كـتـاب ألموقع

عازف الناي 5 // د. ميسون حنا

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

د. ميسون حنا

 

عرض صفحة الكاتبة 

عازف الناي 5

د. ميسون حنا

الاردن

 

اللوحة الخامسة

(بلاد الجان. في الخلاء . حيث الأرض صفحة خضراء. أشجار وأزهار في كل مكان، يدخل جنيان يتحاوران بأسلوب تهريجي مضحك)

الجني الأول  : ما قولك في هذه الزهرة؟ (يقطف زهرة ويخفيها خلف ظهره) أهي حمراء أم زرقاء؟

الجني الثاني: حمراء.

الجني الأول  : أخطأت .

الجني الثاني: إذن زرقاء.

الجني الأول  : أخطأت أيضا، فهي صفراء.(يقذفها في وجهه ، فتسقط على الأرض)

الجني الثاني: أتهزأ بي أيها المنحوس؟

الجني الأول  : (يضحك) أحسنت إذ قلت الصدق ... فأنا حقا منحوس الطالع ... ونحسي هو مصدر أعجاب الشياطين بي ... لكنك غبي يا صديقي إذ تقامر على لون زهرة.

الجني الثاني: (بعجب) سبحان الله ... أنت الذي افتعل النقاش.

الجني الأول  : وأنت جاريتني في قلة عقلي ... تحمّل إذن نتيجة غبائك.

      (يسمع صوت عزف كئيب على الناي، يصغيان)

الجني الأول  : من هذا المنكود، الذي يعزف هذا اللحن الكئيب لينغص علينا.

الجني الثاني: نحن نمرح هنا لينكد علينا بسماجة لحنه ...

الجني الأول  : الويل له ... هلم نهشم نايه على رأسه.

      (يهمان بالخروج ، بينما يدخل ياقوت)

الجني الثاني: ها قد أتى لمصرعه.

      (يتوقف ياقوت عن العزف، وينظر إليهما بحذر)

الجني الأول  : أمّا كفه عن العزف ... فقد شفع له عندي.

الجني الثاني: أنت حقا منحوس، لكنك تشفق على المناحيس أمثالك... وهذه صفة تستحق المؤازرة.

      (يقتربان من ياقوت، الذي يبتعد عنهما قليلا بحذر)

الجني الأول  : ماذا تفعل هنا ؟ (يتأمله) لست جنيا يا ابن أمك.

الجني الثاني: بل هو ابن أبيه.

الجني الأول  : إبن أمه وأبيه ، لا تغضب .

      (أثناء الحوار يتسلل ياقوت منسحبا من أمامهما بخفة، ويغادر المكان)

الجني الثاني: قلت لك هو ابن أبيه.

الجني الأول  : تعني ... لا أم له؟

الجني الثاني: ما يعنيني من أمره أن أعرف من يكون؟

الجني الأول  : (يتلفت حوله) الويل لك ... أخذت تجادل كعادتك حتى هرب قبل أن نتعرف إليه .

الجني الثاني: لكني عرفته.

الجني الأول  : من هو ؟

الجني الثاني: العاشق الولهان ، الذي باع دياره بأبخس الأثمان، من أجل مختلة مأفونة.

الجني الأول  : تقصد مزدان ؟

      (تدخل مزدان)

مزدان: من ذكر اسمي؟ (تتشمم بأنفها محدثة صوتا) جنيان لعينان.

      (يفر الجنيان خارجين . تتلفت حولها وكأنها تبحث عن أحد)

مزدان: أين ذهب هذا الإنسي ... كنت ألاحقه في دياره حتى لانت عريكته، ورافقني لألاحقه هنا من جديد .

      ( يظهر برطوش. يضحك. لهجة برطوش تكون تهكمية أثناء هذا اللقاء)

برطوش      : أهلا بفاتنة بلاد الجان .

مزدان: أنت تهزأ الآن ... جاءت فرصتك؟

برطوش      : ليس بعد يا عزيزتي ، ليس بعد (يبتسم) أين فتاك الوسيم؟

مزدان)بمرح مفتعل) كان معي قبل لحظات .

برطوش      : وتركك هنا ليعزف قرب نبع الشياطين ... أليس هكذا؟

مزدان:(بقلق) هل هو حقا هناك؟

برطوش      : (يضحك بشماتة) لم يكن معك إذن؟

مزدان: سحبت لساني أيها الشقي.

برطوش      : لا أعلم من منا الشقي ... أنا أم أنت؟

      (مزدان تقترب من برطوش حزينة)

مزدان: برطوش ... أنا حقا في حيرة من أمري .

      (يختفي برطوش فجأة . تثور)

مزدان:(ثائرة) أين ذهبت أيها اللعين؟ كنت سوف أطاوعك لو قلت كلمة حركت قلبي ... لكنك تشمت بي كغيرك ...(بتحد) سوف نرى من منا الشقي إذن؟ (منادية) ياقوت ...

      (لحظة . يدخل ياقوت حزينا، يجلس تحت ظل شجرة ، ويضع نايه على الأرض قريبا منه . مزدان تقترب منه وتجلس إلى جانبه)

مزدان: أين أنت يا ياقوت؟ كلت قدماي وأنا أبحث عنك.

ياقوت       )ببرود) سمعت نداءك ، فحضرت.

مزدان: تغيرت يا ياقوت.

ياقوت       :(بشرود) لا أفهم قصدك.

مزدان:(تفتعل المرح) إعزف شيئا ... أتوق لسماع ألحانك.

ياقوت       : قلت لي صباح أمس (ينهض مبتعدا عنها ويواصل حديثه) أنك مللت رتابة ألحاني .

مزدان: نوّع إذن.

ياقوت       : لم أعد قادرا على تطويع الناي.

مزدان: لماذا؟

ياقوت       : هذا ما استلهمته منك على كل حال .

مزدان: هل أنا السبب؟

 ياقوت      : ألست الجنية المُلهمة...؟ تبعتك ، فماذا وجدت ؟ خواء فظيعا يكتم أنفاسي .

مزدان: (تنهض وتقترب منه) ياقوت ... بلادنا جميلة، وأنت نفسك أبديت إعجابك بها .

ياقوت       : لم أغير رأيي في جمال بلادكم.

مزدان: هيأت لك جوا مريحا ، لم أقصر معك .

ياقوت       : (بشرود) لم أعد أستطع العزف كما كنت.

مزدان: لا أظن أن هذه الطبيعة الخلاّبة ، التي تحيط بنا ، وهذا العبق (تتنفس بارتياح) مع هذا الحب الذي أبذله لك ، قد أسبغ الحزن على ألحانك !

ياقوت       : أنت لطيفة يا مزدان ... لا تتوانين عن تقديم المساعدة لي ، لكني اشعر بالتعاسة ، بالرغم من كل ما أجد عندك من دفء المعاملة ، وحرارة الحب .

مزدان: أنت لا تبادلني حبا على ما يبدو.

ياقوت       :(مرتبكا) لم أقل هذا ...

مزدان: تصرفاتك تدل عليه...

ياقوت       :(بفتور) واهمة.

مزدان: ماذا تنتظر إذن؟ (بحماس) هلم لأبي نعلنه قرارا سعيدا ، ليرفع رأسه بين قومه.

ياقوت       : ويحك ماذا تعنين ؟

مزدان: أبي ساخط علي ... ها هو يمهلني أياما محدودة، أصلح بها نفسي، وأصلحك معي ، لنكون جنيين مواليين لقوانين الجن ، وإلاّ نُبذت معك إلى الأبد .

ياقوت       : لست جنيا لأخضع لقوانينكم على كل حال .

مزدان: تذكّر أنك تعيش معي في بلدي .

ياقوت       : مع هذا أنا لست جنيا .

مزدان:(بلهجة جديدة) وجودي معك هكذا لا يرضي أحدا هنا .

ياقوت       : لماذا؟

مزدان: أنت تعيش معي دون عقد زواج .

ياقوت       : فاتني الأمر ... هل تعقدون ؟ ... أقصد هل تؤمنون بالزواج أنتم أيضا؟

مزدان: ونقدسه .

ياقوت       : (ساخرا) يا لطيف .

مزدان: عقوبة الخيانة في عرفنا الموت .

ياقوت       : كيف إذن تقولين أن لك عشاقا كثيرين ؟

مزدان: قبل الزواج ، الواحدة منا حرة في كل ما تفعل .

ياقوت       : الأمر بسيط إذن ... لنبق عاشقين ، وهكذا تلتغي جميع مشاكلك .

مزدان:(غاضبة) لا تهزأ ، وأجب بوضوح .

ياقوت       : باختصار الحديث : أنت تطالبينني بالزواج !

مزدان: وما هو ردك ؟

ياقوت       : لا أستطيع تحقيق رغبتك يا عزيزتي .

مزدان: (ثائرة) ماذا تريد إذن ، بعد أن هجرت جميع عشاقي من أجلك ؟

ياقوت       : (يبتسم بمرارة وسخرية) أوه ... من أجلي ...؟! أخطأت يا عزيزتي .

مزدان: ها هم يتمنون لي التعاسة الآن ، ويسخرون مني شامتين ، بعد أن كنت معبودتهم بلا منازع .

ياقوت       : (يهز رأسه نادما) لست أدري أأرثي لك أم لنفسي ؟

مزدان:(أكثر انفعالا) أنت لا تعلم أي فعل شنيع أتيته من أجلك أيضا   ، وأنت تسخر ؟

      (ينظر إليها مستفهما، تتابع)

مزدان: مرافقة إنسي  في بلادنا تستحق أقسى العقوبات .

ياقوت       :(ساخطا) أما أنا فقد خنت بلدي مذ تبعتك.

مزدان: ومن ذكر الخيانة الآن ؟ (مستدركة) أنت تبعتني لأنك كنت تبحث عمن يقدر فنك .

ياقوت       : جررتني للتهلكة لأعيش متشردا ، مشؤوما        ، بعيدا عن وطني .

مزدان: ها أنا أعرض عليك حلا يريحك إلى الأبد ... أعرض عليك البيت ، والأمان والاستقرار .

ياقوت       : هل تصدقين يا هذه أني أستطيع الحياة معك هنا إلى الأبد؟

مزدان: نعم تستطيع ... لكنك استعذبت ضعفي أمامك فتماديت . هكذا أنتم أيها البشر ، عكسنا تماما . نحن صريحون ، واضحون في تعاملنا ، أما أنتم فمراؤون ، أفاقون .

ياقوت       : (يضحك ساخرا) أنتم ...؟ حقا عشنا وسمعنا.

مزدان: نحن نخدع الشخص قائلين له أننا شياطين ، ونسعى لخديعته ، أما غفلته ، فلسنا مسؤولين عنها أبدا ... أما أنتم فتدعون الطهارة والصدق وتطعنون في الخفاء .

ياقوت       :(ثائرا) أنتم تبيحون لأنفسكم ارتكاب المعاصي ، وتتباهون بصراحتكم الوقحة ، إذ ترتكبون معاصيكم أمام الجميع !

مزدان: نحن أشرف منكم إذ نعترف بخستنا ... أما أنتم ...

ياقوت       : (مقاطعا) ويلك ... كفي عن النقاش ، لا أستطيع مجاراتك في هذا التخريف .

مزدان: (مستفزة) قل أنك تضعف أمام مواجهة الحقيقة ليس غير .

ياقوت       : (ثائرا) أنا أنبذك يا هذه ... ليس فقط كونك جنية مخادعة ... تكاد لا تفرّق بين الشرف وعدمه ، لكن ارتباطي بك يعني الإنفصال الأبدي عن بلدي ، ومن كان مثلي لا يبيع بلاده من أجل زانية .

مزدان: (ثائرة) لقد خدعت نفسك أيها الوغد ، ثم صدقت خداعك لينطلي عليك (بتحد) لقد بعت بلدك منذ ثلاثة أشهر !(ينظر إليها بسخط ، تتابع بهدوء) عندما وضعت يدك في يدي (تمد يدها أمامه باستهزاء) داخل كوخك في ليلة مشؤومة .

ياقوت       : (ثائرا) جنية حقيرة ... تبعتك لألوك أحزاني أمامك وأنت تتلذذين (حزينا وبهدوء) ها أنا أمامك في أقبح صورة . العار يلطخني ، والخيانة تحز قلبي .

مزدان: لا تتبجح بوطنية مزيفة .

ياقوت       : (أشد ثورة) ويلك ... ماذا تقولين ؟

      (تتراجع للخلف خطوة)

مزدان:(بتحد) أقول أنك تبعتني برغبتك .

ياقوت       : لأتركك برغبتي إذن ، وأصحح خطأي الشنيع .

      (تفاجأ ثم تتمالك بسرعة)

مزدان: (بهدوء مُفتعل) هل أفهم أنك ستغادر بلادنا؟

ياقوت       : ( بتحد) وما يجعلني أنتظر أكثر ؟

مزدان: (منفعلة) إعلم إذن أني لن أسهل لك طريق العودة .

ياقوت       : إعلمي أني سوف أعود إلى بلدي ، ولن تمنعني قوة في الوجود من العودة . (ينظر إليها ثم يغادر المكان بعصبية ، ليعود بعد لحظات ، يتناول نايه عن الأرض حيث ألقاها سابقا ، ثم ينصرف) (مزدان تجلس متهالكة تحت أقرب شجرة . يدخل برطوش ، لا تحس به ، يقترب منها ويربت على كتفها)

مزدان: (تلتفت إليه آملة، ثم تصاب بخيبة ) أنت ...؟

برطوش      : ظننتني ذاك الإنسي ، فتى الأحلام ؟

مزدان: برطوش... قلبي لا يتسع لسخرية أحد .

برطوش      : لم آتي للسخرية .

مزدان: ماذا تريد إذن ؟

برطوش      : (جادا) مواساتك .

      (تلتفت إليه باهتمام وتأثر)

برطوش      : جئت أقف إلى جانبك .

مزدان: أنا حقا حزينة يا برطوش.

برطوش      : أعلم .

مزدان: هذا الإنسي لا يحبني ، تصور ..؟

برطوش      : تسرعت واصطحبته معك ... سحبته من بيته وهويائس، حزين، لم تعطيه فرصة ليختار بنفسه ما يريد .

مزدان: تحديت الجميع من أجله ... ها هو يرفض الزواج .

برطوش      : لا أظنك تحلمين بالزواج من إنسي .

مزدان: ليس حلما ...(مترددة) لكني رغبت في تحقيق هذا الغرض .

برطوش      : أنت لا تحبينه كما أنه لا يحبك ... لقد انساق خلفك في لحظة يأس عابرة ... أما أنت فجرفتك المغامرة ، وحب الذات لمعاشرة شخص غريب (يقلد لهجتها) موديل ... تايب ... أليست هذه كلماتك ؟

مزدان: قد تكون محقا ...(مترددة) لكني أوهمته أني جنية تلهمه الألحان فصدق .

برطوش      : حجة واهية ، لقد كان ضعيفا، عاجزا عن اتخاذ قرار ، فتبعك متوهما حياة سهلة ، بلا عقبات؟

مزدان: أتظن هكذا؟

برطوش      : صديقك فتى رقيق الأحاسيس، لكنه ضعيف الإرادة ، قليل الثقة بنفسه وبفنه .

مزدان:(لحظة ثم بحزن) هجرني الجميع .

برطوش      : إلاّ أنا ...

      (تنظر إليه متأثرة)

برطوش      : هيا نبدأ من جديد ... أنا وأنت فقط ، دون أحد سوانا ، ألسنا الجنيين المتفاهمين ؟ أنا أفهم نزواتك جميعها و ... (مرتبكا) لا زلت معجبا بك .

مزدان: أنت صديق مخلص يا برطوش .(تضحك) جني ومخلص ... تصور !

برطوش      : أنا أحبك .

      (تعبس فجأة)

برطوش      : (حزينا) لا زلت تفكرين به إذن .

مزدان: سوف يعود ليطلب مني فك قيده...(ساهمة) هل سيعود حقا ؟

      (يحدجها بنظرة عتاب ، ترتبك)

مزدان: هو ... هو لا يستطيع أن يغادر إلى دياره من غير أن يراني .

      (برطوش يهز رأسه بأسى ، ثم يختفي تاركا المكان)

 

 

 

******

يتبع