كـتـاب ألموقع

ڤيينا: بداية نهاية الاستعمار العثماني لاورپا// سامي مدالو

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

سامي مدالو

 

 ڤيينا: بداية نهاية الاستعمار العثماني لاورپا

سامي مدالو

 

مقدمة

"وقفنا على ابواب ڤيينا". بهذه العبارة يحاول بعض الاتراك الى يومنا هذا التباهي بالماضي المجيد للامبراطورية العثمانية ونسيان واقعهم الحاضر. ان معظم الاتراك المعاصرين يعتبرون القرون الستة للحكم العثماني في الشرق الاوسط والبلقان بمثابة العصر الذهبي للامبراطورية العثمانية والاسلام، حين حكموا عشرات الدول والشعوب: من هنغاريا الى اليمن ومن تونس الى اذربيجان. فهم لا يفهمون مطلقاً، لماذا تعارضهم الشعوب العربية وشعوب البلقان برأيهم هذا. فبدلاً من تعابير العظمة والبهاء، تغضبهم تعابير: "الخطر التركي"، "الوباء التركي"، "الأسلمة القسرية" أو "رجل اورپا المريض"، التي تستعملها عادةً تلك الشعوب التي رضخت مئات السنين تحت وطأة الاستعار العثماني الغاشم.

 

الحصار العثماني لڤيينا عام 1529

 

لا زالت بذاكرتي الحكايات المؤلمة لكبار السن في بلدتي عن حياتهم تحت تعسّف الحكم العثماني الذي كانوا يسمّوه بـ"العصملّي". فخوفاً من التجنيد الاجباري، كان الرجال يختبؤون في حفر ارضية ـ أودت بعضها بسبب الغازات السامة بحياتهم ـ أو يهربون الى الجبال القريبة ويرجعون سرّاً بين الحين والآخر اثناء ظلام الليل. لأنهم كانوا يعرفون جيداً ما الذي سينتظرهم، ان نجحت "جاندرمة" الاتراك بالقبض عليهم وتجنيدهم القسري. وكانوا يعلمون ايضا،ً بأنّهم سَيُرسلون الى مناطق نائية ليحاربوا شعوباً، ربّما لم يسمعوا بأسمها من قبل، وتقديمهم ككبش الفداء أو "كحطب للحرق" كما يقول الالمان، من أجل قضية لا  ناقة لهم فيها ولا جمل.

 

كتب لي أحد الاقرباء من بلدتي، بعد علمه بفكرتي بكتابة هذا البحث مايلي:

حدثني والدي (كان من مواليد 1881) عن الحوادث المؤلمة التي شاهدها ولمسها في الحرب العالمية الاولى (سفر بلك = النفير العام) التي  اشترك فيها كجندي سيق اليها ثلاث مرات. فقال والدي: "كنّا نساق كالعبيد أو كالأغنام مشياً على الاقدام الى تركيا وخارج تركيا، ومن يتعب منا من السير او يتمرض في الطريق، يخرجه الجاويش من الرتل ويطلق عليه عدة طلقات ويتركه على قارعة الطريق جثة هامدة ... ونستمر في السير وكأن شيئاً لم يكن". وذاق الوالد سجونهم والكرانتينة. وقال والدي: "كانوا أمامنا يختارون أشخاصا،ً لا على التعيين، بل اعتباطياً، ويطلقون عليهم الرصاص في ساحة عامة ويقولون هذا جزاء من يهرب، وهم لم يكونوا من الهاربين، بل لغرض تخويف الجنود الآخرين ولسوء حظ اُولئك المساكين الذين وقع عليهم هذا الاختيار الاعتباطي المميت."

 

بدايات الإمبراطورية العثمانية

بدأت الإمبراطورية العثمانية بشكل متواضع كإمارة صغيرة في غرب الأناضول وكواحدة من الدول التي أسسها السلاجقة ـ الذين كانوا آنذاك حكام العالم الإسلامي ـ كسدّ ضد الإمبراطورية البيزنطية. تمكن عثمان غازي الأول (1258-1326)، مؤسس الدولة العثمانية، من انتزاع مدينة بورصة الواقعة في شمال غرب تركيا الحالية من البيزنطيين، مُعلِنها عاصمةً لدولته الحديثة. أما اورخان غازي، ابن عثمان، فتمكن من اخضاع ما يقارب كل غرب الأناضول لحكمه. ولكن الخطأ الذي ارتكبه القيصر البيزنطيني بالسماح لجيش اورخان بعبور مضيق الدردنيل (حوالي 1354)، يعتبر تاريخيّاً من اهم اسباب ازدياد قوة الامبراطورية العثمانية وتوسيع مناطق حكمها، اذ تمكن العثمانيون بعد ذلك من احتلال جميع بلدان البلقان تقريباً، في معارك عديدة ناجحه.

 

السلطان العثماني الشهير سليمان الاول فشل في اقتطاف "التفاح الذهبي"

 

لقد سمح القيصر البيزنطيني لجيش اورخان بعبور مضيق الدردنيل، آملاً بأن العثمانيين سيقضون على الدولة البلغارية التي كانت قد استعادت قوتها من جديد وبدأت تهدد الامبراطورية البيزنطية بطموحها العلني بالتاج البيزنطيني. ان هذا كان خطأً سياسياً جسيماً، ذو أهمية تاريخية هائلة وعواقب خطيرة. اذ أدى الانقسام بين هاتين الدولتين، المتقاربتين ثقافياً واجتماعيّا، في النهاية إلى سقوط كليهما على ايدي العثمانيين. فلو كانتا متّحدَتين لكان بامكانهما بسهولة هزيمة العثمانيين والقضاء على "الخطر التركي" في مهده.

 

فخلال 180 سنة التالية لعبوره مضيق الدردنيل، تمكن الجيش العثماني من احتلال جميع بلدان البلقان تقريباً، التي سقطت مثل قطع الدومينو الواحدة تلو الاخرى: ففي عام 1365 تم احتلال أدريانوپل (أدرنة)/  وصربيا (معركة كوسوڤو) في 1389/ وبلغاريا في 1396/ وكوستانتينوپل (القسطنطينية) في 1453/ واليونان في 1460/ والبوسنة في 1463/ وألبانيا في 1478/ والجبل الأسود في 1498. وأخيراً: في 29 آب 1526 انتصر الجيش العثماني انتصاراً ساحقاً على الجيش المجري ـ البوهيمي في معركة موهاج، مكبّداً اياه 24 ألف قتيلاً، من ضمنهم الملك الهنغاري الشاب لودڤيگ الثاني بعمر يناهز 20 عاماً.

 

الأتراك يحاصرون ڤيينا ـ المرة الاولى

على اثر هذا الانتصار الكبير استطاع السلطان العثماني سليمان الأول ( الملقّب بالقانوني)، احتلال غالبية اراضي هنغاريا وكرواتيا، بحيث امتدت سلطته الى ابواب ڤيينا تقريباً. وهنا بدأت الكارثة لڤيينا، أي ثلاث سنوات قبل الحصار ألأول عليها. كانت ڤيينا آنذاك الحصن المسيحي المهم والاخير في وسط اورپا ومعقل الإمبراطورية الرومانية المقدسة للأمة الألمانية، مشكّلة بذلك عقبة أمام السلطان العثماني في طريقه الى نهر الراين (الواقع في غرب المانيا)، لتكملة الاستيلاء على اورپا المسيحية بكاملها. ولكن ڤيينا، التي سمّاها العثمانيون بـ "التفاح الذهبي"، لم تكن مهيئة قطعاً لصد هجوم لجيش ضخم، فبدت لقمة سائغة وهدفاً يسيراً للعثمانيين، بل وخاسرة للمعركة قبل ظهور قوات العدو أمام اسوارها.

 

ڤيينا اثناء الحصار التركي عام 1529

 

استغرق جيش عثماني جرّار، قوامه 150 ألف عسكري، خمسة اشهر في طريقه من أدرنة الى ڤيينا. وفي بداية ايلول عام 1529 وصلت الطليعة المؤلفة من 20 الف من الخيّالة العثمانية الخفيفة (أقنجي) الى حوض ڤيينا. كان هؤلاء الأقنجية جنوداً غير نظاميين، معظمهم من التتر، بدون راتب او اجور. واجبهم الاساسي وممّولهم الرئيسي  كان السطو والسلب والنهب للحصول على اكبر عدد من الغنائم. والأنكى من ذلك، كانت التجارة بأسرى الحرب من عسكريين ومدنيين وبيعهم كعبيد. بسبب بطشهم وجرائمهم كان الاورپيون يرتعشون بمجرد السماع بقدومهم. بل وحتى الجنود الاتراك النظاميين كانوا ينعتوهم بالمجانين.

 

"المجانين" يقتلون ويستعبدون

اعتقلت أو قتلت خيّالة الاقنجية اكثر من 5000 مدني في محيط ڤيينا، وعاثوا في البلد فساداً. فسجّل مؤرخ تركي حول تلك الأحداث آنذاك:

 

"لقد امتلأ هذا البلد الجميل بالدخّان، وكل ما تبقى من البيوت والقصور كانت مجرد تلال من الرماد. فأحرقت عائلات الكفار ودُمِّرَ بلدهم بالكامل. وأمّا الوجوه الجميلة فتم بيعها في الخيم والأسواق ... ولم تكن للغنائم نهاية. ".

 

ألا تذكّرنا هذه الافعال الاجرامية بما قامت به في عصرنا عصابات داعش المجرمة وامثالها في العراق وسوريا وغيرها من البلدان؟ اذ لم تكن هذه الجرائم مجرد تجاوزات فردية لبعض الوحدات، بل كانت استراتيجية تركية دائمة، غرضها كسر مقاومة العدو نفسيّاً وعسكريّاً من خلال القتل والإرهاب والاغتصاب ضد السكان المدنيين المسالمين.

 

ومن ناحية اخرى، كانت فرق الانكشاريين القوة الفعلية الضاربة وراء نجاحات العثمانيين العسكرية. تلك النخبة من المشاة في الجيش العثماني، التي كانت تُشَكّل من جنود يتم اختطافهم كفتيان من عائلات مسيحية من البلقان. ثم يُفصَلون عن ذويهم وأصولهم ويُرحّلون الى تركيا، حيث يتم غسل عقولهم وتحويلهم قسراً إلى الإسلام. ويُربّون تربية إسلامية صارمة ويُدرّبون على فنون الحرب والقتال لا غير، فلا يسمح لهم بالزواج خلال خدمتهم العسكرية، ويُلقَنوهم بأن اُسرهم هي الفيلق الانكشاري وان السلطان واالدهم.

 

الانكشاريون

 

ان هذا العمل اللاانساني والمنافي للاخلاق والتقاليد، حفر آثاره العميقة في نفسية شعوب البلقان، مشكّلاً بذلك احد الاسباب الرئيسية للمرارة والكره الذي لا تزال تكنّه تلك الشعوب لحد اليوم تجاه الاتراك والمسلمين عامةً. ولا شك ان هذا هو السبب الرئيسي ألآن في رفض تلك الشعوب استقبال لاجئين مسلمين من أي بلد كان.

    

السيف المعقوف والأسلحة النارية

تم بناء حصن ڤيينا فى القرن الثالث عشر، فاقداً بمرور الزمن الكثير من فاعليته، مقارنة بالتطور السريع الحاصل في قوة المدفعية. فلم يبقَ اذن أمام المدافعين عن ڤيينا سوى خياراً واحداً، وهو تحصين جميع بوابات المدينة بالحيطان، باستثناء بوابة واحدة فقط. وفي 25 أيلول وصل الجزء الأكبر من الجيش التركي برئاسة ابراهيم پاشا أمام ابواب ڤيينا. وبوصول السلطان سليمان الاول في اليوم التالي ونصب خيمته في وسط معسكره الضخم، بدت هزيمة ڤيينا مجرد مسألة وقت.   

 

الاّ ان تفوق العثمانيين العسكري، لم يُثنِ سكان ڤيينا من التضحية والدفاع عن مدينتهم ببسالة. فاحتشدوا حول عمدة مدينتهم، في الوقت الذي كان فيه قيصرهم منشغلاً في الحرب ضد فرنسا. ولكن لحسن حظ ڤيينا، كان قائدها العسكري والبالغ من العمر 70 عاماً، رجلاً  متمرساً وذو خبرة عسكرية كبيرة، سبق له ان خاض معارك ناجحة ضد الفرنسيين في ايطاليا. الا ان جيش الدفاع عن ڤيينا كان بحدود 17.000 رجل فقط، متشكلاً من خليط من ميليشيا ومرتزقة.

 

القيصر كارل الخامس كان يحارب ضد فرنسا اثناء الحصار العثماني لڤيينا عام 1529

 

نقطتان سلبيتان ادّتا الى اضعاف الموقف العثماني برغم تفوقه العددي الهائل، اوّلهما: المدفعية العثمانية الثقيلة بقيت عالقة في طرق المجر الموحلة، و300 مدفع متوفر كانت جميعها من العيار الخفيف. والنقطة الثانية كانت سوء تسليح المشاة العثمانيين. فكان فقط فيلق النخبة الانكشارية (20.000 عسكري)، مسلح بسلاح ناري. أمّا بقية المشاة الاتراك فكانوا مسلحين أمّا بالسيف المعقوف او بالقوس والسهم. وبعكس ذلك، كانت غالبية المدافعين عن ڤيينا تملك بندقية.

 

في 29 ايلول نفّذ الانكشاريون هجومهم الأول على البوابة الجنوبية لڤيينا. وهنا تمكن 3.000 من المدافعين عن ڤيينا من الصمود امام الهجوم، منتظرين مجيئ المساعدة، فتم ردّ الاتراك وتكبيّدهم خسائر كبيرة. ولاثبات عدم خوفه من الاتراك، تجرأ احد القادة العسكريين النمساويين بالخروج من السور في الثاني والسابع من تشرين الاول والهجوم المفاجئ على الاتراك بفصيلة من 8.000 شخص، فنشبت معركة طاحنة امام البوابة. ان هذه الافعال الجريئة لم تستطع بالطبع رفع الحصار، الا انها عززت معنويات المدافعين بشكل كبير.

 

الاتراك يجبرون الاسرى بزرع الالغام تحت سور ڤيينا

بالرغم من بدء ظهور تأثير المدفعية التركية شيئاً فشيئاً للعيان، بدأوا بحفر انفاق تحت السور، مسخرين بذلك أسرى بتلغيمها. اخصائيون نمساويون ذو خبرة في المناجم تمكنوا من تعطيل مفعول اكثرها. بعد ظهر يوم 9 تشرين الاول، انفجر اللغم الاول تحت السور. وبين 10 الى 14 تشرين الاول انفجرت 4 الغام اخرى، تمكن الانكشاريون على اثر ذلك من اختراق الجدار المهدم، الاّ ان فصيلة من المدافعين تمكنت في اللحظة الاخيرة من صد الهجوم فاضطروا للهرب.

 

ثلاثة اسابيع مضت منذ بدء الحصار والاتراك لم يحققوا أي انتصار يُذكر. من يستطيع الآن تصديق تلك الارقام الخيالية: 22.000  جمل و 600 سفينة على نهر الدانوب (نعم 22 الف جمل و6 مائة سفينة) كانت تقوم بتمويل العثمانيين بالطعام والذخيرة. الا ان كل هذه المزايا لم تساعد الاتراك في النهاية في احتلال ڤيينا. ففي 14 تشرين الاول تكبد الاتراك خسائر فادحة في هجوم آخر على سور المدينة.

 

بتاريخ 16/17 تشرين الاول، أي بعد 3 اسابيع منذ بدء الحصار على ڤيينا، انسحب الاتراك الفاشلين في احتلالها باتجاه اسطنبول، تاركين وراءهم دماراً وخراباً. فكتب شاهد العيان ومستشار القصر الملكي، پيتر شترن فون لاباخ: "قام الاتراك بقساوة وبلا شفقة بخنق كل الاسرى الالمان امام اسوار المدينة. حيث كان صراخ الاسرى البائسين لايطاق، ما لم تكن قد سمعته ڤيينا قبل ذلك."

 

بعد التأكد من انتهاء الحصار، دقت أجراس الكنائس للمرة الاولى في المدينة المحررة، بعد سكوتها التام لمدة ثلاث اسابيع. فأقيم احتفالاً بقداس الشكر في كاتدرائية القديس اسطيفان.

 

لا شك ان تكرار الفشل في محاولات اقتحام ڤيينا، كان السبب الرئيسي لشكوك السلطان سليمان في نجاح احتلال "التفاح الذهبي"، الذي بدا بعيد المنال وأكبر صعوبة من التوقعات، حيث فقد جيشه 20.000 مقاتلا ذهب هباءاً. أما الاسباب الاخرى للانهاء المفاجئ للحصار فكانت: بطئ وصول الامدادات، مقرونة بسوء الطقس واستمرارهطول الامطار الغزيرة وتساقط الثلوج المبكر قبل موسمها المعتاد.  

 

الفشل الثاني والثالث ـ بداية النهاية

في عام 1683، أي بعد 154 سنة من الحصار الاول، قام جيش تركي، هذه المرة أكبر عدداً وأكثر تهديداً، بحصار ڤيينا للمرة الثانية. الا انهم فشلوا كذلك من اقتحامها (بالرغم من حصارها 56 يوماً). بلدان اورپية عديدة اشتركت في تشكيل جيشاً بتعداد 75.000 مقاتل لنجدة ڤيينا بقيادة الملك الپولندي جان سوبيتسكي، ، فقام بفك الحصار وألحاق الهزيمة بالأتراك.

 

كما فشلوا ايضاً للمرة الثالثة والاخيرة في عام 1716 من احتلال ڤيينا، فلم يستطيعوا هذه المرة حتى من وصولها، حيث تصدت لهم جيوش اورپية اخرى وهم في طريقهم اليها، فألحقت بهم الهزيمة، تاركين وراءهم 20.000 قتيلاً. فاضطروا للتراجع والانهزام باتجاه تركية. فكانت هذه بداية النهاية لسيطرة الاستعمار العثماني على الشعوب الاورپية، الذي لم يجلب لها غير الاستبداد والدمار والتخلف والجهل.