اخر الاخبار:
محافظ نينوى يزور مطرانية القوش - الثلاثاء, 16 نيسان/أبريل 2024 10:33
زيارة وفد هنغاري الى دار مطرانية القوش - الثلاثاء, 16 نيسان/أبريل 2024 10:32
طهران تتراجع عن تصريحات عبداللهيان - الإثنين, 15 نيسان/أبريل 2024 11:24
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

ذكريات أنصارية بعد ربع قرن من الأنفال (الجزء الأوّل) -//- يوسف شيت

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

اقرأ ايضا للكاتب

يوسف شيت

ذكريات أنصارية بعد ربع قرن من الأنفال

(الجزء الأوّل)

ربع قرن يفصل حاضرنا عن ماضي تلك الأيام الدامية , أيّام الإنفال السيئة الصيت , التي نفّذها نظام البعث الفاشي بين شهري شباط وأيلول 1988, قتل فيها أكثر من 200000 (مائتي ألف)مواطن عراقي من كردستان , أغلبيتهم الساحقة من الأكراد الآمنين , ودمّرت ألاف القرى ومزارعها وينابيع مياها وكلّ ما له صلة بالحياة .

هذه الذكريات تخص منطقة بهدنان, وحصرا الفوج الأول للأنصار, التي كنت نصيرا فيها لمدة عشر سنوات (تمّوز 1980 – كانون ثان 1990, ومنها سنتان في منطقة سوران- ناوزنك بعد الأنفال), وتحديدا من 8 آب إلى 10 تشرين أوّل 1988 .

قبل البدء بذكر الأحداث , لابدّ للقارئ الكريم أن يتعرّف , وبشكل أولي ,على فصائل الأنصار الشيوعيين التي أضافت سطورا مجيدة وجريئة,سواء إلى تأريخ الحزب الذي يمتّد نضاله لثمانين عاما بشكل خاص , أو إلى تاريخ العراق المعاصر بشكل عام, ولفترة تقارب العشرين عاما . كما نريد الفات أنظار القرّاء الكرام إلى  صدور الكثير, وستصدر مستقبلا, مذكرات وكراسات وكتب  (نأمل أن ترتقي الى مسلسلات وأفلام ), وبشكل أساسي على الكثير من المواقع الإلكترونية توثّق حركة الأنصار التأريخية . وأصبح للأنصار منظمة واسعة لها فروع في أوروبا وأميركا وبغداد وأربيل وموقع إلكتروني وغرفة محادثة .

- بدأت حركة الأنصار الشيوعيين كقوة مقاتلة بعد الانقلاب الفاشي في 8 شباط 1963 في كردستان العراق , وأصبحت صرحا مهمّا للكفاح المسلّح إلى جانب قوّات البيشمةركة بقيادة المرحوم الملاّ مصطفى البارزاني . خاض الأنصار الشيوعيون معارك بطولية سواء على إنفراد أو بالتنسيق مع فصائل البيشمةركة (كانت فصائل الأنصار حينها منضوية تحت قيادة الثورة الكردية), ويشهد على ذلك مأثرة معركة هندرين التي خطط لها وقادها ونفذها الأنصار الشيوعيون وبدعم من البيشمةركة في 7 أيار 1966, ومنهم, نعمان علوان (ملازم خضر- أبو عائد) والمرحوم الملازم أحمد الجبوري (أبو ازدهار), والتي أرغمت نظام عارف للدخول في مفاوضات مع قيادة الثورة الكردية وتوقيع اتفاق هدنة في 29 حزيران 1966 والتي خرقها نظام البعث بعد مجيئه الثاني عام 1968 ليزرع من جديد الخراب والدمار في كردستان حتى أرغمته قوّات الثورة الكردية لتوقيع اتفاقية آذار 1970. وبعد هذه الاتفاقية حلّ الحزب الشيوعي أعدادا من فصائل الأنصار .

- بدأ الحزب الشيوعي بإعادة تشكيل قوّات الأنصار بداية عام 1979, رغم غياب القرار بذلك من قيادة الحزب , أي قبل بدأ الحرب العراقية الإيرانية بأكثر من سنة ونصف السنة وبعد الانهيار الرسمي للجبهة بين الحزب الشيوعي وحزب البعث منتصف عام 1978 (كانت بوادر هذا الانهيار ظاهرة للعيان منذ أواخر عام 1976وعلى صفحات جريدة الرّاصد لصاحبها طلفاح- خال البعث) . إلاّ أن بعض رفاق الحزب وأصدقائه بادروا بتشكيل فرق مسلحة منذ خريف 1978 في مناطق أربيل وكركوك والسليمانية (منطقة سوران) ثمّ امتدت إلى محافظة دهوك وأجزاء من سهل نينوى (منطقة بهدنان- وليس المقصود هنا إداريا) . في هذا العام بالذات,1979, دخل ما يقارب 700000 (سبعمائة ألف) عراقي أقبية أمن ومخابرات ومقرّات حزب البعث الفاشي من رجال ونساء ومن مختلف القوميات والأديان والطوائف والمهن بتهمة واحدة وحيدة وهي الانتماء أو مناصرة الحزب الشيوعي العراقي , وتعرضوا إلى شتى أنواع التعذيب النفسي والجسدي والاغتصاب واستخدام سمّ الثاليوم لقتلهم , واختفى الكثير منهم حتى يومنا هذا , بينما عثر على رفات آخرين في المقابر الجماعية التي اكتشفت وتكتشف لحدّ الآن منذ 2003 . لم تقرّ اللجنة المركزية للحزب الشيوعي أسلوب الكفاح المسلح إلاّ في اجتماعها الموسع المنعقد في تشرن الثاني 1981 , حينها كانت قوّات الأنصار وبيشمةركة الأحزاب الكردية تنزل خسائر كبيرة بقوات النظام وأزلامه . وجاء تأخير هذا الإقرار لعدم تمكن اللجنة المركزية للحزب من الالتئام بسبب الخلافات داخلها وعدم قناعة البعض من أعضائها, أصلا, بالكفاح المسلّح (1) .

- تشير الإحصائيات الموثقة إلى استشهاد 1000 (ألف) نصير دفن معظمهم في مقابر شيدت لهم في محافظات كردستان وفاء لهم من حزب الشهداء , ولم يعثر على رفات آخرين . وما هذه المقابر إلاّ وثيقة أخرى لمن يحاول تهميش شهداء الحزب أو ترحيلهم قسرا من قبل بعض أحزاب الإسلام السياسي الى مقبرة المحاصصة الطائفية المحتقرة من قبل الشعب , فنحن لا نفرّق بين شهداء  وطننا مهما كان معتقده وانتماءه السياسي والديني والطائفي والقومي, فالشمس لا تحجب بغربال .

- كان الأنصار الشيوعيين خير من يمثّل أطياف المجتمع العراقي , الذي سادته طيلة عشرات القرون أواصر الإلفة والمحبة , من نساء ورجال , عرب وأكراد , كلدان وآشوريين وسريان , تركمان وأكراد فيليين وأرمن , مسلمين سنّة وشيعة , مسيحيين وصابئة وإزديين وشبك , عمّال وفلاّحين وكسبة , وطلبة من مختلف المراحل الدراسية , عسكريين جنود وضبّاط من مختلف المراتب , أدباء وشعراء وصحفيين وفنّانين ورياضيين وحملة الشهادات العالية والجامعية , إنّهم عكسوا بحق , وبوضوح , الرابطة التاريخية لتآخي الجماهير العراقية التي لم ولن يستطع لا الغزاة ولا المحتلون ولا الطامعون بالسلطة والمال من ثنيها . كان الأنصار الشيوعيين يربطهم بطيفهم هذا أفكار وأهداف واحدة : حب الوطن بلا حدود , إسقاط الدكتاتورية الفاشية وإقامة نظام حكم ديمقراطي عادل ينهي كلّ آثار الدكتاتورية ويمنح القوميات المتآخية كامل حقوقها القومية وينبذ كل ما يسيء إلى وحدة العراق أو مصادرة حريات المواطنين والمضي نحو مجتمع اشتراكي عادل .

- كانت مشاركتها في الكفاح المسلّح جنبا إلى جنب مع الرجل إحدى الملاحم البطولية للمرأة العراقية . لقد شاركت في مختلف نشاطات قوّات الأنصار, سواء في المعارك القاسية ضدّ قوات النظام ومرتزقته , واستشهاد الكثيرات منهن , لتعيد بذلك أمجاد المرأة العراقية التي ساهمت في وثبات وانتفاضات الشعب العراقي ,أو مزاولتها لمهنة التمريض والطبّ والاتّصالات وغيرها, واستطاعت بذلك فرض احترامها وهيبتها بين الجماهير وكافة الفصائل المسلحة في كردستان .

- خطط ونفذّ الأنصار مئات العمليات العسكرية وقاوموا وردوا كلّ أنواع الهجوم على مقراتهم وعلى القرى الآمنة التي يشهد لها الشعب الكردي وقادة الأحزاب الكردية . ومن أجل تصعيد وتيرة العمليات المسلحّة في عموم كردستان كان الأنصار ينسقون مع فصائل البيشمةركة التابعة للأحزاب الكردية للقيام بعمليات أخرى ضدّ قوات النظام وأزلامه من الاستخبارات والجحوش ( أطلق عليها النظام "الأفواج الخفيفة") وتدخل الرعب في صفوفهم . بهذه الجرأة والشجاعة استطاع الأنصار كسب ودّ واحترام الشعب الكردي , فانخرط الكثير من الشباب في فصائلهم ليتعزّز دورها أكثر فأكثر , رغم أنّ الحزب , وفي فترات سابقة , كان مغيّبا قسرا في بعض مناطق كردستان .

- من المهمّات الصعبة لحركة الأنصار,وخاصة في بداية إعادة تشكيلها , هو التسليح . كان بعض الأنصار , حتى نهاية عام 1979,بدون سلاح . في بداية عام 1980 تمّ تشكيل مفرزة الطريق بين قاطع بهدنان وسوريا والتي ابتدأت من النصير البطل أبو جهاد من مدينة السماوة (استشهد أثناء قيامه بمهام حزبية في المحافظات الجنوبية) , وبالتعاون مع الحزب الإشتراكي الكردي التركي " كوك" , ثم تطورت المفرزة بعد استلام المرحوم توما توماس (أبوجميل) قيادة قاطع بهدنان , وأخذت تنقل السلاح الخفيف والمتوسط وأجهزة الاتصالات (إذاعة , لاسلكيات , نواظير,البريد الحزبي والبريد الشخصي للأنصار وغيرها)  والملتحقين الجدد من سوريا إلى قاطع بهدنان وأربيل والسليمانية . وأبدع كلّ الأنصار الذين قاموا بهذه المهمة الشاقة والخطرة , ومنهم الشهيد أبو هديل والمرحوم أبو حربي (عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الكردستاني) وأبو هدى وأبو وسن وأبو شهاب وغيرهم , حيث التنقل بين ربايا الجاندرمة التركية وكمائنهم وجواسيس المخابرات العراقية, رغم قسوة المناخ ,  والتنقل على سفوح الجبال المغطيات بالثلوج . كما أنّ الحصول على المواد الغذائية,حتى عام 1982, لم يكن سهلا في منطقة بهدنان بسبب بعد المقرّات عن المدن والقرى ووقوعها في "المنطقة المحرّمة" على الحدود التركية. والاعتماد الرئيسي للتمويل كان من المهرّبين الأتراك وفي سهولة التعامل مع حرس الحدود الأتراك, حيث كانوا يقتنعون ب"إهدائهم" الشاي وبعض علب السيكائر مقابل السماح لنا بالدخول إلى القرى التركية لشراء المؤن . وبعد انتقالنا إلى العمق في الداخل,أصبح من السهل الحصول على المؤن من المدن والقرى العراقية .

- رغم الأعمال البطولية للأنصار الشيوعيين لكسر شوكة النظام الفاشي , اعترت الحركة أخطاء ليست بالقليلة , ولم تتم معالجة البعض منها في حينها , والسبب الأساسي في ذلك استمرار الخلافات داخل قيادة الحزب, ومنها الإخفاق في الإجابة على السؤال : من يقود العمل الأنصاري , التنظيم الحزبي أم مسئولي التشكيلات الأنصارية ؟ وأدّى ذلك إلى الاختيار الخاطئ لبعض القيادات العسكرية والسياسية , وخاصة في تشكيلة المكتب العسكري (2) . الأخطاء التي وقعت , سواء قبل البدء بالكفاح المسلّح أو بعده , خلقت حواشي راخية استغلها النظام البعثي لدسّ عملاءه أو شراء بعض ضعفاء النفوس من داخل التنظيم الحزبي ودسّهم في التنظيم وقوّات الأنصار . والأسباب الأخرى كانت نتيجةّ تقلب الظروف الموضوعية , ومنها حالات الإقتتال بين الفصائل المسلحة , وأخطرها  الاعتداء الغادر لقوات الإتحاد الوطني الكردستاني (اوك)على مقرات الحزب الشيوعي ومقر الجبهة الوطنية الكردستانية في باشتاشان, يومها كان الأنصار يتهيئون للإحتفال بعيد العمّال العالمي في 1 أيار 1983,استشهد خلاله ما يقارب مائة (100) نصير, معظمهم عرب من بغداد ومحافظات الجنوب, وأطلق الجناة الرصاص على بعض أسرانا على هويتهم القومية . كان العدوان عربونا مفضوحا قدمه (أوك) لسلطة البعث مقابل قبول الأخيرة للدخول في مفاوضات معه  وحصول على مكاسب حزبية تمكّنه من الانفراد بالساحة الكردستانية, إلاّ أنّ الراشي لم يحصل من المرتشي حتى على عقب سيكارة ! أرهق هذا الاعتداء الحركة المسلحة في كردستان وزعزع ثقة أوساط واسعة من الجماهير الكردية بها ومهدّ الطريق أمام سلطة البعث لعقد صفقات مع بعض رؤساء العشائر الكردية التي كانت تهاب قوّات الأنصار والبيشمةركة, وتشكيل تنظيمات مسلحة معظمها من الهاربين من جبهات القتال, بعد إصدار عفو عنهم سميت بالأفواج الخفيفة, أوكلت إليها مهمة مقاتلة البيشمةركة والأنصار مقابل أموال استحوذ عليها رؤساء العشائر . وانحسر بذلك توافد الشباب للتطوع في صفوف البيشمةركة والأنصار . ومن العوائق التي صادفت الأنصار هو دخول مسلّحي حزب العمّال الكردي التركي (ب ك ك) إلى منطقة بهدنان وفرضوا أنفسهم "كمحرري كردستان الكبرى". أخذ هؤلاء يستفزون مقاتلينا ويعتدون عليهم , ونتيجة أعمالهم العدائية استشهد ثلاثة من أنصارنا, ومنهم الشهيد أبو آذار من الناصرية . إلاّ أنّ الأنصار لم يسكتوا على هذه الاستفزازات بل ردوا عليها , والتحق البعض من هذه الجماعات بأنصارنا بسبب عدم قناعتهم بمثل هذه الأعمال الغادرة . وينطبق على هؤلاء المثل الشعبي العراقي " هم نزل وهم يدبّج عاسطح" . ولكن , ومع الأسف, كان بيشمةركة حدك يحمون هؤلاء من ردّ الأنصار على أفعالهم .

- لم تثن الظروف القاسية عزيمة الأنصار في مواصلة القراءة والكتابة والنقاشات الساخنة والهادئة والاستماع إلى آخر أخبار العراق والعالم . فوضعوا القلم والكتاب والمسرح والراديو إلى جانب البندقية لمواصلة تطوير ثقافتهم وآرائهم . أبدع المسرحيون في كتابة النصوص المسرحية وإخراج المسرحيات والتمثيل,وجذب هواة التمثيل من الأنصار إلى المسرح , وقدّموا عشرات المسرحيات في مقرّات القواطع والأفواج في الكثير من المناسبات , وأقام الفنانون التشكيليون – الشهيد أبو أيار     وأبو فائز, والرسم الكاريكاتيري الفنّان أبو بسّام عدد من المعارض نالت إعجاب الأنصار وضيوفهم . كانت السرايا المتنقلة وسرايا حماية  المقرّات , وكذلك بعض الفصائل , تصدر مجلّاتها الخاصة بها , يرفدها الأنصار بمقالات سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية وقصائد شعرية وخواطر وقصص قصيرة, كما لم تخلو من فكاهات وكاريكاتير . كانت تكتب وتستنسخ باليد ويتم تداولها بين مقاتلي السرية وبين السرايا الأخرى . وقد وصل عددها إلى حوالي ثلاثين مجلّة وبمئات الأعداد. المثال على ذلك , مجلة "النصير الثقافي" وهي أول مجلة تصدر للأنصار في تشرين أول 1980 وصدرت في قاعدة بهدنان , مجلّة "فجر النصير" صدرت في قاعدة هيركي – قاطع أربيل منذ كانون ثان 1981, مجلة "رينوين- الدليل" صدرت في قاطع السليمانية  منذ آذار 1984. ولم تخلو أية من هذه السرايا والفصائل من الكتب في مختلف المواضيع  , رغم أنها كانت تشكل ثقلا إضافيا قي حقائبهم التي تحوي حاجاتهم , وخاصة الأكل الذي كانت جماهير قرى كردستان تخصصه لفصائل البيشمةركة المقاتلة إلى جانب حملهم السلاح وعتاده (3).ومن رواد الثقافة الأنصارية, ومن ضمنهم إعلاميون,أتذكّر منهم, عوّاد ناصر,داود أمين,أبو دجلة, زهيرالجزائري,أبوسهيل,سلام الصكر, كامل الركابي,أبو طالب,مفيد الجزائري,حيدر أبو حيدر, يوسف أبو الفوز, رياض محمد,قاسم الساعدي, وعشرات غيرهم . ولم يتخلى الأنصار عن تشكيل فرق رياضية , مثل كرة القدم والطائرة ,وإقامة المباريات فيما بينها وبين فرق بيشمةركة الأحزاب الأخرى .

- استطاعت السلطة الفاشية التعتيم على الكفاح المسلّح في كردستان بوحدانية إعلامها الغوبلزي "كذّب ثمّ كذّب ثمُ كذّب حتى يصدّق الناس", فكانت تهدر أموالا طائلة لتشتري ضمائر وشرف البعض وزجها في مجمعها الإعلامي المتكون من إذاعات ومحطات تلفزة وصحف ومجلاّت ومراسلين داخل وخارج العراق ومحطّات تشويش على كل إذاعة لا تتلاءم وسياسة النظام مستخدمة لذلك أحدث المعدات التكنولوجية , وحجبت عن الجماهير العراقية وسائل الاتصالات الحديثة مع العالم الخارجي , مثل الإنترنت والستلايت والهاتف النقّال , ومنعت الكتب التي لا تمجّد " القائد الضرورة" وحزبه الفاشي. وعبر هذا الإعلام المتهور فتحت سلطة البعث أبواقها لتشويه الحقائق , ومنها تأريخ العراق وحضاراته العريقة , ولم تنطق بكلمة حقّ واحدة ,لا أمام الرأي العام في الداخل ولا في الخارج .  كلّ ذلك مقابل إعلام بسيط متواضع للحزب الشيوعي لم يكن بمقدوره إيصال صوته إلى أغلبية الشعب , لم يكن ليتعدى إذاعة متواضعة وصحيفة طريق الشعب ومجلة الثقافة الجديدة وكان توزيعها في الداخل محدودا . مع العلم كان للحزب رفاقا إعلاميين متمكنين وماهرين في مختلف المجالات , عملوا مع معدّات وأجهزة قديمة مضى زمنها ولا وجود لأدواتها الاحتياطية,و ضمن ظروف في غاية الخطورة ولم يبخلوا براحتهم وصحتهم والعمل لساعات طويلة والسهر على حماية وصيانة هذه المعدّات من أجل إيصال كلمة الحق إلى المواطن العراقي .

- استخدمت سلطة البعث كافة أنواع الأسلحة المحرمّة دوليا , باستثناء السلاح النووي لأنه لم يكن بحوزتها, ضدّ الحركة المسلحة في كردستان . ففي أيار 1987 قام سرب من طائرات النظام بقصف مقر قاطع بهدنان للأنصار الشيوعيين في زيوة على نهر الزاب بالأسلحة الكيماوية , ولأول مرة, فاستشهد فيها النصيرين أبو فؤاد (فلاّح) وأبو رزكار (مهندس نفط - ماجستير) وجرح أكثر من 120 نصيرا توفي البعض منهم بعد تعرضهم إلى أمراض خطيرة بسبب الغازات السامّة . لم يتحرّك حينها الضمير العالمي بسبب "تعطيله" من قبل أميركا وأوروبا,وكان نظر وسمع الأمم المتحدة في "إجازة" , بينما كانت دول الخليج في "شهر عسل" مع النظام الفاشي والتي أغدقته بملياراتها ليقوم سليل الفاشية بتوزيعها يمينا وشمالا لإخماد الضمائر وشراء الذمم وتقوية قطعان حمايته وجواسيسه وتوديع القسم الآخر في البنوك الغربية , ثمّ ليدفع الشعب العراقي فاتورة بلطجته , مدعيا حمايته للبوابة الشرقية للأمة العربية , وأخيرا انقلب السحر على الساحر بعد احتلال الكويت .

- أصبحت حركة الأنصار جزءا مهما من تأريخ نضال الحزب الشيوعي العراقي ضدّ الأنظمة الدكتاتورية الفاسدة ومن أجل نظام ديمقراطي برلماني عادل يقرّ حقوق الطبقات الكادحة ووضع حدّ لاستغلالها اللا إنساني من قبل الرأسماليين . لذا يتوجّب توثيق تأريخ الحركة الأنصارية الحافل بالبطولات والتضحيات ليتسنى لجماهير شعبنا التعرف على أحد جوانب نضال الشيوعيين العراقيين لتقارن , وبشكل موضوعي , بين مختلف آراء وأفكار وتأريخ الحركات السياسية العراقية وعقلانية برامجها , وخاصة نحن نخوض حاليا معركة الديمقراطية في ظروف بالغة التعقيد يسودها الإرهاب والفساد والتنازع الّلا مبدئي على السلطة . علينا جميعا طرح الحقيقة أمام الجماهير والتي غيبّت عنها لفترة خمسة عقود , لتتمكن بملء إرادتها اختيار من سيمثلها ويدافع عن حقوقها المستباحة .

بعد أن بنى النظام آماله على قرب توقف الحرب مع إيران ووجود مشاكل داخل الحركة المسلّحة في كردستان , خاصة بعد أحداث باشتاشان , وتمكينه من تسليح الآلاف من الأكراد ضمن تشكيلات ما سمي ب "الأفواج الخفيفة" (والتسمية الشعبية , الجاش أو الجحوش) بعد الاتفاق مع بعض رؤساء العشائر من خونة الشعب الكردي , بدأ النظام باتخاذ كلّ الإجراءات لبدء الأنفال السيئة الصيت تحت شعار الآية القرآنية "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" . عيّن رأس النظام ابن عمّه علي حسن المجيد الملقّب ب"علي الكيماوي" أمين سرّ تنظيم الشمال بعد أن رفّعه الى رتبة فريق , وكان هذا الفريق عبارة عن نائب عريف فاشل قبل مجيئ البعث للسلطة في 1968 . ويضاهي المجيد هذا صدّام ونجليه والمقربين منه بوحشيته وفقدانه الشعور الإنساني . ومن أقوال هذا الوحش الدنيئ " آني راح اضربهم..... راح اضربهم كيمياوي.... شيريدون يكولون الدولي ...أنعل أبو الدولي… لبو اليفزع من كل دول الله ..." (4). لقد تجاوز هؤلاء أفعال هتلر عندما كان يخاطب مخابراته وضبّاط جيشه أثناء اجتياح أوروبا : " تخلّو عن ما يسمى بالضمير ". كان هذا المستوى السياسي والاجتماعي والأخلاقي لحكّام النظام السابق .

غيّب النظام خلال الأنفال أكثر من مائتي ألف مواطن من كردستان باستخدامه شتى أنواع الأسلحة , وخاصة السلاح الكيماوي ومارس أشكال التعذيب والاغتصاب معهم , ودفنت الأغلبية في مقابر جماعية . وفي يوم 16 آذار قصفت طائرات النظام مدينة حلبجة بالسلاح الكيماوي , استشهد فيها خلال دقائق ما يقارب الخمسة آلاف مواطن معظمهم من الأطفال والنساء والمسنّين , وأصيب وشوّه أضعاف هذا العدد, مما أدّى الى وفات أعداد أخرى منهم . بسبب الظروف المعقّدة والخطيرة قبلت الأحزاب الكردية دعوة الحزب الشيوعي العراقي لتشكيل " الجبهة الكردستانية العراقية " في أيار 1988 وانظمّ إليها , بالإضافة إلى الحزب الشيوعي , الحزب الديمقراطي الكردستاني (حدك) والإتحاد الوطني الكردستاني (أوك) والحزب الاشتراكي الكردستاني وحزب الشعب الديمقراطي الكردستاني . جاء قيام الجبهة في وقت متأخّر جدا , وكما يقال "في الوقت الضائع" , أي في وقت كان النظام قد أكمل كلّ استعداداته وبدأ بالانقضاض على كردستان لاستهداف الحركة المسلّحة وتركيع الشعب الكردي . كان قيام الجبهة في هذه الفترة عبارة عن حاصل جمع بين الأحزاب التي تقود الكفاح المسلّح , أي, لم يكن أمامها الوقت الكافي لبرمجة عملها وتوضيح أهدافها وترويجها بين الناس. وفي هذا الوقت بدأت آلاف العائلات الكردية بالنزوح نحو الحدود التركية والإيرانية للخلاص من جحيم الأنفال . وجاءت الجبهة قبل ثلاثة أشهر فقط من احتدام المعارك المصيرية بين قوّات النظام ومرتزقته وبين قوّات البيشمةركة . واستطاع النظام , بعد موافقة الخميني على إيقاف إطلاق النار  في الثامن من آب , من سحب الفيلق الأول والثاني والخامس من الجبهة وتعزيزها  بالحرس الجمهوري والحرس الخاص والمغاوير وما سمي بالجيش الشعبي بالإضافة إلى الجحوش  لزجّها في القتال ضدّ الأنصار والبيشمةركة .

حديثنا هنا, يقتصر على الأيام الأخيرة من تواجد قوّات أنصار الفوج الأول للحزب الشيوعي وعائلاتهم المهجرة من مناطقهم الأصلية وسكّان القرى الآمنة المحيطة بمقرّ الفوج الأول (منطقة جبل غارة),لأنّ قوّات حدك انسحبت منذ فترة , وكان من المفروض أن تنسّق مع قيادة الفوج الأول حول طريقة الانسحاب , أو على الأقل إعلامنا بانسحابها . والجدير بالذكر, لم يكن هناك أي تواجد لقوّات أوك في منطقة بهدنان منذ تأسيسه , رغم محاولاته في الفترة الأخيرة (1987- 1988), أي بعد مصالحاته مع حشع و حدك , بتقديم إغراءات مادية لكل من يرغب بالانتماء إلى قوّاته .

بدأ التحرك الفعلي لقوّات النظام بعد يوم واحد من إعلان توقّف القتال بين العراق وإيران من مدينة الموصل في عدة اتجاهات , العقرة وشيخان وسرسنك , والهدف هو الاستيلاء على مقرّ الفوج الأول والفوج الثالث المتمركز في كلي هصبة في منطقة جبل متين لقوّات الأنصار ومقرّات بيشمةركة حدك في نفس المناطق . في هذه الأيام بالذات كنّا منتشرين في قرى المنطقة للحديث مع الأهالي حول الأوضاع الصعبة التي تمرّ بها الحركة المسلحّة في كردستان . كان البعض من سكان القرى قد إتّخذوا قرارهم بترك قراهم والتوجه نحو الحدود التركية , والبعض الآخر مجرّد ينتظرون إلى ما ستؤول إليه الأوضاع . والقلة منهم لا تريد ترك أرضها وممتلكاتها بدون قتال إلى جانب الأنصار والبيشمةركة مستمدين عزيمتهم من العمليات الجريئة  للأنصار وبيشمةركة حدك, وخاصة مقاومتهم البطولية التي أفشلت محاولة الآلاف من قوّات النظام ومرتزقته لاحتلال مقرّاتها شتاء 1986/1987 ومنزلة فيه خسائر كبيرة , استشهد خلالها أحد أبطال بيشمةركة حدك, وكذلك الأخبار القادمة من مناطق المعارك الدائرة حاليا بين البيشمةركة وبمشاركة الأنصار, بقيادة السيّد مسعود البارزاني (رئيس الاقليم)من جهة وقوّات النظام ومرتزقته من جهة أخرى في منطقة خواكورك وصمود البيشمةركة وتكبيد القوّات الغازية خسائر كبيرة . وكانت هذه المعارك قد بدأت منذ منتصف تمّوز حتى السادس من شهر أيلول, لينهي النظام فعلته الشنيعة " والأنفال" . وأعيد انتشار قوات البيشمةركة  والأنصار في منطقة سوران وأقسام منها دخل الأراضي الإيرانية والتركية .

تغيّرت الظروف كليا بعد وقف إطلاق النار مع إيران وأصبحت كفة النظام أكثر رجوحا من ذي قبل, وخاصة في بهدنان . فالنظام يمتلك كافة أنواع الأسلحة الحديثة ,من خفيفة ومتوسطة وثقيلة والطيران المتعدد الأهداف ومختلف الصواريخ , وأعداد قوّاته تعادل عشرات أضعاف قوّات الأنصار والبيشمةركة ,وأصبح الوقت متأخرا جدا لإعادة ترتيب الفصائل المقاتلة . لذلك أصبح الكلام عن المقاومة مجرّد خيال , لأنّ أيّة مقاومة , مهما صغرت , سينهيها النظام بالسلاح الكيماوي , وليس هناك من يمنعه من ذلك , لأنّه أصبح كالكلب المسعور ويحضى بإسناد "أشقاءه" من بعض أنظمة الدول العربية المنضوية تحت المظلّة الأمريكية وبتشجيع المنظمات والأحزاب القومية العربية والإسلامية المتطرفة, وأصبح رأس النظام يشعر بأنّه سلطان المنطقة , وشتائمه "لأشقّاء الأمس" واحتلاله للكويت كان دليلا على ذلك .

نسّب الرفيق أبو سالار (لبيد عبّاوي ,وكيل وزارة الخارجية حاليا) سكرتيرا لمحلية نينوى بعد المؤتمر الرابع للحزب في 1985, ثمّ أصبح مسؤولا عن العمل الحزبي والعسكري بعد دمج التنظيم الحزبي والأنصاري في آذار 1988,وأصبحت محلية نينوى تقود الفوج الأول والتنظيم الحزبي (وكنت عضوا فيها) . كان الاجتماع الأخير لمحلية نينوى يوم 24/8/1988 وبكامل أعضاءها , وبعدها, وبسبب الظروف الاستثنائية, جرت الأمور عن طريق اللقاءات, وفي هذا الإجتماع أبلغنا الرفيق أبو سالار بقرار المكتب السياسي للحزب بالإنسحاب باتجاه منطقة سوران , وحدد يوم 26/8 للانسحاب, على أن يتم إرسال العوائل إلى مقرّ الفوج الثالث في كلي هصبة (منطقة جبل متين) يوم 25/ 8 ليأخذ على عاتقه إيصالهم إلى تركيا أو سوريا ,باعتبار أنّ الطريق إلى سوران محفوف بالمخاطر , كما يتمّ الإتصال بمحلية شيخان (حدك) في كلي سيدةرة للتنسيق حول طريقة الإنسحاب , إلاّ أنّ بيشمةركة حدك كانوا قد انسحبوا منذ فترة وبدون إبلاغنا بذلك . بعد موافقتهم أكدّ أنصار الفوج الثالث على أن تتمّ العملية بسرعة , لأنّ الوقت لا يرحم ! بدأ الأنصار باخفاء الوثائق الشخصية والصور والأرزاق والأسلحة المتوسطة , مثل الدوشكا و آر بي جي 20 . إختارت قيادة الفوج فريق من الأنصار الشباب النشطاء لمرافقة العوائل كونها مهمّة خطيرة وحساسة , وبدأت مسيرتهم مساء 25/8 على أمل إستلام برقية من الفوج الثالث صباح اليوم التالي بوصولهم بسلام . رغم الهدوء الذي خيّم على مقرّ الفوج الأول بعد ركوننا إلى أفرشتنا, لا أعتقد بأنّ هناك من استسلم إلى  النوم , لأنّ همومنا أخذت تزداد, خاصة بالنسبة للأنصار الذين أرسلت عوائلهم لعبور الحدود , ولكن أي حدود؟ وإلى أين؟ وهل ينجح الانصار في مهمّتم المحفوفة بشتى المخاطر؟ لا أحد يعرف ! بعد منتصف ليلة 25/26  عاد أحد الانصار المرافقين للعوائل ليخبرنا بعدم تمكنهم من عبور الشارع الرئيسي بين سرسنك ومدينة العمادية , بسبب سيطرت قوّات النظام عليه ومرور عشرات الدبابات والمدرّعات والمدافع وناقلات الجنود لإتمام الطوق على مقرّاتنا . بعد قليل بدأت أصوات الأطفال ودردشة النساء تطرق أسماعنا. دخلت العائلات المقرّ وقد انتابها الإرهاق والتعب النفسي والجسدي . لقد تأخّرنا في أداء هذه المهمة . إنقطعت كلّ الاتصالات اللاسلكية مع المكتب السياسي والمكتب العسكري والفوج الثالث للإحتفاظ بسرية أماكن تواجدنا . طرح سكرتير المحلية فكرة إيصال العائلات الى قاطع أربيل في كافية , ومنها الى سوران عبر نهر الزاب برفقة أنصار القاطع . عندما سألت السكرتير ,لماذا لاتنسحب العائلات معنا إلى كافية , فردّ , بأنّ العائلات مع الأطفال تسير ببطؤ  ونحن نلحق بهم في اليوم التالي بعد تناول الفطور, (يا لها من نزهة !) . بدأت العائلات بالإنسحاب من المقرّ عصر يوم 26/8 ترافقها مجموعة من الأنصار باتجاه قاطع أربيل وانصرفنا إلى النوم فوق سطوح القاعات . كانت ليلة 26/27 آب هادئة والحراسات مستمرّة . لا أشكّ بأنّ أحدا منّا لم يكن يفكّر,بدلا من النوم, بأحبته, زوجته وأطفاله وحبيبته ووالديه وشقيقاته وأشقّاءه وأصدقائه ووو . ولكن ما هو شعورهم تجاهنا والأخبار تتوالى باتباع النظام الفاشي سياسة الأرض المحروقة في كردستان! في حوالي الساعة الثانية بعد منتصف الليل شقّ الهدوء صوت قذيفة مدوّي والذي دفعنا تلقائيا باتجاه نقطة الحراسة, اتصل الرفيق توفيق بربية المقر وأخبروه بأنّ القذيفة قريبة وباتجاه المقرّ . "العدو الغادر لم يعطنا فرصة تناول فطورنا بهدوء". إضطررنا لتناول الفطور بعجالة , وبدأنا بالانسحاب في الرابعة صباحا باتجاه كافية . أول قرية في طريق الانسحاب هي آطوش التي كانت تحتضن بعض عوائل أنصارنا . عندما كنّا نمرّ بآطوش, أيّام تنقلاتنا بأمان لتنفيذ المهام الموكلة إلينا, كانت الفرحة تدخل قلوبنا , حيث صيحات الأطفال وضحكاتهم وبكائهم , وبساتينها وأزهارها الجميلة التي تعبق من بعد , ودردشات الكبار من نساء ورجال ودعواتهم لنا لتناول الأكل أو شرب الشاي والحديث حول ما يجري في بلدنا المثقل بكابوس البعث . أمّا في هذه المرّة كان الوضع مختلفا تماما , فلا شئ يشبه ما ذكرناه سوى بيوت  وأزقة فارغة حزينة , وكأنها تعاتب أهلها الذين تركوها مجبرين إلى وجهة غيرمعروفة , منتظرة أجلها المحتوم على أيدي أيتام هتلر لتلتحق بآلاف القرى الكردستانية التي أزيلت من الوجود. كنّا آخر مجموعة تسلك ذات الطريق الذي سلكه الآلاف من سكان قرى . بعد مسيرة حوالي ساعتين وصلنا إلى أحد فروع نهر الزاب , وهناك الكثير من العوائل منتشرة لتأخذ قسطا من الراحة . تحدّثنا معهم , من أي قرى قادمين وما هي وجهتهم , كان الجواب , الهروب من الموت وبدون وجهة محددة . واصلنا مسيرتنا بمحاذات النهر , ولاحظنا بأنّ الطريق يزدحم بالناس كلّما تقدمنا , بل وهناك من يسير بعكس الاتجاه , وبكاء النساء والأطفال يزداد , ولكن أين عائلاتنا؟ جاءنا الخبر الأكيد من بعض الرفاق الذين رافقوهم بأنّ العائلات عائدة إلينا لآنّ الجيش احتلّى مقرّ قاطع أربيل بعد أن تمكنّ الإنصار من الإنسحاب منه بساعات . لقد تأخّرنا مرة أخرى. مع العلم كانت لدينا تجربة ناجحة بإخلاء عائلات الأنصار من مقرّ الفوج الأول. فقبل أن تبدأ المعارك بين الأنصار وبيشمةركة حدك من جهة وقوّات النظام ومرتزقته من جهة أخرى شتاء 86/87, كلّفت قيادة الفوج الرفيق أبو عمشة يرافقه بعض الأنصار,رغم حالته الصحية المتردية, بسحب العائلات إلى قاطع أربيل في كافية . فتمّ ذلك بهدوء وعدم تعرّضها إلى أية مخاطر, رغم قساوة المناخ والثلوج .

لنعود قليلا إلى الوراء ونتحرى أسباب هذا الإخفاق . المقصود هنا ليس تجيير الأخطاء والإخفاقات على هذا المسؤول أو ذاك , كنت أنا أيضا في لجنة محلية نينوى التي تقود العمل التنظيمي والعسكري , أي أتحمّل قسطا من تلك الأخطاء بغض النظر عن مهمّتي . من الضروري قراءة الماضي بشكل نقدي , وهذا ليس بعيدا عن سلوك الشيوعيين,كون ذلك أحد قوانين التطور. فالذي كان يصلح بالأمس ربما لا يصلح اليوم , والذي يصلح اليوم ربما لا يصلح للغد, لأنّ قراءة الظروف الموضوعية والذاتية بشكل صحيح هي البوصلة الحقيقية لوضع السياسة الصحيحة . والمهم هو الاستفادة من الأخطاء , (وخاصة نحن نمرّ اليوم بعد 2003 بمرحلة استثنائية مرشحة لكل الاحتمالات) . الأخطاء والإخفاقات المارة الذكر كان سببها طبيعة عملنا , كاتّخاذ القرارات بشكل متأخر وأحيانا فرض قرارات فوقية أو التلكؤ في تنفيذ بعضها أو التأخير بايجاد آلية لتنفيذها وأحيانا الإرتياحات الشخصية . فقرار دمج التنظيم الحزبي والعسكري تحت قيادة واحدة جاء متأخرا رغم صحّته,أي بعد حوالي عشر سنوات من بدأ العمل المسلّح,كونه جاء في ظروف صعبة وحرجة لحركة الأنصار وعموم الحركة المسلّحة في كردستان . هذا الدمج أصبح عبارة عن حاصل جمع قيادتي التنظيمين وبدون دراسة وافية , وأصبح البعض من الكادر الحزبي بدون نشاط وكأننا نمرّ في فترة بطالة مقنّعة. كان على قيادة الحزب دراسة العمل الأنصاري وإعادة هيكلته بين فترة وأخرى وفق ما تقتضيه الظروف , وإفراغ المقرّات من العائلات والمرضى والمسنين والأنصار المتلكئين في عملهم وإرسالهم إلى الخارج للتأمين,على الأقلّ, على حياتهم , ثمّ الاعتماد على مجموعات أنصارية صغيرة من الشباب خفيفة الحركة تتناسب والظروف التي ازدادت تعقيدا منذ عام 1987. السبب الرئيسي للإخفاقات هو عدم وجود قيادة مؤهلة لقيادة العمل الأنصاري وخلافات داخل قيادة الحزب (5).

جاء قرار إنسحاب الأنصار من منطقة بهدنان متأخرا, وخاصة الفوج الأول . فبالإضافة إلى أوضاع محلية نينوى الذاتية وافتقارها لخطة طوارئ وتسارع الأحداث وتمكين النظام من توزيع قواته حول مقراتنا سببا آخر في عدم تمكين المحلية من اتخاذ القرار في الوقت المناسب لسحب عائلات الأنصار .

ملاحظة 1 : "كان مقرّ بيشمةركه حدك (محلية شيخان) في كلي سيدره لا يبتعد عن مقرّنا سوى دقائق , وكان من المفروض أن ينسّقوا مع قيادة الفوج الأول في تنظيم عملية الإنسحاب وإخلاء المنطقة من سكانها وتأمين انسحابهم , مع العلم كان التنسيق بيننا كحلفاء جيدا أثناء القيام بعمليات قتالية أو الصدّ لهجوم قوّات النظام . لكنهم فاجئونا بانسحابهم المبكر وعدم إبلاغنا حتى بنيّتهم بذلك وتركهم الآلاف من جماهير المنطقة ليقوم الأنصار الشيوعيون لوحدهم بحمايتهم . وكانت تلك المرّة الثانية التي تفاجئنا محلية شيخان بانسحابها بدون التنسيق مع الفوج الأول . و المرة الأولى كانت أثناء هجوم قوّات النظام ومرتزقته على مقرّي مرّاني وسيدره في كانون الثاني 1987".

لقد كانت فكرة سكرتير محلية نينوى بعدم مرافقة أنصار الفوج الأول للعائلات وتكليف الأنصار الآخرين بذلك خاطئة تماما ومهما كانت الحجج .

أخذت الجموع تتراجع ومحاذات فرع الزاب باتجاه مقرّ الفوج الأول وأصوات صياح وبكاء الأطفال والكبار تتعالى مع سماعهم رشقات الأسلحة الرشاشة وأصوات قذائف المدفعية من خلف القمم المحيطة بنا بعد أن أصبحت سلسلة جبل كارة محاطة بقوّات النظام ومرتزقته من الجحوش , وسدت عليهم كلّ الطرق المتاحة للهرب . بسبب حراجة الموقف وخطورته عليهم , أخذت الناس تنفث ما في داخلها من هموم , فهذا يتهم  قيادة البيشمةركة بتركهم لقمة سائغة للنظام , والآخر يسأل لماذا وصلت الأمور إلى حدّ الهزيمة , والكلّ تلعن النظام ومن يقف وراءه. ليس من الغريب أن تنهار معنويات الناس وهم في هذا المأزق الخطر مع الأطفال والمرضى والمسنّين . في هذا الاثناء أخبرني أحد الأنصار بتوكع صحة ر.أبو سلوان ويريد التحدّث معي . بعد الحديث معه وطمأنته كون الوكعة بسيطة , سلّم لي بندقيته وصور فوتوغرافية وجواز سفره , وطلب منّي إتلافها . وفي اليوم التالي تحسّنت صحته , فأعدت له الأمانة سالمة وشكرني لعدم إتلافها . أخذت جموع الناس , ومعهم عائلات الأنصار تتجمع حولنا , وبدأ الأنصار بتهدئتهم والتريث لحين إيجاد حلول قد تؤدي للخروج من المأزق . قررت محلية نينوى التوجه إلى أخاديد جبل كارة مع هذه الجموع التي قدّر عددها بحوالي 25000 (خمسة وعشرين ألفا) للإحتماء وأخذ قسط من الراحة وتداول الوضع . كان الأطفال أكثر حضورا وأعمارهم متفاوتة , بدءا من حديثي الولادة فصاعدا , ويملأون المكان بلعبهم وبكائهم وأصواتهم وعلى محياهم البراءة غير آبهين بما يجري حولهم . أمّا الرجال كانوا يتسللون إلى قراهم لجلب المزيد من الأكل والأفرشة لعوائلهم  وما لديهم من دجاج وأغنام لسدّ رمقها وحمايتها من برد الليل .إنتابت البعض من الناس حالات مرضية , خاصة الأطفال . كان طبيب الفوج الرفيق باسل حاضرا دائما بتجواله بين الناس يساعده في ذلك نصيرات الفوج , حيث يعطي ما هو متوفر من أدوية وتقديم الإرشادات لتلافي أي خطر انتشار الأمراض المعدية . أمّا بعض الشباب , ومن تبقى من البيشمةركة , بقوا مع عائلاتهم محتفظين بأسلحتهم الخفيفة لحمايتها . أعطت قيادة الفوج تعليماتها إلى الكل بعدم إطلاق النار وعدم إثارة أية أعمال ملفتة للنظر , لتلافي الصدام مع قوّات النظام وتعريض هذا الجمع الكبير إلى خطر الإبادة . فكان الإلتزام بالتعليمات والهدوء هما المهيمنان على الموقف .

لم يحتمل الوضع أي انتظار , فسارعت محلية نينوى إلى تداول الموقف ,(كان أكثر رفاقها حراكا حينها,سكرتيرها أبو سالار وآمر الفوج توفيق, وأبو سربست وأبو أمجد), واتخذت قرارا بإرسال مجموعات أنصارية , تأخذ كلّ مجموعة على عاتقها إيجاد طريق آمن للانسحاب باتجاه منطقة سوران أو حدود دول الجوار (سوريا,تركيا,إيران) .

ـــــــــــــ

1-أوراق توما توماس في 42 جزء ,منشورة في أرشيف عدة مواقع إلكترونية منها

www.yanabe3aliraq.com

www.al-nnas.com

2- المصدر السابق

3- لطيف حسن,عندما كان الأنصار يكتبون صحفهم بأيديهم في ستة أجزاء منشورة في أرشيف:

www.iraqicp.com

4- د. محمد مجيد,عمليات الأنفال-الجزء الأول, مع فيديو

5- أوراق توما توماس, أنظر الهامش 1 و 2- ,وحنّا بطاطو, تاريخ العراق, الجزء الثالث

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.