اخر الاخبار:
اخبار المديرية العامة للدراسة السريانية - الأربعاء, 24 نيسان/أبريل 2024 18:10
احتجاجات في إيران إثر مقتل شاب بنيران الشرطة - الثلاثاء, 23 نيسان/أبريل 2024 20:37
"انتحارات القربان المرعبة" تعود إلى ذي قار - الإثنين, 22 نيسان/أبريل 2024 11:16
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

ذكريات أنصارية بعد ربع قرن من الأنفال (الجزء الثاني) -//- يوسف شيت

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

اقرأ ايضا للكاتب

يوسف شيت

ذكريات أنصارية بعد ربع قرن من الأنفال

(الجزء الثاني)

هذه الذكريات تخص منطقة بهدنان, وحصرا الفوج الأول للأنصار, التي كنت نصيرا فيها لمدة عشر سنوات (تمّوز 1980 – كانون ثان 1990, ومنها سنتان في منطقة سوران- ناوزنك بعد الأنفال), وتحديدا من 8 آب إلى 10 تشرين أوّل 1988

توجهت أول مجموعة يوم 2/9 من 14 نصيرا (أغلبيتهم من بغداد والمحافظات الجنوبية) إلى منطقة دوسكي وبمسؤولية ر.أبو سلوان (عضومحلية نينوى) ودليلها ر.ألند (من أهالي المنطقة سابقا) , بعدها تتوجه إلى الحدود السورية عبر الأراضي التركية . المجموعة الثانية من 14 نصيرا من أهالي مدينة عقرة , باستثناء الرفاق سالم ساجت وهوبي (من قاطع أربيل) وأنا, على أن تتوجه لعبور نهر الزاب الكبير وبمسؤولية ر.كروان عقراوي ,عضو محلية نينوى (مدير فضائية كردستان التابعة لحدك حاليا) . أمّا اللجنة المحلية والباقون من الأنصار بدورهم يبحثون أيضا عن طرق أخرى ومواصلة حديثهم مع الناس لتأمين الإنسحاب . لم يكن إيجاد الطرق سهلا بسبب الإنتشار  الكثيف لقوّات النظام ومرتزقته , لذا توجّب على كل مجموعة القيام بالاستطلاع ٌقبل أيّ تحرّك لتأمين الطريق أولا ثمّ مواصلة السير .

توجهّت مجموعتنا نحو الزاب الكبير يوم 3/9 قبل غروب الشمس . قبل وصولنا إلى قرية "باني" فاجأنا كروان بأنه سيترك المجموعة ليتوجّه مع أحد أنصارها إلى مدينة عقرة , وعندما استفسرت عن كون القضية لم يطرحها أبو سالار عند الحديث معه حول مهام المجموعة, فردّ , بأنّه اتّفاق مع سكرتير المحلية وبدون علم الرفاق الآخرين, كونها تخصّ التنظيم المدني, وسيكون ر. هوار مسؤول المجموعة , واستفسر منه ر.سالم مدى معرفة هوار بالطريق . فكانت إجابته بالإيجاب . ودّعنا الرفيق مع مرافقه , واتّخذ كلّ منّا مساره نحو هدفه.

ملاحظة 2 : "كان الشهيد هوار مريضا وبطئ الحركة لايقوى على السير لمسافات طويلة , وأعدمه النظام الفاشي بعد الأنفال في مدينة عقرة" .

بعد غروب الشمس واصلنا مسيرتنا باتجاه قرية باني التي وصلناها حوالي منتصف الليل بعد استطلاعها والتأكّد من عدم وجود أية خطورة . كانت القرية خالية من سكانها, ولكن يظهر بأنّهم تركوها بعد الغروب, لأنّ الجمر في بعض البيوت لا يزال مشتعلا. أخذنا شيئا من الأكل المتوفر وقرع فارغ ويابس يصلح للعوم في الماء أثناء عبور الزاب . غادرنا القرية بعد حوالي ساعة نحو قمة الجبل المطلّة على القرية , وارتمينا في مكان "آمن" قبل الفجر مفترشين الأرض وغطاءنا السماء الصافية كبقية الأيّام الفائتة, وفي النهار تناولنا الأكل وجلبنا الماء من عين قريبة. قبل مغادرتنا المكان أثناء الغروب يوم 4/9 , كلّف هوار كلّ من الرفيقين كمال (مهندس مدني خريج جامعة براغ الجيكية ومن أهالي مدينة النجف الأشرف) ورزكار (معاون طبيب وخريج المعهد الطبي في الموصل ومن أهالي مدينة العقرة), لإستطلاع الطريق . لم يحدّثنا هوار عن الاتفاق مع الدليلين , ولكن اعتقدنا بأنّ كلّ شئ يسير بسلاسة. واصلنا المسيرة صعودا ونزولا مع استراحات متكررة تقديرا لوضع مسؤول المجموعة . سألنا هوار عن مكان اللقاء مع الدليلين , ثمّ إلى متى وأين نسير, فكان يجيبنا بتشنّج وبدون أن نفهم شيئا منه , ولكن لا يلام على ذلك لأنّها كانت ورطة من قبل منظمي المجموعة . اختفى أثر كمال ورزكار, ولم نستطع أن نتحرك نهارا لإقتفاء أثرهما. أصبحنا في حالة يأس ومنهمكين بدون أكل ولا شرب, وخاصة هوار لأنّه كان يشعر بفقدان رفيقين وفشل مهمّته , ولم يقو أحد من المجموعة على مواصلة الطريق لأنّه هلاكها. اتفقت مع هوبي وسالم أن نأخذ المهمّة على عاتقنا لإرجاع المجموعة من حيث أتت بسلام ولكن بدون رزكار وكمال.

ملاحظة 3 : "استشهد النصيرين البطلين كمال ورزكار على يد جلاوزة النظام الفاشي بعد نصب كمين لهما من قبل قوّات النظام ومرتزقته من الجحوش على طريق عقرة , وحاول البعض من الجنود إخلاء سبيلهما , إلاّ أنّ استخبارات النظام رفضت وتمّ قتلهما تحت التعذيب , ولم يتم العثور على رفاة البطلين" .

كان طريق الرجوع أصعب علينا بسبب التعب والجوع وعدم العثور على أي أمل في الانسحاب عن طريق الزاب . بعد بدء "المسيرة المعاكسة" ليلا بدأ هوبي يحث المجموعة في الإسراع باتجاه كرم العنب , وعندما سألته من أين له هذه المعلومات , فردّ بأنّها "كلاوات" لنصل إلى عين الماء قبل الفجر. بعد مسيرة حوالي ساعتين وقعنا في كرم العنب , ولم يصدّق أحدنا ذلك, وبدأنا بالأكل وعصر العنب في الزمزميات للحصول على عصير طبيعي 100% . بعد استرجاع المعنويات والأكل "بشراهة" بدأ البعض بتقيؤ الزائد "الغير مدفوع الثمن". ونحن في خضمّ الصراع مع العنب طرقت أسماعنا, من بعيد, صيحات رجال غير مفهومة , ولكنها تقترب , واعتقدنا بأنّهم جنود تائهين أو مجموعات من الجحوش تتعقب الأنصار والبيشمةركة . بعد حوالي ساعة انسحبنا إلى مكان الإختفاء حتى مساء يوم 6/9 , حيث رجعنا إلى قرية باني وغادرناها مباشرة بعد حصولنا على قليل من الخبز باتجاه مقرّ محلية نينوى .

ملاحظة 4 : "بعد عشر سنوات من الحدث ,إلتقيت النصير أبو أحرار (من قاطع أربيل) في مدينة مالمو السويدية , وتبادلنا الذكريات حول العمل الأنصاري , ومنها فشل مجموعتنا في شقّ الطريق عبر الزاب للمساهم في إنقاذ الناس المحصورة في سلسلة جبل كارة . وأكدّ أبو أحرار بأنّ صيحات الرجال الآنفة الذكر كانت مجموعته من إنصار قاطع أربيل,حيث تمكّنوا من عبور الزاب باتجاه منطقة سوران" !

مكثنا ليلة أخرى في إحدى "كبرات  الرعاة"(وهي سقيفة وقتية من أغصان الأشجار يقضي فيها الفلاحون صيفيتهم مع ماشيتهم) قبل وصولنا الى مكان تجمع أنصارنا يوم 7/9. أثناء سيرنا لم نلتق بأحد من تلك الجموع الغفيرة من الناس , كيف وأين اختفت؟ وكان أنصار الفوج قد انتقلوا إلى مكان قريب من مقرّ الفوج لترقب الأحداث , ثمّ عرفنا بأنّ رأس النظام أصدر عفوا عامّا يوم 6/9 واستسلمت تلك الجموع لسلطات النظام مستغلة قرار العفو . ولكن من الغريب بأنّ عائلات رفاقنا استسلمت هي الأخرى . سألت ر.أبو سربست, وبدون مقدّمات, عن سبب تسليم العائلات, فكان ردّه : "بعد نقاش مستفيض في اللجنة المحلية حول الأوضاع, وخاصة وضع عائلاتنا, وجدنا بأنّ أفضل طريق هو أن يسلّموا أنفسهم للسلطات, ربما يسجنون فترة من الزمن, ولكنه أفضل من المصير المجهول" . كان ردّي قصيرا : "لقد سلّمتم الخروف للذئب". فكان ردّه : "كنت ستوافقنا لو ناقشت الموضوع معنا". عندما تحدّثت مع الرفيق أبو عمشة حول الموضوع, كان عصبيا وقال: "كنت المعارض الوحيد لهذا القرار , ولكن لا يمكن أن أتصرّف لوحدي , ليست عائلتي أفضل من بقية عائلات رفاقنا". صحيح بأنّ القرار اتّخذ بالأكثرية للخروج من المأزق , لكنّه كان خاطئا , إلاّ أنّه اتّخذ في ظروف خطرة وحرجة سادها التخبّط في اتخاذ القرارات.

تحدّثت مع سكرتير المحلية عن أسباب فشل مهمّة مجموعتنا, وكوني غير مقتنع بقرار تسليم عائلات أنصارنا. تحدّث بتفصيل أكثر حول القرار وأنّ الحزب سيتابع وضعهم مع الأمل بأن لاتطول فترة احتجازهم , كما يمكن للأنصار التحرّك بحرية أكثر من ذي قبل . أما عن الحلول الجديدة, قال بأنّ الاتّصال انقطع تماما عن قيادة الحزب , وليس هناك خبر عن مجموعة أبو سلوان, وهناك مجموعة من أنصار مدينة العمادية ستتحرّك قريبا مع أبو عمشة باتجاه الحدود التركية, وستبقى مجموعة من حوالي 35 رفيقا بمسؤولية الرفيق...وستساعده بمهمته مع بعض النواظير لرصد تحركات العدو , أمّا البقية سنتجه إلى سهل الموصل لمحاولة الوصول إلى سوريا. غادرت مجموعة أبو عمشة في اليوم التالي ودليلها أبو زياد (من بغداد) على أن تتحرّك مجموعة أبو سالار مع توفيق وأبو أمجد وأبو سربست بعد يوم . قبل مغادرته, أبلغني أبو سالار بأنّ الرفيق ...اعتذر عن مسؤولية مجموعتنا على أن أتولى أنا مسؤوليتها وأختار بنفسي من يساعدني بذلك, وأكّد بأنّ أبو زياد سيعود بعد اسبوع ليكون دليل مجموعتنا للإنسحاب على نفس الطريق . بعد يومين ودّعنا مجموعة أبو سالار التي كانت أكبر المجموعات. معظم مجموعتنا من العرب والبقية من الأكراد وآشوريين .

بعد يومين من مغادرة مجموعة سهل الموصل رجع نصيران من مجموعة أبو سلوان برسالة إلى أبو سالار. من قرائتي للرسالة المكتوبة من قبل أبو سلوان يتّضح بأنّ هناك خلافات بينه وبين ألند , ولكن يؤكّد بإنّ المجموعة ستواصل مسيرتها رغم ذلك. بعد حوالي اسبوع قدم ثلاثة من الأنصار إلينا أرسلوا من قبل أبوسالار لتقصّي أخبارنا , ولكنهم فاجأونا بخبر محزن وهو استشهاد الرفيق الفنّان الكبير أبو أيار (فؤاد يلدا من ناحية ألقوش – معهد الفنون في إيطاليا) في اليوم الثاني من مغادرتهم , حيث لم يستطع اللحاق بالمجموعة بعد محاولة مداهمتها من قبل قوّات النظام بسبب التعب وأصابته السابقة في قدمه أثناء إحدى المعارك, ليسقط شهيدا بعد يوم من توديعه .

ملاحظة 5 : "ترك الشهيد علبة معدّات الحفر على الخشب والجبس قبل حوالي شهرين من الأنفال, على أمل السفر للعلاج في الخارج بقرار من المكتب السياسي , لأحتفظ بها لحين عودته.. هل هو "الحظّ ", أم الأخطاء والبطؤ بتنفيذ القرارات! أودعت العلبة ومحبس ذهب (هديّة من أم ناتاليا جلبتها أثناء زيارتها لي مع ناتاليا التي كانت في ربيعها الثاني في مدينة لينينغراد) ومسجّل خاص دوبل كاسيت (كنت أسجل أشرطة لبعض محتويات طريق الشعب لإرسالها إلى الداخل ضمن البريد الحزبي الذي كان الشهيد الرفيق عامل - عضو محلية نينوى يحمله معه) ,وضعت هذه الأشياء في حقيبة وأخفيتها في مكان آمن في مقرّ الفوج" .

أمّا الخبر الآخر هو كشف أحد الناشطين في التنظيم الحزبي كان يعمل لحساب مخابرات النظام , ألقي القبض عليه من قبل المجموعة  المختفية في سهل الموصل واعترف بكل ما قام به لكشف الأسرار التنظيمية  , وآخرها محاولة الإيقاع بالمجموعة لتصفيتها من قبل مخابرات النظام. أمّا أخبار عائلات الأنصار ,وهي مجرّد دعايات, كانت تشير بنقلهم إلى معسكرات الاعتقال في أربيل . والمجموعة نفسها لازالت مخفية وتبحث عن طريق للإنسحاب بعد أن انقسمت إلى مجموعات صغيرة ومنتشرة في أكثر من مكان . وكانت مجموعات صغيرة من سهل الموصل تتوافد إلينا بين فترة وأخرى لتبادل الأخبار , وأخيرا علمنا بمغادرتهم سهل الموصل إلى منطقة سنجار. إنقطعت نهائيا أخبار عائلات الأنصار , وبعد أن دارت الأيّام , تأكّد خبر تصفيتهم من قبل جلاوزة النظام الفاشي , ولم يتمّ العثور على رفاتهم , واستشهد بذلك  195 فردا, معظمهم من الطائفة الإزيدية ثمّ الآشورية, ومنهم : 82 طفلا, (من بينهم 17 رضيعا, عمر أصغرهم 40 يوما وهي بنت الرفيق أبو سربست) , و 40 إمرأة و16 من الصبايا والصبيان و32 من الشابّات والشباب و 25 مسنّا .

لتفادي مخاطر التصادم مع مفارز قوّات النظام التي تتردد على مقرّ قاطع الفوج , إنتقلنا إلى مكان أبعد وأكثر أمانا , قريبين من عين ماء كانت ملتقى استراحة الأنصار القادمين من وإلى الفوج الأول ومقرّ القاطع والسريّة المستقلّة (سرية العيمادية). مرّت حوالي عشرة أيام ولم يظهر الدليل , وأصبحنا منقطعين تماما عن الكلّ . حتى جهاز اللاّسلكي لا يمكن استخدامه , وأخفي وأتلفت الشفرة من قبل الرفيق كريم دويا (مسئول الاتصال) لتفادي انكشاف موقعنا من قبل العدو . للتقليل من مخاطر احتمال اكتشاف موقعنا وتطويقنا من قبل قوّات النظام قمنا بتقسيم مجموعتنا إلى ثلاثة فصائل صغيرة وبمسؤولية كلّ من ملازم كرم (يوسف أبو الفوز) وأبو عشتار ومخلص الصغير , وكنت ضمن الفصيل الأخير , وأصبح لكل فصيل مكان اختفاءه وليست متباعدة عن بعضها لضرورة الاتصال فيما بينها . أكّدنا على أهمية الحراسات ليلا ونهارا. في الصباح الباكر كنت ومخلص الصغير نجوب المنطقة مع نواظيرنا حول الفصائل لرصد أي تحرك للقطعات العسكرية , وكنا نسمع من بعد أصوات تفجيرات بيوت القرى ونشاهد الدخّان المتصاعد منها . لم تكن هناك مشكلة في الأكل , حيث كنّا نتسلل إلى مخزن مقر الفوج الأول لجلب الطحين والرز والبرغل والسكر والشاي والحليب المجفف وبعض المعلّبات والعدّة المطبخية البسيطة, هذا بالإضافة إلى ماتركه أهالي القرى من مواد غذائية وبعض الأفرشة الخفيفة بعد هروبهم من بطش النظام .

طال الانتظار أكثر من اسبوعين ولم يظهر الدليل . بدأ الاستياء يدّب بيننا بعد أن انتابنا الشكوك في قدوم الدليل , وأخذنا نفكّر بمجموعة أبو عمشة عسى أن لايمسّها أي سوء, كالوقوع في كمين . لم تكن كلّ أيامنا هادئة بدون مشاكل رغم العلاقات الجيّدة بين الرفاق , ولكن المنغصّاة لابدّ منها , ولم تكن لتشكل عائقا أمام تعاوننا أو أن تؤدّي إلى المقاطعة بين الرفاق , لأنّ وعيهم لايسمح بذلك, وهذا كان أحد أسباب صمود الأنصار دائما. وما يخصّ الأمان , صادفتنا حادثتين , الاولى , عندما سمعنا صوت إطلاق رصاصة  , فاسرعت باتجاجها مع سالم ومخلص , ثمّ تبعتها رصاصة أخرى باتجاهنا فتهيّانا لإطلاق النار وتبعنا رفاق آخرين , فجأة ظهر الرفيق أبو... وسألته عن سبب إطلاقه الرصاص فلم يردّ, وأراد سالم أن يوبخه فلم أسمحه بذلك ,لأنّ وضعه كان مرتبكا بسبب تياهه الطريق إلينا . أما الحادثة الأخرى , وفي جوّ ظهري , شقّ الهدوء صوت طائرة عمودية تبعها رشقات دوشكا كثيفة باتجاه فصيل أبو عشتار. إستنفر الفصيلين واتجهنا بحذر نحو الفصيل الآخر , فشاهدنا الطائرة تغادر , وفي اتجاهنا رفيقان مسرعان , فسألنا قبل كلّ شئ , إذا كانت هناك إصابات , فطمأنونا بدورهم بعدم وجود أيّة إصابة . وظهر بأنّ الأنصار نشروا بعض الأفرشة على الأشجار "لتعقيمها تحت أشعة الشمس" فسددت الطائرة نيرانها نحوها . اضطررنا إلى نقل الفصيل بدون إبطاء إلى موقع مخفي مقابل فصيل مخلص . فاجئني سالم بطرحه فكرة أن يتوجّه مع أربعة رفاق آخرين إلى سهل الموصل , ربّما يحظون بطريق الخروج إلى سوريا. في الحديث معه تمّ التأكيد بعدم المخاطرة في الطريق والرجوع إلينا في حالة عدم تمكنهم من تجاوز المخاطر, غادرونا بعد توديعهم . قدم إلينا من فصيل م.كرم أبو فيلمير وتحدّث عن لقاءه مع أحد رجال القرى المجاورة مع عائلته , وطرح الرجل فكرة أن يكون دليلنا باتجاه الحدود التركية وبدورنا نقوم بحماية عائلته أثناء الانسحاب , واتفق أبو فلمير مع الرجل المذكور على موعد للحديث في اليوم التالي . إتفقنا على ذلك, وغادرت مع أبي فيلمير لمقابلة الرجل والاتفاق على موعد الحركة , ولكن للأسف لم نجد أي أثر للرجل وعائلته .

بعد رجوعه من عين الماء أخبرني الملازم كرم بعودة مجموعة أبو سلوان وهم في انتظاري . توجهنا إليهم بدون ابطاء مع بعض الأكل . كانوا متعبين جدا , وبعد فترة سألنا عن بقية رفاق المجموعة ومنهم أبو رشدي وسمير ألقوشي . وعرفت أثناء قرائتي رسالة أبو سلوان السابقة بأنّ المجموعة غير منسجمة . تحدّث أبو سلوان , بأنّ المجموعة  تعرّضت لاطلاق نار كثيف من إحدى ربايا الجيش أثنا مرورهم أمامها بدون علمهم بموقعها, مما أدّى إلى تشتتها في مختلف الاتجاهات. باستثناء أربعة رفاق,استطاع الآخرون التجمّع في غابة قريبة ليتواروا عن إنظار قطعات الجيش . وأكدّ أبو سلوان بعدم وجود إصابات .

ملاحظة 6: "أعدم الرفيق سمير بعد رجوعه إلى ألقوش من قبل مخابرات النظام , أمّا الرفاق الثلاثة الآخرون وصلوا بسلام إلى سوريا".

يعد أن اصطحبنا المجموعة إلى مواقعنا , تحدّثت مع الرفيق أبو سلوان ومجموعته عمّا حدث منذ مغادرتهم وعن وضعنا الحالي, لإختيار البقاء معنا أو التوجّه إلى دشت الموصل والإلتحاق بمجموعة سالم. فكان خيارهم الأفضل هو البقاء معنا, ليصبح عددنا 34 نصيرا. في اليوم التالي , ومن الغريب , قال لي أبو سلوان بأنّ ذهابي إلى دشت الموصل أفضل ! فقلت له بأنّ معظم الرفاق , إن لم يكن جميعهم , يريدون بقائي معهم ونحن في طريقنا لإيجاد مخرج للإنسحاب, ثمّ سألته لماذا هو أفضل لي الذهاب إلى سهل الموصل, فقال , لأنّك من الموصل, وليس هناك خوف على المجموعة وسأكون أنا معها. فقلت بأني لا أستطيع ترك الرفاق مهما يكن . كنت أعرف جيّدا هموم الرفاق , لأنّ الجوّ المرح الذي اعتدناه أصبح أكثر هدوءا, وكل واحد منّا, لا شكّ, يفكّر بعائلته وأهله وأحبّائه, وهل هم يبادلوننا أفكارنا ومتشوقين لرؤيتنا كما نحن, أم أنّ أساليب النظام الفاشية وحروبه العدوانية الداخلية والخارجية وإعلامه المضلل غيّر من مواقفهم؟ هل يقدّرون ويثمّنون نضالنا وتضحياتنا لاسقاط هذا النظام الظالم وإقامة نظام ديمقراطي على أرض الرافدين التي استباحها غير أهلها لقرون عديدة ودنّستها أنظمة لا تستحقّ حتى مزبلة التأريخ, باستثناء النظام الجمهوري الذي أتت به ثورة تمّوز عام 1958؟ كنّا نفكّر بثمرة نضالنا الذي نخوضه واخترناه بكامل حريّتنا لتقديم أفضل ما يمكن للشعب وكلّ في مجال عمله ومهنته , في المعمل والمصنع والورشة والزراعة والمدرسة والجامعة والمسرح والسينما والجيش والملاعب الرياضية وغيرها. ولكن الهدف الآني هو اختيار الطريق الصحيح للانسحاب خارج حدود الوطن, الذي يتحكّم به أقذر نظام عرفه تأريخ العراق القديم والحديث, قبل أن يحدث ما لا يحمد عقباه .

بعد أن فقدنا الأمل في قدوم أو إيجاد أي دليل, أصبح أمامنا طريقين, إمّا البحث عن موقع أمين للمكوث فترة أطول وغير محددة , أو أن نعتمد على أنفسنا لإيجاد طريق للإنسحاب نحو الحدود التركية . لهذا الغرض دعوت مسئولي الفصائل وأبو بسّام وأبو فيلمير وأبو سلوان . بعد المناقشة اتفقنا على الحلّ الثاني, وأخبرنا جميع الرفاق بذلك , وحددنا قواعد الانضباط ورفاق المقدّمة والمؤخرة (القفل). وهنا تساءل أبو سلوان عن دور رفاق المحليّة , فقلت له بأنّ دورنا هو المساهمة في حلّ أية مشكلة تظهر . اخترنا أربعة أنصار لاستطلاع الطريق نهارا وتتبعهم المجموعة بعد الغروب, على أن نبدأ بالحركة في اليوم التالي- الأوّل من تشرين الأول. تغيّر مزاج الرفاق نحو الأفضل وبدا على وجوههم وحديثهم التصميم للتغلّب على المأزق. صباح اليوم التالي اقترح الرفيق المرحوم أبو سناء(حوالي 60 عاما من مدينة البصرة) جمع سلاح الأنصار المرضى والعاجزين على حمله. لقي المقترح قبولا وبدأ مخلص بجمع السلاح والعتاد وعدده 17 كلاشنكوف وحوالي 90 مخزنا وتمّ إخفاءهم في براميل بلاستيك في إحدى ثنايا "مقرّنا الإجباري". قبل الانطلاق عصرا بدأنا بتهيئة الخبز, على أن يحمل كلّ رفيق بحدود 25 رغيفا بالإضافة إلى السكّر والشاي وما لا يقلّ عن زمزميتين أو قناني ماء, إلاّ أن الرفيق شةمال, وهو الخبّاز المميّز, أصرّ على أن تحوي عجينة الخبز على السكر والحليب. هكذا حصّلنا على خبز درجة ممتازة .

غادرت مجموعة الاستطلاع في الخامسة مساء وبعد حوالي 20 دقيقة, سمعنا صوت إطلاق نار كثيف باتجاهها , وأول ما بادر إلى ذهني هو احتمال وقوع المجموعة في كمين للجيش , لأنّ الوضع مرشّح لكل الاحتمالات , فسارعت مع بعض الأنصار للنزول باتجاهها . إلاّ أنّ الرفاق إبو فيلمير وعبد أكّدوا بأن صوت الرمي قادم من مقرّ الفوج . لم تمض سوى دقائق حتى سمعنا صوت ملازم كرم من مجموعة الاستطلاع يركض باتجاهنا ويبوح بكلام غير مفهوم. فأسرعنا نحوه, وأنا متخوّف من وقوع سوء لهم, وقلت له :"احجي رفيق صار عليكم شي" فردّ بأن كل شيئ جيد وإن الرفيقين أبو زياد ومنار في انتظاري عند عين الماء . تنفسنا الصعداء وأبلغنا الكلّ بالخبر وأجّلنا انسحابنا في هذا اليوم . كالعادة أخذنا معنا بعض الأكل وتوجهنا للقائهما . تحدثوا عن مخاطر الطريق وامتداده لعدة أيّام في الذهاب بسبب الانتشار المكثّف لقوات النظام على شكل مجاميع , ثمّ البحث لإيجاد من يساعدهم من أهالي القرى الكردية على الحدود التركية . وأثناء الرجوع, كان الطريق أسهل ,بسبب تقليص أماكن تجمّع قوّات النظام لاعتقادهم بخلو المنطقة من "العصاة والمخربين".أمّا مجموعة أبو عمشة, وبعد لقائها بعض رجال القرية المجاورة لمكان اختفائهم, ستنتظر لحين إيجاد وسيلة للدخول إلى الأراضي التركية , على أن يتركوا لنا رسالة حول وجهتهم.

في لقاءنا صباح اليوم التالي تحدثت عن مجموعتنا واستعدادها للانسحاب في أي وقت يجدونه مناسبا. واتفقنا على نفس قواعد المسيرة ,على أن يكون أبو زياد المسئول الأوّل باعتباره دليلنا ولمؤهلاته العسكرية, ويساعده في ذلك النصيرين منار وكرم. اعترض أبو سلوان بقوله:" أين دور الحزب ورفاق المحلية"؟ فقلت: "كلّنا في الحزب ومهمتنا إيصال الرفاق سالمين إلى الحزب, وإذا حدثت مشكلة ما سنتدخل لحلها ", وكان ذلك إجماع الرفاق .

في حوالي السادسة من مساء يوم 2/10 تحرّكنا سوية باتجاه قمّة جبل كارة المطلّة على قرية كارة , وواصلنا السير ليلا . في اليوم التالي لم أجد مخلص بين الرفاق ,فسألت منار عنه فقال سيعود ويلتحق بنا غدا, ولكن عرفت السبب, وربّما كان محقا بغيابه, إلاّ أنه عاد إلينا بعد وصولنا إلى الحدود التركية. في ليلة ¾ /10 أبلغنا أبو زياد بأننا سنصادف طريقا على سفح أكثر ميلانا من المعتاد ,وتحت الطريق ربايا للجيش وإنّ سقوط أية حجرة يعرضنا إلى إطلاق نار . وبالفعل حدث ذلك وأخذ البعض من الجنود يصيح: "ديرو بالكم تره أكو حراميّة" ورافق ذلك إطلاق نار , فأخذنا وضع انبطاح لحين توقّف إطلاق النار. إجتزنا الطريق الذي لم يتجاوز 200 متر بسلام. كانت استراحتنا نهار 5/10 أكثر أمانا. قبل انبلاج فجر يوم 6/10 أبلغنا أبو زياد بضياعه للطريق, ولكن أكّد بأننا قريبين من محطة وصولنا.أخذنا قسطا من الراحة حتى الفجر,حيث توضّح الطريق. وبعد حوالي نصف ساعة وصلنا إلى المكان المحدد على نهر الزاب. الرسالة التي تركها أبو عمشة تشير إلى أن ننتظر بعض الرجال من أهالي قرية قريبة والذين بدورهم يتحدثون عن بعض الخطوات التي سنتّبعها. مرّ بعض القرويون وألقوا التحية علينا , وبعدهم بفترة وجيزة قدم إلينا رجلان ومعهم شابان يحملون الفطور, بعدها سألنا عن المجموعة السابقة, وأبلغونا بأنّها عبرت الجسر عبر الزاب إلى قضاء كوكوركا في الجانب الآخر من الزاب وبدون أن يعلموا عن وجهتهم . والجسر هذا عبارة عن لوحات خشبية طولها حوالي 150 مترا ومربوطة بحبال ومعلقة بحبال أخرى بين جانبي النهر وتعطي صوتا (تزقزق) أثناء المشي عليها. طرحنا عليهم قبل كلّ شئ, إمكانية التوجّه إلى سوريا, لكنّهم أكدّوا بأنّ الطريق طويل وغير آمن, وليس هناك من طريق سوى عبور الجسر واللجوء إلى تركيا. بعد الفطور بدأ الأنصار بالسباحة في النهر وغسل الملابس ونشرها على أغصان الأشجار, وفجأة ظهرت فوق رؤوسنا طائرتان عموديتان عراقية وخلال دقائق اختفينا عن الأنظار حتى مغادرتها . وعلى ما يظهر بأنّ المخابرات العراقية عثرت على طريق الانسحاب . قبل توجّهنا لعبور الجسر, أهدينا سلاحنا لأهل القرية. توّجهنا لعبور الجسر,ولكن منعنا من العبور من قبل الجنود الحرّاس على بوابة الجسر , وكان علينا أخذ موافقة آمر لواء. انتظرنا حتى قدوم آمر اللواء الذي كان بمزاج حاد, وأخذ يكيل الاتّهامات, وبدون أن يستمع إلى ما نريد طرحه, وبأننا متعاونين مع حزب العمّال الكردي التركي (ب ك ك)! كان ردّنا بأننا مدنيون ونريد اللجوء إلى تركيا ولا نعرف شيئا عمّا يتحدث عنه . لم يرد الإستماع إلينا , وهددنا إمّا بتسليمنا إلى السلطات العراقية أو سلوك الطريق إلى إيران عبر الأراضي العراقية فقط , وبخلاف ذلك نتعرض إلى إطلاق نار من قبل الجندرمة التركية. أراد أبو فيلمير مناقشته, لكني سحبته جانبا وقلت له, بأنّ هذا مجرّد حيوان لا يعرف سوى أن تنفّذ أوامره, ولا نريد تضييع الوقت معه. رجعنا إلى أماكننا. بعد فترة وجيزة عاد الرجلين من القرية وطرحوا علينا فكرة مقابلة قائممقام القضاء. سمح الجنود لإثنين من رفاقنا لعبور الجسر, لكنّهم عادوا بخفا حنين بعد مقابلة القائممقام الذي ردّ بأنه لا يملك صلاحيات استقبال اللاجئين . وفي مساء نفس اليوم عاد إلينا الرجلان من القرية مرّة أخرى وعرفوا بكلّ ما جرى, وطرحا علينا فكرة الإنسحاب إلى إيران عبر أراضي كردستان تركيا. كانت الفكرة جيّدة, وتحدثنا عن الدليل والمبلغ المطلوب لذلك. أبلغونا بأنّ كل قرية نصل إليها نستطيع الحصول على دليل عن طريق المختار وبدون أيّة مخاطرة حتى عبور الأراضي الايرانية إلى قرية راجان, حيث هناك مقرّ المكتب السياسي لحدك . أمّا بالنسبة للمبلغ يكون حسب ما متوفّر لدينا. سألت أبو سلوان عن المبلغ المتبقي لديه والذي استلمه من أبو سالار,وظهر بأنّ المبلغ باق بالكامل . ولم يبقى لدينا مشكلة سوى الإتّفاق على الحركة باتجاه إيران. في الساعة الحادية عشرة من يوم 6/10 كنّا جاهزين  لعبور الجسر وبدون ضجيج "عدا زقزقته المزعجة " , وفي الجانب التركي سينتظرنا شخص (دليل) , وعلينا اجتياز طريق بمحاذات مقرّ اللواء بهدوء تام ولمدة حوالي 20 دقيقة , وبعدها ندخل وادي آمن. وهكذا سارت الأمور بسلاسة. بينما نحن مستلقين لأخذ قسطا من الراحة, ظهر رجلان مسلّحان من جماعة (ب ك ك),وسألوا من نحن ولماذا وصلت الحالة إلى الهزيمة مع كيل الإتهامات لقيادات البيشمةركة. بدورنا لم نعطهم أيّة معلومة عن وضعنا , ثمّ ولّوا الأديار.

وصلنا أول قرية كردية حوالي الساعة الثانية ليلا , وكان في استقبالنا مختار القرية وأولاده, ولأوّل مرّة ولفترة خمسين يوما ننام مرتاحي البال وبدون حراسات. في مطلع الفجر قدمت سيّارة إلى القرية, نهض جمال سواري مستغربا من السيارة وسألني,"رفيق أبو ناتاشا هاي السيارة مال حكومة",قلت له, "لاتقلق ماكو حكومة بهيج مكانات نام وارتاح".

بعد الفطور المبكر, اتفق أبو فيلمير مع المختار على دليل جديد ودفع أبو سلوان المبلغ المتّفق عليه. حدّثنا الدليل, ونحن متجهين إلى قرية أخرى, عن مآسي الأكراد النازحين من العراق وتعرضهم إلى القصف من قبل القوّات العراقية وسقوط ضحايا وهم داخل الأراضي التركية ومشيرا بيده إلى بقايا الملابس والأحذية . كان أمامنا نهار اليوم أصعب طريق, حسب قول الدليل, وهو تسلّق جبل عال متكوّن من عدة قمم. بعد تجاوزنا ثلاث أو أربع قمم, أخذنا نسير على الثلج , لأنّ الثلج في هذه الأماكن دائم ويبدأ بالتساقط في شهر تشرين أول. قبل وصولنا إلى القمّة الأخيرة بقليل أدركتنا عاصفة ثلجية , تماسكنا جميعا ككتلة واحدة.¸في هذا الأثناء انتابت مام أحمد سواري حمّة خفيفة ( كان في حوالي الثمانين من عمره وأب الشهيدين جاسم وهلال), وروعي من قبل الأنصار, وخاصة ولديه جمال وعبد. بعد قليل تعدّت العاصفة ووصلنا إلى القمّة الأخيرة بعد مسيرة  حوالي ثمان ساعات. في الجهة الأخرى من سفح الجبل, حيث لا زالت الشمس مشرقة. تمددنا جميعا لأخذ قسط من حرارة الشمس المتبقية وإراحة أجسامنا المتعبة. وهنا فاجأني جمال سواري بسؤال ,"رفيق أبو ناتاشا, كم مرّة جاي هنا أنت". وهنا خرج أبو طالب عن هدوئه الذي دام أيّام وضحك كعادته من أعماق قلبه وقال,"جماعة سمعو, أبو ناتاشا جاي هنا سياحة واحنا ماندري". لم يكن سؤال جمال للمزح , لأنّ جمال كان إنسانا بسيطا ومتواضعا , ذو قلب طيّب ومفتوح وصادق لا يعرف الكره والأنانية , وهذا ما تتميّز به هذه العائلة المناضلة . بعد هذه المزحة واصلنا السير من قرية إلى أخرى. وآخر قرية تركناها أبلغنا مختارها بأنّ دليلنا إلى الحدود الإيرانية هو أحد عناصر "جحوش" الحكومة التركية, لكنّه متعاون مع الوطنيين الأكراد .

دخلنا الأراضي الإيرانية يوم 10/10,واتجهنا مباشرة إلى قرية راجان , حيث المكتب السياسي لحدك , وكان في استقبالنا المرحوم أبو حكمت (حينها كان عضو ل م للحزب الشيوعي) . بعد استضافتنا لمدة ثلاثة أيّام قررت,مع رفيق آخر, الرجوع إلى كردستان . وفي طريقنا إلى دولي كوغا (المقرّ الجديد لأنصارنا في سوران) التقينا الرفيق أبو داود (كان حينها عضو م س للحزب الشيوعي). تحدّثنا قليلا عن الأوضاع, ولكن الوقت لم يمهلنا للحديث أكثر , حيث افترقنا وذهب كلّ إلى وجهته. بعد أسبوعين تمّ افتتاح مقرّ جديد في ناوزنك, وكنت ضمن الذين التحقوا بالمقرّ الجديد .

بعد عدة أيّام, فاجأت بقدوم الرفيق سالم ومجموعته سالمين . وبعد لقاءنا الحار معهم , تحدّث سالم عن مخاطر الذهاب والإياب وعدم تمكنهم من العثور على أثر مجموعات سهل نينوى أو طريق اللجوء إلى سوريا . فقرروا الرجوع إلى الفوج الأول ,ثمّ إلى ناوزنك, رغم المخاطر وبدون دليل .

أرسلت رسالة إلى المكتب السياسي, وكان حينها أبو فاروق (عمر علي الشّيخ) يساعده أبو يسار (حسّان عاكف-عضو م س حاليا), شرحت فيها الأوضاع التي صادفتنا, ومنها قرار تسليم عائلات رفاقنا الأنصار , وطلبت في الرسالة النزول إلى الداخل . بعد عدة أيّام التقى معي أبو يسار وأبلغني بعدم وجود أية إمكانية للنزول إلى الداخل لخطورة الأوضاع , وأضاف : "تقديرا لنضالك وجهودك ووو.., قرّر المكتب السياسي إرسالك إلى الإتحاد السوفييتي أو أي بلد تراه مناسبا ". شكرت الرفيق وأبلغته بأنّي بحاجة إلى دورة إعادة المعلومات في مدينة لينينغراد (سانت بيتربورغ حاليا) التي دافعت فيها عن رسالة الدكتوراه التي خصّت منجم فوسفات عكّاشات في الأنبار . وبدوره بلّغ أبو فاروق بطلبي إلى الرفاق في موسكو . وعند توديعهما في كانون ثان 1990 أكّد لي أبو فاروق بأنه تمّ تبليغ الرفاق في موسكو لتسهيل مهمّتي . ولكن شيئا من هذا القبيل لم يحدث , مع الأسف !!!

الخلاصة

لم يكن القصد من كتابة هذه المادة الطويلة مجرّد سرد ذكرياتي بدون أن نقرأ ما بين الذكريات, وأقصد بالذات تقييم ما مرّ من دروس وعبر . عندما اكتشفت الماركسية قوانين التطور الثلاث, ومنها قانون "نفي النفي" أو "نقض النقيض", ليس لحفظها على ظهر القلب , بل لممارستها , أي  ممارسة النقد والنقد الذاتي . وهذا ما تتميّز به الأحزاب الماركسية عن غيرها , بغضّ النظر عن مسمياتها . ويعني نفي النفي نقد أو تقييم الحزب أو منظمة عسكرية أو مدنية أو اقتصادية لخططها خلال المرحلة السابقة وعملت في ظروف محددة , مما يساعدها على تجنب الأخطاء ورؤية المستقبل لتجديد خططها في الظروف المستجدّة .

من بين الأحزاب والمنظمات السياسية العراقية , أدعي بأنّ الحزب الشيوعي كان الوحيد من بينها في ممارسة نقد وتقييم سياساته وخططه (النظام الداخلي وبرنامج الحزب وعلاقاته مع الأحزاب العراقية الأخرى وغير العراقية) خلال مراحل مختلفة من نضاله الذي يمتدّ لثمانين عاما , وكان هذا أحد أسباب استمراريته وحيويته , رغم محاولات القضاء عليه ,ومنذ تأسيسه, من قبل الأنظمة الدكتاتورية ومنظمات وأحزاب عميلة وجهات أجنبية إقليمية ودولية , ومنها المخابرات الأمريكية ( سي آي إي ) والانكليزية (6). لم أقرأ عن حزب سياسي أفصح عن أخطائه على الملأ , لأنّ قادته يعتبرون ذلك انتقاصا منه واعتقادهم بأنّ عدم التراجع عن الخطأ هو الفضيلة وليس العكس ! وإذا أصبحت هذه الأخطاء مفضوحة داخل هذه الأحزاب تبدأ الاتهامات داخل الحزب أوتجيّر أخطائها   على أحزاب أخرى , وحتى الأخطاء بمستوى الجرائم يحاولون تبريرها . لا أدّعي بأنّ الحزب الشيوعي يشخّص أخطاءه في حالة وقوعها, أو إصلاحها حال تشخيصها أو إيجاد آلية لذلك , كما لاحظنا في حالة حركة الأنصار. لهذا تصبح عملية تقييم كافة النشاطات بين فترة وأخرى ذات أهمية في رسم سياسة صائبة.

ولترويج هذه السياسة بين الجماهير تدعو الحاجة إلى أعلام متقدّم, أي إعلام مرئي ومسموع ,بالإضافة إلى المقروء , لأنّ الإعلام المتوفّر لا يلبي الحاجة مثل ما كنّا عليه سابقا , نحن نعيش حاليا في ظروف التقدّم التكنولوجي كانتشار الفضائيات والهواتف النقّالة واللوائح الإلكترونية المتعددة الوظائف . إذا رجعنا إلى ما كنّا عليه في حالة الأنصار, فالكثير من محافظات العراق لم تكن لتسمع بحركة بالأنصار وتضحياتهم , بينما إعلام النظام الفاشي كان يذكّر الناس (أثناء الحاجة) إلى وجود عصاة ومخربين في شمال العراق . ولكن همّة الأنصار لم تهدأ بعد الاحتلال في 2003, رغم التقدّم في العمر واعتلاء صحّة الكثيرين منهم,وخاصة المصابين منهم بالسلاح الكيميائي , فأخذوا يجوبون محافظات العراق لتعريف الجمهور على حركة الأنصار عن طريق إقامة المعارض والندوات والعروض المتواضعة للناس , وعلى حسابهم الخاص ومن تقاعدهم الذي يستكثره البعض عليهم وكأنه ليس من حقوقهم مدّعين كونه مقابل نضالهم . وهذا البعض يغضّ النظر عن نهب مليارات الدولارات من المال العام , ولم يجدوا أمامهم سوى تقاعد تافه يثقل ,حسب ادّعائهم, ميزانية الدولة . ومن جهة أخرى أصبح التلاعب بالتاريخ القريب والبعيد مهمّة الكثير من وسائل الإعلام , وخاصة الفضائيات . فمثلا وليس حصرا, تنصل البعض من السياسيين الحاليين عن  دورهم في مساندتهم للتدخّل العسكري الأميركي في العراق , وإطلاق أكاذيب لإيهام الناس , يدعّون بأنهم كانوا ضدّ هذا التدخل. ومن هؤلاء , من مثّل كتلته في مؤتمر لندن الذي كان واجهة لتوجيه ضربة عسكرية أميركية إلى العراق . البعض من الفضائيات تحتفل ب"الانتصار العراقي في حربه على إيران", وتبرر سعي رأس النظام الفاشي في الهجوم على إيران , وغيرها من الإدّعاءات , محاولة تبييض صفحة أبشع نظام في تأريخ العراق القديم والحديث .

أثبتت تجربة مشاركة المرأة في فصائل الأنصار بأنّ للمرأة العراقية طاقات وإمكانيات هائلة لا يجوز تجاوزها أو إهمالها , وهذا يستوجب تشريع قانون للأحوال المدنية واضح يساوي بين المرأة والرجل في الميادين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لتأخذ دورها في بناء مجتمع ديمقراطي متطوّر , ووضع حدّ لتقييد المرأة الذي تمارسه أحزاب ومنظمات الإسلام السياسي في السلطة وخارج السلطة على حدّ سواء .

من الضروري ملاحظة عملية انتقال العمل الحزبي من ظروف محددة إلى ظروف جديدة مختلفة , وهذا يستدعي اختيار أعضاء تتناسب إمكانيّاتهم والظرف الجديد , بعيدا عن العواطف وتطييب الخواطر, لأنّ تغيير المواقف السياسية وتعديل البرامج وتغيير خريطة العلاقات مع الأحزاب والمنظمّات التي هي في السلطة أو خارجها يستدعي ذلك . كما أنّ النشاط السرّي للحفاظ على التنظيم في ظروف النظام السابق كان يفرض بيروقراطية العمل ,وهذا يؤدّي في بعض الحالات عدم تمكّن القسم من التخلّي عن هذا الأسلوب في حالة الانتقال إلى العمل العلني أو شبه العلني , أو الذي كان يؤدّي مهمّة عسكرية بجدارة في ظرف محدد , ليس بالضرورة أن يتبوأ مهمة تنظيمية حساسة ليس أهلا لها, وهكذا غيرها من الأمثلة .

خلق انتقال الحزب إلى الكفاح المسلّح بشكل اضطراري إرباكا في بداية إعادة التشكيلات الأنصارية بسبب أنّ جلّ نشاطه كان مدنيا, أبّان الجبهة مع حزب البعث, وكان يفتقر إلى كوادر عسكرية, باستثناء بعض الخبرات المتواضعة لدى الرفاق في محافظات أربيل والسليمانية ونينوى, بسبب المنع الذي فرضه حزب البعث بوضع السلاح بأيادي غير بعثية, والغاية كانت لخلق قوّات مسلحة يدين منتسبيها بالولاء لعقيدة البعث. ولم يخلو الوضع الحالي, بعد 2003, من محاولات فرض عقيدة معينة على التشكيلات المسلحة بالضدّ من الدستور , مما يستوجب فضح  مثل هذا الاتجاه والعمل دائما على خلق قوّات مسلّحة تدين بولائها للعراق فقط ,مما يساعد على إمكانية القضاء على الميليشيات بكافة تلاوينها ..

هناك من حاول ويحاول تسفيه الكفاح المسلّح عن طرق النيل من فصائل الأنصار والحزب الشيوعي الذي شكّلها وقادها تحت أخطر ظروف, لم يمرّ بها العراق خلال كلّ تأريخه الحديث. وفي الآونة الأخيرة نشر السيّد رزكار عقراوي على موقع "الحوار المتمدّن" مقالة بعنوان "  "النضال بمقابل!حول تقاعد الأنصار الشيوعيين" يحاول إعطاء صورة للقارئ وكأنّ الأنصار بقايا ميليشيات, وليس للأنصار حقّ المطالبة بحقوقهم المشروعة, وكأنّ الراتب التقاعدي هذا يحجب رواتب المتقاعدين العراقيين الذين تغتصب حقوقهم من قبل حكومة المحاصصة لأنّ التقاعد هذا "يفرغ ميزانية الدولة العراقية" ! ووجد المتربّصون للحزب الشيوعي خير زاوية للتهجّم على سياساته وأعضائه وتشويه نضاله بعيدين أصلا عن الموضوع المثار. أليس من الأفضل لهؤلاء الكتابة حول سرقات أموال الشعب وتمزيق أجساد العشرات من الناس يوميا بدلا من إدّعاءات باطلة ومخزية ؟؟؟

من الخطأ التعامل مع أي حزب, وخاصة الأحزاب القومية أو الدينية أو الطائفية, بحسن نيّة مجرّدة دون قراءة أفكارها وخططها, مثل حالة الجبهة مع البعث والجبهات التي تلتها أثناء المعارضة, وحالة (أوك) أثناء أحداث باشتاشان وغيرها, لأنّ هذه الأحزاب تبقى حبيسة عقيدتها العنصرية ومصالحها الأنانية التي تعلو على مصلحة البلد. والدليل الأقوى هو ما نراه ونلمسه حاليا, كيف تضع الأحزاب والكتل الحاكمة مصلحتها فوق مصلحة الوطن وتتلاعب بعواطف الناس القومية والدينية والمذهبية وتركها فريسة للإرهاب والفقر. تبتعد هذه الأحزاب والكتل عن بعضها وتتصارع فيما بينها حتى تصل الأمور إلى استخدام السلاح والميليشيات وتزرع الرعب بين الناس بالتهديد بحرب طائفية, وعندما ترى مصلحتها في التقارب فيما بينها تنطلق الإدّعاءات والتصريحات المتبادلة حول ضرورة الحفاظ على العملية السياسية الهزيلة والهزلية , ويقصدون بذلك الحفاظ على نظام المحاصة الفاسد وعدم التفريط بالمكاسب والامتيازات وزيادة ملياراتها من الدولارات التي يمنحها لها هذا النوع من النظام ,كما يتحدّث مسئولوها حول العلاقات التاريخية والإستراتيجية والنضال المشترك أيّام المعارضة , مثل التحالف الكردستاني والتحالف الشيعي المتمسّك بزمام الحكومة المركزية. ويبقى المواطن يتساءل , من أين أتت هذه العلاقات التاريخية ومعظم أحزاب التحالف الشيعي تشكّلت خارج العراق أو بعد عام 2003 , وهي محاولة لتهميش شخصيّات وأحزاب وطنية , وفي مقدّمتها الحزب الشيوعي العراقي المعروف بتاريخه المجيد وتضحياته الجسام من أجل حقوق الجماهير , وخاصة حقوق كادحي اليدّ والفكر, وعزله عن الجماهير بكلّ الأساليب الخبيثة .

..................................

الهوامش :

6- مجدي كامل, الحكّام العرب في مذكرات زعماء وقادة ورجال مخابرات العالم, ص327-329

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.