اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

أكثر من أسبوعين في صراعي مع دواعش ليبيا// د. جعفر عبد المهدي صاحب

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

 الموقع الفرعي للكاتب

أكثر من أسبوعين في صراعي مع دواعش ليبيا

بروفسور دكتور جعفر عبد المهدي صاحب

أوسلو -  مملكة النرويج

 

-  كيف أصبحت وسيطاً بين الخارجية لجمهورية صربيا وتنظيم داعش الإرهابي في ليبيا؟

-   صعوبة المهمة عندما يكون الطرف المقابل إرهابياً و (سرسرياً).

-  ملاحظاتي لما جرى ليس له علاقة بتعاليم الإسلام وقيمه، وأن الشعب الليبي ذاته يعاني من إرهاب الدواعش الأنذال.

- الشعب الليبي شعب أصيل لا يقبل بالظلم ولا بالممارسات الإرهابية الإجرامية والإرهاب لا دين له

 

لقائي مع سعادة السفيرة:

في يناير 2016  ذهبت الى سفارة جمهورية صربيا في النرويح لاستلام  تأشيرة الدخول لسفرة تخصني.

طلبت مني السيدة السفيرة سوزان مقابلتها. وأثناء اللقاء أخذت تشرح لي معاناة أسرتي الدبلوماسيين الصربيين المختطفين في ليبيا حيث اختطفتهما عصابات داعش الارهابية في مدينة صبراته الليبية منذ شهر نوفمبر 2015 (الصورة مع السيدة السفيرة). ورغم مرور ثلاثة أشهر على العملية، لم تعلن أي جهة مسؤوليتها أو مطالبها من وراء عملية الاختطاف. والدبلوماسيان المختطفان هما السيدة سلاجانا بدرجة ملحق والسيد يوفتسا سائق في السفارة (الصورة لسلاجانا  ويوفتسا).

فهمت من كلام السيدة السفيرة بأنها تريد رأيي أو ربما تدخلي في الموضوع فقلت لها: سوف أبذل قصارى جهدي لمعرفة فيما إذا كان المختطفين على قيد الحياة. وذكرتها بأني عملت في المنطقة الغربية من ليبيا بجامعة الزاوية 21 سنة متواصلة وأعرف أخلاقيات الليبيين الطيبة تجاه الأجانب واحترامهم الكبير للضيف مهما كانت جنسيته، وأشرت الى أن داعش وأخواتها من تنظيمات الإسلام السياسي المجرم لا يمثلون أخلاقيات الليبيين إطلاقاً. وأن أولئك المجرميين مكروهون من قبل شعوبهم في مختلف الدول العربية، وفي صبراته المسالمة  ذاتها  أول ما قام به المجرمون الدواعش، بعد احتلالهم المدينة، السيطرة على مركز الشرطة وذبح ثمانية من أفراده على قارعة الطريق وبطريقة بشعة مقززة.

وطلبت السفيرة موعد سفري الى بلغراد فقلت لها بعد غد الأربعاء.

اجتماعي في بلغراد مع خلية الأزمة:

في اليو التالي اتصلت بي السفيرة استفسرت عن اليوم المناسب الذي أذهب به الى الوزاة بعد وصولي بلغراد؟ حيث طلب لقائي الأستاذ فيلكو أودالوفييتش سكرتير عام وزارة الخارجية لجمهورية الصربية. فقلت لها (الجمعة) اليوم الثالث من وصولي لا يوجد عندي أي إلتزام.

 وبالفعل ذهبت بالموعد المقرر فاستقبلني السيد سكرتير عام الوزارة وبعد تبادل عبارات المجاملة، قال بما معناه أنك يا دكتور قضيت عمرك الوظيفي في المنطقة الغربية من ليبيا فلابد من مساعدتنا لمعرفة مصير مواطنينا المختطفين. فقلت له بكل سرور لا من أجل مصير المختطفين، وهو واجب إنساني، فحسب بل من أجل سمعتنا كعرب ومسلمين لأن الإرهابيين الأنذال لا يمثلون صورة الإسلام ولا قيم الناس في ليبيا وبقية الدول العربية.

وسألني فيما إذا لديَّ استعداد للاجتماع بخلية الأزمة الخاصة بهذه القضية؟ فأجبته: في هذا اليوم فقط (الجمعة) تسمح لي ظروفي الخاصة لعدم وجود التزام في جدول سفرتي. وسألني أيضاً هل يمكن الذهاب الآن؟  فقلت له من الأفضل ذلك. فاتصل الرجل هاتفياً حول عقد الاجتماع.

ذهبنا حالاً بسيارته الرسمية التي إتجهت بنا نحو غابة بانتسا في بلغراد ودخلنا بناية ضخمة حيث وجدنا خلية الأزمة مستعدة للاجتماع معنا.

 

المطلب الأساس، هل هما أحياء؟:

وتركز طرح الحضور على مطلب رئيسي هو: معرفة هل هما على قيد الحياة؟  هذه الخطوة الأولى أما الخطوات اللاحقة، تكون معرفة هل هما محتجزين في الزنتان وما دواعي اختطافهما؟ وما هي مطالب الخاطفين؟

وكان معظم الطرح من الجانب الصربي الاعتقاد بأن المواطنين الصربيين (المرأة والرجل) ليسا في صبراته بل يعتقد بأنهما محتجزان في مدينة الزنتان (130 كم جنوب صبراته) لأن الخاطفين من مدينة الزنتان حسب ادعاء الرسميين في مدينة صبراته. كان ردي واضحاً وحاسماً فقلت لهم  هذا الكلام غير صحيح فالزنتان تقع في الجبل الغربي والقبائل هناك تمتلك موقفاً سياسياً يتعارض مع توجهات داعش الإرهابية ومن غير المعقول أن تأتي قوة من الجبل وتخترق شمال المنطقة الغربية وتصل الساحل وتدخل في عقر دار تواجد داعش وتختطف دبلوماسيين أجانب وتنقلهم الى الجبل؟؟؟ هذا كلام مستحيل، وأنا أستطيع الجزم بأنهما محتجزان في صبراته أو أحدى ضواحيها.

ربما معظم المعلومات التي طرحها الأصدقاء الصرب تعتمد على المعلومات التي وصلت إليهم عن طريق سفيرهم في طرابلس السيد أوليفر بوتيجتسا، صديقنا الشخصي القديم، وهو باحث أكاديمي مقتدر في شؤون العالم الاسلامي حيث كان يشغل سفير بلاده في طهران الخميني قبل عمله في طرابلس الغرب. أفصحت عن رأيي بصراحة تامة وقلت لهم أن موضوعاً كهذا لايمكن الاعتماد على التطمينات والتخمينات الرسمية لأن التعامل لم يجرِ بين طرفين محترمين (دولة مع دولة) بل الطرف الأساس فيه هم من (السرسرية) وقد عبرت عنهم بمفردة صربية مرادفة تماماً لتلك المفردة المنحطة، كما أن غياب فاعلية مؤسسات الدولة الليبية ساعدت على تفاقم الفوضى، حتى وصل الأمر أن يتم اختطاف رئيس الحكومة الليبية من فندق وسط  العاصمة طرابلس وأقتياده الى جهة مجهولة عام 2013. وقد ضربت لهم حادث اختطاف السيد علي زيدان لأعبر لهم عن حجم الفوضى ودرجة غياب الدولة ومؤسساتها، فاذا كان رئيس السلطة التنفيذية في البلاد يتم اختطافه  وهو الذي يمتلك جهاز الشرطة والجيش والامن العام وقوات التدخل السريع...الخ، فاذا كان رئيس الوزراء يتم اختطافه من وسط العاصمة  فأن اختطاف أجانب لا يعني من لأشياء الصعبة بالنسبة للعصابات الإرهابية ومنها تنظيم مداعش الاجرامي.

خرجت من الاجتماع وراسي منشغل في التفكير بانتقاء الأخوة اللبيين الذين ساتصل بهم لمساعدتي في هذه القضية الإنسانية العويصة فأخترت أصدقاء عمر مرموقين ونشطين اجتماعياً من مدن صبراته والعجيلات القريبة منها، وصرمان والزاوية والمطرد وجميل والعاصمة طرابلس وأغلبهم أساتذة جامعات أجلاء كانوا زملاء لنا وبعضهم كانوا تلاميذ أشرفنا عليهم أو قمنا في تدريسهم في مرحلة المجستير والآن قسم كبير منهم نالوا الدكتوراه وأصبحوا رؤساء أقسام وعمداء كليات.

اتصلت عدة اتصالات استشارية مع أساتذة مرموقين وأصحاب رأي، بعدها كلفت ناشطاً من الزاوية (م ش) وهو محام وله علاقات جيدة مع وجهاء صبراته وجاء رده بأنه قد اتصل بالأستاذ حسين الذوادي عميد بلدية صبراته الذي أكد له بأن المختطفين غير موجودين في المدينة ومن المحتكل تم نقلهما الى مدينة جميل غرباً باتجاه الحدود التونسية ثم الى منطقة العقربية القريبة منها . اتصلت بـ (ف س) وهو دكتور ناشط (قمت بتدريسه في مرحلة الدراسات العليا قبل 15 عاماً) فكان رده: لا صحة لهذا  الكلام لأن مدينة الجميل من المغضوب عليهم وأهلها لا يملكون أسلحة ثقيلة والمدينة شبه مستباحة من قبل المناطق المسلحة الأخرى، كما أن العقربية منطقة صغيرة لايمكن أن يدخلها أجانب دون انتشار الخبر. وخلاصة كلامه من المستحيل أن نجد ضالتنا في الجميل أو العقربية.

أتصلت بوجيه من صبراته (خ ش) له صلة مصاهرة مع أحد قادة داعش في المدينة، فقال بأنه في القاهرة حالياً وأوعدني بأنه سوف يستفسر من الداخل ويرد لي الجواب بأسرع وقت. بعد أقل من ساعة استلمت مكالمة من (خ ش) وخلاصة المكالمة لا وجود لمخطوفين في صبراته، ونسب (خ ش) القول لأحد قادة الدواعش الميدانيين.

اتصلت بصديقين من مدينتي صرمان والمطرد أخذت منهما بعض أسماء قادة داعش الشرسين (الأكثر شرا) كان من بينهم قد ورد اسم الإرهابي عبد الله حفتر.

أصبح هدفي الرئيسي كيفية التحدث مع عبد الله بشكل مباشر لمعرفة هل أن المختطفين الصربيين لازالا على قيد الحياة؟. وبعد أكثر من خمسين اتصال مع عشرات الأصدقاء أوعدني صديق من مدينة العجيلات (م ش ع) بأن رجلاً قيادياً داعشياً سيطلبني على الفايبر واستأذن مني بتسليم رقم هاتفي له ولمج لي ربما يكون معك حفتر نفسه. قلت له لا مانع  وذكرته بأني سلمت كافة اصدقائي المعنيين نسخة من سيرتي الذاتية مستخدماً اسمي الصريح ورقم هاتفي وعنوان سكني وكل ما يتعلق بيَّ من معلومات شخصية وهدفي من الوساطة حتى يطمئن الطرف المقابل.

في الأسبوع الثاني من يناير اتصل بي أحد قادة داعش (باسم مستعار طبعاً) وبدأ معي الكلام بالشكل التالي:

أنت دكتور عراقي مقيم في النرويج وتتصل مع ليبيين وتسأل عن مصير مواطنين صرب!!! أليس هذا شيء غريبا دكتور؟

قلت له: لا غرابة اطلاقاً فأنا دكتور عراقي ولكني مستشار في وزارة الخارجية لجمهورية صربيا، وبالمقابل قضيت كامل عمري الوظيفي في منطقتكم غرب ليبيا (مدة 21 عاماً) نسجت خلالها علاقات طيبة مع وجوه معروفة من المجتمع الليبي وبعضهم بيننا تبادل زيارات عائلية مستمرة، وبعد سفري من ليبيا الى الآن متواصل مع أخوتي الليبيين، ويمكن لك يااستاذ أن تزور صفحتي على الفيس فستجد المئات منهم في قائمة الأصدقاء، وأكثرهم من الأساتذة الجامعيين. فسألني هل تعرف أحد من صبراته؟ فذكرت له اسماء عدد كبير من الدكاترة في مجال التربية البدنية والاقتصاد والقانون وعلم النفس والفلسفة... الخ يقطنون في مختلف محلات صبراته ووصفت له مواقع مساكنهم. اطمأن الرجل وقد علمت من سياق حديثه أن سلاجانا ويوفيتسا هما أحياء يرزقون. فطلبت أن أتكلم ثلاثين ثانية مع كل واحد منهما وليطمئن قلبي. فأوعدني خيرا دون أن يحدد موعداً للمكالمة. في اليوم التالي لم يتصل طيلة النهار فاتصلت به ليلاً وتحدثت معه مع تركيزي بأن مهمتي الرئيسية هي التأكد بأن المخطوفين أحياء، وقلت له، أما إذا كانت لديكم أية مطالب فأني متبرع لنقلها الى حكومة بلغراد عن طريق وزارة الخارجية أو ازودكم برقم الهاتف الشخصي للسيد السفير أوليفر. انتهت المكالمة على أن يتصل بي صباح يوم الأربعاء القادم 17 فبراير.

بعد أن أغلقت الهاتف أتصلت بأصدقائي غير الرسميين في بلغراد مستفسراً منهم عن عدد وأسماء أطفال المختَطَفين، حيث كتبت عنهم الصحف كثيراً طيلة الثلاثة أشهر الماضية، لكي أجعل من أسماء الأطفال وسيلة للتأكد مِن هوية مَن يتحدث معي، فاذا قالت أنا سلاجانا فسأقول لها، بشكل أو بآخر، ما اسم ابنتك؟ عند ذاك اتاكد من شخصيتها وكذلك سيكون الحديث مع يوفتسا.

وبالفعل اتصل بي يوم الأربعاء في التاسعة صباحا وكانت مكالمة طويلة ملخصها (هل صربيا مستعدة لدفع فدية قدرها 7 مليون يورو؟) أجبته بأن هذا الموضوع خارج نطاق مهمتي وسيكون دوري فقط أن أنقل طلبكم هذا للجهات الرسمية وعليكم ان تتفاهموا فيما بينكم حول الموضوع. فأجابني بكل سذاجة هل تستطيع انت ان تأتي الينا عن طريق بوابة رأس جدير لتكن ضيفنا ونتحمل نحن حمايتك، فالمنطقة كلها تحت سيطرتنا ؟ أجبته بأني مرتبط بعمل وفي دولة قانون لايمكن أن أترك عملي بهذه البساطة.  قلت له قبيل انتهاء المكالمة: رغم اني لا أتدخل بموضوع الفدية لكني أعلمكم بأن صربيا دولة صغيرة الحجم وتعاني من صعوبات اقتصادية ومبلغ 7 ملايين يورو هو مبلغ فلكي بالنسبة لها ومبالغ فيه وأرى أن تطلبوا مطلباً معقولاً. وأضفت بقولي: المختَطَفون، المرأة بدرجة ملحق وهي أدنى درجات السلم الوظيفي الدبلوماسي، أما الرجل فهو سائق السفارة ومبلغ الـ 7 مليون يورو مبلغ غير معقول اطلاقاً، وأقصد من  هذا انهما ليسا من رجال الاعمال الاغنياء ولا من اصحاب الثروات، ثم عاتبته قائلاً: وهل أن أمريكا نفسها طلبت من نظام القذاغي من البداية تعويضاً بقيمة 3.5 مليون عن كل ضحية من ضحايا لوكربي؟ لذا أأمل أن تكون مطالبكم معقولة للطرفين. وأوعدني بأن يوم الجمعة القادم سيسمح لي بالتحدث مع سنيجنا ويوفتسا، وكذلك سيحمل رسالة جديدة وبعبارة أخرى رقم فدية جديد.

كنت على اتصال دائم مع الجانب الصربي وأعلمهم بما يحصل يومياً وبشكل تفصيلي، مع تبادل الآراء بيني وبينهم وكنت على اتصال دائم ليل نهار مع سعادة السفير أوليفر بوتيجتسا الذي اتخذ  من سفارتهم في تونس مقراً له.

مر يوم الخميس مروراً ثقيلاً وأنا أترقب حلول يوم الجمعة بفارغ صبرلأنهي مهمتي الإنسانية وأنجح في أنقاذ حياة الرهينتين.

في الساعة الثالثة وربع فجر يوم الجمعة 19/2/2016 رن هاتفي الجوال فقلت يا ستار ربما حصل أمر جلل ليتصلوا بي في هذه الساعة المبكرة، وإذا بصديقي ( م ش ع) من العجيلات على الخط هو يخبرني بأن طائرات يعتقد بأنها أمريكية قد دكت قبل دقائق بالقنابل قاعدة لداعش في أحدى مزارع صبراته ونحن سمعنا دوي القصف العنيف، فقلت له أرجوك يا صديقي أن تتوجه الى موقع الحدث فلربما المختطفين هناك يتم تحريرهما وتنتهي المأساة والحمد لله، قال بأقل من خمس دقائق سأكون هناك.

وبالفعل خلال دقائق وصل ( م ش ع ) الى مكان القصف وهو ينقل لي ما يجري عبر الهاتف بالصوت والصورة، حيث شاهدت مظاهر الهرج والمرج وفزعة الناس لانتشال الجثث من تحت الأنقاض، وكنت قد اتصلت على الفور بصديقين آخرين من صبراته كل على انفراد وطلبت منهما الذهاب لمكان القصف لعل يمكن العثور على الدبلوماسيين المختطفين؟ فاجابني كل واحد منهما بانهما في موقع الحدث ويساهمان مع المواطنين بانتشال جثث القتلى من تحت الأنقاض، وطلبت منهما فتح كاميرات الهاتف. وكنت استحدم  أثناء الحدث أربعة أجهزة هواتف واحد يعود لي والبقية لأفراد أسرتي الغاطين في النوم. وقد تكلمت مع أصدقائي الثلاثة كل على انفراد ودون علم أحد بالآخر. وفي حدود الساعة الثالثة وعشرين دقيقة سمعت أصوات تقول هذه جثة أمرأة أجنبية، ومعلوم هناك قتلى من النساء في صفوف داعش وكلهن تونسيات وبذلك ممكن تمييز الأجنبية من لون الشعر وشكل الملابس.

طلبت من (م ش ع) أن يصور لي وجه المرأة الأجنبية المقتولة فوصلتني صورتها خلال دقيقة من الزمن ولكن معالم الوجه غير واضحة لوجود طبقة من الغبار وبعض الشظايا الناعمة جداً التي تضيع ملامح الوجه. والصديق الثاني أرسل لي صور جانبية لكامل الجثة. طلبت من صديقي الأول يصور من جديد بعد أن يمسح الوجه ولو بمنديل ورقي ليمكننا التعرف على ملامحها. وبينما نحن نتبادل الحديث في جو الهرج والمرج صاح أحد الأصدقاء وصلت قوات التدخل السريع من طرابلس وأخذت تبعد الناس عن مسرح الحدث، وقاموا بجمع أكثر من خمسين جثة رجل وامرأة ومن ضمنهم  جثة المرأة الأجنبية مع ستة  جرحى دواعش أحياء وتوجهوا بهم الى طرابلس. وحسب رأي الأصدقاء فأن الجثث سوف تسلم الى مستشفى طرابلس المركزي في حين ينقل الجرحى الى مستشفيات أحدى القواعد العسكرية.

ذهبت الجثث الى طرابلس قبل التأكد من أن تلك الجثة هي جثة سلاجانا أم لا؟ صارت الساعة الرابعة والربع فجراً، لم تطاوعني نفسي  بالخلود الى النوم دون اكمال مهمتي. وفي تلك الساعة المبكرة جداً اتصلت وبلا تردد بزميل صديق حميم هو (م ب ت)  لأطلب منه مساعدتي للوصول الى الجثة عن طريق أبن عمه رىئيس الأطباء في المستشفى المذكورة. رد عليَّ ( م ب ت) مذعوراً  خير خير يا دكتور إن شاء الله، خير... واعلمني بأنه حالياً مرافق لزوجته المصابة بالسرطان والراقدة في إحدى مستشفيات اسطنبول.  أعتذرت منه للاتصال بهذا التوقيت الغريب، ولكن لا حلَّ الا أن أزعجكم بالاتصال، وقد أفهمته مختصراً سريعاً لما جرى في بلاده ورجوت منه الاتصال بالطبيب ابن عمه ليصور لنا جثة المرأة الأجنبية على وجه السرعة. فاستجاب الرجل لطلبنا فوراً وبدون تردد على شرط أن يحالفنا الحظ بوجود الطبيب المذكور خافراّ في هذه الليلة.

لقد حالفنا الحظ فبعد أقل من 12 دقيقة أرسل لي ( م ب ت) صورة لجثتين أجنبيتين امرأة ورجل. صورة وجه المرأة  واضح ويبدو انهم قاموا بتنظيفه من الغبار،  أما صورة وجه الرجل غير واضحة المعالم بسبب لحيته الكثيفة التي نمت خلال أكثر من ثلاثة أشهر قضاها في الاحتجاز في أوكار الدواعش. تأكدت بأن القتيلة هي سلاجانا بعد طابقت تعرجات أسنانها مع صور أخرى لها في حوزتي، وكذلك تأكدت بأن جثة الرجل تعود الى يوفتسا لأن القميص الذي يوجد بجانب الجثة هو نفس القميص ذو الألوان المميزة الذي كان برتديه يوم مغادرته السفارة أي يوم اختطافه ( قميص مربعات اسود- برتقالي). في ساعات النهار الأولى من يوم الجمعة 19/2/20016 اتصلت بالجهات الصربية مع بدأي بعبارة (البقاء في حياتكم) وسلمتهم صور الجثث وقد تفاجأوا بما حدث.

وأتصلت في الصباح الباكر بالسفير أوليفر في تونس وأحبرته بتفاصيل ما جرى وكذلك تحدثت مع السفيرة سوزانا  في أوسلو بشأن الموضوع.

ولكن صربيا لم تعلن خبر مقتل المختطفين الا بعد أن تستلم خطاباً رسمياً يؤكد ذلك الخبر. وهذا نفس القول سمعته شخصياً من السفير أوليفر، حيث قدم لي باسم دولته الشكر الجزيل للجهود التي بذلتها، وقال كلامك صحيح جداً يا دكتور، ولكننا كدولة لا نعلن شيئا الا بعد أن نجري معاينة الجثث من قبلنا شخصياً.

لم يمهل  الحظ المرحومين ولم يمهلنا  لننجح في انقاذ حياة روحين بشريتين كاد الفرج أن يكون قاب قوسين أو أدنى منهما.

وفي وسط نهار الجمعة وبعد أن وضحت صورة الحدث أمام العالم صرح ناطق باسم البنتاغون تصريحاً سخيفاً وهزيلاً ومثيراً للضحك يدعون فيه بأن الرهينتين الصربيين لم يقتلا بفعل الغارة الجوية التي قام بها سلاح الجو الأمريكي بل انهما قد قتلا من قبل داعش قبل حدوث الغارة الأمريكية!!!

في ظهر يوم السبت 20/2/2016 أعلن وزير الخارجية الصربي إيفتسا داتشيتش عن وصول أخبار أولية عن مقتل الدبلوماسيين المختطفين في ليبيا بالقصف الأمريكي لاحدى قواعد داعش في مدينة صبراته الليبية. وأضاف الوزير بالقول بأن صربيا كانت تتفاوض لاطلاق سراح الاثنين قبل الهجوم وكادت ان تصل المفاوضات الى نتيجة ايجابية..

طبعاُ المفاوض الذي لم يذكر اسمه السيد الوزير داتشيتش هو الجندي المجهول والمناضل من أجل الإنسانية العراقي جعفر عبد المهدي صاحب.

 

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.