كـتـاب ألموقع

• وإنما الأُممُ الأخلاقُ ما بقيت... فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا -//- د. ناهدة محمد علي

تقييم المستخدم:  / 1
سيئجيد 

د. ناهدة محمد علي

مقالات اخرى للكاتبة

وإنما الأُممُ الأخلاقُ ما بقيت... فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

لقد رأيته منذ عامين في إحدى الفضائيات , ثم رأيته قبل أيام , وأحسست أن شيئاً ما قد تهشم في داخلي وتساءلت لماذا يقل عدد الشرفاء في هذه الأرض يوماً بعد يوم ويزداد عدد الوحوش المتحركة والتي تُعَفن كل ما تمسه ! .

كان هذا فلماً تسجيلياً يتحدث عن مجموعة من الأطفال المشردين في العراق يعيشون كالقطط تحت الأشجار , تحت سماء بغداد الملبدة بالغيوم الكيمياوية الحارقة , يأكلون من فُتات المارة ومن المزابل , يعتدي عليهم المُخدرون ليلاً ونهاراً , ويُسلب منهم أجمل ما في الأرض , تُسلب منهم براءة الطفولة , كنت أرى البؤر المضيئة في النفس العراقية الطاهرة , رأيت السباح الذي أنقذ العديد من النساء والأطفال في نهر دجلة ثم هده التعب فغرق , ولم يسأل هذا السباح عن طائفة أو مذهب , ورأيت الآن هذا المعلم الفقير الذي يستجدي المال لا ليطعم أولاده بل ليُطعم هؤلاء المشردين ويأويهم , ثم رأيت من يقوم بتدنيس الطفل العراقي البائس من موظفين أو من كبار المشردين , حيث يتصَرف المُغتصَب حسب ذكرياته المريرة , وحيث يتم إغتصاب صغار المشردين من قِبل هؤلاء الواحد تلو الآخر في دار الإيواء , على مرأى ومسمع من الجميع .

لقد قرأت عن عالم الحيوان الكثير وأعلم كما تعلمون بأنه محكوم بالغريزة لكنه لم يُسجل له بأنه يغتصب صغاره أو يتكاتف ليعتدي على صغير من جنسه جسدياً أو جنسياً , وأعجب لِمَ يفعل هذا الإنسان .

يقول الكثير من علماء البايولوجي أن الإنسان قد أخذ يقترب رويداً رويداً من عالم الحيوان عدا أنه ناطق وذكي , لذا أصبح يصيبه ما يصيب الحيوان من أمراض كثيرة والتي قد لا تقتل الحيوان لكنها تقتل الإنسان , وهذا هو العدل بعينه . إن الإنسان قد تميز بقيمه غير الفطرية ومتى ما نُزعت أو إنتزعها هو لا يعود يستحق الحياة , ولا أستطيع هنا إلا أن أتذكر بيت الشعر العربي القديم لأحمد شوقي :

وإنما الأُممُ الأخلاقُ ما بقيت ..... فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

كيف يُمكن لبشر أن يتحول الى قرد للحظات , ولماذا يدفع الأبرياء منا ثمناً للتلوث النفسي والروحي للبعض منا , ولماذا يضطر هؤلاء الأطفال أن يعيشوا في الطرقات ولدينا من الموارد ما يكفي لبناء بيوت لهم وصرف رواتب لكل طفل مُشرد مع توظيف مشرفين تربويين لإدارة حياتهم , لأن دور الإيواء هذه هي دور إصلاحية لمجرمين ماهم بمجرمين, ومُوصى عليهم بموظفين هم بطبيعتهم مجرمين .

إن فقدان القيّم الإجتماعية في الكثير من زوايا المجتمع العراقي وإندثار معظمها قد أدى الى أن يبقى مجتمعنا بلا قيّم , وهناك آثار وذكريات لقيّم الماضي , وليس هناك قيّم جديدة تحل محل تلك القيّم فتكون مثلها أو أفضل منها , ولأن المجتمع قد فقد القاعدة المادية القديمة ذات التكنيك البسيط والتراثي , ولم تُخلق للآن قاعدة مادية جديدة مُمكننة تعتمد على التكنولوجيا والتحديث الصناعي الفني , وكما تعلمون أن كل قاعدة مادية متطورة تخلق مجتمعاً متطوراً وتفرز قيماً جديدة تلائم الأوضاع المعاصرة , وقد تأخذ شيئاً أو أشياء من الماضي ومن قيمه .

إن الثروات المادية غزيرة في عراقنا , وعباقرتنا ينتشرون في بقاع الأرض فأين هو الخلل يا تُرى ؟ . لا يحتاج القاريء الى الكثير من الجهد ليرى ضمن هذا الدهليز وسيلاحظ بأن الخيوط كلها تُمسك من أعلى وتتحرك الى أسفل , وإذا إنقطعت هذه الخيوط بفعل فاعل ستنقطع الصلة بين القاعدة والقمة , وتظهر ظواهر إجتماعية فاسدة مثل المخدرات بأنواعها والبطالة بأنواعها العلنية والمُقنعة , وتظهر حالات الطلاق السهل , وتظهر الرشوة وسرقة الأموال والأملاك , وتنمحي قيّم جميلة وتراثية وأولها ( العطف على الصغير وإحترام الكبير ) , فلا عطف ولا إحترام فهذه دور العجزة مليئة بالآباء والأجداد والذين نُبذوا من قِبل الأبناء .

لقد تغيرت طريقة تفكير الطفل العراقي وتغيرت لغته ولُعَبه حتى أصبح مُساوماً بارعاً مع أصدقائه وزملائه , فهو يساومهم على أشيائهم ولعبهم , يبيع بعضهم بعضاً أشيائه وينصب بعضهم على البعض الآخر , تعلموا اللغة الشارعية والبذاءة , وتعلموا العنف , وتعلموا أنه لا جوار إلا بالفائدة , ولا زمالة إلا بالفائدة , ولا صداقة إلا بالفائدة .

حيما تجولت ذات يوم في بغداد قلت في نفسي , ألست في كوكب آخر , إنه تكوين جغرافي غريب لا هو في الحاضر ولا هو في المستقبل ولا في الماضي , وتساءلت أين أنا إذاً , ومن المؤكد أن كل فرد عراقي يسأل نفسه يومياً هذا السؤال , أين أنا ؟ ومن أنا ؟