كـتـاب ألموقع

اوراق متناثرة 1: يوم تعرفت على "البؤساء"

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

عماد خليل بله

مساهمات اخرى للكاتب

  اوراق متناثرة 1: يوم تعرفت على "البؤساء"

 

      رن الجرس فأخذ طلاب المدرسة يدخلون صفوف الدرس وهم فرحون، فقد حل وقت الدرس الاخير لذاك الخميس من شهر ايلول 1965، وليلة اليوم يُمكنهم مشاهدة الفلم العربي الذي يعرضه التلفاز العراقي ، الاهل لايمانعون فالجمعة يوم الغد ولا يوجد دوام مدرسي. جلس طلاب الاول متوسط (ب) في متوسطة بابل  للبنين في مدينة الحلة على مقاعدهم، في القاعة الاخيرة على يسار قوس بناء المدرسة اذ تدخل من بابها الرئيسي، ينتظرون الاستاذ احسان مدرس مادة التأريخ. قاعة الدرس بلا اصوات تكسر صمتها وكأن فوه الحضور قد خيطت بحكمة خشية من عقاب ينزله بهم الاستاذ احسان، و ( كافور الاخشيدي) كما يُعرفْ لقسوة تعامله. ذات مرة جاء الاخشيدي مسرعا وقد تأخر عن حضور الدرس لدقائق، وألتهبت اعصابه من سماع اصوات تضج في الصف، فتوجه مباشرة ليفرض الهدوء ،وكأن شلة شرطة مرتبكة تقتحم تظاهرة للطلبة ، هجم الاستاذ ، وهرب من معاقبة الطلبة المشاكسين أنزل اليَ كفه ليِلَوِن خدي بالاحمر القاتم، وانا أجلس هاديئا بمكاني لا مشاركة لي في صناعة الضوضاء. في الوصف السياسي له، قال الطلاب ان الاستاذ احسان شيوعيا، وهذا غريب فلقد ترك مدرسون شيوعيون اخرون أثرا ايجابيا بين الطلاب حبب لهم الشيوعية، ولم يشاركه القسوة وسرعة الغضب الا مدرس العلوم الاستاذ طالب عجيل ، وقيل عنه شيوعيا. " متى ينتهي هذا الدرس الاخير" قال طالب يجلس خلفي بعد ان مرت عشرة دقائق غير معتادة على غياب المدرس. انكسر هدوء الصف وتحولت همسات الطلاب الى صخب دفع مدير المدرسة الاستاذ عبد الرزاق علوش الى القدوم بنفسه. الطلاب يحترمون بحب مديرهم لتعامله الابوي ، فما ان لمحه قادما الجالسون على المقاعد الاولى حتى اطلقوا اشارة أحلت سكينة في الصف. دخل الاستاذ عبد الرزاق الى غرفة الدرس وبكل الطيبة في وجهه وصوته الهاديء أخبرَ بان الاستاذ احسان سيتأخر لظرف طاريء ، وأمر " أجلسوا باماكنكم دون ضوضاء ، وليقرأ كل في كتاب التأريخ ،لا اريد صوتا يؤثر على بقية الصفوف "، وأضاف " حسين"  حين اشار الى حسين عبيد السلمان مراقب الصف " سجل اسماء من يحدث صوتا عاليا" وخرج.

    لزمت مكاني واخرجت كتاب ودفتر مادة الجبر، وانشغلت بحل المسائل المطلوبة ليوم السبت القادم.  مقعد جلوسي كائن قبل الاخير في الدور الوسط ، وخلفي جلس ثلاثة طلبة يعيدون السنة الدراسية. طلاب اسماءهم لاتُنسَ. أولهم سامي كاظم خصباك ترك المدرسة بعد نهاية تلك السنة الدراسية وتحول الى رجل صناعة بتأسيسه معملا للنسيج، والاخران تخلصا من الدراسة ليصبحا شرطيي أمن ، خَبرَ أهل الحلة فيهما قساوة اضطهاد حلفاء ومعارضي سلطة البعث القادمة. أسكن مع أحدهما نفس المحلة هو سلمان حسوني العميدي، فهو ابن محلتي الكَلج ( كاف اعجمية وتلفض مثل ج الانكليزية).  في الصغر و حين كان فتيان وصبيان وشباب محلتي الكَلج والوردية يطفؤون لهيب الصيف بقضاء ساعات يلعبون وسط مياه شط الحلة ، كان سلمان من أمهر السباحين، وموهوبا بامتلاك أجمل قفزة ( زرك) الى الشط من فوق سور الجسر الصغير. يتطلع الصبية بأعجاب اليه وهو يهبط في الفضاء بين الجسر وسطح الماء كطائر مفرود الجناحين ، محلقا في المسافة الممتدة طويلا بين سور الجسر و سطح الماء المنخفض صيفا، ليدق السطح بتحدي ويغوص حتى يلامس راسه قاع النهر، وليطلع منتفضا من تحت المياه يمص شفته المشرومة ويبصق في الماء، وهو يعصر شعره بكلتا يديه متخلصا من الماء العالق به،وسط اعجاب امثالي ممن يخاف هذه القفزة.  شرطي الامن سلمان حسوني تميز بالشراسة وعدم الرحمة، ليتوارى بعد سقوط النظام القمعي للبعث عاملا في شرطة قضاء المسيب متسترا بنسبه العلوي، وليس مستغربا أن تجده حكومات العراق الديمقراطي واحدا من ضحايا النظام الذي خدمه. وثالث زملائي في المقعد الخلفي لم يواصل عمله في جهاز الامن وبات واجهة بعثية استفزازية بعد ان ظهرت موهبته في كتابة الشعر الشعبي ، انه فلاح عسكر المُعرف بشاعر الحزب والثورة. لم تتمكن قريحته الشعرية من نزع واقع شرطي الامن بداخله، فاثناء التجمعات الجماهيرية لتبرير تأسيس الجبهة الوطنية أُقيم حفل خطابي وشعري في ساحة نادي الفيحاء الرياضي، الذي كان موقعه على جرف النهر بجانب مقر الانضباط العسكرية في الصوب الصغير من المدينة. متحدثا الى الحضور تكلم عن  الحزب الشيوعي الاستاذ عامر عبد الله ، وعن حزب البعث القى الاستاذ نعيم حداد كلمة، وأُعطي المكرفون لفلاح عسكر ليلقي قصيدة احتفالية بالمناسبة ، هتف بأبياتها ليقول في شطر الختام منها  وهو يرفع كلتا يديه ملوحا " والمايحب البعث مانريده" ، فحل الجمود على المستمعين من الشيوعيين وانصارهم، وحتى بعثيين، واخذ عامر عبد الله يطلق دخان سكائره متواصلة كدخان يخرج من انبوبة العادم لسيارة ديزل تعاني مشكلة في علبة الاحتراق الداخلي ويصر السائق الجاهل على الضغط بشدة على دواسة الوقود ، وهو مافعله بالامس في التجمع داخل قاعة احتفالات مديرية التربية اثناء صخب الحضور بهتاف ( عشت يابعث يقائد الامة)، ولولا أني رايت الدخان يتسرب من بين اصابع يده المكورة على فمه لظننت أن الدخان تسرب الى القاعة من منقلة كببجي . وضحك نعيم حداد ليقطع الحال المكهرب ويكسر الجمود ، ونهض نحو فلاح عسكر وهمس في أذنه ، ليعود فلاح يقرب المكرفون من فمه ثانية ، وليصرخ بنغم حاد يَشهدُ على عدم قناعة ،وكمن أُجبرَ " المايحب الجبهة مانريده".

   فلاح عسكر من ابناء محلة الوردية المجاورة لمحلة الكَلج وتشكلان مع محلة كَريطعة كيان الصوب الصغير من مدينة الحلة قبل التوسع، وعسكر رجل بسيط يعمل وابنه الكبير حامد ، الطالب الفاشل في متوسطة بابل، كعاملين في الصيدلية الهاشمية لصاحبتها الصيدلانية لميعة الجبوري ، هكذا تقول اليافطة فوق مدخل  الصيدلية، ولو دلفت الى داخلها لشراء دواء تواجه وجها باسما لسيدة سافرة انيقة ذات شعر اسود طويل شُكل بتسريحة ذاك الزمن وربما هي تُذكر بتسريحة لليزابيث تايلور نجمة هولييود في احد افلامها، تجلس الصيدلانية بصدريتها البيضاء خلف منضدة تتوسط الصيدلية، وهناك رجل او اثنان يجلسان بصورة شبه دائمة بجانبها، بينما يقف عسكر وابنه حامد على جانب جاهزان لتسلم توجيهاتها. وبجانب الصيدلية توجد عيادة واحد من اشهر اطباء المدينة الدكتور علي الحلي، وبجانبه وكالة ماكنات الخياطة سنجر ، ثم تليه صيدلية توما. تسلق فلاح السلم الوظيفي في ظل حكومة البعث دون شروط الخدمة الوظيفية مكافأة له على نشاطه الشعري لصالح السلطة بعد ان بدأ بقصيدة مدح فيها الرئيس احمد حسن البكر. قام ثوار انتفاضة اذار 1991 بمحاسبة فلاح عسكر.  

   غادر طلاب المقعد الخلفي الثلاثة المدرسة ، وكبرنا وتسربت الى عقولنا البريئة افة السياسة ، وحل عصر يوم جميل في صيف 1971 ، كنت خلال سويعاته انقل خطواتي سعيدا على اسفلت الشارع قرب حديقة الخسروية في طريقي الى البيت، وانا اعود من توديع شلة زملاء الحديقة الصغيرة التي كانت محطة دراستنا لسنوات الدراسة الثانوية، تلك الحديقة الصغيرة القريبة من بيت الحاج كاظم عجام، وابنه حسين صديقي وزميل صفي الدراسي واحدا من الدارسين فيها، وللحديقة فلاح لايتهاون في رعايتها و بجهوده هي جنة صغيرة توفر لنا ظلا نحتمي به من لفحات الشمس الحارقة ونحن منكبون على كتبنا، ولتمنحنا الجوريات التي ترفع رأسها فوق اغصان الاس عطرها وهي تقذفه فوق اجساد الدارسين تحرشا، حين تلمح طالبات متوسطة التحرير للبنات وثانوية الحلة للبنات يرمين نظرات خجلة صوب الحديقة، هناك نغفل عن دراستنا دقائق ونقرب شباكنا المنصوبة على العيون لعل نظرات البنات المرسلة تعلق فيها، وتتحول الكتب الى اوراق محمولة يلوح الهواء باورقها حين يهب او يخرسها انشغالنا. تعود الطالبات الى منازلهن وقد تزينت الصدريات الكحلية والقمصان البيضاء  بجمال خجل انثوي زادته براءة طفولية حلاوة، ونواصل نبش كتبنا. يبدو لايشيخ العراقي لوحده وانما تشيخ معه مكونات محيطه، ففي ظل سلطة عنف وجهالة بات حال حديقتنا الصغيرة كحالنا ، هي لم يعد لديها الا اطلال ذابلة ومزبلة ظاهرة بفعل مقر قوات العقرب، ونحن لم يعد لدينا من العراق غير ذكريات متناثرة وشيئا من اوراق ملئها الشريط اللاصق الشفاف لكثرة ما استعمل لجمع اجزاءها. انتهى احتفالنا الصغير لانهاء المرحلة الثانوية وودعنا الحديقة، وحين وصلت الى مفرق الشارع القريب من منزل الدكتور عبد الرحيم الماشطة وقفت لاتحدث مع صفاء محسن العميدي زميلي في الصف ذاته، وبيت اهله على بعد خطوات،  لتقف دراجة هوائية بجانبنا دون انتباه وقال راكبها شرطي الامن فلاح عسكر: عماد أنا ابحث عنك ... انهم يطلبونك في مديرية الامن... اذهب بنفسك أفضل، لا اريد ان اخذك بيدي، وركب دراجته وابتعد.  فعجلت الخطوات الى بيتنا ، وتعجلت الخيالات في راسي تفتش عما يمكن أن يحدث لي ، واية اسئلة سيوجهون، وبما أجيب، وما يكون عليه موقف أهلي، وعند مقهى العُكري الكائن في وسط سوق العمار على جانب المحلة وجدت اصدقاء بأنتظاري ليخبروني بأن سلمان حسوني سأل عني ويريد يقودني بيده الى دائرة الامن.  في الصباح التالي هربت الى بغداد ، وعدت بعد اسبوع فأوان التقديم الى الجامعة قد حل ومن متطلباته توفر شهادة الجنسية العراقية. أنجزت الخطوة الاولى دون عوائق في دائرة تثبت الانتماء العشائري بحضور شهود ، وتبعنا الخطوة التالية الى بناية مديرية السفر والجنسية في الحلة. كانت المعاملة لكلينا فدخلنا مكتب المسؤول في المديرية ، ليشخص امامي  وجها فاشلا لطالب اخر من طلبة متوسطة بابل. نظر اليَ وخط ابتسامة ساخرة على شفتيه ، ولمعة في عينيه ، ادركت بعد حيرة قصيرة الامد ما الامر حين سمعته يقول  : لأكمال المعاملة عليك مراجعة دائرة الامن للحصول على موافقتهم.  كان لطيف الشوك أكثر طلاب متوسطة بابل ثم ثانوية الفيحاء للبنين غباءا ، واطولهم قامة، قاده الفشل الدراسي ليصبح نائب مفوض عندما فتحت حكومة البعث دورة نائب مفوض لتلم الطلاب الذين فشلوا في انهاء الدراسة المتوسطة وتكسبهم لحزب البعث ويكونوا ادواة قمع بيدها. وهكذا ذهبنا اخي وانا فوجدنا ثلاثة رجال امن بأنتظارنا في باب المديرية. قالوا لاخي وهو طالب في الثالث المتوسط أذهب الى البيت، وادخلوني غرفة عالية الجدران.. انتهى الاستقبال بفلقة وبضعة اكف من اليد المميزة الحجم لمفوض الامن علاء الصفار وفلقة و أمر بعدم مغادرة الحلة لما تبقى من فصل الصيف ، وصحيفة اعمال تصدرتها صورتي الشمسية. التقطت بكاميرا شمسية تنتصب على رصيف الشارع وعند مدخل مديرية الامن يعتاش مالكها الشيوعي على التقاط صور المعتقلين والخاضعين للتحقيق بمديرية امن الحلة، ومراجعي دوائر حكومية قريبة. دفعت للمصور أجرة التصوير، وبما انه لامشكلة بيني وبينه استغربت رسمة الشماتة الوسخة التي فاجأني بها وهو يخطها بعينين تتلاعبان وابتسامة وضيعة تلمع على شفتيه. هربت فئران الامن مذعورة اثناء الانتفاضة أذار / شعبان 1991 وسيطر الثوار على مكاتب المديرية ، اوصل احدهم ملفا امنيا يحمل اسمي الى اخي الذي قام بحرقه ليزيل كل اثر يمسني وبذلك يبعد مضايقة الحكومة للاهل ، وكانت النتيجة لا وجود لوثيقة صدرت من الحلة تثبت تعرضي للاضطهاد السياسي.

   مرت دقائق اخرة ولم يأتِ الاستاذ كافور الاخشيدي الى المدرسة ذلك اليوم ، وبدأت الضوضاء الصادرة من الصف تجذب الانتباه الى ان ظهر عند باب الصف مدرس الرياضيات الاستاذ طارق الشيخ، أكفء  مدرسي المادة في محافظة الحلة كما حكم طلاب مدرستنا، وقد أنتقل معنا الى ثانوية الفيحاء للبنين في البناية  الجديدة الانشاء والواقعة في اقصى بقعة بمحلة كْريطعة ( كاف معجم تلفظ مثل حرف جي الانكليزي)، بُنيت بنموذج بناء المدرسة المصرية لكون بناءها تم في زمن الرئيس عبد السلام عارف. ودفعة واحدة نُقلت  متوسطة بابل للبنين بكامل عدتها من المدرسين والطلاب والاثاث اليها،  ولم يعد يذكر اسم متوسطة بابل للبنين في سجلات الحكومة منذ ذلك اليوم ، فيما حلت في بناية المدرسة في الخسروية متوسطة التحرير للبنات ليتحول المكان من مجمع دبابير مراهقة الى باقة من فتنة. كان الاستاذ طارق شابا وسيما يحمل عشقا قيسيا تتضح اثاره بحدة شروده اثناء الدرس الى عالم يتجاوز بكثير الجدار الزجاجي المنتصب امامه و الذي يفصله عن الهواء الطلق، ويحصر حسراته داخل مساحة الصف. كانت صفناته الكثيرة لحظية العمر لاتؤثر على سيرالدرس يمارسها أثناء انشغال الطلاب بنقل ما وضعه على السبورة من حل للمسألة، ليومض لحظة اهٍ، والطلاب يتابعونه بتعاطف فحكاية غرامه باحدى بنات المدينة ورفض اهلها زواجهما من احاديثهم المفضلة عن الحب بجانب افلام عبد الحليم حافظ. الاستاذ طارق يمشط شعره للخلف كما يفعل الممثل جوردن سكوت بطل افلام طرزان وبعض افلام ماجستي ،  وتجد شعره مصفوفا لامعا بفعل دهنه بكثافة بكريم الشعر ماركة براي او بريل ذو اللون الاخضر الذي يباع بعلبة زجاجية مقرنصة، ، ودهن الشعر موضة سائدة بين شباب السنوات الستينية للقرن العشرين، رغم مايسببه الدهن من حكة مزعجة في الرأس لاصحاب الشعر الدهني عند التعرض لاشعة الشمس. استاذ طارق موهبة بالرياضيات ويزق طلابه المعرفة بطريقة محببة وشديدة الجدية جعلت درسه ورشة للتعلم والمعرفة ويتابعه الطلاب بتفهم ودون ملل رغم جمود مادة الدرس. ما كان سؤال في الهندسة او الجبر يعجزه. غادر الاستاذ لاحقا الى مدرسة في بغداد وأكملنا طريق الرياضيات مع مدرسون جدد. حل الهدوء تاما فمن يجرؤ على اللغو بوجود الاستاذ طارق، الذي لم يقف عند السبورة ويرسل نظرته التي هي اول مايقدمه في دروسه، ونفهم منها ان التزام الهدوء ومتابعة الدرس شرطان للبقاء في الصف، هذه المرة أدهشنا اذ أخذ مقعدا مواجها للطلاب على الرحلة الاولى بعد ان اشار عل الطالب الجالس عليها بالانتقال الى رحلة اخرى. لم يسأل عن مادة التاريخ ودرس الانسان النيندرتال ولأية قومية ينتمي اذ الجميع متفق على كونه عراقيا، ولم يقل شيئا عن نظرية المستقيمات المتوازية، حين اخلد الجميع الى مقاعدهم وتعلقت الوجوه بصمته منتظرة ، مرر الاستاذ كلتا يديه على شعره وابتسم، ليبدأ يتحدث عن الثقافة العامة وضرورتها للانسان، وينصحنا كشباب قراءة الشعر والادب الروائي وأخبرنا ان المعرفة لاتقتصر على مانتعلمه في المدرسة. كان طلاب الاول متوسط (ب) في حالة مأخوذين بطريقة تقديمه وهم يصغون كأطفال يستمعون الى حكاية من جدتهم، والاستاذ طارق  يقص عليهم رواية البؤساء لفكتور هيجو. دمعت عيناي لما حل بكوزيت وجان فالجان فقررت شراء الرواية وقرائتها.

   اسرعت الى البيت، طرحت ملابس المدرسة على سرير النوم ولبست دشداشتي، افرغت ما في علبة التوفير في جيبي الجانبي وكانت مئتان واربعون فلسا. ودون تناول طعام كما جرت العادة حين العودة من المدرسة، ودون اجراء فيما يخص تحضير دروس اليوم القادم فقد كان يومنا الخميس وغدا استراحة ، دون كل ذلك اسرعت الى بسطة وليد ابو الرقبة. الفتى الاصغر مني سنا ، وزميل اخي في مدرسة الاستقلال الابتدائية المجاورة لثانوية الفيحاء،وعائلته تسكن محلتنا في ( عقد النهر)، وفي الزقاق المغلق بجانب المستوصف الطبي ، والمقابل لبيت الوجيه الحلي اسطة جابر. وليد فتى طويل القامة ورقبته طويلة اكثر من المعتاد للجسم ،ومنها اكتسب التسمية. لوليد بسطة لبيع الكتب المستعملة ، وذات الطبع التجاري مثل اصدارات دار العلم للملايين . يعرض وليد كتبه على الرصيف الكائن لصق جدار مدرسة حمورابي الابتدائية جهة الشارع الرئيسي مقابل محل بيع العوينات الوحيد في المدينة حينا، وحينا اخرا على رصيف الجدار بجانب فرن الكعك العائد للسيد علي ابو الحب مقابل مقهى الوادي وعند راس الشارع الصغير الذي يضم مطعم الفرات ومحل طرشي ابو زنوح، وفرن الخبز الايراني. وذلك بعد عودته من المدرسة واثناء العطلة الصيفية. يرص كتبه بعد ان يخرجها من العلبة الكارتون التي يربط على قاعدة الجلوس لدراجته الهوائية. كنت زبونا دائما له ، وجزء كبير من محتويات مكتبتي الصغيرة ابتعتها منه. الساعة الثالثة بعد الظهر ذلك الخميس وجدته ينشر بضاعته على الرصيف قرب فرن الكعك.فوقفت اتفحص غلاف رواية البؤساء الممدد في الصف الثلث من صفوف الكتب المعروضة، حملت الكتاب ، قلبت اوراقه ، وقرأت بعض سطور هنا وهناك ،ورأيت رسما تخيليا لكوزيت في الحديقة، ونظرت الى اسم غفروش الذي اعرفه من كتاب المطالعة المدرسي كمشارك في تظاهرة.  سألت وليد والكتاب بين يدي: كم سعره؟  فاجابني: مئتان وخمسون فلسا. رددت : اعطيني اياه بمئتين واربعين فلسا. فسحب وليد الكتاب من يدي واعاده الى الرصيف وهو يردد: ما يصير... مئتان وخمسون. ..  قلت: لا ياوليد..لا املك غير مئتين واربعين.. مشيهه لخاطري.. هي فقط عشرة فلوس.

    كانت فرصة له ليعاند، فمد رقبته منتصبة بكامل طولها المميز واخذ يهز راسه، فتخيلته راسا قد رُكب على رمح، فاشتهيت ان اضربه على قفاه. فهل اتعارك معه وانا اريد الكتاب فقد شغفتني حكايته، وكيف اجبره وهو صاحب البضاعة وله حق تحديد السعر... يا لئيم ، لايعتبر لزبائنه، ففكرت أأذهب لوالدي لاجلب العشرة فلوس، ولم افعل خوفا من أن يشغلني والدي في امر ولا اتمكن من العودة الى الكتاب، اذن لاجلس أمامه لعله يرق ويوافق. قعدت بجانب البسطة اتطلع للزبائن تقلب الكتب وتبتاع بعضها بعد مساومة، وفي كل مرة يوافق وليد على تخفيض سعر كتاب ازداد غيضا ، واشتمه. حل الغروب وبدأ الظلام يضع اول خطوطه على الجدران واخذ وليد يصف معروضاته في علبة الكارتون. قرفصت بجانبه اجمع الكتب المتناثرة وامدها له ، الى ان حملت كتاب البؤساء، ومددته له لكني لم افلته بسهولة حين سحبه من يدي، فقال: سعره مئتان وخمسون فلسا. قلت: ياوليد لقد انتظرت اليوم كله ولم يشتره احد. فقاطعني : مئتان وخمسون... الا استحق اكرامية عشرة فلوس ، هذه ليست المرة الاولى التي اشتري كتابا منك... اجعلها دينا ، رددت. لكن وليد اخذ الكتاب ووضعه بالصندوق ، عندها نهضت ، وخطوت لابتعد وكلي اساً ، هبطت من الرصيف الى الشارع ليصلني صياحه : تعال خذه وخلصني. استدرت لاعود اليه وقد اشرق الفرح في وجهي . اخرجت المبلغ من جيب الدشداشة وناولته اياه ومسكت بكلتا يدي الكتاب ، وركضت نحو الدار. تلك الليلة صاحبت السهر وانا انهم اوراق الحكاية . توقفت كثيرا وانا اتصور كيف اشاح الفتى براسه حين رفعت الريح فستان كوزيت في الحديقة ، واحسست ان درسا في الحب العذري قد تعلمته. 

عماد خليل بله

يناير / كانون الثاني 2011