اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ألمكتبة

• مدينة الشيطان / رواية

د. أفنان القاسم

الأعمال الكاملة

الأعمال الروائية (34)

د. أفنان القاسم

رواية

مدينة الشيطان

ٍLA CITE DE SATAN

إلى ذكرى حارة المغاربة

القسم الأول

تقدم فرانك لانج بسيارته الفيراري الحمراء ببطء وراء صف طويل من أغلى السيارات في العالم، كان في شارع القصر الواقع في ضاحية أعظم أثرياء باريس، نُيْي-سير-سين، ذوي الصيت الأكثر ذيوعًا. لم يكن الموكب لجنازة، كانت كل تلك البدلات السوداء والفساتين الداكنة، لرفع تعازيها إلى يوسف آدم، صاحب مصانع العطور والمساحيق، بوالده يعقوب آدم، رئيس بلدية القدس، الذي تم مصرعه على أيدي إرهابيين عرب، حسب البلاغ الرسمي. نظر رجل التحري الخاص إلى الفيلات الباذخة على جانبي الشارع، وفكر في الجميلات اللواتي فيها. كيف يحببن أن يكون العناق معهن؟ لا بد أنهن في الفراش إلهات الحب، أفروديت وفينوس وعشتار ما كن إلا ليكن. ابتسم للبدلات الرسمية التي توجه السير بوجوه عابسة، واستجاب لإشارة من إحداها بالصعود على الرصيف، والوقوف بين شجرتين. كان باب الفيلا مفتوحًا على مصراعيه، والبدلات التشريفاتية توجه المعزين إلى الحديقة تحت قبة أغسطس الزرقاء، فيتتابعون واحدًا تلو الآخر إلى حيث كان يوسف آدم وزوجته باستقبالهم. كانوا يتمتمون عباراتهم الجاهزة، وهم يسلمون بحرارة، وينظرون إلى الخال الكبير على خد الملياردير الأسمر الوجه، ثم يذهبون ليأخذوا مكانًا حول الطاولات المعدة لتناول طعام الغداء. عندما جاء دور حاخام باريس، علا صوته احتجاجًا:

- إحراق الموتى فعل يتنافى وديانتنا، الله يبغض فعلاً دميمًا كهذا، وأنا ما جئت لتقديم آيات التعازي إلا لأن والدكم كان صديقًا حميمًا.

- لقد كانت رغبة والدي، سيدي الحاخام.

- لأن والدك اليوم وثني لا يؤمن بالله.

- لأن لوالدي أسبابًا أخرى.

- أو لم يفكر والدك في أوشفتز قبل أن تكون رغبته؟ التوراة من ناحية، وأوشفتز من ناحية.

- سنتحدث في الأمر، سيدي الحاخام.

- لن نتحدث في أي أمر، نبر رجل الدين غاضبًا قبل أن يعطيه ظهره.

قدم كاردينال باريس لرب العطور والمساحيق أحر تعازيه، وكذلك فعل إمام باريس. جاء دور الوفد الإسرائيلي، فهمهم رئيسه ما لم يسمعه فرانك لانج، لكنه التقط كلمتي "رئيس الوزراء". سلم فرانك لانج على يوسف آدم دون أن يفوه بكلمة واحدة، أشار بيد كسولة إلى ناحية من النواحي، بمعنى أنه سيكون هناك. ابتسمت له مدام آدم، ثم همست في أذنه، والقلق يغزو محياها:

- لن أنتظر أن ينتهي كل هذا فرانك!

وافقها بهزة من رأسه، وذهب، ليكون دور الوفد الفلسطيني، "وفخامة الرئيس... وفخامة الرئيس..."، فالوفد الفرنسي، وهكذا حتى آخر معز.

بحث فرانك لانج عن أبولين دوفيل بين المعزين دون أن يجدها، تساءل أين يمكنها أن تكون ضابطة الدي جي إس إيه، فمصرع رئيس بلدية القدس ليس شيئًا بسيطًا، مصرعه شأن من شئون الدولة قبل أن يكون ذلك لأنه يحمل الجنسيتين، أو لأن ابنه دعامة من دعائم الاقتصاد الفرنسي. وقف يوسف آدم على منصة، بعد أن أجلس زوجته قربه، ومن ورائه رماد أبيه في قمقم مسطح رُفع بين باقات الورود، وشريط أحمر كُتب عليه بحروف مذهبة: رماد يعقوب آدم من أجل الحرية.

- نحن اليوم نودع والدي، يعقوب آدم، قال رب العطور والمساحيق في ميكروفون، نودعه إلى الأبد، ولا أثر يتركه من بعده على الأرض، فالأرض للأحياء كما كان يردد دومًا، وللموتى أرض الذكرى. لهذا عمل طوال حياته من أجل أن تكون ذكراه خالدة في نفوسنا، وأراد أن نذرّ رماده من على ربى جبل الزيتون لا أن يدفن فيه كما تدفن الجثث، ومع مر الأيام تُنسى، لينتشر الرماد في سماء القدس، ويكون لسكانها، كل سكانها، حافزًا على التآخي في الاختلاف، شعاره الذي ناضل من أجله طوال حياته.

لمح فرانك لانج أبولين دوفيل في أقصى الحديقة، وهي في فستانها الأحمر، فابتسم لأنها كانت عروس الموت. أراد اللحاق بها، فنظر إلى يوسف آدم، وإلى مدام آدم، وعندما عاد ينظر إلى أقصى الحديقة، لم يجد ضابطة الدي جي إس إي.

- أضف إلى ذلك، واصل يوسف آدم، كان الوالد يرمي من نثر رماده إلى الاعتداء على العزلة تحت كل مدلولاتها النفسية والسياسية والتاريخية، فالفضاء الرحب كان عالمه، ضد الجدران كان، ضد الغيتوهات، ضد المستوطنات، ضد الوعود التي تدلل الواحد على حساب الآخر، مع كافة الحقوق لكل الأطراف...

لم يسمع فرانك لانج لباقي الخطاب على الرغم مما يثيره من اهتمام، ذهب إلى أقصى الحديقة، ومن باب خلفي، اخترق الفيلا، فكان الخدم في المطبخ قيامًا قعودًا، وأشهى الطعام يُسكب في أرقّ الصحون.

خلال ذلك، كان ثلاثة من رجال السي آي إيه يفتشون في مكتب يوسف آدم عن شيء لا يجدونه. فتحوا جوارير المكتب، درفات الخزانات، أبواب الصناديق. لمسوا فوق البوفيه قنينتي عطر للعرض كبيرتين، كُتب على الأولى "آدم" وعلى الثانية "حواء"، ومن ورائهما علبة مساحيق مذهبة، كُتب عليها "زينة الدنيا". أعياهم الأمر، فراح رئيسهم يدفع قبعته بسبابته، ويحك رأسه حائرًا. عادوا إلى الجوارير، فالخزانات، فالصناديق، ولمسوا فوق البوفيه قنينتي العطر وعلبة المساحيق. وهم في أقصى انشغالهم، خرج عليهم صوت أبولين دوفيل، وهي ترفع بيدها مخطوطًا ضخمًا:

- هل هذا ما تبحثون عنه؟

اقتربت منهم ليقرأوا العنوان "مدينة الشيطان"، وتحت أعينهم فتحته، ليروا أن لا شيء فيه بين الصفحة الأولى والأخيرة من غلافه.

- هناك من سبقكم، يا أصحاب! ألقت ضابطة المخابرات الخارجية.

- ومن سبقكم أنتم أيضًا، همهم رئيس الثلاثي المخابراتي الأمريكي.

- هذا واضح.

- شكوكنا واحدة على ما أعتقد.

- شكوكنا أكيدة.

- اتركوهم وشأنهم.

- كالعادة.

- نعم، كالعادة.

- وما يجري ما فوق العادة؟

- ثورة وكلام فارغ؟ يجب أن يقف كل شيء.

- لسنا من وراء الثورة والكلام الفارغ.

- اتركوا الإسرائيليين وشأنهم، وإذا لم تتركوهم، فلن نترككم.

- لأنه يسعدكم ألا تتبدل الأمور.

- نعم، يسعدنا، ويدغدغنا من خُصانا. على الأقل في الوضع الراهن، وحتى أجل غير مسمى. يدغدغنا من خُصانا، مصلحتنا العليا أن يدغدغنا من خُصانا.

فتح الباب، فإذا به وجهًا لوجه مع فرانك لانج، تبادلا نظرة غير ودية، وذهب رجل السي آي إيه، يتبعه مرؤوساه، وهم يتركون الباب من ورائهم مفتوحًا.

- ماذا، كابتن دوفيل؟ سأل رجل التحري الخاص، وهو يرى ضابطة المخابرات الخارجية في أشد لحظاتها ترددًا.

- يلعن دين، يلعن دين، يلعن دين! همهمت أبولين دوفيل.

- هل ضاجعوك؟ ألقى فرانك لانج.

- في كل الأوضاع.

- ولم يسعدك ذلك؟

- يسعدهم ألا تتبدل الأمور.

- أين؟

- برأيك أين؟

- ولماذا ليس أنا؟

- ليس أنت ماذا؟

- أن أضاجعك في كل الأوضاع.

- تعال لانج، وجذبته بعنف، ماذا تنتظر يلعن دين؟ لماذا تتراجع؟ أطلبه منك، وتتراجع. هل ترى أي رجل أنت؟ لماذا لا تفعل شيئًا لما أعرضه عليك؟ أيها الجبان! ودفعته بعيدًا عنها.

- أبولين، اهدأي، همهم فرانك لانج.

- لن أهدأ إلا بعد أن أعيد كتابة صفحات هذا الكتاب، نبرت، وهي تفتح المخطوط على دفتيه الفارغتين. هلا أعنتني، فرانك؟ همست، وقد نعمت لهجتها.

- وبعد ذلك؟

- سنتزوج بعد ذلك.

- أنت تسخرين بي ككل مرة.

- هذه المرة أنا لا أسخر بك.

- بجد؟

- بجد.

اقتربت منه، وطبعت قبلة على خده.

- تقبلينني كأخ.

هجمت عليه، وقبلته بعنف من فمه.

- وهكذا؟

أداخته، فقال متلعثمًا:

- قبلة كهذه لم أذق طوال حياتي.

دخل يوسف آدم، وقال أول ما قال:

- اعذراني، كان الباب مفتوحًا، فسمعت كل شيء.

- سنذهب، أنا وفرانك لانج، إلى القدس ليس بحثًا عما كتب والدكم لدى الموساد، قالت أبولين دوفيل، فالكل يعرف ما هو الموساد، وهو لن يكشف عن فحوى أوراق يريدها له وحده، ولكننا سنكتب القصة من النهاية.

- النهاية ليست مصرع والدي، همهم رب العطور والمساحيق. لكم كان مصرع والدي سهلاً! النهاية سِلِسْتا، ولدي الوحيد. يعرف هذا جيدًا فرانك.

دخلت مدام آدم، وهي تبتهل، وتشد فرانك لانج من ذراعه:

- ابني سِلِسْتا فرانك، انقذه مما هو فيه، ابعده عما يفعل، أعده إليّ، أنا لا أريد أن أفقده، فرانك، ابني الوحيد، وحملت يد فرانك، وقبلتها توسلاً ورجاءً.

- عفوك مدام آدم، رجا رجل التحري الخاص، وهو يسحب يده.

- عد إليّ بولدي، فرانك، عادت مدام آدم إلى التوسل والرجاء.

- عد إلينا بولدنا، فرانك، توسل يوسف آدم.

*

في صباح اليوم التالي الباكر من وصولهما إلى القدس، وفينوس لم تصعد بعد، صعد فرانك لانج وأبولين دوفيل حتى قمة جبل الزيتون، وأبولين دوفيل تشكو من ألم في قدميها، وتقول:

- لم أشكُ من ألم في قدميّ يومًا.

- علينا أن نَذُرَّ الرماد وقرن الشمس يَذُرُّ ذُرورًا، قال فرانك لانج.

- هل بسبب هذا أشكو من ألم في قدميّ؟

- أنا من يحمل القمقم.

- لماذا أشكو من ألم في قدميّ؟

- انتظري قليلاً.

- آه، يا إلهي!

- ستبزغ الشمس.

- لم أشعر بمثل هذا الألم في قدميّ.

- الأنسام، بدأت الأنسام تهب، والشمس تبزغ.

- الألم في قدميّ.

- قرص الشمس.

- الألم، آه!

- الريح.

- يا إلهي!

- الشمس.

- يا إلهي! يا إلهي!

فتح فرانك لانج القمقم، وراح يذر رماد يعقوب آدم، والريح تصفر، وتحمل الرماد تحت سماء حمراء برتقالية أشبه بسماء الجحيم. يا إلهي! يا إلهي! تجمع الرماد، وتشكل على صورة رئيس البلدية، وهو يبتسم. تركهما، وذهب ليحلّق قرب نوافذ القدس المفتوحة. كان هناك من يطرده، ويغلق النافذة من ورائه، وكان هناك من يتركه يجول في البيت، ويغادر وحده. قرعت أجراس الكنائس، وهو يمضي بها، ونهض الشبان الذين ينامون في المنطقة التي حرروها من القدس القديمة، والريح تكاد تدك خيامهم. نظر سِلِسْتا آدم إلى وجه جده القادم على مراكب الضوء، وابتسم، فابتسم الجد، ونزل ليعانقه، وسِلِسْتا آدم يفتح ذراعيه إلى أقصاهما، والريح تهب به، فيكاد يطير معها. اختلط الشكل الرمادي به، وقبل أن يغادر المكان، مسح بيده على رأس كل من كان هناك، وكان هناك الشاب العربي سامي كنعان، فمسح بيده على رأسه، وطبع قبلة على خده.

*

- أرجو أن يكون الألم قد غادر قدميكِ، قال فرانك لانج، وهو يفتح باب فيلا رئيس البلدية الواقعة في القدس الغربية بمفتاح أعطاه إياه ابنه يوسف آدم.

- أنا لا أشعر بأي ألم، همهمت أبولين دوفيل باسمة.

- إذن كيف؟

- هذا من معجزات القدس ربما.

- أن تبرأي هكذا بين ليلة وضحاها؟

- أن أشعر بالألم.

- هذه المدينة بقدر ما هي مقدسة بقدر ما هي مدنسة.

- افتح الباب الداخلي، طلبت ضابطة الدي جي إس إي بعد أن قطعا الممر تحت عريشة من أغصان الكرمة مليئة بقطوف العنب الأسود.

- نحن في شهر أغسطس، همهم رجل التحري الخاص مشيرًا إلى القطوف، ولحرارة هذا البلد التي لا تطاق، العنب ناه.

- سنأكل منه فيما بعد، قالت أبولين دوفيل معجلة إياه على فتح الباب الداخلي.

فتح الباب الداخلي للفيلا، ودفعه، فإذا بأحدهم هناك، هرب أول ما رآهما يدخلان. أراد فرانك لانج اللحاق به، فأوقفته الفرنسية الشقراء.

- لا داعي لترهق نفسك، قالت له، فلسوف يعودون.

- لماذا يصر الموساد على مثل هذه الضراوة؟ سأل رجل التحري الخاص.

- سنرى لماذا؟

وقفا في الصالون أمام صورة كبيرة ليعقوب آدم معلقة على الجدار، فأشارت أبولين دوفيل إليها، وقالت:

- هذا الأشقر ذو العينين الخضراوين ككل روسي قح ابنه رب العطور والمساحيق لا يشبهه، حملت صورة مؤطرة ليوسف آدم موضوعة فوق البوفيه بين قنينتي عطر للعرض كبيرتين، كُتب على الأولى "آدم" وعلى الثانية "حواء"، ومن ورائهما علبة مساحيق مذهبة، كُتب عليها "زينة الدنيا"، وأضافت: انظر إلى هذا الأسمر ذي الخال الكبير على وجنته.

- أنا لا أفقه شيئًا في علم الجينيالوجيا، اكتفى فرانك لانج بالقول.

- هل تكون الأم؟

- ربما.

التفتت تبحث عن صورة للأم، فلم تجد.

- ألا تعتقد أن في الأمر ما هو غريب حقًا؟ طلبت أبولين دوفيل مشوشة.

- ماذا؟ همهم فرانك لانج، وهو يبحث عن شيء لا يعرف ما هو.

- لا توجد صورة واحدة لزوجة الفقيد، والدة يوسف آدم، همهمت ضابطة الدي جي إس إي.

- حقًا ما تقولين؟ سأل رجل التحري الخاص مهتمًا.

- انظر بنفسك.

نظر فرانك لانج هنا وهناك، كانت معظم الصور ليعقوب آدم، وولده يوسف آدم، وحفيده فِلِسْتا آدم، وبعضها ليعقوب آدم مع عائلته، وهو شاب، أو مع عائلة ولده. حمل رجل التحري الخاص صورة رئيس البلدية السوداء البيضاء مع عائلته، وهو شاب، فاستنتج أن هذا أبوه، وتلك أختاه، والمرأة الروسية السمينة لم تكن أمه، كان لها بالأحرى شكل المربية.

- لا صورة للزوجة ولا صورة للأم، همهم فرانك لانج، وهو يعيد الإطار إلى مكانه.

- تلك ليست الأم برأيك؟

- ليست الأم.

- وكيف عرفت؟

- المريلة، عاد رجل التحري الخاص يرفع الصورة ليريها لضابطة المخابرات الخارجية قبل أن يعيدها للمرة الثانية إلى مكانها.

- كل هذا يزيد من الأمر تعقيدًا.

- سِلِسْتا.

- سِلِسْتا ماذا؟

- من الممكن أن يعلم.

- ولكن أين هو سِلِسْتا؟

- يقود ثورته في القدس القديمة.

- لنذهب إلى القدس القديمة إذن.

- لنذهب.

توقفا على منظر بركة زرقاء لمحاها من وراء ستارة النافذة، رفعا الستارة، وابتسما لبعضهما. وهما يسيران تحت العريشة، قال فرانك لانج مشيرًا إلى قطوف العنب:

- لم نأكل.

- سنعود.

- لا أستطيع.

قفز رجل التحري الخاص، وقطف قُطفًا سالت حباته بين أصابعه للقوة التي بذلها، وعلى شكله الملخبط، انفجرت ضابطة الدي جي إس إي ضاحكة.

*

كلما تقدم فرانك لانج وأبولين دوفيل من ساحة صهيون في القدس القديمة كلما ازدادت علامات التوتر على وجوه العابرين، لم يكونوا كثيرين في الأزقة، والدكاكين لم تكن كلها مفتوحة، ونوافذ الديار كانت كلها مغلقة. تبادل الفرنسيان نظرة قلقة، وقرآ "درب الآلام"، ففكرا في المسيح. سمعا أصوات الناس الذين يكيلون له الشتائم، وضربات السياط، ووصلتهما آهات رجل يتدحرج على الدرج المجاور، فسارعا إليه. أرادا رفعه، لكنه نهض دفعة واحدة، والدم يسيل من أنفه، وصرخ:

- إنهم يطلقون النار!

ثم ولى هاربًا.

- إنهم يطلقون النار كيف، ونحن لم نسمع طلقة واحدة؟ همهمت أبولين دوفيل.

- وكيف يطلقون النار من أعلى الدرج؟ همهم فرانك لانج.

- في درب الآلام الصعود لا ينتهي، عادت أبولين دوفيل تهمهم.

وإذا بباب ينفتح فوق، ورجل مسلح يخرج منه، وهو يلف رأسه بكوفية، ويطلق النار إطلاقًا عشوائيًا، مما اضطر رجل التحري الخاص وضابطة الدي جي إس إي إلى دفع الباب المجاور، والاختفاء من ورائه. وصلهما صراخ بالعربية، فخرجا ليريا. كان أحد العابرين، وكان يصرخ لجرح في كتفه. سارع التحريان إليه، والعابرون اليهود ينظرون، ولا يفعلون شيئًا.

- عجلوا في طلب الإسعاف يلعن دين، صاحت بهم أبولين دوفيل، ولا أحد يتحرك.

طلب فرانك لانج الإسعاف من هاتفه المحمول، بينما خرجت امرأة شبه عارية من الباب الفوقي، تضع على صدرها صليبًا، وجاءت تقول لأبولين دوفيل وفرانك لانج:

- احملاه فوق.

- فوق أين يلعن دين؟ نبرت ضابطة المخابرات الخارجية، الرجل ينفق دمه.

- فوق، فوق، رددت المرأة.

- احمل معي لانج، طلبت الشقراء الفرنسية.

- والإسعاف الذي طلبته؟ احتار رجل التحري الخاص.

- فوق، فوق، عادت المرأة تقول، فلن يأتي أحد. وراحت تهمهم: من هنا مضى المسيح!

- فوق، فوق، يلعن دين، عادت أبولين دوفيل تنبر.

عجل فرانك لانج إلى حمل العربي الجريح مع زميلته، وصعدا الدرج به إلى الشقة فوق، والمرأة لا تتوقف عن الهمهمة:

- كل هذا بسببي، كل هذا بسببي، كل هذا بسببي...

أول ما دخل فرانك لانج وأبولين دوفيل بالجريح، استقبلته سبع أو ثماني من بنات الهوى، وإحداهن تولول، وتقول "أي شيطان وقعنا في يده!" مددنه على أريكة، وفحصن جرحه.

- الحمد لله أن الرصاصة لم تخترق كتفه، قالت إحداهن.

تنفس التحريان الصُّعداء، وبينما راحت اثنتان من العاهرات ينظفن الجرح، ويضمدنه، أحاطت الأخريات بالفرنسيين، وأخذن يرمينهما بعبارات الإعجاب: ما أجملهما! الشقراء تشبه ستنا مريم. بل سارة، تشبه أجمل الجميلات سارة. تشبه عائشة، حبيبة الرسول عائشة. الطويل يشبه موشيه، ذلك الوغد! حبيبي موشيه. يشبه مارلون براندو. جورج كلوني. براد بيت. يشبه موشيه أقول، حبيبي موشيه، ذلك الوغد!

- لنذهب إذن فرانك، همهمت أبولين دوفيل.

- لن تذهبا قبل أن تشربا شيئًا، قالت بنت الهوى التي جاءت بهما.

- لا بد لنا من الذهاب، همهم فرانك لانج.

- أنتما سائحان؟ سألت إحداهن.

- يا لك من ساذجة، قالت ثانية، سائحان كيف وكل هذا الخراء!

- إذن صحافيان، قالت ثالثة.

- ساحة صهيون من هنا؟ سأل فرانك لانج.

- تريد القول ساحة الحرية، قالت رابعة.

- ساحة الحرية، قالت خامسة.

- ساحة الخراء، عادت الثانية إلى القول، نعم، من هنا.

- نحن نترككما إذن، قالت ضابطة الدي جي إس إي باسمة.

- ها هي الليمونادة، قالت إحداهن، وهي تحضرها.

ابتسم التحريان لبعضهما، وتناول كل منهما كأسًا، وبنات الهوى يقلن إنهما لم يقولا لهن من أين هما.

- من فرنسا، أجاب الفرنسيان معًا.

- تكلما بالفرنسية، تدخلت إحداهن بلغة موليير، أنا يهودية مغربية، وأتقن الفرنسية.

وضعا كأسا الليمونادة بعد أن رشفا منهما رشفتين، وقالا:

- لا بد لنا من الذهاب.

- اعتنين به، طلبت أبولين دوفيل، وهي تشير إلى الرجل الجريح.

- عودا وقتما تشاءان، قالت إحداهن، وهي تنظر في عيني رجل التحري الخاص، وتداعبه من خده.

وهما عند آخر درجة تحت، استدارا، ورفعا يديهما تحية لبنات الهوى اللواتي يقفن فوق، وهن يشرن، ويغنجن.

- ساحة الحرية من هنا؟ سأل فرانك لانج أحد العابرين المسرعين.

- من هنا، ولكن حذار، ألقى العابر دون أن يتوقف.

وشيئًا فشيئًا، أخذت تصلهما أصوات المنتفضين، وبدت لهما ظهور مئات الجنود، وعشرات المدرعات التي تسد فوهات الأزقة المؤدية إلى الساحة. لم يكن من السهل الاجتياز إلى الطرف الآخر لما فجأة تساقطت من الأسطح قوارير الزرع على رؤوس الجنود، مما اضطرهم إلى الابتعاد، وفتح ثغرة تمكن فرانك لانج وأبولين دوفيل من النفاذ منها. وجدا نفسيهما في قلب الخراء، كما قالت فتاة الهوى تلك، فكل شيء يقوم ولا يقعد، والغضب كان سيد المكان. سألا عن سِلِسْتا إذا كان أحدهم يعرفه، وكان الكل يعرفه. رشقهم الجنود بالقنابل المسيلة للدموع، فحملها المنتفضون، وبدورهم، رشقوا الجنود بها. أخذ التحريان يسعلان، وكل منهما يضع منديلاً على أنفه. وبسرعة، قادهما أحدهم إلى خيمة زرقاء. أدخلهما، وهو يقول لِسِلِسْتا المنعطف على خريطة للقدس القديمة هو وثلاثة من الشبان:

- هذان يبحثان عنك.

رفع سِلِسْتا رأسه، وحالما وقع على أبولين دوفيل وفرانك لانج نبر:

- إنه أبي، وجوابي لا.

- وخاصة أمك، قالت أبولين دوفيل.

- لا أريد أن أفهم شيئًا، عاد سِلِسْتا ينبر.

- هل يمكننا أن نتكلم وحدنا؟ طلب فرانك لانج.

- ليس لدي ما أخفيه، أجاب سِلِسْتا. هذا ابن عمتي سامي، وهذا دافيد، وهذا عيسى. ليس لدي ما أخفيه عنهم. ثم للشاب الذي رافقهما: اذهب أنت، فذهب.

- ابن عمتك؟ همهم رجل التحري الخاص.

- سامي ابن عمتي، أكد ابن رب العطور والمساحيق، ألم يخبركما أبي؟ لكن أبي لا يريد أن يعلم.

- ربما لا يعلم، فقط لا يعلم، بكل بساطة، همهمت ضابطة الدي جي إس إيه.

أهملهما سِلِسْتا، وعاد، هو وأصحابه، إلى الخريطة.

- يجب توسيع المنطقة الحرة، قال سِلِسْتا، أنتم في القدس الشرقية تستطيعون أن تفعلوا ما نفعل هنا، عيسى، هكذا نرمي الجيش بين فكي كماشة الثورة.

- أخشى من شيوخ المساجد أن يقفوا عائقًا في وجهنا، همهم عيسى قبل أن يضيف: وقساوسة الكنائس.

- هنا واجهنا المتزمتين منا بالصمود، همهم دافيد، وهو يجذب لحيته القصيرة جذبات متتالية.

- بالصمود وبالإقناع، تدخل سامي، وليس المتزمتين فقط، المتزمتون وغير المتزمتين، عرب الداخل الذين أنا منهم أولهم.

- حكاية راشيل كانت المحرك لكل هذا، عاد سِلِسْتا إلى القول، فلا تنسوا.

- حكاية راشيل؟ تدخلت أبولين دوفيل.

- وسامي؟ حكاية سامي؟ ثنّى فرانك لانج.

- هل من الغريب إلى هذه الدرجة أن يكون لك ابن عمة أو ابن عم عربيًا أو غير عربي؟ نبر سِلِسْتا.

- في إسرائيل... همهم رجل التحري الخاص.

- في إسرائيل الخراء غيره، قهقه سِلِسْتا.

- ربما بدا لك الأمر غريبًا، همهمت ضابطة الدي جي إس إي، نعم، في إسرائيل الخراء غيره.

أخذ سِلِسْتا يضرب بقبضته على خريطة القدس مجلجلاً بصوته حتى مزقها:

- أريد أن أخرج من جلدي، أريد أن أُخرج الناس من جلودهم، أريد أن أولد من جديد، أنا وكل الناس أن نولد من جديد، ليكون خراؤنا كسائر البشر.

اخترق الشاب الذي رافق الفرنسيين الخيمة كالسهم، وقال:

- الجيش يطلق رصاصات مطاطية، وهناك العديد من المصابين.

نهض الشبان الأربعة دفعة واحدة، وسارعوا إلى مغادرة الخيمة، ومن ورائهم فرانك لانج وأبولين دوفيل. انخرط الشبان الأربعة في الدفاع عن ساحة الحرية، وساهموا في نقل المصابين إلى طبيب كان هناك تساعده ثلاث فتيات. تلفن سِلِسْتا إلى أصدقاء يتمترسون على الأسطح، وبعد قليل، تساقط على رؤوس الجنود مطر من الحجارة، مما اضطرهم إلى الانسحاب تحت الصيحات المدوية لشبان الثورة.

*

- ما نريده ليس إصلاح النظام من أجل بعض المطالب الشعبية، أوضح سِلِسْتا، وهو يقود فرانك لانج وأبولين دوفيل إلى إحدى حدائق القدس الغربية، حركتنا في البداية كانت ساذجة، ما نريده تبديل النظام، نعم، تبديل النظام بكل بساطة. كان حلم جدي، لهذا قتلوه.

- والإرهابيون العرب؟ ألقى فرانك لانج.

- نكتة بائخة لم يضحك لها أحد، ضحك سِلِسْتا.

- هل ما زلنا بعيدين؟ سألت أبولين دوفيل.

- لا تقولي لي إنه ألم قدميك، عجل رجل التحري الخاص إلى القول.

- لقد عاد الألم إلى قدميّ، أكدت ضابطة المخابرات الخارجية.

- القدس مدينة رطبة حتى في الصيف رطوبتها لا تطاق، قال سِلِسْتا.

- لموقعها، قال فرانك لانج.

- لعمرها، قال سِلِسْتا.

- لهذا الألم فيها أشبه بألم الروماتزم مرض العجائز، قالت أبولين دوفيل.

- القدس شيخة وكل ما فيها شيخ مثلها حتى الشباب من سكانها هم شيوخ مثلها، ألقى سِلِسْتا، والتحريان ينظران إلى وجهه، ويريان أن لشاب التاسعة العشرة من العمر وجه من له من العمر التاسعة والعشرين. هنا، همهم الشاب، في هذه الحديقة الصغيرة، لن نذهب أبعد.

طلب سِلِسْتا من مرافقيْه الجلوس على مقعد، وبقي واقفًا أمامهما. نظر حوله، فرأى امرأة تتنزه مع كلبها، وما لبثت المرأة أن غادرت مع كلبها الحديقة. كان متسول ينام على مقعد، ورجل تبدو عليه أمارات الجنون يكلم نفسه غير بعيد عنه.

- كانت الفكرة لأمي، أن أترك باريس إلى القدس قرب جدي، فأكبر على تعاليمنا. تعاليمنا الدينية، وكل باقي تعاليمنا. اليوم تريدني أن أعود إلى حضنها، لأن كل هذا الخراء ليس من تعاليمنا، ولأنها شعرت فجأة ببعدي عنها، فقالت لنفسها إنها أُم قبل كل شيء، وهي بشكل من الأشكال قصرت من هذه الناحية فيما يخصني، وليست وحدها، أبي أيضًا يشاركها في الشعور بالذنب نفسه، لهذا أنتما هنا.

قصف عرقًا يزعجه من الشجرة الواقف تحتها، وأضاف:

- ...

للمتابعة اذهب الى الصفحة الثانية / انقر التالي ادناه

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.