كـتـاب ألموقع

من بلفور إلى ترامب// محمد السهلي

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

محمد السهلي

 

عرض صفحة الكاتب

من بلفور إلى ترامب

محمد السهلي

كاتب من فلسطين

 

العام الأول بعد المئة على وعد بلفور كان«بلفورياً» أميركياً تجاه الحقوق الفلسطينية

فتح وعد بلفور أفقاً أمام المشروع الصهيوني في فلسطين،وبات القائمون على المشروع يتمتعون برعاية بريطانيا،الدولة العظمى،التي شكل انتدابها على فلسطين لبنة أساسية في قيام الدولة العبرية بعد نصف قرن من انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول.

وسمح تقاطع مصالح الدول الاستعمارية الكبرى للحركة الصهيونية، باعتبارها مشروعاً استعمارياً ناشئاً، أن تقدم نفسها كطرف مساعد في إعادة ترتيب أوضاع المنطقة العربية وفق الخريطة التي رسى عليها اتفاق سايكس ـ بيكو.

بالمقابل، تلاشت الوعود التي قدمتها الدول الاستعمارية للعرب،واكتفت بما قدموه على طريق التخلص من الامبراطورية العثمانية،وفرضت عليهم كيانات قطرية هزيلة تفتقد إلى مقومات السيادة.

 

يمكن القول، إن اجتماع عوامل نجاح المشروع الصهيوني في فلسطين ازداد فاعلية مع حالة الضعف التي كانت تعيشها الحالة العربية، بعد فترات مديدة قضتها تحت احتلالات متعاقبة.ولم تكن الحالة الفلسطينية في وضع أفضل في ظل ضعف القيادات السياسية وافتقادها إلى مشروع وطني تحرري واضع الأهداف والآليات. ومع وقوع النكبة وتشرد الشعب الفلسطيني من أرضه وممتلكاته، راهنت الدولة العبرية الناشئة على إقفال ملف القضية والتفتت نحو هدفين متكاملين : الأول وضع اليد على ممتلكات الفلسطينيين وترسيم نهبها، والثاني استقدام المهاجرين اليهود من أصقاع الأرض الأربعة.

كتب كثيرون عن أثر وعد بلفور في نجاح المشروع الصهيوني في فلسطين،واستطاع معظهم ربط الوعد بالتطورات العالمية التي وقعت في الحرب العالمية الأولى، ورسو خيارات بريطانيا على الحركة الصهيونية كحامل مناسب للمشروع الاستعماري البريطاني في منطقة الشرق الوسط، في ظل تنافس محتدم مع باقي الدول الاستعمارية الأوروبية على ثروات المنطقة ومقدراتها. ومع أن الوعد كان نتيجة التطورات التي سبقته،إلا أن إطلاقه مهد أيضاً لوقوع تطورات جديدة صبت في مصلحة المشروع الصهيوني، ويلمس ذلك في قرارت المؤتمرات الصهيونية التي عقدت بعد إطلاق الوعد، على وقع التغيرات الاقتصادية والسياسية وحركة سوقي العمل والبضائع في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى.ولقد ساهم إطلاق الوعد والمناخات التي ولدها في نجاح الحركة الصهيونية بتطوير بناها ومؤسساتها وعزز مصادر تمويلها.

الدعم البريطاني للمشروع الصهيوني لم يبق منفرداً مع دخول الولايات المتحدة على الخط قبيل إطلاق وعد بلفور.وقد وجدت هي أيضاً كما بريطانيا في الحركة الصهيونية ومشروعها حاملا مهماً لتحقيق مصالحها في الشرق الأوسط، ولم تستطع بريطانيا الحد من طموحات واشنطن، القوة الامبريالية الصاعدة بقوة إلى المسرح الدولي.

ومنذ قيام الدولة العبرية، بدأت العلاقات الأميركية ـ الاسرائيلية تتعزز وتأخذ طابعاً استراتيجياً، وخاصة في ظل الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية من جهة والمعسكر الغربي الامبريالي بقيادة الولايات المتحدة. وانتقلت بالتالي مهمة حماية الدولة العبرية سياسياً وعسكرياً من لندن إلى واشنطن.

واستجدت معادلات دولية واقليمية مع إنهيار التجربة الإشتراكية في الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية، والذي أحدث خلخلة كبيرة في توازن العلاقات الدولية، ليشهد العالم في تسعينيات القرن الماضي نظام القطب العالمي الواحد. وفي تلك الفترة، برزت تنظيرات تقول بأن إسرائيل فقدت الكثير من مكانتها لدى واشنطن،وبأن وظيفتها كشرطي متقدم في مواجهة التجربة الاشتراكية وتمددها قد تآكلت، ورأى أصحاب هذه التنظيرات أن بامكان الأطراف الأخرى في المنطقة أن تكون محط اهتمام الولايات المتحدة ورعايتها دون تفضيل مصالح تل أبيب على مصالح الجميع.وقد تحولت هذه الأفكار إلى سياسات على اعتبار أنه لاسلة دولية غير السلة الأميركية ، وحشروا بالتالي كل أوراقهم فيها.

الخطأ الكبير الذي وقع فيه هولاء وارتكبوا كوارث بحق شعوبهم، هو تجاهلهم الطبيعة الاستعمارية لكل من الحليفين الأميركي والإسرائيلي، وأن تقاطع المصالح بينهما يقوم على ممارسة الاستعمار، بينما أصحاب هذه التنظيرات وشعوبهم يقعون تحت الاحتلال المباشر وغير المباشر. وفي تلك الفترة شعرت تل أبيب بالاسترخاء وبدأ المسؤولون الإسرائيليون يتحدثون عن شرق أوسط جديد. وفي تلك الفترة أيضاً بادرت واشنطن إلى ترتيب عقد مؤتمر مدريد بهدف قطف ثمار تلك المرحلة وإخماد«الصراع» في المنطقة بدون التخلي عن السياستين الاستعماريتين الأميركية والاسرائيلية، وجاءت الاتفاقات مع الاحتلال الاسرائيلي من رحم هذه المعادلة.

في المسار الطويل  للتطورات منذ إطلاق وعد بلفور حتى قرارات ترامب، يبدو الربط معقولا بينهما من زاوية استمرار مفعول المعادلة الاستعمارية التي ربطت المشروع الصهيوني بالمصالح البريطانية وبالعكس، وانسحاب هذه المعادلة على علاقات تل أبيب مع واشنطن مع التبدل في الشرط التاريخي لكن الجوهر لم يتغير.

ففي بداية العام الأول بعد المئة على صدور وعد بلفور بدأ الرئيس الأميركي ترامب أولى خطواته العملية ضد حقوق الشعب الفلسطيني فأعلن اعترافه بالقدس عاصمة للاحتلال، ونقل سفارة بلاده إليها، مستخدما صلاحيات وفرتها له المؤسسات الأميركية التشريعة في عهد الإدارات السابقة، وبعضها تم إقراره بعد عامين فقط على توقيع اتفاق أوسلو، وهو القرار الذي يمنح الرئيس صلاحية الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل كما أعطاه صلاحية تأجيل ذلك كل ستة أشهر. وهنا رفض ترامب التاجيل.

ويمكن القول إن العام الأول بعد المئة على صدور وعد بلفور كان«بلفورياً» لجهة السلوك السياسي الأميركي تجاه القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني،حتى أن بنيامين نتنياهو وصف قرار ترامب حول القدس بـ «وعد بلفور جديد» وأعلن بدء الاحتفالات بالمناسبة.

خلاصة القول إن أعداء الشعب الفلسطيني وبقدر ماألحقوا به الأذى، بقدر ماوضعوه أمام دورس تعلمه الكثير، وخاصة أنها تجعله يدرك أن الاستعمار بأشكاله المختلفة وبالتحديد الاستعمار الاستيطاني الإحلالي لايترك مسافة حل وسط بينه وبين الشعب الواقع تحت الاحتلال. والشيء الوحيد الذي يمكن أن يوافق عليه ويرسِّمة هو الاعتراف بشرعية الاحتلال واستمراره، والقبول بحلول تضع الشعب الواقع تحت الاحتلال في خانة السكان على أقل مساحة من وطنه.

من بلفور حتى ترامب وباقي حلفاء الاحتلال، تفيد الدروس بأن الطريق إلى الخلاص من الاحتلال يكون بمقاومته في السياسة وفي الميدان.. عندها سيدفع أكلاف احتلاله وعدوانه، وسيجد نفسه أمام خيارات مختلفة كلما زادت الأكلاف التي يدفعها.