كـتـاب ألموقع

ذكريات مع المناضل الكبير عزيز محمد// جاسم الحلوائي

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

 

الموقع الفرعي للكاتب

ذكريات مع المناضل الكبير عزيز محمد

جاسم الحلوائي

 

مع أن الأخبار التي كانت تصلني من أربيل مباشرة، بعد تعرض الرفيق عزيز محمد إلى كسر في ساقه وملازمته الفراش، أشارت إلى احتمال مغادرته دنيانا، فاني قد صُدمت بوفاته وتألمت وحزنت بعمق، نظرا لوشائج الرفقة الطويلة التي ربطتنا والتي امتدت لستة عقود. وكلما هممت بالكتابة عنه، تنهال علي الذكريات  بحلوها ومرها وشجونها وملابساتها... فتمنعني من الكتابة. في نهاية المطاف آليت على نفسي أن أكتب قدراً من ذكرياتي عنه.

 

تعارفنا الذي امتد لستة عقود لم تكن لقاءاتنا فيها متواترة ومستديمة، سوى في الفترة التي  كنت سجيناً معه لأكثر من سنة قبل ثورة 14 تموز، 1958 والفترة التي كنت فيها عضواً في اللجنة المركزية (1964-1985) وخاصة خلال عمر سكرتارية اللجنة المركزية (1973-1978) التي كان يرأس الرفيق أبو سعود اجتماعاتها أسبوعياً. ولا يسعني أن أغطي كل تلك الفترات فقد تركت الكتابة منذ مدة غير قصيرة بسبب الأحوال الصحية وضريبة الشيخوخة، وسأكتفي بأول فترة وبآخر لقاء معه.

فقد التقيته لأول مرة في سجن بعقوبة الانفرادي في عام 1957. لم نكن في بداية الأمر سوية في قسم واحد، فتعارفنا  من وراء القضبان وعلى عجل وكان مكبلاً بالحديد، فبادرني بالقول: "ما هي  علاقة الصهيونية بالانشقاق"؟ أجبته: "إذا أنت لا تعرف فكيف تريد مني أن أعرف". كان سؤال الرفيق عزيز محمد  يتعلق بمنظمة "راية الشغيلة" التي أشارت في بيان حلها في عام 1956 إلى دور للصهيونية في انشقاق الحزب في عام 1953.

 إن قصة هذا الانشقاق ودور عزيز فيه هو باختصار ما يلي: لقد كان العديد من كوادر الحزب يلاحظ بروز نزعة يسارية ـ انعزالية وسلوكاً بيروقرطياً وفردياً في قيادة الحزب. وقد تحولت تلك الملاحظة إلى "معارضة" داخل الحزب بعد صدور ميثاق (برنامج) جديد للحزب، في ربيع 1952، والذي صار يعرف باسم ميثاق "باسم"، نسبة إلى الاسم  الحزبي لبهاء الدين نوري قائد الحزب آنذاك. نشر هذا الميثاق دون عقد مؤتمر أو كونفرنس أو حتى اجتماع للجنة المركزية لمناقشته وإقراره. وغيّر الميثاق ستراتيجة الحزب لتلك المرحلة من حكومة وطنية ديمقراطية إلى جمهورية شعبية متماثلاً مع تجربة جمهورية الصين الشعبية. وقتها فجّر الميثاق الخلاف الفكري داخل الحزب وكانت اللجنة القيادية المسؤولة في "سجن الموقف" في بغداد أبرز المعارضين في السجون، وكان سكرتيرها الرفيق عزيز محمد ومن بين أعضائها  الرفاق جمال الحيدري وإبراهيم شاؤول وحمزة سلمان ويعقوب مصري.

وقد كتب الرفيق عزيز محمد رسالة إلى قيادة الحزب تتضمن ملاحظات حول الميثاق الجديد، باعتباره يحرق مرحلة التحرر الوطني وبالتالي لا يعير أهمية لتجميع القوى الوطنية. وأشير في هذه الرسالة إلى أن الحزب يبالغ في تقدير قواه ويقلل من دور الأحزاب الوطنية (البرجوازية)، وان المهمة الراهنة هي إقامة حكم وطني ديمقراطي وإن شعار الجمهورية الشعبية من شأنه التفريط بقوى متمسكة بالملكية. وقد عُرفت هذه الرسالة برسالة "م" نسبة إلى الاسم الحزبي للرفيق عزيز محمد آنذاك (مخلص). وكان رد فعل بهاء على الرسالة، هو عزل عزيز عن مهمته القيادية واحتجاجاً على هذا الإجراء اعتذر أعضاء اللجنة الآخرون عن استلام المهمة. فقرر بهاء طردهم جميعاً من الحزب! فقرروا الانشقاق عن الحزب وسموه انتشالاً وأصدروا جريدة باسم "راية الشغيلة" ومن هنا جاء اسم منظمتهم.

وانشقت المنظمة داخل السجن، وأصبح لكل جناح قاعته ولجنته الخاصة. وقد التحقت بالمنظمة المنشقة كوكبة لامعة من كوادر الحزب، استشهد الكثيرون منهم بعد ذلك تحت التعذيب الوحشي مثل جمال الحيدري وحمزة سلمان وحسن عوينة ونافع يونس وعدنان البراك وإبراهيم حكاك وعواد الصفار (استشهد في انتفاضة 1956. ومن بين الكوادر أيضاً التحق بالمنظمة الرفاق عادل مصري وعبد الرزاق الصافي وسلام الناصري وإبراهيم شاؤول وعادل سليم وكاظم فرهود ويوسف حنا وعبد الحسين خليفة وحسين سلطان وغيرهم.

كنت مهتماً في السجن بمعرفة تفاصيل تاريخ الحزب وقادته ولم يكن ذلك، إطلاقاً، عن سابق تصميم أو لأني قد أحتاج إلى ذلك لكتابة ذكرياتي في يوم ما، والتي لم أفكر في كتابتها، بل كانت محض نزعة غريزية بحكم قناعتي الراسخة بارتباطي المصيري بالحزب. و قد لقيت ضالتي في الرفاق القدامى. ولم يبخل الرفيق عزيز محمد، الذي عشت معه في زنزانة واحدة لفترة طويلة بالإجابة على أي سؤال لديه معلومات عنه، ما عدا الحديث عن ظروف انشقاق منظمة راية الشغيلة. فقد باءت محاولاتي لتحفيزه، على الحديث عن تفاصيل  ذلك بالفشل. إن كل ما سمعته منه هو: "صدّقني لم نكن نفكر يوما بالانشقاق عن الحزب، لا أدري كيف حصل ذلك".  يقولها متوتراً ويُغلق الموضوع. ومرة أجابني: "جلسنا على سطح الفرن" ولم يكمل كلامه إنما نفخ بيده وضرب الهواء بقوة، وكأنه يصفع أحداً، وأضاف "لعد شعبالك؟" (ما الذي يخطر ببالك إذن؟)

وأعتقد بأنه كان يريد أن يسخر من عملية الانتشال (الانشقاق)، وأراد بحركته وكلامه ذاك أن يرسم صورة كاريكتيرية لها.

تحولت سجون الشيوعيين في العهد الملكي  المباد إلى مدارس لتخريج الكوادر الحزبية. ولمكافحة هذه الظاهرة قام النظام الملكي  ببناء سجن بعقوبة الانفرادي بإشراف "النقطة الرابعة الأمريكية" سيئة الصيت. وتعرض السجناء في هذا السجن إلى ظروف قاهرة تكتنفها صعوبات جمة. وفي هذه الظروف التقيت وعشت مع الرفيق عزيز محمد حوالي سنة في زنزانة واحدة، حتى إطلاق سراحنا بعد ثورة تموز.

إن أحلك الظروف التي واجهتنا في سجن بعقوبة الانفرادي هو حرماننا من الكتب والصحف والورق والأقلام، والتفتيش اليومي المصحوب بالإهانات والعقوبات بالسجن الانفرادي أو بالمقرعة لأسباب تافهة. كانت أخبار الحزب ومنشوراته تصلنا ونتداولها سراً، وتستنسخ الكراريس على دفتر أوراق لصنع السكائر اليدوية (دفتر لف). وكانت جريدة البلاد، وغيرها تصلنا بشكل سري وغير منتظم، ونتداول أهم ما فيها سراً.

لم يتوان الحزب يوماً عن المطالبة بإطلاق سراح السجناء السياسيين، ولا عن فضح ما يتعرضون له من تنكيل. فعلى سبيل المثال، نشرت جريدة "اتحاد الشعب" في عددها الصادر في تشرين الأول 1957 ما يلي:

"مرة أخرى نعود للتحدث للرأي العام العراقي والعربي والعالمي عما يلاقيه السجناء الأحرار في سجن بعقوبة. فوراء البوابة السوداء لهذا السجن يجري أبشع أنواع التنكيل بحق معارضي حلف بغداد ومبدأ آيزنهاور والمناضلين في سبيل حقوق الشعب العراقي الدستورية وفي سبيل حرية الأمة العربية ووحدتها. ولم يعد أحد يجهل أساليب التعذيب التي تتبعها إدارة سجن بعقوبة تجاه هؤلاء المناضلين وبإشراف من (لجنة مكافحة النشاط الهدام) التابعة لحلف بغداد...إننا نناشد كل الوطنيين الشرفاء ورجال المعارضة الوطنيين ورجال القانون وكل ضمير إنساني أن يرفع صوته استنكاراً لهذه الأساليب الوحشية" 

وما أن طرأ تحسن نسبي على ظروف السجن، وذلك بالاكتفاء بغلق أبواب الزنزانات من الساعة العاشرة ليلا إلى الساعة الثامنة صباحاً، ومن الساعة الثانية إلى الساعة الرابعة من بعد الظهر، حتى أقيمت في السجن دورات تدريسية تضم الواحدة منها بحدود 5ـ 7 رفاق لتدريس الاقتصاد السياسي واللغة العربية واللغة الإنكليزية و...الخ. وكان الاشتراك في دورة واحدة إلزاميا. ويتم التدريس بشكل شفهي. واستخدم المساهمون في دورات اللغة الإنكليزية قطعة صغيرة من لـّب قلم الرصاص ليكتبوا الكلمات الجديدة على أذرعهم، بعد أن يشدوا تلك القطعة برأس ثلاثة عيدان شخاط!

كان في السجن لجنة حزبية مشكلة بقرار حزبي من قبل قيادة الحزب في الخارج وتضم كل من زكي خيري وعزيز محمد ومهدي حميد وبهاء الدين نوري وعمر علي الشيخ وهادي هاشم الأعظمي، وكان الأخير المسؤول الأول في السجن.

كانت علاقتي بالرفيق أبو سعود علاقة رفاقية عادية، أي أنها لم تكن علاقة صداقة ضيقة. وكان هو قد ترك التدخين حديثاً، فكان يلف لي السكائر ولم يفته أن يخبرني بأنه يقوم بذلك لرغبته بشم رائحة التتن ليس إلا، ويبتسم. وكانت السكارة التي يلفها غاية في الرشاقة.

صباح ثورة 14 تموز كنا في الفرن، فقد كان الدور في ذلك اليوم لفريقنا، الذي يضم الرفاق عزيز محمد وسلام الناصري وأكرم حسين وعدنان عبد القادر وأنا وآخرين. وبين الساعة السادسة والنصف والسابعة صباحاً، صاح أحد السجانين وهو يركض بجوار باب الفرن "انقلاب" فاندهشنا. ولم تدم دهشتنا طويلا فقد مر سجان آخر راكضاً وصائحاً "صارت جمهورية" تحلقنا حول الطاولة المخصصة لتقطيع العجين ووزن (الشنكة) وتهيئتها، وكان ذلك عملي في الفرن. بادر الرفيقان عزيز محمد وسلام الناصري بالقول: "ستفشل"!؟ لا أتذكر موقفي بالدقة ولكن ما أتذكره بالتأكيد هو أنني لم أعترض عليهما خاصة وإنني كنت أنظر إليهما باعتبارهما من أساتذتي. ولكن قلبي بالتأكيد لم يكن معهما ليس لطبيعتي المتفائلة فحسب، بل أن معظم السجناء الجدد استوعبوا الأمر بنحو أسرع من السجناء القدماء. ولم تدم هذه الحالة طويلا فقد تبددت بفضل المنحى السريع للتطورات.

عندما عدنا إلى جناحنا في السجن بعد انتهاء عملنا في الفرن وجدنا أبواب الغرف مغلقة، خلافا للعادة. وهذا الإجراء هو أول رد فعل لمدير السجن على الحدث. كانت الأناشيد الوطنية تسمع من راديو بغداد بواسطة مكبرة الصوت. وقد فتحت أبواب الغرف لاحقاً في نفس اليوم. ساد القلق الموقف، فنحن سجناء عزل تحت رحمة قوى غاشمة، فلم تغب عنا حتى هواجس الانتقام في حالة فشل الثورة أو حتى نجاحها.  جاءت التشكيلة الوزارية بشخصيات وطنية وقومية معروفة لنا لتشير إلى أن تحولاً جذرياً قد حصل. بعد فترة خفت القيود علينا، فأخذت الصحف تدخل إلى السجن وأبواب الغرف أصبحت مفتوحة دائما. وبعد حوالي الأسبوعين من الثورة  صدر أول مرسوم جمهوري بقائمة أسماء المطلق سراحهم، وقد أطلق سراحهم فورا، وتوالت المراسيم وأطلق سراحنا جميعا خلال بضعة أسابيع.

في لقائي الأخير مع الرفيق عزيز محمد  في اربيل حيث زرتها لبضعة أيام في كانون الثاني 2017  ذكّرته بسؤاله حول علاقة الصهيونية بانشقاق الحزب عندما تعارفنا في السجن. رد علي قائلا: "سألت الرفيق سلام عادل أيضاً أول ما التقيته، بعد خروجي من السجن في إثر ثورة 14 تموز، ولم أحصل على جواب".

اللقاء الأخير مع الرفيق أبو سعود جرى قبل عدة أشهر من رحيله، وتحديداً في نهاية كانون الثاني 2017. عندما اتصلنا تلفونياً، واتفقنا على موعد لاصطحابي إلى بيته، عرض علي أن أقيم معه خلال وجودي في اربيل، إذا ما أعجبني المكان، فشكرته واعتذرت بكل ود. زارني في نفس اليوم في الفندق الذي أقيم فيه وبعد  استراحة قصيرة أخذني إلى بيته. وحال جلوسنا بادرني بالسؤال عن إحدى مداخلاتي في المؤتمر العاشر للحزب، وكان يصغي باهتمام، كعادته، ويبتسم لما هو مثير في الحديث دون أن يعلق. وعندما انتهيت سألته سؤالاً محدداً، أجابني بكلمة واحدة كانت تكفيني. وبعدها تشعب الحديث. اعتذرت عن تناول العشاء فقد كنت شبعانا ولم تجد معي إغراءاته لتناول كبة برغل، وتعشى هو عشاء بسيطاً. لم أتبين ماذا كان يأكل لتجنبي النظر إليه وهو يعاني صعوبة كبير في تناول طعامه بسبب الرعاش في يده.

وجدت عزيز بنشاط ذهني جيد وبذاكرة جيدة أيضاً نسبة لعمره الذي ناهز الثالثة والتسعين. يعاني من رعشة اليدين ولكن ذلك لم يعقه عن تناول طعامه وشرابه، واستخدام العكازة في حركته، وتفقد  مجايليه من الرفاق مثل الشاعر دلزار (97 عاماً) وكريم أحمد (94 عاما) وعمر علي الشيخ ناهز (90 عاماً). ولكن أعاقه في السنين الأخيرة من عمره من حضور الكثير من الدعوات المهمة. وأخبرني بأن أخشى ما يخشاه هو أن يصبح مقعداً، وتحققت أمنيته!

بيت الرفيق عزيز قديم وأثاثه بسيط وقديم، ولم تدخله التكنولوجية الحديثة، فلا وجود للكومبيوتر ولا  للانترنيت ولا للتلفون الذكي، وعرفت بأنه يقرأ يومياً ما معدله 5 ساعات. سألته كيف تتسلى؟ أجاب بأنه يشاهد الرياضة في التلفزيون. يعني لا موسيقى ولا غناء ولا أفلام ولا مسلسلات وكل هذه متيسرة في التلفزيون. عندما هممت بالمغادرة  جدد عرضه بالإقامة معه وأراني الغرفة المهيأة لإقامتي ومن ثم غرفته وهما تحتويان على أسرة من الطراز القديم وأجواءهما كئيبة، فعلقت عفو الخاطر بكلمة واحدة وهي: دروّشة، سمعني ولم يعلق. شكرته مجددا على عرضه لاستضافتي وغادرت.

وعند مغادرتي أربيل أصر على أن يرافقني إلى المطار وكان يحمل كارت يعفي سيارته من التفتيش، ويتجدد هذا الكارت كل ستة أشهر بعد دفع مئة ألف دينار. عند وصولنا المطار كان معي حقيبتان. ذهبت لأجلب عربة لهما، وعندما عدت وجدت الرفيق عزيز متجها نحو باب المطار وهو يسحب إحدى الحقيبتين بيده اليمنى وعكازته بيده اليسرى! وبعد أن  لحقت به داخل المطار، وجدته قد حجز لي موقعأ في الدور. لقد تأثرت كثيراً لتصرفه هذا الذي يجسد تواضعه الجم ووفاءه غير المحدود لتاريخنا النضالي المشترك، والذي هو جزء من التاريخ النضالي للحزب الشيوعي العراقي، ورغبت أن أعبر له بعبارة مؤثرة تتناسب مع لطفه، عندما تعانقنا عناق الوداع، فقلت له "مرافقتك لي أعتز بها كثيراً وستبقى خالدة في ذاكرتي". وقد ظل واقفا يراقبني حتى غبت عن النظر بأخر تلويحة من أيدينا.هل كل هذا الاهتمام بتوديعي مبعثه شعوره بأنه الوداع الأخير؟ ربما. أما أنا فلم يخطر ذلك ببالي.

كانت علاقتي بالرفيق عزيز علاقة رفاقية عادية أي لم تكن علاقة صداقة ضيقة، كما ذكرت سابقاً. وبدا لي بأنه كان يحرص على أن تكون علاقاته مع الرفاق الآخرين على مسافة واحدة، غير مقاسة بالسنتيمترات، فهناك هامش معين للبعد والقرب، ولكني أعتقد أنه لم تكن لديه علاقة صداقة حميمة خاصة مع أحد يفتح فيها قلبه ويتبادل همومه معه، فجميع الرفاق أصدقائه. ولا أحسب بأن ذلك كان درءاً لتهمة العلاقات التكتلية، بقدر ما هو سلوك حزبي نابع من مستوى رفيع وخصلة قيادية.  وظل هذا السلوك ملازماً له، وكان ذلك أحد أسباب انتخابه واستمراره سكرتيرا للجنة المركزية لمدة طويلة. هذا إلى جانب تواضعه وإخلاصه للحزب وقضيته، وصلابته أمام العدو وعفة لسانه، فهو يتجنب الإساءة إلى أحد، بمن فيهم خصومه ولم يحقد على أحد ويتجنب استخدام الألفاظ البذيئة، و يده بيضاء، وقبل هذا أو ذاك فأن إنسانيته عميقة . وكان يعوض عن مستواه النظري والثقافي باستثمار كل إمكانيات الرفاق الأكفأ منه في هذا الميدان. الرفيق أبو سعود قليل الكلام ولكنه متفوه ضليع باللغتين العربية والكردية وعندما يتكلم تكون  أفكاره واضحة ومرتبة. ويصغي بانتباه وتفهم ولا يتنصل عن مسؤوليته عن اخطاءه. ولكن هل تعرضت بعض خصاله تحت ضغط هذا الظرف أو ذاك للاهتزاز مؤقتاً؟ لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال، إلا بالإيجاب، لأن الرجل كان إنساناً طبيعياً وليس معصوماً. وكل من التقى به بعد تخليه عن مسؤوليته السابقة لمس خصاله الحميدة الجيدة. وإن  "دروًشته"، التي سبق وأن أشرت إليها، بمعناها الايجابي أي الزهد بمتع الحياة، دليل على ذلك.

لقد رفض الرفيق عزيز محمد بجد ترشيحه سكرتيراً للجنة المركزية في الاجتماع الكامل للجنة في براغ عام 1964، معلنا بأنه غير مؤهل لتلك المهمة وطلب دراسة حزبية، ولكن الاجتماع رفض اعتذاره وأصر على ترشيحه وإرساله للدراسة الحزبية في نفس الوقت! شارك  في الاجتماع عامر عبد الله وبهاء الدين نوري عضوا مكتب سياسي سابقاً وكذلك باقر إبراهيم وسلام الناصري عضوان مرشحان للمكتب السياسي، الم يكن أحدهم مؤهلاً لسكرتارية اللجنة المركزية آنذاك؟ كلا لم يكن، ليس بدليل عدم انتخابهم لهذا المركز في الاجتماع فحسب، بل  بدليل عملي فقد عاد بعد الاجتماع بهاء الدين نوري كمسؤول أول مع عدد من أعضاء المكتب السياسي الجديد مع كامل الصلاحيات، ولم يدبروها وناخو تحت العبء، فطلبوا من الرفيق عزيز محمد قطع دراسته التي باشرها والعودة إلى الوطن لممارسة مهامه، وظل هذا القرار المجحف يحز في نفسه. بناء على ذلك أجد بأن الرفيق عزيز محمد يبالغ بتواضعه عندما يحسب وجود آخرين أكفا منه وبأنه كان سكرتيراً توافقياً. باعتقادي كان الأكفأ ضمن ظروف الحزب آنذاك، لخصاله القيادية والأخلاقية التي أشرت إليها، وهذا ما لمسته حتى أخر اجتماع كامل للجنة المركزية حضرته وانتخبته في عام 1984. 

ومهما قيل ويقال فسيبقى الرفيق عزيز محمد قامة شيوعية عراقية وأممية وكردية مميزة، في تاريخ العراق الحديث، ومن حق الشيوعيين وكل العراقيين المنصفين أن يفتخروا به، فقد ظل واقفاً ولم ينحن أمام العواصف، مهما كان سعيرها، تماماً كنخيل جنوب العراق،  وشامخا وثابتاً لا يتزحزح، كجبال كردستان، عن حلمه ونضاله من أجل عراق حر وشعب سعيد وعالم يسوده السلام.