اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ألمكتبة

• زرافة دمشق - رواية - صفحة5

 

- نحن لا نجيء بها، صحح الصبي، نحن نسرقها.

- لماذا تسرقونها؟

- سنبيعها بالقطعة.

- ولماذا تبيعونها بالقطعة؟ إنها تعمل تمامًا.

- بالقطعة نبيعها بضعف ثمنها.

- بسبب الثورة؟

- لا.

- إذن بسبب ماذا؟

- بسبب لا شيء.

أعطاهما ظهره، وراح يركض أمام كلبه، والكلب من العناء لا يستطيع اللحاق به.

مشيا حتى أنهكهما التعب، ترامت ضابطة المخابرات الخارجية على فراش من الطين، وراحت تعبث فيه بأصابعها. كان فرانك لانج يتأمل مفاتنها، ويقول لنفسه: تظل أبولين دوفيل ساحرة وهي نظيفة وهي قذرة. جلس قربها، وخلع حذاءه، وراح ينزع الطين عنه ليجعله خفيفًا، ثم لبسه. عندما انتهى، خلع حذاءها، وراح ينزع الطين عنه، وجعله خفيفًا كحذائه. ألبسها إياه، ونهض. أعطاها يده، وأوقفها. قال لها:

- نحن على وشك الوصول.

- وكيف عرفت؟

- أظن أنني سمعت صوت موج، إنه نهر عيشة.

أرهفت السمع، ولم تسمع شيئًا.

- للأذن وهمها تمامًا كالعين، همهمت أبولين دوفيل.

ابتسم فرانك لانج، وهمهم:

- لأول مرة أدرك كنه السراب.

سارا نصف ساعة، وإذا بهم أمام أكداس مكدسة من بقايا القذائف، فسألت أبولين دوفيل:

- منذ متى ونحن تحت؟

- لست أدري، أجاب فرانك لانج. يخيل إلي أن ذلك منذ وقت طويل.

- ليس بقدر كل هذا.

- بيادق الجيش من أعتى البيادق، ينفقون من القذائف في ساعة ما أنفقه الألمان خلال أيام في معركة فيردان.

- أليس كذلك؟ وصلهما صوت خشن من وراء أكداس القذائف، ما أنفقه الألمان خلال أيام في معركة فيردان؟

وظهر رجل دميم يحمل سلاحًا رشاشًا من وراء أكداس الصواريخ، يتبعه دميم مسلح ثان، فثالث، لما رأتهم أبولين دوفيل خفت لتحتمي برجل التحري الخاص.

- لم أشارك فيها معركة فيردان، رمى الرجل الدميم متهكمًا، وأنتما هل شاركتما فيها؟

- نهر عيشة، همهم فرانك لانج، ألسنا على مقربة من نهر عيشة؟

انفجر الرجال الثلاثة ضاحكين ببلاهة.

- يسأل إذا كنا على مقربة من نهر عيشة، غمغم الرجل الدميم متهكمًا من جديد. ومعركة فيردان؟

- سنترككم يا أصحاب، قال فرانك لانج، وهو يهم وأبولين دوفيل بالذهاب، فأوقفهما الرجلان الدميمان الآخران مهدديْنِ إياهما بسلاحيهما.

- ليس قبل أن نشارك كلنا في معركة فيردان، رمى الرجل الدميم بخشونة، وهو يرفع سترة الفرنسية الشقراء بفوهة سلاحه.

- نحن فرنسيان، سارعت ضابطة المخابرات الخارجية إلى القول، وهي تحاول منع رعشة في صوتها، ونحن هنا من أجل حريتكم، نحن هنا من أجل الحرية، الحرية بلا زيادة.

انفجر الرجلان الدميمان الآخران ضاحكان ببلاهة، والرجل الدميم الأول بقي عابسًا، وهو يحاول فتح سترة أبولين دوفيل من فوق ليرى صدرها، مهمهمًا كالغائب "الحرية بلا زيادة"، إلا أنها صاحت:

- هيه! أوقف هذا!

ودفعته.

أراد فرانك دوفيل الانقضاض على الرجل الدميم، فمنعه الدميمان الآخران، وهما يدفعانه بسلاحيهما إلى جدار القذائف المستعملة، بينما شج الأول رأس أبولين دوفيل بسلاحه، وأسقطها أرضًا. أخذ يمزق ثيابها، وهو يهمهم كالممسوس في عقله "الحرية بلا زيادة"، حتى عراها تمامًا، ورجل التحري الخاص تحت تهديد الدميمين الآخرين اللذين لم يتوقفا عن الضحك ببلاهة لم يكن بوسعه أن يفعل شيئًا. انهار، وفي خياله بدأت النيازك تتساقط، ثم لا تلبث أن تنطفئ. مد يده نحو السديم، وكأنه يطلب عون النجوم، بينما قفزت أبولين دوفيل في الطين محاولة الهرب، فانقض عليها الرجل الدميم من ظهرها، وثناها. جعلها تسقط على الأربع، وهو يلتصق بظهرها، ويجذبها من شعرها كمن يجذب فرسًا من ناصيتها.

- اصهلي! أخذ الطاغية يأمر، هيا اصهلي! وهو ينزرع في ظهرها، وفي الوقت ذاته يجذبها إليه. اصهلي! وراح يصهل. اصهلي! يلعن دين، اصهلي! وأخذ يضربها على وركيها. قلت اصهلي! وراح يصهل. اصهلي! اصهلي! يلعن دين، اصهلي! عندئذ راحت أبولين دوفيل تصهل. نعم، هكذا، اصهلي! اصهلي! اصهلي! يلعن دين، اصهلي! وراح يصهل، وراحت تصهل، وراحا يتناوبان الصهيل، وراحت الحوافر تطرق الرؤوس، رؤوس على مد النظر كالصخور، راحت تطرق الرؤوس، تخترق العيون، وتفجر الأدمغة، وتطرق الرؤوس، تبحث عن الأجساد دون أن تجدها، فتطرق الرؤوس، ويغدو العالم فضاء ممتدًا مليئًا برؤوس البشر، وتطرق الرؤوس، وتمزق الشفاه، تهرق الدماء من الأفواه، وتطرق الرؤوس، وتعود وتطرق الرؤوس، نعم، هكذا، اصهلي! فتصهل، ويصهل، والدميمان الآخران لا يتوقفان عن الضحك الهستيري، بينما كان فرانك لانج يطلق حشرجة طويلة تعني موت الروح. فرانك لانج الصلب العود القوي الشكيمة ابن النجوم لم يعد موجودًا على الرغم من كل ذلك الظل، ظل القمر الذي كان له، فالإنسان ليس خارجه، الإنسان داخله، الإنسان هو داخل الإنسان، وداخله ليس أحشاءه، داخله ليس غائطه، داخله روحه، والغائط هو كل هذا، الغائط هو أبولين دوفيل، الغائط هو الخيل، حوافر الخيل، الصهيل، الغائط هو الذهب، السراب، الحرية، الغائط هو الأنا، خطأ الوجود، الوجود. الغائط هو الوجود، خطأ الوجود، الأنا. الغائط هو الأنا. اصهلي، فتصهل، انبحي، فتنبح، انتحبي، فتنتحب. الغائط. هو. الأنا. الغائط خطأ الوجود. الوجود. الغائط صواب العدم. العدم. كان الكون قطرة غائط. قطرة غائط كالضوء ليست موجودة، كانت العدم، ثم انتفخت بقدر الكون، وتفجرت. الكون. العدم. الوجود. البداية. النهاية. القذارة. الخير. الشر. ومن جديد القذارة. الإنسان الحيوي هو القذارة. هو الدمامة. هو الصهيل. هو الموت. هو صهيل الموت الدائم.

قذفها المجرم بقدمه لما قضى غرضه، فراحت تتلوى كالدودة في الطين، وتطلق تأوهات من يحتضر. جمد صاحباه على منظره، كان له وجه أصفر لا حياة فيه، فكأنه خرج على التو من قبره. راح بهما ضربًا وشتمًا، وجعلهما يجثمان على الأرض، ويلحسان نعليه. قهقه عندئذ محبورًا، وقال جاء دوركما. انقض ثلاثتهم على فرانك لانج، وعرياه. جذباه إلى مكان من بقايا القذائف يصل حتى خاصرته، ولعقه واحد، بينما الثاني انحنى، وجعله يدخل فيه. ذرف رجل التحري الخاص الدمع كامرأة، وهو يواصل اختراق الخسيس، وهذا يصرخ من اللذة. لكنه سقط في الصمت فجأة، كان الجنرال وحيد القرن قد أرداه قتيلاً، بعد أن صرع المغتصب لأبولين دوفيل، وولى الثالث الأدبار. وظل فرانك لانج يواصل اختراق الوغد، وهو يعرف أنه مات. ركبه مس من جنون، فراح يصرخ، وهو فيه، ويضرب رأسه في القذائف المستعملة، والدم يتفجر من فم الخسيس. ولما قذف كل كيانه، تركه يتساقط كقذارة كانها الإنسان مذ كان الإنسان.

القسم السادس

رفعت غادة عجيلي أبولين دوفيل من الطين، وساعدتها على ارتداء ثيابها. بقي الكولونيل عابدين صامتًا، والجنرال وحيد القرن يساعد فرانك لانج على ارتداء ثيابه. كان الملحق العسكري التركي ينظر إلى جثتي القتيلين، وهو يفكر أن هذا العالم لا يمكن تغييره، هذا العالم يجب تفجيره بقنبلة ذرية تودي بالأخضر واليابس، فتزول البشرية، وتكون بذلك راحة لنا. تقدم، وبقدمه قلب الميتين على ظهرهما، فظهر وجهان لا أكثر منهما دمامة، فالموت يضاعف القبح، لكنه لا يضاعف الكره، وعند ذلك، تبدأ سلسلة من الأفكار في رأس الإنسان الحيوي تعطل عليه الاستفادة من الوجود، وتجعله يقحم نفسه في متاهات الأخلاق.

- صحيح، همهم الكولونيل عابدين، كل هذه الخسة نالت ما استحقت، وأنا لو كان بيدي لفعلت أكثر، لأنهيت على العالم، لأن كل واحد منا موضوع للخسة.

- هل هذا لأن فرانك لانج انتقم من غريمه على طريقته؟ سأل الجنرال وحيد القرن.

- فرانك لانج لم ينتقم، عاد الكولونيل عابدين إلى الهمهمة، فرانك لانج مارس العنف الجنسي كما مارسه هذا الوغد على أبولين دوفيل.

- لقد حصلت على متعتي، همهم رجل التحري الخاص.

- ليس أنا، همهت أبولين دوفيل، بل وللحق أقول حصلت على بعض متعتي.

- البربرية تظل إنسانية، همهمت غادة عجيلي.

- ليس هذا ما أود الوصول إليه، قال الكولونيل عابدين. لقد وقعت جريمة، والصدفة فقط من جعلت من هذا القاتل ومن ذاك الضحية، إذ كل واحد منا مؤهل ليكون هذا أو ذاك، وبناء على ذلك أقترح أن نحمل الجثتين، ونذهب إلى أقرب مركز للشرطة. القانون وحده ما يبت في الأمر، وعلى هذا الأساس وحده يمكننا أن نقطع باقي العمر مرتاحي الضمير.

- كل الذين قتلت دون قانون يردعك، وتريد الآن أن تلجأ إلى القانون، لأن جرذين كهذين الخسيسين قتلتُهما دفاعًا عن النفس؟ سأل الجنرال وحيد القرن.

- ليس دفاعًا عن النفس، نفى الكولونيل عابدين.

- دفاعًا عن الشيطان، نبر الجنرال وحيد القرن، دفاعًا عن أي شيء، أنت لا تنكر أنني قتلتهما دفاعًا عن رفيقينا.

- لم يكن فرانك لانج في موقف يوجب الدفاع عنه، ألقى الكولونيل عابدين.

- هذا صحيح، همهمت غادة عجيلي.

- هذا صحيح، همهمت أبولين دوفيل.

- حتى أنتِ كابتن دوفيل! عاتب فرانك لانج بمرارة.

- لكنني لست مع أن نذهب إلى أقرب مركز للشرطة، قالت ضابطة المخابرات الخارجية. الحرب هي قانونها، تحت أم فوق لا مكان إلا لهذا، وهذا ما كان.

- تسمين هذا حربًا؟ قال الملحق العسكري التركي، حتى حرب أهلية ليست هي، وما الأمر سوى صراع حول السلطة بين قوتين بشريتين إحداهما استبدادية والأخرى تمردية تطور من سلمي من طرف إلى استعمال العنف من طرفين. هل تنسين لماذا أنت هنا كابتن دوفيل؟ نحن هنا من أجل مليار دولار ذهب لكل واحد منا نستولي عليه ثم نعود إلى ديارنا.

- لنكمل مهمتنا، همهم فرانك لانج، ثم سنفكر في أمر هاتين الجثتين.

- بل في أمرك فرانك لانج، وفي أمر الجنرال وحيد القرن، قال الكولونيل عابدين بنبرة حاسمة. ضميركما لن يسمح لكما بنكران ما حصل، ولا فكركما، فأين الخير؟ وأين الشر؟ ولنحكم، أين المعايير؟

- لن نفكر في أمر أحد، قالت أبولين دوفيل، لقد دفعت وحدي ثمن خسة الآخرين، وما دفعته كاف ليبرئ حتى يهوذا.

- لنخرج من هنا، طلب الجنرال وحيد القرن لكن أحدًا لم يتحرك من مكانه. سأخرج وحدي إذن، لكنه لم يتحرك من مكانه.

- كنت أظن أنني بالعلم أستطيع إصلاح العالم، همهمت غادة عجيلي، لهذا أردت شراء هارفارد، أكسفورد، أو السوربون.

- كنت أعتقد أنني بالرأفة أستطيع إصلاح الأخلاق، همهمت أبولين دوفيل، لكن التعهر بالنسبة للبشر مادة ترف.

- كنت أرى في ملء المعدة والأمعاء إصلاح الوجود، همهم الجنرال وحيد القرن، إلا أن هؤلاء البشر كل ذهب العالم لا يكفي جوعهم.

- كنت أحلم بالقوة كوسيلة لاستتباب السلم، همهم الكولونيل عابدين، فإذا بالسلم شيء مستحيل في كل مكان على الأرض، وليس فقط في سوريا.

- نحن نحلم أكثر مما نفكر، همهم فرانك لانج.

عاد الرجل الدميم الثالث الذي هرب منذ قليل على أصابع قدميه من وراء جدار القذائف المستعملة، وهو يشهر سلاحه، وأطلق مرديًا غادة عجيلي قتيلة، ثم ولى الأدبار. لحق به الكولونيل عابدين، وقتله، وبعد ذلك جاء يقول مطأطئ الرأس:

- كان عليّ أن أقتله.

همهمت أبولين دوفيل، وهي تبكي، وتهز غادة عجيلي في حضنها كمن تهز طفلتها:

- كل ذهب العالم لا يعادل شعرة واحدة من شعرات هذه السورية!

عاد الكولونيل عابدين إلى القول:

- كان عليّ أن أقتله.

- لو لم تقتله أنت لقتلته أنا، قال فرانك لانج.

- كان عليّ أن أقتله، قال الكولونيل عابدين للمرة الثالثة.

- ليس القانون وحده ما يبت في الأمر، همهم فرانك لانج.

- تريد القول هناك قانون الغير وهناك قانون النفس، همهم الملحق العسكري التركي، وأنا كنت قانون نفسي، لهذا قتلت.

سار الجنرال وحيد القرن باتجاه المخرج المؤدي إلى نهر عيشة، تبعه الكولونيل عابدين، فرجل التحري الخاص. قبّلت أبولين دوفيل غادة عجيلي من ثغرها، وتركتها تضطجع في الطين، والتحقت بالآخرين.

لم يكن نهر عيشة نهرًا ككل الأنهار، كان عبارة عن طبقة حصى قطعوها تحت سماء ملبدة بالغيوم إلى كفر سوسة. وفي كفر سوسة لم يكن هناك أي أثر لقتال، وكأن المنطقة جناح طائر مقطوع عن دمشق. مضوا بجنازة كلب، ونساء بورجوازيات في ثياب الحداد على عيونهن نظارات سوداء ضخمة يرشقن النعش بتويجات الفل. كان عازف ناي يعزف لحنًا حزينًا، والنعال تتمايل على الإيقاع، وهي في كامل سعادتها. على باب مكتبة، وقف كاتب مقدسي كان مريضًا بالطاغية، فبَصَقَ البراق عليه ليبرأ حتى أغرقه بالبَصْق. عندما نظروا إلى ما في المكتبة من كتب في امتداح الطاغية: الطول العرض الجمال، أخذ الدمع يسيل من بين سطورها كالأنهار. لكن صيحات وصلتهم على حين غِرة، فالتفتوا ليروا جمعًا من الجنود الشبان، وهم يهتفون: بالدم بالروح نفديك يا جبار! بقوة وصدق وحمية، وهم يقفزون، دون أن ينتبهوا إلى صور الطاغية تحت أحذيتهم. ولتعبّر موظفات السفارة الصينية عن شرفهن وبراءتهن وإخلاصهن، بقرن بطونهن، بينما ألقت موظفات السفارة الروسية بأنفسهن من النوافذ.

تركوا كفر سوسة إلى مجمع كلية الطب والآداب، ووجدوه ركامًا على ركام. وهم في طريقهم إلى حديقة تشرين، كان المنشقون يقاتلون في شارع عدنان المالكي، فعملوا على تجنبهم. كانت فرقتهم تقاتل في شارع إبراهيم هنانو إلى جانب مجموعة من مقاتلي الظل خرجت من ظلال موت كان موت دمشق نفسها، موت دام عشرات الأعوام، فالتحقوا بالرجال، وقادهم فرانك لانج، والناس يصفقون للأبطال ويهتفون بحياتهم، حتى القصر الرئاسي في حي المهاجرين. لم تكن المعركة سهلة مع الحرس الجمهوري إلا أن مقاتلي الذهب الأربعة تمكنوا في الأخير من اختراق القصر.

وجدوا القصر الرئاسي خاليًا، لا أحد فيه غير موظف ربما كان واحدًا من رجال البروتوكول لبدلته السوداء اللماعة وعقدته الفراشية السوداء اللماعة وحذائه الأسود اللماع، كان يريد الموت على سور القصر لا لشيء، وإنما لإسْمَنْتِهِ السميك. بحثوا عن الذهب في كل مكان، وأول ما بحثوا في الحجرة المحصنة تحت الأرض، فلم يجدوه.

- وأنا على كل حال لم أعد أريده، ذهب الموت هذا، همهمت أبولين دوفيل.

- ولا أنا، لم أعد أريده، همهم فرانك لانج.

- ولا أنا، همهم الكولونيل عابدين.

- أما أنا، فأريده، آه كم أريده، صرخ الجنرال وحيد القرن. وفجأة: بحثنا في كل مكان ما عدا...

وذهب يركض إلى الحديقة التي أول ما حط القدم فيها، وجد زرافة جميلة، تقضم الورق من قمم الأشجار، بكل ليونة الكون، وتبتسم بنعومة. جاءوا من ورائه، وابتسموا لابتسامة الزرافة. اقتربت منها أبولين دوفيل، فنزلت الزرافة برأسها حتى خد الشقراء الفرنسية، ورضبته بلسانها.

- هناك، صاح الجنرال وحيد القرن، وهو يشير إلى باب ضخم في أقصى الحديقة.

راح يركض، وفتحه، فإذا به مسدود بالإسمنت. احتاروا في أمرهم، فعضلاتهم لن تنفع، ولا الرصاص. وهم ينظرون من حولهم إذا بقذيفة تنفجر في المكان الذي كانت فيه الزرافة، وتمزقها. رأوا رأسها معلقًا على رأس شجرة، وساقاها على رأس شجرة أخرى، وجسدها متناثرًا على الزهور والرياحين. كان ثلاثة أو أربعة من حرس القصر الرئاسي هم من فعلوا هذا بمدفعهم المتترسين به فوق السور، وكانوا على وشك إرسال قذيفة ثانية، فكلمهم الجنرال السوري. اتفق معهم على اقتسام سبائك الذهب إذا هم فتحوا الباب المسدود بضربة من مدفعهم. وكان أن فعلوا، وفي الداخل كان الذهب بالأطنان، أكثر من مائة طن، مائتان، وربما ثلاثة. صرخ الجنرال وحيد القرن من الفرح والذهول، وحمل سبيكة، وعضها، وأخذ يعوي، ثم عاد يصرخ حتى بح صوته، وشيئًا فشيئًا أدرك أن لا أحد يصرخ سواه. ابتلعه الصمت كالآخرين، وطأطأ رأسه. وضع السبيكة في جرابه، وغادر المكان معهم، وكل الحزن في العالم يثقل هامته. رأوا كيف راحت تلك الكائنات الغريبة تتوارد وأولئك المسلحون المشوهون والجرحى الزاحفون بعلقهم والسارقون الصغار للأجهزة الإلكترونية، وكيف حملوا سبائك الذهب، وفي لمح البصر اختفوا. وصل رئيس المنشقين، فأخذ الأربعة بالأحضان واحدًا واحدًا. علق الأوسمة على صدورهم، وخرج بهم إلى الجماهير التي زحفت لتحيي الأبطال، وتحتفي بالانتصار. خلعت المحجبات أحجبتهن احتفاء بالقضاء على النظام القديم، وطارت الحمائم، لكن الغيوم في سماء دمشق لم تنقشع، والشمس في أزقتها لم تدخل. حكمت الثورة على الحرية بالسجن المؤبد، فأعادت المحجبات أحجبتهن، ورأين العالم من تحتها كفردوسٍ شمسُهُ لا تغيب.

باريس الاثنين 2012.07.23

أعمال أفنان القاسم

المجموعات القصصية

1) الأعشاش المهدومة 1969

2) الذئاب والزيتون 1974

3) الاغتراب 1976

4) حلمحقيقي 1981

5) كتب وأسفار 1988

6) الخيول حزينة دومًا 1995

الأعمال الروائية

7) الكناري 1967

8) القمر الهاتك 1969

9) اسكندر الجفناوي 1970

10) العجوز 1971

11) النقيض 1972

12) الباشا 1973

13) الشوارع 1974

14) المسار 1975

15) العصافير لا تموت من الجليد 1978

16) مدام حرب 1979

17) تراجيديات 1987

18) موسى وجولييت 1990

19) أربعون يومًا بانتظار الرئيس 1991

20) لؤلؤة الاسكندرية 1993

21) شارع الغاردنز 1994

22) باريس 1994

23) مدام ميرابيل 1995

24) الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون 1995

25) أبو بكر الآشي 1996

26) ماري تذهب إلى حي بيلفيل 1999

27) بيروت تل أبيب 2000

28) بستان الشلالات 2001

29) فندق شارون 2003

30) عساكر 2003

31) وصول غودو 2010

32) الشيخ والحاسوب 2011

33) تراجيديا النعامة 2011

34) ستوكهولم 2012

35) شيطان طرابلس 2012

36) زرافة دمشق 2012

37) البحث عن أبولين دوفيل 2012

38) قصر رغدان 2012

الأعمال المسرحية النثرية

39) مأساة الثريا 1976

40) سقوط جوبتر 1977

41) ابنة روما 1978

الأعمال الشعرية

42) أنفاس (مجموعة قصائد أولى – ثلاثة أجزاء) 1966

43) العاصيات (مسرحية شعرية) 1967

44) المواطئ المحرمة (مسرحية شعرية) 1968

45) فلسطين الشر (مسرحية شعرية) 2001

46) الأخرق (مسرحية شعرية) 2002

47) غرافيتي (مجموعة قصائد فرنسية) 2009

48) غرب (ملحمة فرنسية) 2010

49) البرابرة (مجموعة قصائد أخيرة) 2008 – 2010

الدراسات

50) البنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسان كنفاني 1975

51) البطل السلبي في القصة العربية المعاصرة عبد الرحمن مجيد الربيعي نموذجًا (جزءان) 1983

52) موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1984

53) البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش 1984

54) نصوص خاضعة للبنيوية 1985 – 1995

55) دفاعًا عن الشعب الفلسطيني 2004

56) خطتي للسلام 2004

57) شعراء الانحطاط الجميل 2007 – 2008

58) نحو مؤتمر بال فلسطيني وحوارات مع أفنان القاسم 2009

59) حوارات بالقوة أو بالفعل 2007 – 2010

60) الله وليس القرآن 2008 - 2012

61) نافذة على الحدث 2008 - 2012

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

زرافة دمشق رواية الثورة السورية، تم نسج حبكتها اعتمادًا من الكاتب على عنصر من عناصر الوهم لا علاقة له بالثورة لا من قريب ولا من بعيد، فالذهب الذي يذهب بطلا أفنان القاسم التيميّان فرانك لانج وأبولين دوفيل وصحبهما إلى دمشق من أجله، ألزمهم خوض معارك تحرير البلاد مدينة مدينة من الحدود التركية إلى قصر المهاجرين، وفي الطريق يبرز كل البؤس الإنساني عبر تضحيات السوريين وتواطؤ بعضهم وتَيْهَان البعض الآخر.

يركز أفنان القاسم في هذه الرواية على عبث الوجود، فأي معنى للثورة، وسماء دمشق في الصيف غائمة، وليس هناك من فرق كبير بين الضحية والجلاد؟ "أنا قانون نفسي"، تقول إحدى الشخصيات، لكن هذا القول لا يبرر جسامة الفعل الذي لولاه لما كانت الحرية، فما العمل إذن والحرية نفسها مهددة بمن يجيء بها؟

ما يراهن عليه النص شيء آخر، شيء يبقى في دائرة المحتمل، فكل الرواية تدور وقائعها في هذه الدائرة، وكل وقائع الرواية هي وقائع محتملة، ليس لأن الثورة خلال كتابة هذه الرواية لم تتحقق، وليس لأن الكاتب يخشى أن يعارض قدر السوريين، ولكن لأنه يريد للسوريين قدرًا مغايرًا.

* أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له أكثر من ستين عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...

 

 

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.