كـتـاب ألموقع

• مذكرات مترجم : الحلقة الأولى

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

حبيب محمد تقي

مذكرات مترجم : الحلقة الأولى

 

تجربتي مع طالبي اللجوء والمقيمين العراقيين و العرب في مملكة السويد .

*  سلسلة حلقات*

 

* توطئة *

 

أهمية وضرورة تدوين ونشر المذكرات والسير الذاتية ، على أختلاف وتنوع الأشخاص الذين يكتبونها وينشرونها . سواء كانوا رجالات دين أو دولة أوسياسة أو أدباء أوشعراء أو فنانيين أو مهنيين . تكتسب أهميتها وضرورتها ، من كونها أي تلك النتاجات . تنقل وبأمانة ، خبرات وتجارب ومعارف أنسانية مفيدة ، على أختلاف أوزانها وأحجامها وتنوع مضامينها. وضمن حراك زماني ومكاني يساعدنا على ، فهم أدق وأشمل . وعلى تفعيل وتقويم تجاربنا ومعارفنا لما يحدث اليوم بمقياس ما حدث في الأمس . والشئ نفسه ينطبق على السير الذاتية لأناس وأشخاص عاديون وبسطاء تماماً . فكتابة السير الذاتية ليست قطعاً ، حكراً على الزعماء والقادة والمشاهير . بل يتعاطاها الجميع ، أياً كان موقعه في الحياة . المهم والأهم ، أن كاتب السيرة هذا أو ذاك ، يجد في ثنايا تجربته دروساً وعبراً ، يمكن ان تكون سبيلاً للمنفعة العامة والفائدة المرجوة للوصول والتواصل مع الأجيال . وأنطلاقاً من هذه الحيثية تحديداَ ، تبرز أهمية تدوين ونشر المذكرات والسير الذاتية بشكل عام .

 

أما عن تجربتي بشكل خاص ، و التي أزيح ستار الخصوصية عنها الآن ، فأجدها حافلة وغنية بالأحداث العامة التي تخطت حدودها الشخصانية ، وثرية بتفاصيلها الحياتية التي لامست وجدان وضمير وعقل وثقافات وتطلعات وسلوك ومزاج وأحاسيس ومشاعر ومآسي الآف ، ليس فقط من أبناء جلدتي من العراقيين . بل ومن العرب المغتربين ( المهجرين والمهاجرين ) ، ومن شتى الأصقاع والأنتماءات والهويات والجنسيات . وتزامنت مع أحداث ومنعطفات دولية هامة ، هزت العالم برمته وأهتزَّ لها. سواء ما قبل سقوط برجي التجارة العالمي في نيويورك ( رمز الأمبريالية الرأسمالية ) . في الحادي عشر من سبتمبر ، أوما تلاه من أحتدام وتصاعد وتيرة الصراعات والحروب الأقليمية والدولية ، الأستباقية منها والتقليدية وفي مناطق عديدة من العالم المحكوم وللأسف بمنطق الأقوى وليس الأصلح ، حتى يومنا هذا . فثراء وغنى تلك التجربة والملامسة والمعايشة الحية على الطبيعة ودون تزويق . والتي أتاحتها ليَّ مهنة الترجمة ، طيلة عقد من الزمن . أٌدين لها بالعرفان والجميل ، لما أضافته ليَّ من أستزادة معرفية وموسوعية عملية وحية . فكانت هي الهاجس و المحرك والدافع الأساس ،الذي دعاني وبألحاح لاحقاً ، الى كتابة ونشر هذه المذكرات ، والتي هي بين أيدكم وأمام أعينكم الآن .

 

للمهنة ( أيّ مهنة ) ، أثر فعلي وتفاعلي في داخل أيًّ منا.. ولا يشعر بتأثيرات هذا الفعل وتفاعلاته المنغرسة فينا ، وبتأثيره الكبير في حياتنا وبهذا الكم أو ذاك . إلاَ إذا مارس المرء وبنفسه وجرب التنقل بين بعض المهن ،التي تتميز كل منها بخصوصيتها وبهالتها ونكهتها التي تتفرد بها . و بغض النظر عن المفاضلة من حيث الأهمية والأفضلية بين عمل مهني وأخر. نجد البعض من المهن التي تتغلغل برواسبها بالذاكرة ولاتفارقها مطلقاً . سواء ذكريات هذه المهنة أو تلك.. فالذكريات المهنية الثرية بمثابة حفر ضارب الأعماق في الذاكرة خالدة فيها..

والمنخرطون في العمل السياسي المعارض للسلطات البوليسية والقمعية في بلدانهم ، هم أكثر الناس غنى و تجربة في مزاولة أعمال مهنية مختلفة ومتنوعة . بحكم الملاحقة والمطاردة والتخفي عن أنظار الكلاب البوليسية لهم ، والتي تلاحقهم ، جراء أنشطتهم المعارضة للسلطة و أدواتها المتجبرة . فيضطروا صاغرين أم راغبين الى مزاولة مهن في الغالب تكون خارج نطاق مؤهلاتهم . من أجل بقائهم على قيد الموت المؤجل .

 

وبحكم قدري ، الذي أنجبني من أسرة ، كبيرها وصغيرها ، كرس جل طاقاته وأوقاته وأمكانته وتفاصيل حياته وراهن بمستقبله ، في أمتهان العمل الحزبي المعارض . رافضاً التسليم بأمر الواقع . متطلعاَ وساعياً للتغيير وأحقاق ميزان الحق والعدل المفقود . أنخرطت مبكراً ، كأقراني من أفراد أسرتي ، في هذا المنحى الذي أطرَّ منهج حياتي ومستقبلي لأحقاَ .

 

وبفعل الأنتكاسة الكارثية التي لحقت بالقوى السياسية المعارضة على يد السلطة العراقية أنذاك في آواخر السبعينات . والتي نجم عنها ، فرار ونزوح قيادات المعارضة العراقية وبالجملة . اليسارية منها والدينية والقومية ، على حد سواء . عن ساحة العمل الميداني الطبيعي في الحاضنة العراقية . ونقل قيادتها وقرارها السياسي الى خارج حدود العراق . ليستقر في الحاضنة الاقليمية والدولية المتربصة بالعراق سوءاً . وبهذه الخطوة والغير مسبوقبة في سجلات التاريخ النضالي الطويل للمعارضة العراقية . فكانت سابقة مشؤمة و خطيرة ، ارتكبت بها خطأً إسستراتيجيا كارثيا . ليس على صعيد مستقبلها كقائد للمعارضة فحسب بل وعلى صعيد مستقبل شعبها الذي يعاني حتى لحظة كتابة هذه السطور ، من اثار وتداعيات تلك السياسات الكارثية المؤلمة والباهضة . وللأسف يدفع هذا الشعب الذي ابتلا بها ثمن مكلف . جراء إنزلاق هذه القيادات عن مسارها . فبمجرد تعرضها ( إي تلك القيادات الهزيلة ) ، لضغوطات وملاحقات مبيتة ، ذكية وشيطانية . مصدرها النظام . إذ كان يهدف ويسعى ذلك النظام من وراء ممارساته وحملاته القمعية تلك ، الى عزل تلك القيادات عن حاضنتها الجماهيرية . ولم يقدم على تصفيتها فرادا . إذ كان بمقدور النظام انذاك فعل ذلك بكل يسر . فهية اي قيادات المعارضة تلك كانت على مرئا منه . يرصد خطواتها وتحركاتها ويُقيمْ ردود افعالها الهزيلة . فوجد النظام انذاك اعتقال تلك القيادات وتصفيتها جسديا لايخدم مصلحته ولا يحقق الغرض الذي ينشده . فغض الطرف عن تسللها وفرارها الى خارج العراق . لتقع في فخ الحاضن الاقليمي والدولي سئ الصيت . عن قصد بغية ان تفقد مصداقيتها وتنفض عنها شعبيتها . حتى يتسنى له اي ذلك النظام ، من تحقيق ما كان يصبوا ويتكتك اليه . في الانفراد بالسلطة ودون منافس واحتكارها المطلق لنفسه ودون مشاركة وأن كانت هامشية من أحد . أن سقوط تلك القيادات المعارضة ، في شِرك الحاضن الأقليمي والدولي آنذاك . هو الذي شرّعَ وأسسَّ لاحقاً ، الى التشرذم الأثني والطائفي والحزبي والذي يتجلى اليوم وبأشع صوره ، في النظام ( الشللي المحاصصاتي الكريه ) . والمستوحى أساساَ نظرياً وتطبيقياٍ ، من المبدأ الأنكلوسكسوني الاستعماري الأستيطاني القديم ( فرق تسد ) . والذي بات من الصعوبة بمكان تجاوزه ، و على المدى المنظور .

 

وحتى بعد نضج العوامل الذاتية ، الضاغطة والدافعة بأتجاه خوض تجربة الكفاح المسلح للدفاع عن النفس ، و لصد الهجمة المسعورة للنظام ، والتي بذلت من أجلها القواعد الجماهيرية والحزبية العراقية المعارضة ، الغالي والنفيس من سيل المعانات والتضحيات . الأ أن تلك التجربة ولدت ميتة وللأسف . أذ رهنت قيادات المعارضة العراقية ( النفعية وضيقت الأفق ) ، تلك التجربة المنشودة من قبل قواعدها الضاغطة ، رهنتها وسلمت مقدراتها ، بيد الطامع الأقليمي والدولي . بدل من الأعتماد والأتكال على القاعدة الحزبية والجماهيرية محلياً ، تلك الجماهير ، التي أثبتت قدرتها العالية على البذل والعطاء والتضحية . وأكدت تطور الأحداث لاحقاً ، عدم آهلية القيادة وعجزها الصارخ في التحكم والسيطرة ، ببوصلة قيادة النضال الوطني التحرري ، نحو أهدافه الوطنية وبصناعة محلية خالصة .

 

تلك التجربة المريرة و التي ( ولدت ميتة ) في الكفاح المسلح للمعارضة العراقية في أواخر السبعينات . والتي كان ليَّ شرف الأسهام بها أسهاماً ميدانيا ، وعلى مدار ثلاث أعوام والتي كادت أن تطيح بحياتي . لها الفضل في تنضيج قرار مصيري ، متأني ومتأتي من أجمالي حصيلة التجربة الحزبية التي عايشتها ومررت بها ، طيلت سنوات أحترافي للعمل الحزبي . وتجسد قراري التاريخي على الصعيد الشخصي بأعتزال النشاط و العمل الحزبي نهائياً ، وكان ذلك تحديداً في عام ١٩٨٢ . مع الأستمرار في النشاط السياسي الفردي و المستقل والمعارض ، سواء للسلطة العراقية القائمة آنذاك أو للأحزاب المشلولة والمرتهنة بالخارج .

 

فمنذ عام ( ١٩٨٢ ) هذا التاريخ الأقرب الى قلبي وعقلي . والذي عودت نفسي حتى هذه اللحظة الأحتفاء به ، في كل عام تمر ذكراه . معتبراً إياه عام الأنعتاق من الأغلال والقيود ، الثقيلة والخانقة ، والمكبلة لملكاتي و لقدراتي وأمكانياتي وعطاءاتي . والذي تتوج ببلوغ تجربتي في العمل الحزبي ، مبلغ النضج و الكمال ، وبفضل هذا النضج ، أمتلكت زمام المبادرة ، في أجرء وأرجح وأعقل القرارات المصيرية على المستوى الشخصي . فكان خياري ، في الأستمرار بمزاولة الأنشطة والفعاليات السياسية ، بما يكفل ويضمن الحفاظ على نصاعة تاريخي وتاريخ أسرتي النضالي المشرق . المهم والأهم بالنسبة ليَّ ، أن تكون هذه الأستمرارية ، في تسجيل هذا الموقف أو ذاك ، أو في هذا النشاط أو ذاك بعيدة كل البعد عن التخندق والتحيزالحزبي الضيق .

فكنت السباق من بين أقراني سواء من أفراد آسرتي الذين أفتخر بهم وببطولاتهم وتضحياتهم ومواقفهم المشرفة . و من الأصدقاء الكثر والمقربين من تطلعاتي ومواقفي . في البحث والتقصي عن ملاذ آمن . يحفظ بقائي على قيد الحياة ، والعيش بحرية وكرامة . ودون وصايا من أحد . خصوصاً ( وصاية قيادة المعارضة العراقية المذلة ) ، التي سقت المر والحنظل للمئات من المناضلين والشرفاء . فكان مجرد التفكير بدول الجوار المحيطة بأهلي وشعبي في العراق ، لأن تكون ملاذي الآمن ، أمراً مستحيلاً . في ظل وجود ( المافيات التابعة لقيادة المعارضة العراقية ) ، والتي يعرف القاصي والداني ، أساليبها الرخيصة والمذلة ، في فرض الوصايا . ونفس تلك ( المافيات المأجورة ) ، كانت تروج لمفاهيم السقوط السياسي ، في حال اللجوء الى دول الغرب المانحة للجوء . للحد من ظاهرة التململ والتسرب والتشظي بين جمهورها وقواعدها ، والتي بدأت تفكر جديا ً بمصائرها ، في ظل الوصايا المجحفة للقيادة ، والتي لايهمها من أمر قواعدها ، سوى سبل الحفاظ على مواقعها وكراسيها السلطوية المتجبرة من فراغ . فتبلور قراري آواسط عام ١٩٨٧ ، بالسفر الى المملكة السويدية ، سعياً للملاذ الآمن والعيش بحرية وكرامة فيها . فكانت السويد وما تزال بالنسبة ليَّ لآلاف غيري ممن تقطعت بهم السبل ، برداً وسلام .

 

للموضوع تتمة ، تأتيكم في الحلقة الثانية