كـتـاب ألموقع

"شيوعية" اقتصاد السوق الاجتماعي وقصة الفجل الأحمر!// علاء اللامي

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

علاء اللامي

 

عرض صفحة الكاتب

"شيوعية" اقتصاد السوق الاجتماعي وقصة الفجل الأحمر!

علاء اللامي

 

أثارت تغريدة لسكرتير الحزب الشيوعي العراقي والنائب في مجلس النواب عن كتلة "سائرون" رائد فهمي اهتماما كبيرا. وقد اعتبرها البعض أوضح إشارة على تبني الحزب وقيادته للمشاريع الاقتصادية والسياسية الرأسمالية والمناقضة لما عرف عن البدائل الاشتراكية والشيوعية التي يزعم الحزب الانتساب إليها تقليديا.

يقول نص التغريدة (أمام جسامة التحديات السياسية والاجتماعية التي تواجه العراقية كتحقيق تنمية مستدامة وخلق فرص عمل وتوفير البنى التحتية المادية والمؤسساتية، يكاد يغيب النقاش "حول" السؤال السيتراتيجي هل اقتصاد السوق وآلياته الحرة قادر على توفير الحلول؟ ما رؤية الحكومة لتطبيق " السوق الاجتماعي؟). نلاحظ ان هذا النص القصير مصوغ بمهارة وحذر ولكنه لم ينجُ من بعض الأخطاء اللغوية على قصره. وللإنصاف، فقد لا يفهم للوهلة الأولى من قوله (هل اقتصاد السوق وآلياته الحرة قادر على توفير الحلول؟) أي تروج لاقتصاد السوق بل ربما يفهم منه تحفظ عليه وتشكيك بجدواه. 

*أما السؤال الثاني القائل (ما رؤية الحكومة لتطبيق "السوق الاجتماعي"؟) فههنا تسكب العبرات كما يقال إذ أنه ينطوي على ترويج واضح بل على دعوة إلى الحكومة – وهي للتذكير: حكومة محاصصة طائفية تابعة في دولة المكونات تم إيصال رئيسها الى منصبه بطريقة مشكوك في دستوريتها وفي صفقة دبرت بليل إدارة نهب وتوزيع الريع النفطي على الأحزاب والعوائل السياسية الطائفية في العراق - إلى الأخذ بهذا السوق الاجتماعي.

*يمكن أن يفهم قارئ تغريدة السيد فهمي أيضا، أنه يحاول التفريق بين السوق الحرة "سيئة السمعة" وبين السوق الاجتماعي "الحبابة الطيبة"، وربما كان المغرد يفضل الثانية على الأولى. هذه بسطة سريعة في التعاريف والماهيات الخاصة في هذا الموضوع لكشف جوهر هذه المحاولة وتباين المضمون الرأسمالي الحقيقي لها:

*يقول التعريف التقليدي شبه الحصري لاقتصاد السوق، والاقتصاد الحر، والنظام الرأسمالي إنه (النظام الاقتصادي لليبرالية الكلاسيكية التي تكون الليبرالية الاقتصادية مكوّنا أساسيا فيه، ويقوم هذا النظام على فكرة سيادة الاقتصاد الحر بما يعنيه من عدم تدخل الدولة في الأنشطة الاقتصادية وترك السوق يضبط نفسه بنفسه. وتتكئ فلسفيا على مبدأ الحرية الفردية، القائلة إن الفرد ولد حرا، بالتالي فإن له الحرية في أن يقوم بأي نشاط اقتصادي.

*يقوم اقتصاد السوق على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وعلى المبادرة الفردية، ويخضع لتفاعلات قانون العرض والطلب داخل السوق وعلى المنافسة الحرة وتحرير الأسعار من أي قيد عدا ما تفرضه المنافسة الحرة غير الاحتكارية ذاتها.

ولكن اقتصاد السوق – عمليا وتاريخيا - لا يعني غياب القطاع العام ودور الدولة في تنظيم الحياة الاقتصادية غيابا تاما بل يحضر ويغيب تبعا لحاجة النظام الرأسمالي المهيمن والطبقات السائدة ومصالحها المباشرة.

*لا يمكن فهم اقتصاد السوق اصطلاحيا وعملياتيا ونمطا اجتماعيا إلا بوضعه في مقابل نقيضة الاقتصاد الاشتراكي كما تكرس في التجربة السوفيتية بوصفها شكل بدائي وبيروقراطي من أشكال الانتقال الى الاشتراكية وليست الشكل الوحيد والحصري. هذه التجربة قامت على أساس تدخل الدولة التي تدعي أنها عمالية وهي ليست كذلك بل حزبية بيروقراطية في الاقتصاد من البداية الى النهاية تخطيطا وإنتاجا وملكية وتوزيعا. ورغم بيروقراطية التجربة في الاتحاد السوفيتي وقضائها على الجوهر الديموقراطي الثوري لحكم المجالس" السوفيتات" واستبداله بدكتاتورية الحزب الشيوعي النخبوي البيروقراطي والنظام الأمني القاسي فقد قدمت هذه التجربة إنجازات مذهلة – رغم كل ثرثرات الإعلام البرجوازي المعادي الرث عن فشلها- ونقلت بلدانها من أقسى درجات التأخر والفوات الحضاري الى القطبية العالمية في الاقتصاد والسياسية والثقافة، فبعد أن كانت روسيا تسمى في الغرب " كيس البطاطا الثقيل" و" قلعة الرجعية الأوروبية " بعبارات ماركس نفسه أصبحت القطب الدولي المقابل للقطب الدولي الإمبريالي الغربي والمتسابق معه في ميادين الاقتصاد والسياسة والثقافة والعلوم. 

*أما اقتصاد السوق الاجتماعي، والذي يريد البعض أن يقدمه كمنقذ من الضلال الى الهدى، ومن الخراب إلى فردوس الإصلاح من داخل النظام ويجعل منه الدجاجة التي تبيض ذهبا، فيقول تعريفه الأشهر إنه:

*اقتصاد السوق الاجتماعي هو نموذج اقتصادي يجمع بين اقتصاد السوق الحر، مثل قدرة اقتصاده متطورة عالية الكفاءة وتوفير المنتجات، وفي نفس الوقت تلافي مساوئ طرق المنافسة الشرسة وعدم السماح بالانفراد بتصنيع المنتجات (منع الاحتكار) ومن استغلال العاملين وذلك عن طريق السماح بتكوين نقابات عمال قوية وعدم السماح لعمليات تجارية تسيئ إلى النظام الاجتماعي. فالغرض من اقتصاد السوق الاجتماعي هو تحقيق أكبر مستوى للرخاء مع تأمين المجتمع والعاملين. اقترحه الألمانيان "ألفريد أرماك " ولودفيغ إيرهارت وفي ظل هذا النظام لاقتصاد السوق الاجتماعي لا تتصرف الحكومة سلبيا كما هو في اقتصاد السوق الحر، وإنما تتدخل الحكومة على هامش مجرى الاقتصاد الذي يكون إلى أبعد الحدود في القطاع الأهلي المدني، مثل تحفيز النشاط الاقتصادي، وضع سياسات تضمن منافسة أمينة سليمة، وسياسات اجتماعية تخص العاملين والمواطنين. "

*ممن يؤيدون اقتصاد السوق الاجتماعي المشهورين ألفريد أرماك فهو يرى في اقتصاد السوق الاجتماعي أنه "يحاول الجمع بين مثالية العدالة، والحرية، والنمو الاقتصادي في "منظومة متوازنة معقولة" وهذا مجرد حشو لفظي وإنشائي فارغ من أي مضمون علمي قابل للرصد والتقييم يمكن أن نجده في خطاب أي سياسي ثرثار لا يعني ما يقول!

كما يمكن القول إن "اقتصاد السوق الاجتماعي" هو من حيث الجوهر محاولة فاشلة عمليا ونظريا للجمع بين قوانين الاقتصاد الحر كما عرفتها الرأسمالية المتوحشة وبين مبادئ أخرى تناقضها في الصميم وتتعلق بالجانب الاجتماعي في النظام الاشتراكي، حيث تحتل مبادئ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص والضمانات الصحية والتعليمية المرتبة الأولى من سلم الاهتمامات. وهي إذن أشبه بمحاولة لجمع النار والماء!

بعض الكتاب والمتخصصين يعتبر "اقتصاد السوق الاجتماعي" نوعا من الليبرالية المنظمة، وآخرون يعتبرونه نوعا من الرأسمالية الملطفة، و"غير المتوحشة كرأسمالية بريطانية التأسيسية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر"، يعتقد اقتصاديون كثر أنه أشبه بمحاولة لخط طريق ثالثة بين الرأسمالية والاشتراكية تتميز باستمرار حضور الدولة والقرار السياسي في صياغة ومراقبة العلاقة بين التنافس والتضامن وبين وحشية السوق والعدالة في الحياة، وكل هذا محض كلام لا مضمون علميا مفيدا له ولا يمكن التدليل على صحته عمليا.

*من تجارب اقتصاد السوق الاجتماعي تجربتا السويد وألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية ولكن أي محاولة للمقارنة بين أوضاع بلد فاقد للسيادة والاستقلال، يعيش على النفط الريعي النفطي بنسبة شبه مطلقة كالعراق اليوم، وهذين البلدين الصناعيين المتطورين، رغم هول الدمار المادي الذي طاول ألمانيا ستكون مضحكة وفي مضيعة للوقت.

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية التي خرجت منها ألمانيا مدمرة تماما، اتبعت اقتصاد السوق الاجتماعي الذي وضعه لودفيج إيرهار، فأسس المجتمع المدني شركات تساهمية للإنتاج وإعادة البناء تعززها في ذلك المصارف والبنوك، نعرف منها اليوم شركات مثل مرسيدس بنز وفولكسفاجن وباير للأدوية والصناعات الكيميائية، وشركات مساهمة للحديد والصلب مثل كروب وسيمنز وغيرها... حتى إنتاج الكهرباء تقوم به شركات مساهمة أهلية تمتلك نحو 19 مفاعلا نوويا لإنتاج الكهرباء.

*ولكن الحقيقة تقول إن هذا السطح البراق للاقتصاد الحر الاجتماعي يخفي خلفه حقائق مختلفة تقول مثلا إن الشركات الأهلية التي بدأت صغيرة بخمسة أشخاص على سبيل المثال نمت وكبرت وتضخمت كما يتضخم المسخ بمرور الأيام والسنين وأمسى يعمل فيها لاحقا مئات العمال ويتضخم رأسمالها لتتحول الى شركات رأسمالية يملك أسهمها القادرون على شراء الأسهم.

والحقيقة أن أحدا لا يمكنه أن ينكر ما تحققه المشاريع الصغيرة من فوائد في امتصاص البطالة وتشجيع حركة الإنتاج ولكن لماذا لا يتم اللجوء إلى هذا الأسلوب في التجارب الاشتراكية التي تضمن له آفاقا أكثر أمنا وازدهارا ولكن تحت هيمنة الاقتصاد الاشتراكي المخطط؟ لماذا لا يتم اللجوء إليه إلا في اقتصادات رأسمالية كبيرة وتابعة للاقتصاد الدولاري المهيمن عالميا؟

في الأزمات الاقتصادية حيث تسرح الشركات والمصانع بعضا من عامليها بغرض التوفير، فيكثر عدد العاطلين، وهنا تشجع الحكومة الأشخاص على إنشاء مشروعات صغيرة يرتزقون منها وتكون بمثابة شركة صغيرة يمكن أن تنجح في السوق فتكبر ويزداد عدد العاملين فيها.. لقد شكلت السويد كما يقول أحد الخبراء (منافسا حقيقيا للدول الاشتراكية من حيث طابع ونوعية المكتسبات المعيشية والصحية والخدمية التي تعم المجتمع). ولكن هذا الخبير ينسى أن أي هزة في النظام الرأسمالي الدولاري العالمي ستنعكس سريعا وسلبا على السويد وألمانيا وغيرهما من فقاعات كبيرة اقتصادية تضخمت في فترة الاستقرار لما بعد الحرب الأوروبية "العالمية" الثانية!

*أما مع العراق فمن المضحك حقا مقارنة تجارب وأوضاع ألمانيا والسويد: فألمانيا المدمرة بعد الحرب تم إنقاذها بخطة مارشال الأميركية، والسويد كانت دولة منتجة ومستقرة وذات تجربة صناعية راكزة في حين قام نظام المحاصصة الطائفية التابع في العراق بكارثة تشبه خطة مارشال مقلوبة على رأسها فنهب الريع النفطي وهو الوحيد الذي يوفر الغذاء لأربعين مليون عراقي تقريبا، ولم يبن شيئا حتى قبور ضحايا الاقتتال الطائفي الذي تسبب به أو فشل في منعه طيلة سنوات. وألمانيا كانت قبل الحرب دولة صناعية منتجة ذات معدل نمو عال وتجربة متراكمة خبرات صناعية وتجارية ثم البناء عليها بعد الحرب، نحن في العراق ماذا أبقيتم في البلاد حتى تدعون الى السوق الحرة الاجتماعية؟ حتى القطاع العام لما قبل الاحتلال حلوتموه الى سكراب وخردة تم بيعه بأطنان الحديد!

*وثانيا، فإن ألمانيا لم تكف عن أن تكون بلدا رأسماليا معلقا بشعرة الاقتصاد الدولاري الذي ما أن يغرق حتى يجر الجميع معه نحو القاع! هل تعلمون أن تحذيرا مصرفيا واحدا صغيرا صدر عن الولايات المتحدة وضع الاقتصاد الماني على حافة الهاوية وسرعان ما تراجعت المانيا عن محاولتها لاستعادة كميات الذهب الألماني المحتجزة في الولايات المتحدة الأميركية كرهينة حيث فشلت الخطة الألمانية لاستعادة ثلثي احتياطي الذهب الألماني المودع في بنوك أميركية وفرنسية وبريطانية بحلول عام 2020، وقررت ألمانيا في الوقت الراهن ترك ما يعادل ستمائة وخمسة وثلاثين مليار دولار من الذهب في خزائن الولايات المتحدة، بعد تهديدات بمعاقبة الاقتصادي الألماني من قبل أميركا؟ فعن أي سوق حرة اجتماعية يتحدث ويروج رائد فهمي في العراق؟

*وأخيرا فالسيد رائد فهمي حر تماما في أن يروج ويتبنى ما يعجبه ويعجبه حزبه من هذه النماذج الرأسمالية الملطفة، ولكن لماذا هذا الإصرار على اعتبار أنفسهم شيوعيين على سن ورمح؟ لماذا لا يعتقون هذه المفردة "الشيوعية" و"يحلون عن سماها"؟ وعموما فهي مفردة كما قال هادي العلوي قد "ابتذلت ابتذالا هائلا من قبل زاعمي الانتماء إليها" حتى أنه بدأ باستعمال بديل لها هو "المشاعية"! أم أن قصة الفجل الأحمر القشرة والأبيض الباطن ماتزال سارية المفعول؟ ففي العراق نوعان من الفجل أحمر مستورد وتقليدي محلي أبيض؟

*كاتب عراقي.