كـتـاب ألموقع

قصة قصيرة: روائح! -//- يوسف أبو الفوز

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

اقرا ايضا للكاتب

قصة قصيرة: روائح!

يوسف أبو الفوز

لم يخطر له انه سيعود اكثر من ثلاثين عاما بمجرد اجتياز الباب ، لكن ذلك حصل ما ان جلس على الكرسي . وجودها كان مفاجأة له . قال له الموظف ان معاملته سحبت من مسؤول كبير للمراجعة والتدقيق واعطاه العنوان للمتابعة . لم تصافحه لكن ابتسامة عريضة افترشت وجهها . رغم امتلاء جسمها قليلا ، الا انها لا تزال جميلة كأنها ابنة العشرين يوم التقاها لاول مرة عند باب الكلية ، شعرها تنثره الريح ، وتحاول لف تنورتها الجامعية القصيرة على ساقيها البضتين . بدت له نظراتها الان صارمة كأنها اعتادتها بحكم عملها ، لاحظ انها لا تزال تهتم بحاجبيها فهما دقيقان كأنهما مرسومان بقلم ، وشفتاها نضرتان تحيطان باسنان ناصعة البياض ، ومكياجها خفيف يتناسب مع حجابها الزهري الذي يحيط بوجه ما زال يحتفظ بكثير من نضارته .

ـ لم تتوقع ان تلقاني هنا ؟!

لم يجب . من اين له ان يعرف انها تعمل هنا ؟ عرف من نبيل انه صار لها شأن ، وان لديها وظيفة رفيعة المستوى . استغرب ان يطلب منه مراجعة هذه الدائرة بالذات ، فما علاقة مستشار المدير العام لشؤون المبيعات بالاوراق التي قدمها كمفصول سياسي لأكمال سنته الدراسية الاخيرة ؟. ألح عليه أصدقاؤه ، وهمست له زوجته بجملة سمعتها ربما من اختها او اخرين :

ـ ان لم يكن لاجلنا فمن اجل أولادنا !

قيل له ان الكثيرين أنجزوا المعاملة وأنهوا دراستهم وباشروا العمل لفترة محدودة ثم طلبوا احالتهم على التقاعد، ما عليه الا توفير المستمسكات المطلوبة وليس من الصعوبة الحصول عليها . تردد كثيرا . لم يشأ ان يقف عند الابواب يستجدي احدا . لكن زوجته ظلت تطن برأسه حتى ترك لندن وسافر وظل يدور بين مدينته الصغيرة وبغداد والاوراق تكبر بين يديه :

ـ عرضا سمعت بوجودك ، من نبيل ، ابن عمي ، كان هنا قبل فترة ، طلب مساعدة في تمرير صفقة تجارية ،  وسألته عن غرض زيارتك ، وحين عرفت طلبت احالت ملفك الي . بصراحة لا علاقة لي مباشرة باجراءات معاملتك ، لكني وددت لقاءك ، لذا طلبت ان يرسلوك الى هنا !

لاحظ ملفه امامها على الطاولة ، ولاحظ مجموعة من الملفات الاخرى . هل طلبتهم لاغراض مشابهة ؟ اخبره نبيل بأن اغتيال زوجها الثاني قبل اربعة اعوام ضمن تصفيات العنف الطائفية ، دفع جهات متنفذة لاسناد وظيفة مهمة لها ، ساعدهم انها كانت مديرة قسم ناجحة في مدينتها الصغيرة فأستدعوها الى بغداد .

ـ هل معك الان صورة لها ؟

بعد كل هذه السنين ، ايعقل ان يكون هذا سؤالها الاول ، الذي تريد ان تعرف جوابه ؟ أستغلت نفوذها لتلتقيه لتوجه اليه هذا السؤال ؟ افتعل عدم الفهم . رغم أنه فهمها جيدا ، فأعادت السؤال مع ابتسامة حاولت ان تكون ودودة :

ـ زوجتك ؟ الديك صورة لها ؟

اخرج حافظة النقود ، واستل منها صورة صغيرة تجمع زوجته وابناءه ووضعها امامها . تأملتها جيدا واعادتها له :

ـ فعلا جميلة مثلما قالوا . قد تستغرب ان يكون هذا سؤالي الاول لك ، لكني اردت ان اعرف ذوقك ، كنت تغالي في ارائك حول صفات شريكة حياتك !

انها تعود به الى تلك السنوات التي لا تعود، حين كانوا طلبة  في الكلية . كانت طالبة مجتهدة . قليلة الاختلاط ، جمالها كان يدفع بعض الطلبة للتقرب اليها . فاجأته يوما في نادي الكلية :

ـ لم لا اسمع  قصصا عن غرامياتك ؟

لم يضحك ولم يندهش، سبقها أيشو واخبره بأنها الحت بالسؤال عنه :

ـ ايعقل ان صاحبك من دون علاقة عاطفية حتى  الان ؟

فقال لها أيشو :

ـ أساليه بنفسك !

يذكر انه يومها قال لها بانزعاج وان حاول ان يكون هادئا :

ـ لست ضد الحب او اقامة علاقة عاطفية ، فأنا بشر أيضا ، لكن اعتقد ان في حياتنا الان ثمة أشياء تستحق مني الاهتمام ألاكثر !

عرف بعلاقتها مع أيشو من ايامها الاولى. كان أيشو  مترددا معها، وحين تصارحا بعواطفهما قررا عدم افشاء علاقتهما إلا لمجموعة مقربة جدا من الاصدقاء :

ـ ان والدها متزمت اجتماعيا ودينيا ، وعلينا أنتظار اشهار العلاقة حتى التخرج من الكلية !

كان معجبا بجرأتها في التقرب الى أيشو، بطريقة لبسها وهدؤها وقلة كلامها . قال له أيشو ، بأنها سخّفت كثيرا من الاختلاف الديني بينهما ، همست له يوم تكشافا بعواطفهما :

ـ أيشو  ... ربنا واحد ونبيّ ونبيك يؤمنان به !

كان الصمت يسود الغرفة الوثيرة ورغم عمل المبردة الكهربائية كان الجو يبدو وخما. على الحائط خلفها ثمة لوحة بآيات قرانية ، وعلى يسارها صورة كبيرة لرجل دين ملتح .  لم يعرفه وخجل ان يسألها عنه. لم يكن من رجال الدين الذين يعرفهم ويرى صورهم في الصحف بأستمرار.  كان في باله ان يسأل نبيل ، كم سنة انتظرت للزواج بعد اغتيال زوجها الثاني ؟ اخبره أيشو أنها صاحت به يوما وهما يعبران الشارع من بين السيارات المسرعة :

ـ انتبه لنفسك ، لا تموت الان، سأرتبط بغيرك فورا، لا يمكن لي ان ابقى من دون رجل !

كان أيشو يخبره بكل ما يدور بينه وبينها . كان معجبا بقابليتها لصنع النكتة وان لم يبد عليها ذلك بين الاخرين . حين علمت بأن أيشو اطلعه على علاقتهما ، سألته يوما وهما يغادران الكلية معا :

ـ أحقا ، ايطلعك أيشو على كل شيء ؟

فقال لها بخبث :

ـ كل شيء !

فتورد وجهها . وهاهي امامه، صارمة الوجه، في عينيها الواسعتين يلوح شيء من حزن ربما لان وجوده اعادها  ووضعها مرة واحدة امام تفاصيل تلك الايام . سعلت قليلا كأنها تريده ان يعود بتفكيره اليها :

ـ ايمكن ان تحكي لي باختصار كيف مات ؟

كان صوتها حياديا ، استفزته صيغة السؤال . لم تذكر اسمه . لم تقل " كيف استشهد ؟ " . اراد ان يترك الغرفة حانقا ،  لكن ابتسامة أيشو  منعته من ذلك . يوما قال له :

ـ الشجاعة ليس في أنك لا تخاف ، بل في كتم وضبط خوفك وغضبك ومشاعرك !

وعليه الان ان يكتم غضبه واحساسه بكونه ليس في المكان المناسب . فرك يديه ببعضهما وقال لها :

ـ كان أيشو بطلا ، نصيرا شجاعا ، عمل ضمن مجموعة مقاتلين انصار شجعان مسؤولين عن نقل السلاح والبريد عبر نهر دجلة من جهة الحدود السورية ، وفي ليلة اثناء عبورهم وقعوا في كمين غادر فقاتلوا حد الاستشهاد . كان لخبر استشهاده وقع شديد على كل من عرفه !

لم يبد عليها وكأنها تسمع بالامر لاول مرة . بدا وكأنها تريد منه ان يكرر لها حكاية الواقعة . تنظر اليه وكأنها تحاول قراءة افكاره . بيدها تدّور قلما من الرصاص ، نظرت اليه :

ـ  كم سنة بقيت في كردستان مع المقاتلين ؟

تنفس براحة انها لم تقل "العصاة" أو "المخربين " ، كما اشاع النظام التسمية عن الثوار المعارضين . كان أبن عمه مفتونا بلقائه وراح يتباهى به أمام جيرانه :

ـ ابن عمي حارب ضد حكم صدام وقضى سنوات طويلة مع المخربين !

قال لها :

ـ بقيت حوالي ثمان سنوات !

ـ وأيشو  ؟!

ـ حتى يوم استشهاده  مر عليه خمس سنوات واربعة شهور !

فواصلت بصوت هاديء بالكاد كان يسمعها :

ـ تركت دراستك الجامعية وانت في الصف المنتهي ، غادرت العراق الى سوريا مع المهربين مخاطرا بحياتك، والتحقت بالمقاتلين لثمان سنوات لتعيش في ظروف قاسية ، ثم عشت سنينا طويلة في الغربة ومصاعبها ، وتركت خلفك اهلك واحبابك ، ثم ... ها انت تزور بلادك مثل سائح ، واخبرني نبيل انك بلا وظيفة ولا تملك بيتا ولا ... الا تشعر بالندم لـ ... ؟

لم تكمل  كلماتها . كانت منفعلة لحد تصور انها ستكسر القلم بيدها . تهدج صوتها عند بعض الكلمات . فهم بأنها لا تحاوره ، بل تحاول محاورة شخصا أخر من خلاله . لم يكن خيارهم سهلا بترك كل شيء . دراستهم والاهل وثم الوطن كله .  كثيرون اضطروا لقطع دراستهم الجامعية والتشرد في الوطن شهورا طويلة وضباع نظام صدام حسين تلاحقهم من شارع لشارع . هو وأيشو تركا الكلية في اسبوع واحد وتنقلا معا متخفين من مكان الى اخر . لحقت بأيشو الى بغداد وبحثت عنه حتى وجدته . حاولت اجباره على العودة الى دراسته في الكلية والتوقيع للجهات الامنية على تعهد خطي بالتخلي عن التزامه السياسي والفكري . فعلها نبيل وعاد الى كليته ليواصل دراسته، ومثله كثيرون. حاولت ان تصل اليه وتلتقيه لاعتقادها ان له تأثيرا لاقناع ايشو، فتهرب من لقائها . عرف انها زارت اهل أيشو في مدينة الموصل . أرسل لها أيشو رسالة اعتذار عن أمكانية لقائها بعد ذلك ، وانقطع عنها ليظهر بعد شهور في بيروت ، ومن هناك دعاها للالتحاق به ، لكن رسالة قصيرة منها وصلته تقول ان اهلها منعوها من التواصل معه وانها تعتقد ان كل شيء انتهى بينهما !

كان ينظر اليها ، جالسة بفخامة خلف مكتبها ، وفي باله كل ماحكاه نبيل عنها وهو يتقصى منه اخبار من بقي من زملائهم ولم تاكله حروب او سجون نظام الديكتاتور صدام حسين . قتل زوجها الاول في اول سنوات الحرب مع ايران فقبضت التعويضات، البيت والسيارة . كان زوجها الاول احد زملائها في الكلية، خطبها قبل التخرج بشهور، وبعد مقتله بسنتين تزوجت من احد اقرباء امها،  بعد ان ارسلت طفلها الى اهل زوجها الاول . بعد اغتيال زوجها الثاني، بأقل من سنتين، ورغم معارضة ابنيها، قبلت ان تكون الزوجة الثانية لسياسي معروف من اصدقاء زوجها الثاني تعلق بها ، وساعدها على ان تتسلم موقعا مهما في الدولة . لديها حاليا بيت في مدينتها ، واخر اكبر في العاصمة ولديها شركة توريدات مواد غذائية من أيران، وابناء عمها يعملون عندها رجال حماية واداريون ومرافقون، وحين ظهرت في التلفزيون مرة كصاحبة شركة ، لم يصدق بأنها هي مريم عبد الله  زميلته التي كانت حبيبة اعز اصدقاءه ، وكانت تمازحه دوما :

ـ احبني صديقك لأن اسمي يذكره بأسم أم نبيهم !

عند ظهورها الاول في التلفزيون ، لم يعرفها أول الامر ، لانها غيرت من لقبها لتنتسب الى عشيرة زوجها، في أحاديثها التلفزيونية كانت دائما متفائلة بأن مستقبلا باهرا ينتظر المرأة العراقية ويضمن لها حقوقها. هاهي أمامه تجلس ، تحاول كتم انفعالها وهي تحك جروحها عبر حديثها معه.  فكر ان يقول لها بشكل هاديء :

ـ يا اخت مريم ... كل انسان له خياراته الخاصة به ، فلم الندم مني او من غيري من امثالنا . لم يجبرنا احد على خياراتنا . هي مواقفنا ونحن مسؤولين عنها. أيشو قدم حياته ونحن قدمنا أجمل سنوات عمرنا من اجل قضية نؤمن بها .

لكنه فكر بأن كلامه سيبدو لها شعارات حماسية ودروسا ايدلوجية نظرية . حاول ان يكون اكثر هدوء اذ قال لها :

ـ باختصار لم ننتظر يوما ثمنا أو مكافأة لخياراتنا ومواقفنا . ان البيت والوظيفة وغيرها ، يمكن الحصول عليها باشكال مختلفة ، لكن الـ ...

بدا له انها احرجت ، اذ طافت بسمة قلقة على شفتيها. ارادت ان تقول شيئا لكنها ترددت، واطلقت ضحكة باهتة وقاطعت كلامه :

ـ يبدو انك ما زلت مثلما كان يقول عنك انك جريء ومباشر!

انتبه الا انها تعني أيشو بكلامها ولكنها طيلة وجوده معها لم تذكر اسمه. كأنها تخاف الأسم .  نهضت من خلف مكتبها فنهض ايضا :

ـ طلبت ملفك لاني وددت فقط لقاءك وارى ان كان يمكن مساعدتك ، ملفك  فيه نواقص كثيرة يجب استكمالها، اني هنا لست اريد لومك او ... !

عبر المكتب مدت يدها له بملفه، حين اقترب منها، شم عطرها النفاذ. في تلك الايام البعيدة ، كانت تكره العطور القوية وتلوم علنا البنات من معارفها. أيشو اخبره بأنها كانت تقول لهن مباشرة كلاما خشنا واحيانا فاحشا :

ـ أنت ذاهبة الى قاعة الدرس أم الى سرير النوم ؟

كان عطرها الهادىء الخفيف من الاشياء التي كانت تعجب أيشو فيها ، ولطالما تغزل بذلك . خشي ان تمد يدها لمصافحته ، لكنها لم تفعل ، فشعر بالارتياح ، قبل ان يغادر الغرفة التفت لها :

ـ كان أيشو  حتى الايام الاخيرة ، يذكرك بخير ويعتبرك حبه الكبير، حتى أنه لفترة في بيروت سمى نفسه "أبو مريم " !

أمتقع وجهها ، تهدل كتفيها وانهدت على كرسيها، كأن شيء ما دفعها بقوة . ارتجفت شفتيها وساحت دموعها غصبا عنها وسال معها الكحل الكثيف من عينيها الواسعتين. حين اغلق الباب خلفه خيل له انه سمع نشجيها. صار في الشارع ، مشي قليلا متفكرا بكل ما دار في اللقاء. قيل له يمكن ان يحصل على تاكسي في طرف الشارع .  عبر كوما هائلا من الأزبال، تنبعث منه روائح عفنة،  فتعجب كيف لا يتم ازالته وهو بهذا القرب من مكان موقع رسمي مهم؟ لاحظ ذيل قط ميت فعرف سبب الرائحة . شعر بالغثيان . لمح تاكسيا من بعيد فرفع يده ، قبل ان يتوجه الى التاكسي رمى بالملف الذي بين يديه الى حيث القط  الميت !

29  تموز 2012

هلسنكي

*       النص من مخطوط "بعيداُ عن البنادق " معد للنشر

*  *   نشرت في الثقافة الجديدة العدد المزدوج 357ـ 358