اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ألمكتبة

• كتاب: من أعماق السجون في العراق /الحلقة التاسعة

الشهيد عبد الجبار وهبي

كتاب: من أعماق السجون في العراق* /الحلقة التاسعة

الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد)

1920 – 1963

ملاحظة لم أسجل كل التفاصيل التي ذكرها الشهيد عبد الجبار وهبي في كتابه، وإنما نقلت نصوصا من موضوعاته مع حذف بعض الفقرات التي لا تؤثر لا على المعنى ولا على نسق الرواية ... وأترك نشر كل هذه التفاصيل لطباعة الكتاب مستقبلا ليطلع عليه القارئ الكريم./ الناشر: محمد علي الشبيبي

الماء في شهر الحصار

يندر ان يموت الانسان جوعاً، إذا استطاع ان يواصل اشغال معدته خلال شهر او اكثر بلقمة او لقمتين من القشور او النخالة ومحلول السكر وحامض التارتاريك! ويندر جدا ان يموت السجين السياسي في العراق، إذا جاع شهراً أو أكثر. .... إنما الخطر ينبعث من العطش.

العطش في أيام آب العراق(1) طاعون أسود ... أما الماء أو الموت! هكذا توضع القضية أمام العطشان. وتتقرر النتيجة خلال بضعة ساعات من ظهور علامات التسمم، الموت أو الماء! هكذا فكر 140 سجيناً، بعد ان كسرت سلطات السجن انبوب الماء وهدمت الخزان الخارجي في ضحى يوم آب 1953.

لكن الحكام الرجعيين أخطأوا الحساب ..... آملين ان يركع السجناء مستسلمين خاضعين! حقاً، فكر السجناء بالماء والموت، إلا انهم لم يفكروا بالماء، يأخذونه من يد العدو ثمناً للاستسلام، والحياة ثمناً للهزيمة .... ان ثقتهم المطلقة بشعبهم الذي لن يتركهم يموتون، لا تسمحان لهم بان يفكروا بغير الصمود ... الصمود حتى النهاية.

.... وكان في نفس اليوم (الرابع من آب) قد بلغ الغضب والهياج لدى جماهير الكوت التي استمعت الى نداءات البوق المتواصلة يومياً، فأدركت مسؤوليتها، رغم الاحكام العرفية، ورغم "انتقال" المجلس العرفي العسكري الى مدينتهم واتخاذها مركزاً "لنشاطه"، ورغم مئات الشرطة المبثوثة في كل مكان بلغ الغضب والهياج حداً كبيراً فخرجت مظاهرة جماهيرية كبرى اشتركت فيها حتى النساء، طافت في شوارع المدينة وطالبوا بإيقاف جريمة قتل السجناء جوعاً وعطشاً.

وعلى الأثر، شنت السلطات الحكومية هجوماً على الوطنيين في الكوت فقبضت على 22 شخصاً، حكم عليهم المجلس العرفي في صباح اليوم التالي بأحكام سجن مختلفة. .... واشاعة الحكومة جواً ارهابياً هستيرياً فألقت القبض على 14 مواطناً آخر، ... وهاجمت عدداً كبيراً من المنازل، وحشدت اكثر من 500 شرطي في المراكز الهامة من المدينة. .... وعذبت السلطات الحكومية المعتقلين، تعذيباً وحشياً، حتى بعد صدور احكام السجن بحقهم، تلك الاحكام التي اصدرها المجلس العرفي من مقره الجديد، في مركز شرطة الكوت! وتولى التعذيب، بدل صغار الشرطة كما هو مألوف، كبار موظفي الدولة في الكوت: طاهر الزبيدي (مدير السجون العام)، والجلاد المتخصص ومدير سجن بغداد جبار أيوب، ومدير شركة الكوت، ومتصرف الكوت (طاهر القيسي). كان موضوع التعذيب: هو ان يرضخ المعتقلون للإهانات والشتائم وان يوافقوا، بدورهم، على شتم السجناء السياسيين المحاصرين، وشتم ستالين ومالنكوف وفهد، وحينما رفض المعتقلون ذلك، اتهموهم بالشيوعية ووصفوهم بعملاء موسكو، وشتموهم وضربوهم، وهددوهم بالاعتداء الجنسي(2).

واحتاطت الحكومة للأمر من ناحية أخرى، من ناحية التضليل وخدع الجماهير. فكانت سيارة رش الماء العائدة للبلدية تتجه الى السجن وتقف عند الباب للتظاهر بان السلطات الحكومية راغبة بتزويد السجناء بالماء، لكن السجناء انفسهم يرفضون. ولم يفت اولئك المتخصصين بالتعذيب ان يستغلوا وفرة المياه لديهم فصاروا يبددونها بغزارة امام انظار السجناء العطاشى.

كان الماء في اليوم الثالث على وشك النفاذ، فاختمرت بدافع الضرورة –كما أسلفنا- فكرة حفر البئر. فتقدم أحمد علوان ليبدأ الحفر بأدوات بسيطة. ووقف (جبار أيوب) وعدد من السجانة ينذرون ويهددون. والقانون الى جانبهم، في هذه المرة! لأن الحفر في ارض السجن وجدرانه، يعتبر محاولة للهرب. والهارب جزاؤه النار. فاستعد السجانة في السطوح، وشرعوا بنادقهم وقرقعوها، لكن أحمد علوان انكب على عجلة غير آبه بالبنادق والتهديدات، وتبعه رفاق آخرون، وآخرون، واستراح البعض وواصل العمل البعض الآخر، والتراب يعلو حول حافة البئر وتحت أفواه البنادق وخلال مناوشات الطابوق والحجارة ، حتى بلغوا الماء على عمق 4 امتار ....

وارتفع الانذار والتهديد مرة أخرى: بان النار ستطلق على كل من يتقدم للاستقاء من البئر. لكن بعض المناضلين تقدموا بثبات وهدوء، وبأيدهم الدلو والحبل. فأدلو، غير ملتفتين الى العداء المحموم المنبعث من السطوح والأبراج، واستخرجوا اول دفقة من الماء .... مائهم، ماء تلك الارض الصغيرة الغبراء، ارض المعارك والدماء، المحاطة بالأسوار والأبراج.

كان الدلو الاول رمزاً لنصر عظيم ساحق حققه 140 سجيناً. ومع ان الماء كان مالحاً غنياً بأملاح المغنيسيوم، وانه سبب للسجناء اسهالاً دائماً ومزعجات وآلام أخرى .... ولكن، بفضله نجا السجناء من موت محتوم.

* * *

جوع، وعطش، وحرب مستمرة بالطابوق (الآجر) والحصى، ما معنى ذلك؟ .... ان ما يجري هنا كان بأمر من بغداد، من المدفعي والسعيد وحسام الدين جمعة؟

اثبتت الحوادث فيما بعد ان جريمة الحصار خطة وضعتها المراجع العليا في بغداد. وتتحمل مسؤولية تلك الجريمة، مباشرة، وزارة المدفعي-السعيد بمجموعها. ففي الشهادة التي أدلى بها الوزير السابق صادق البصام امام محكمة الجزاء في الدعوة التي اقامتها الحكومة على جريدة (الدفاع) لنشرها تقريراً رسمياً "سرياً" حول مذبحة الكوت. قال: "حين واجهت وزير الداخلية قال لي -الوزير- بأننا سوف نكتفي بقطع الماء والطعام".

ويستدل من تصريح وزير الداخلية (حسام الدين جمعه)، هذا، الى صادق البصام ان الحكومة قد عمدت الى قطع الماء والطعام عن سجناء الكوت "لتكتفي" بذلك عن القيام بإجراءات أكثر إجراما، وطبيعي في مثل هذا الوضع الفكري والنفسي للحكام العراقيين الذين يرتكبون جريمة قطع الماء والطعام(3) عن 140 سجيناً، مدة شهر كامل، طبيعي ان يلجأوا –حينما تفشل اساليبهم الإجرامية- الى جرائم اكثر بشاعة، الى اطلاق النار وإقامة المجازر. وهذا يثبت ان مجلس الوزراء كان يشرف على حوادث السجون وانه يتحمل مسؤولية كل الجرائم التي رافقت الحوادث.

... فقد ظهر على مرور ايام الحصار واشتداد مقاومة السجناء ورفضهم الاستسلام، ان الحكومة مستعدة لإقامة مجزرة جديدة ....

اخذت ادارة السجن، تستعمل البوق هي أيضاً لإذاعة "البلاغات" من الابراج. تلك البلاغات المؤلفة من سباب وشتائم واتهامات وتهديدات، تنتهي بعبارة"لقد اعذر من أنذر".

كانت تلك "الاعصاب" التي وجدت في نفسها القوة على تنفيذ جرائم القتل البطيء، على غرار الجرائم الهتلرية في معسكرات الأسرى، كانت تلك الاعصاب تفقد اتزانها يوماً بعد آخر أمام صلابة السجناء وهدوئهم وثباتهم ... فوصفوا السجناء انهم عصاة، متمردون، خونة. وهددوهم صراحة بالذبح.

وأذاع السجان ابراهيم الذي اشترك في مذبحة بغداد واقترف في مذبحة الكوت –فيما بعد- جرائم وحشية تنم عن نزعة اصيلة الى الإجرام في نفسه ... اذاع قائلاً: "ان جبار أيوب سوّاها ببغداد وراح يسويها هنا(4)".

وكان السجان جعفر، وهو مجرم مطبوع، يتغنى من البرج بأمثال هذه الكلمات "لو كان الامر بيدي، قطعت الهوا عنك يا سجين، اشرب دمك يا سجين، اتكمع(5) بدمك يا سجين". وفي حالات هيستيرية كان طاهر الزبيدي مدير السجون العام يصيح "انا طاهر الزبيدي ... انا اذبحكم، اذبحكم بيدي واحداً واحداً".

.... ولم ينقطع ازاء ذلك، بوق السجناء عن مخاطبة جماهير الكوت وشرح الحوادث والوقائع. وكان السجناء أيضا يقذفون الرسائل المشدودة الى قطع من الحجارة الى خارج السجن، بواسطة "المعكال".

وبلغت الحماقة بالسجانين ان صاروا يردون على هتاف السجناء بسياسة القتل الجماعي، بهتاف مضاد "تعيش سياسة القتل الجماعي". وفي 8 آب، ذلك اليوم المشهود من أيام المخازي الرجعية، نظم متصرف اللواء ومدير الشرطة ومدير السجون العام وجبار أيوب، نظموا "مظاهرة"(6) رجعية على مقربة من السجن، اشترك فيها 50 شخصاً من الجواسيس والمرتزقة وأولاد الشرطة. داهمت المظاهرة السجن، يتقدمها الجاسوس المعروف (الشيخ هادي) وهو من المتاجرين بالدين، يلبس الجبة ويضع العمامة على رأسه. وفتحت أبواب السجن وانظم للمظاهرة نفر من السجناء العاديين الاشرار الذين اغرتهم الحكومة على خدمتها، وقد وضع اولئك السجناء، على عادتهم، الخوذ الفولاذية على رؤوسهم وتسلحوا بالسكاكين والحراب والخناجر. كان متصرف اللواء حاضراً اثناء تلك المهزلة التي افتتحها جبار أيوب بخطاب مطلعه "ها هي جماهير الكوت جاءت تنتقم منكم، ايها الشيوعيون"، وقد شتم في خطابه كل مقدسات الشعب وكل ما هو عزيز عليه وعلى المناضلين ... وتباكى بأسلوب مضحك على ما سماه "العروبة والإسلام" وهتف "المتظاهرون": يعيش المدفعي، يعيش مدير السجون، يعيش جبار أيوب، تسقط الشيوعية". وخاطب أحد الجواسيس، متحدياً السجناء السياسيين، بقوله "وين الشعب اللي تصيحونه، خلي يجي يخلصكم من أيدينا".

وفي الايام التالية للمظاهرة، صار جبار أيوب يهدد بتهديم السقوف والهبوط على السجناء، من فوق.

ولفضح تلك الجرائم والمخازي، كان المناضلون السجناء يخاطبون جماهير الكوت يومياً ويسردون تفاصيل الحوادث والصعوبات المتزايدة امامهم من جراء نقص الطعام وفساد الماء والسهر المتواصل وحرب الطابوق، وينبهون الشعب الى قرب وقوع جرائم أكثر فضاعة.

ومن طريف ما يروى عن تلك الايام السوداء العصيبة: ان السجانة قد تلقوا الامر بترقب بوق السجناء حتى اذا ارتفع صوته منادياً جماهير الكوت، ترتب عليهم ان يصرخوا صراخاً عالياً، لمنع جماهير الكوت من سماع النداء، فكانوا ينهقون ويزعقون وينبحون بأصوات حيوانية منكرة، فيضحك المناضلون ملء أشداقهم، ويواصل البوق النداء بصوت أعلى فاعلى.

كانت حالة السجناء الصحية تتردى، والخطر يقترب، ولم يخفِ على الحكومة ما يعانيه السجناء من جوع وأنهاك ومرض. وفي انتظار تلك اللحظة التي تنهار فيها مقاومة السجناء، داست الحكومة كل اعتبارات الشرف والإنسانية وصمت اذنها عن كل احتجاج، وقمعت كل اعتراض، سواء في الكوت أم في بغداد.

ففي بغداد ذهب وفد مؤلف من سماحة الشيخ العلامة عبد الكريم الماشطة (عضو مجلس السلم العالمي) والحاج عبد اللطيف محمد (والد احد السجناء السياسيين)(7)، لمقابلة الملك في البلاط، والطلب إليه ان يتدخل لمنع جريمة ابادة السجناء المحاصرين. فقابلهم مدير التشريفات ولكن دون جدوى ..... وبعد أيام، في 17 آب، قصد وفد جماهيري الى البلاط لعين الغرض فطلب إليهم مدير التشريفات ان يحضروا إلى البلاط في اليوم التالي لمقابلة الملك. فلما حضروا في الموعد المقرر، قابلهم الحرس الملكي وجواسيس التحقيقات الجنائية بالرصاص واعتقلوهم وعذبوهم تعذيباً وحشياً فضيعاً، ثم حكم المجلس العرفي العسكري عليهم بالسجن مدداً تتراوح بين ثلاث وخمس سنوات!

وفي الايام الاخيرة قبيل 14/8/1953، كان يحضر، مدير السجن الى باب السجن الداخلي، يومياً، فيصيح بأعلى صوته والمسدس مشهور بيده وخوذة الفولاذ على رأسه، يصيح بأسماء، بعض السجناء طالباً مجيئهم إلى الإدارة، وتلك حيلة يعرفها السجناء لاستدراجهم إلى الخروج، لإلقاء القبض عليهم وتعذيبهم وإجبارهم على توقيع عرائض "التوبة". فكان السجناء يقابلون تلك المحاولات الفاشلة بالإعراض والازدراء. فيشتاط المدير غضباً، ويهدد قبل ان ينصرف مع حراسه المسلحين قائلاً: "عندي أوامر برميكم"...!

محمد راشد (الشهيد عبد الجبار وهبي –أبو سعيد-)

بغداد –حزيران 1955

------------------------------

*- لقد بينت في الحلقة الأولى (التمهيد) قصة كتاب (من أعماق السجون في العراق). وكما ذكرت أن الكتاب هو من تأليف الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) ونشره عام 1955 باسم مستعار (محمد راشد) وبقي أسم المؤلف مجهولا إلى أن نشرت طريق الشعب أواخر عام 1978 الحلقة الأولى منه وكشفت لأول مرة أن الكتاب من تأليف الشهيد. ولأن الكتاب مفقود من الأسواق لذلك قررت نشر الكتاب كاملا دون تغيير أو إضافة أو حذف/ الناشر: محمد علي الشبيبي

(1)- تبلغ درجة الحرارة في الصيف 48 درجة مئوي! ومناخ العراق كما هو معلوم جاف جداً.

(2)- يجري التهديد بالاعتداء على الشرف، بالفاظ بذيئة، ضد الرجال والنساء على السواء. ويأخذ شكل دعوة الشرطة يتقدموا ويفعلوا به او بها ما يشاؤون. وقد ثبت حتى الان حوادث "لوط" بالإكراه قامت بها التحقيقات الجنائية. وفي ملفات محكمة الجزاء ببغداد قضية بطلها موظف في التحقيقات اسمه خزعل.

(3)- بالاضافة الى الطابع اللاانساني الوحشي للتجويع المتعمد وقطع الماء، فان القوانين العراقية تعتبر منع الماء والطعام عن اية جماعة من الناس، جريمة يعاقب فاعلها.

(4)- ويقصد ان جبار ايوب اقام المجزرة في بغداد وسوف يقيمها في الكوت!

(5)- اتكمع: شرب الماء، جرعة جرعة،. ويستعمل للدلالة على التلذذ باللهجة العراقية.

(6)- نشرت جريدة "الجريدة" لصاحبها فائق السامرائي من قادة حزب الاستقلال، بعض المعلومات عن مظاهرة 8 آب فذكرت ان وزارة الداخلية قد اذنت بصرف مبلغ 100 دينار لتنظيمها ولم تجد الحكومة سنداً لها إلا في جواسيسها ومرتزقتها.

(7)- وهو الاستاذ محمد عبد اللطيف مطلب من خريجي الجامعة الامريكية في بيروت. وكان أستاذاً في كلية الهندسة حين القاء القبض عليه سنة 1948.

يتبع

الحلقة التالية: 14 آب، يوم تحدوا الموت!؟

لمتابعة الحلقات السابقة اذهب الى باب المكتبة

او اضغط على الرابط

http://www.tellskuf.com/index.php?option=com_content&view=category&id=15&Itemid=23

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.