كـتـاب ألموقع

ظاهرة التلقين ودورها في الخراب التربوي// أ.د. محمد علي الربيعي

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

 

الموقع الفرعي للكاتب

ظاهرة التلقين ودورها في الخراب التربوي

أ.د. محمد علي الربيعي

بروفسور ومستشار علمي

رئيس شبكة العلماء العراقيين في الخارج (نيسا)

 

من نافلة القول إن النظام التربوي العراقي يعاني أزمةً، ومن البديهي أن تنعت وزارة التربية بتحمّل المسؤولية كاملة فيما حدث ويحدث للجسم التعليمي من أمراض متنوعة، لمسؤوليتها المباشرة على إدارة القطاع، ولم يعد النظام في حاجة الى تشخيص لما كتبنا كثيراً في هذا الشأن، ولا نحتاج التأكيد على أن أهمّ مظاهر المرض الخبيث الذي ينخر جسم النظام التربوي هو ظاهرة "التلقين" وما يؤدي الى "الاجترار" ، وحفظ المادة عن ظهر القلب (درخ)، و الدرجات الامتحانية القصوى"، والتهافت على "الكليات الطبية."

 

كل هذا اصبح من المسلمات، لكن هل فعلاً وزارة التربية تتحمل المسؤولية لوحدها فيما حصل ويحصل؟ أليس ما يحصل في الجامعات هو استمرار لممارسات التلقين التي نشهدها في المدارس؟ وإذا كان هذا أيضاً ما يجري في الجامعات، فما هو دور وزارة التعليم العالي في إيقاف أسلوب الحشو في اذهان طلاب الجامعات وفي تدريب مدرسي المستقبل على الطرق البيدوغوجية الحديثة؟

يقف المرء مذهولاً أمام ما يحدث في جسم التعليم خلال الفترة الحالية، ما يدفعه إلى التساؤل: لماذا يتم الاستمرار بأسلوب التلقين مع أننا نتحدث بشكل شبه يومي عن ضرورة معالجته والتعامل معه؟ إن استمرار ظاهرة التلقين يؤكد فشل المنظومة التربوية برمتها. أنها أمُّ المشاكل وهي أهمّ مما يتصوره البعض من عدم توفر أبنية المدارس والجامعات كواحدة من أبرز المشاكل الظاهرية، وهذه حقيقة يجب أن تعترف بها الوزارتان، وأن تتعامل على أساسها. الوزارات المتعاقبة تتحمل مسؤولية استمرار هذه الظاهرة وتفاقمها. ومهما حاولت الجهات المعنية تفسير استمرار ظاهرة التلقين، فإنها لن تقنع أحداً من التربويين، بل إن ما ستقوله سيعتبر تبريرات غير منطقية، ودفاعاً عن النفس حتى لا تتحمل مسؤولية ما يحدث.

 

ما يحدث خطير، والسكوت عنه ظلم للطالب وللمواطن. هناك من يجب أن يتحمل مسؤولية "الخراب التربوي" الذي يحدث. لا يجوز أن نحمّل المعلمين والتدريسيين المسؤولية لأنهم نتاج النظام التربوي الذي علّمهم ودربهم على هذه الأساليب المتبعة من السنوات الأولى للمدرسة وحتى الدكتوراه الجامعية كأعلى شهادة في البلد، بل علينا أن نحمّل المسؤولية رعاة النظام التربوي والدولة والحكومة، وأن تتحمل هي نفسها مسؤولية ما يحدث. إذا استمر ت التربية والتعليم على هذا المنوال، فإننا سنستمر في العيش في دوامة الأمراض المجتمعية، خاصة وأن ما أصاب البلد من تشتت وتشرذم وصراعات، وعلى رأسها الإرهاب، ناتج عن خطأ فظيع في التربية والتعليم اليوم.

 

نحتاج الى الجرأة للوقوف في وجه الخطأ، الذي نعتقد أنه حان وقت تصحيحه بعد كل هذا الخراب، في وقت تم القضاء فيه على داعش كتنظيم، إلا أن أيديولوجية داعش باقية وتبقى تعشش في رؤوس شريحة واسعة من الناس، وهذه تحتاج إلى حملة واسعة، لإنقاذ التعليم، وتحقيق التقدم واللحاق بالدول المتطورة التي سبقتنا في هذا المضمار، ولن يتم هذا التصحيح إلا عند معالجة ظاهرة التلقين بالطرق المناسبة، فالتلقين يبلد العقول ويمنعها من التفكير النقدي الحر، والابداعي، ويعّود الطالب على الاستجابة والخضوع، والى تقبل الخرافة والتقاليد البالية بدون إعمال عقله في التمييز بين الغث والسمين، بين الحقيقة والخرافة، وإنه يشجع على الغش بأشكاله المختلفة، ويخلق انساناً متخلفاً غير واعٍ، وغير ناقد مما يمكن لأيّ سياسي أو متطرف أو إرهابي أن يتحايل عليه، لأنه ببساطة لم يتعلم أن يفكر وينتقد. كما أن العلاقة بين التلقين والأنظمة الدكتاتورية والقمعية، وثقافة القهر والاستبداد علاقة وثيقة لأنه يعّوِّد الطالب على الترديد الببغاوي، والخضوع للسلطة، ويسهم في نزع ارادة الفرد ويستعّبده عبر تكبيل العقل بحيث تجعله محصوراً فيما يتلقاه، فلا يعوِّده على النقد والنقاش والتفكير الحر المستقل خارج أسوار المنهج. وصدق الإمام علي بن أبي طالب (ع) قوله "ما جادلت عالماً إلا غلبته بعلمي وما جادلت جاهلاً إلا غلبني بجهله"، وبرأيي أن المقصود بالعالم هنا، هو المفكر المبدع وصاحب المعرفة، والجاهل هو الذي يجتر المعلومات اجتراراً دون أن يفهمها.

 

وأخيراً، ما هو مطلوب من الدولة والحكومة وبصورة عاجلة هو معالجة الأزمة التي يمر بها النظام التربوي موضوعياً، فالأسباب واضحة، والمعالجة واضحة، لتكون نتيجة هذه المعالجة برنامجاً إصلاحياً شاملاً من خلال الوقوف عند جوانب مسببات هذه الأزمة، وباعتبار هذه المعالجة موضوعاً اجتماعياً وسياسياً يهمّ مستقبل العراقيين، ومستقبل تقدم العراق بشكل عام. والعلاج يتلخص في اصلاح جميع الوسائل التعليمية بما فيها المنهج والتعليم والتدريس واستخدام الوسائل والطرق الحديثة والمتطورة والانفتاح الموجّه على العالم الحديث. إن مسألة اصلاح التعليم بالعراق لم تعد مسألة تقنية تربوية بحتة، بل هي مسألة سياسية، أي أنها ليست مجرد مسألة اصلاح الأدوات والبرامج والأنظمة الإدارية، فحال التعليم حالياً هي انعكاس لما وصل إليه الوضع السياسي والاجتماعي العام في العراق.