وتطرحه أرضاً، وصوت يصرخ بأذنه أي حركة سوف أضرب رأسك بالرصاص.

 مُكبِرات الصوت للقوات المهاجمة تطغي على كلِّ الأصواتِ وهي تحذر الجميع من الحركةِ، وتكرر:

ـ تَحْذير، على الجميع أنْ يبقى ثابتاً في مكانهِ.

 

قصة قصيرة من خزين الذاكرة

مالمو/ السويد

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*المَملَحة: (ممالح الفاو) وهي عبارة عن أحواض متعددة تصب الواحدة بالأخرى، وهي أراضي عراقية وقعت فيها معارك دامية خلال فترة الحرب العراقية الإيرانية للفترة 1980ـ1988.

وورد في الموسوعة الحرة (ويكيبيديا) تعريف ممالح الفاو: هي قنوات مائية غير مبطنة تسبب رشح المياه المستمر فيها إلى باطن الارض إلى ارتفاعها المستمر حيث بدأت تتجمع على سطح الأرض وبسبب شدة التبخر من سطح المياه المكشوفة إلى (2,5)متر في السنة مما يؤدي الى تركيز الأملاح وتحويل المياه المكشوفة الى ممالح، تقع وسط شبه جزيرة الفاو جف الماء فيها بمرور الزمن وتحولت الى مناطق تجمع الملح.

 

**نشيد (اغنية) حماسية، أو تعرف بالأغاني الوطنية: أنتشر هذا النوع من الأغاني بشكل سريع اثناء فترة الحرب العراقية الإيرانيّة (1980ـ1988) ؛ لحث الجنود على القتال بعزم وحماسة واندفاع حد الشهادة، وكلماتها تعبر عن حب الوطن أو الحاكم، وتكون قصيرة وقليلة الابيات وتغنى بشكل فردي او جماعي.

*** الكافوُر: نوع من أنواع الاشجار المعمرة الدائمة الخضرة تعود للفصيلة الغارية، تحتوي أورق الكافور وازهاره وقشرته على زيت عطري، يستعمل في العلاجات الطبية، ومن سنن تغسيل الميت عند (المسلمين) يستعمل الكافُور لتطيب رائحة بدن (الميت) ويمنع روائح الجسد الميت من الانتشار بسرعة.