كـتـاب ألموقع

يوميات حسين الاعظمي (111)- رؤية منير العصرية / 3

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

حسين الاعظمي

 يوميات حسين الاعظمي (111)

 

رؤية منير العصرية / 3

      درس آخر من الدروس التربوية التي نبهنا عليها استاذنا الراحل منير بشير، الذي يكاد يكون من اهم الدروس التربوية للفنان امام جماهيره ومحبيه ، درس يتسم بذروة الاخلاق والتربية واحترام الآخرين، درس تعلمتُ من خلاله على مفهوم عملي كان الموسيقار منير بشير يذكرنا به دائما، هو الاعتماد على النفس ذاتيا في بناء الاعمال الفنية ولا نعتمد على الغير او على الحالات الجاهزة ، ليكون بعدئذ البناء السليم والصلب للاعمال الفنية وللاسم والشهرة الحقيقية بين الاوساط الجماهيرية.

 

       في احدى الحفلات الدورية لفرقتنا (فرقة التراث الموسيقي العراقي) في قاعة الخلد ببغداد عام 1976، كنا على موعد محدد لاقامة هذه الامسية. وكان نصاب اعضاء الفرقة معروفا ومكوَّناً من المطربة الشهيرة مائدة نزهت وأنا وصلاح عبد الغفور وفرقة الايقاعات العراقية، فضلا عن وجود استاذنا الموسيقار منير بشير. بصورة عامة بالنسبة للغناء، كانت المطربة مائدة نزهت مشهورة ومعروفة بشكل واسع بين الجماهير. وكنت انا وصلاح عبد الغفور في بداية مشوارنا وشهرتنا نحاول ان نبني لنا مستقبلا فنيا مرضيا، وكذلك الامر لبقية اعضاء الفرقة من الموسيقيين وفرقة الايقاعات العراقية رغم شهرة قائدها سامي عبد الاحد.

 

      لابد ان نذكر شيئا مهما بالنسبة لاقامة مثل هذه الاماسي التي نقيمها داخل بلدنا العراق. فقد كان الاستاذ منير بشير كمدير عام للدائرة التي ننتمي اليها (دائرة الفنون الموسيقية) المسؤولة اداريا ورسميا عن فرقة التراث بصورة مباشرة . كان لايعمل على اعلان او نشر اي خبر لموعد اقامة حفلاتنا..! وفي حينها كانت الاسباب مجهولة بالنسبة لنا، وكانت هذه هي معاناتنا الدائمة في هذا الامر. وعليه كانت اغلب حفلاتنا لا يحضرها جمهور كثير، سوى بعض المعارف والاصدقاء او من عوائل الزملاء الفنانين وهو اغرب ما في الامر..! ربما كان يخشى من زيادة معرفة الناس والجماهير بنا ونمسي فنانين معروفين قد يؤدي بنا هذا الامر الى ترك الفرقة والعمل في مؤسسات فنية او مجالات اوسع فيها اتاحة فرص اوفر من دائرة منير بشير في بناء الاسم والشهرة..! خاصة ونحن شبابا يافعين نطمح بقوة نحو الشهرة وبناء التاريخ الشخصي. بدليل ان صلاح عبد الغفور عندما غنى اغنية حلوة يلبغدادية التي اخذت مجالا جيدا في شهرته كمطرب ، استغنى عنه الموسيقار منير بشير وقال له. انك اصبحت مغنيا حديثا لا تلائم اهداف فرقة التراث الموسيقي العراقي. وانتقل صلاح الى المؤسسة العامة للاذاعة والتلفزيون. على كل حال، ان لهذا الامر حديث كثير لسنا بصدده الان..!

 

      نعود الى حفلتنا المقررة في قاعة الخلد، فقد حضر جميع اعضاء الفرقة الى قاعة الخلد مبكرا وعلى الموعد استعدادا لاقامة امسيتنا الدورية، وقد كان حاضرا الفنان الكبير وديع خوندة المعروف باسمه الفني (سمير بغدادي) الذي جاء مصطحبا زوجته الفنانة مائدة نزهت، وفي هذه الاثناء ارتدينا جميعا الملابس الشعبية الخاصة بعروضنا الفنية كالعادة. وبقينا ننتظر الجمهور وساعة البدء..! مضى معظم الوقت ولم يحضر اي شخص من الجمهور..! سوى حضور حارس القاعة وهو الموظف فيها اساسا، مصطحبا معه عائلته، زوجته واولاده فقط..! وهو الوحيد الذي يعرف باقامة هذه الامسية..! خاصة وقد علمت عائلته بوجود المطربة الشهيرة مائدة نزهت ضمن فقرات الامسية، وعليه جاء بعائلته الى القاعة..!

      اقتربت الساعة كثيرا من الساعة الثامنة مساء، ولم يبقى سوى دقائق معدودات لموعد البدء بالامسية، ولكن لم يحضر احدا..! فعكفنا جميعا الى غرفة الملابس لنخلع الملابس الشعبية ونرتدي ملابسنا الاعتيادية ايذانا بالغاء الامسية لعدم حضور الجمهور..!

      في هذه اللحظات ظهرت عبقرية منير بشير، فقد صاح بنا صيحة مدوية ادهشتنا وفاجئتنا.

-    ماذا انتم فاعلون..؟ ولماذا تذهبون الى غرفة الملابس..!؟

-    استاذ منير، الساعة الان هي الثامنة الا دقائق قليلة ولم يحضر ايَّاً من الجمهور فلمن نغني..؟

-    الجمهور موجود امامكم ..!

      قال ذلك بحدة وهو يشير الى الحارس وعائلته واسترسل يقول مكملا كلامه.

-    أليس هذا الرجل موجودا مع عائلته، هل تستصغرون الناس وتتكابرون عليهم..! ماذا يقول لزوجته واولاده، وما هو ذنبهم في الموضوع، هل يعودون الى بيتهم بسبب قلة الجمهور الحاضر..؟ ما علاقتهم بهذا الموضوع..!؟ من العار علينا جميعا ان لا نحترم هذه العائلة الحاضرة التي قَـدِمتْ من بيتها لتستمع وتتمتع بعروضنا..! هيا استعدوا لاداء فقرات الامسية. وساصعد على المسرح قبلكم لافتتح هذه الامسية اكراما لهذه العائلة الحاضرة.

 

      بقينا كلنا ينظر احدنا الى الاخر بدهشة واستغراب من كلام استاذنا الموسيقار منير بشير الذي اقنعنا كلامه كما يبدو. بل اخجلنا جميعا، بعد اعطانا درسا لم ولن ننساه حتى اليوم..! وعادت نفوسنا تتهيأ لاداء فقراتنا في هذه الامسية، والمثير في الامر بعد ان اقمنا الامسية، ان الامسية كانت واحدة من اجمل الاماسي التي اقمناها في بغداد..! عزف منير بشير منفردا، وغنت مائدة نزهت، وغنيت انا، وغنى صلاح عبد الغفور، وادت فرقة الايقاعات العراقية بقيادة سامي عبد الاحد فقرتها، اضافة الى كل ذلك فقد سجلت الامسية كلها بواسطة اشهر مخرج اذاعي عراقي هو سعد محمود حكمت الذي كان مؤسسا ومشرفا على الاستوديو الاذاعي الموجود في دائرتنا..!

      واقع الحال، كانت هذه الامسية درسا عظيما في التربية والاحترام، وسرعان ما حضرني وما زال يحضرني القول العربي الشهير (لكلِ قادمٍ كرامة) . ومن هذه التجربة الاخلاقية في هذه الامسية من عام 1976 انتبهت الى هذا الدرس التربوي والاخلاقي، وسرت على هديه حتى يوم الناس هذا، ومن خلاله الاعتماد على النفس في بناء المستقبل الفني وليس الاعتماد على الحالات الجاهزة التي بناها غيرك، ربما لا تعرف خفاياها وطريقة بنائها وهو ارجح الظن، وفعلا استفدت كثيرا جدا من هذه التجربة التربوية خلال مسيرتي الفنية التي مضى عليها اكثر من خمسة واربعين عاما. رحم الله المتوفين واطال في اعمار الباقين انه سميع مجيب الدعاء. 

 

وللتاريخ اثر عميق

اضغط على الرابط

https://www.youtube.com/watch?v=lB7swpexKeA

منير مع الايقاعات

https://www.youtube.com/watch?v=0ALp0obwd0U

فرقة الايقاعات

https://www.youtube.com/watch?v=BrzRbKCj7gM