اخر الاخبار:
"انتحارات القربان المرعبة" تعود إلى ذي قار - الإثنين, 22 نيسان/أبريل 2024 11:16
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ألمكتبة

• مدينة الشيطان / رواية - 4

القسم الرابع

- عادت إليّ كل آلامي فرانك، تأوهت أبولين دوفيل، وهي ترمي الأوراق المصفرة جانبًا.

- ما لك، يا حبيبتي؟ سألت العجوز سلوى بلهفة.

- ساندروم القدس، همهم فرانك لانج، وهو يمسك يد الساحرة الشقراء.

- بعيد الشر! لفظت جدة سامي.

فتحت الصندوق الذي تخبئ فيه حياتها، وأخرجت قنينة زيت، سقت أبولين دوفيل منه ملء سِدادة.

- هذا الزيت من الناصرة، أوضحت سلوى، بهذا الزيت كان المسيح يشفي المرضى، ويقال إنه كان به يقيم مراسم التعميد. هذا الزيت ليس كزيت القدس الذي لا طعم له ولا رائحة، وعلى أي حال جبل الزيتون اليوم بدون زيتون، كله باطون، هذا الزيت معجزة. خذي، قالت لضابطة المخابران الخارجية، وهي تقدم لها الزجاجة، اشربي منه ليومين، وستبرأين. انتظري... عادت تبحث في الصندوق إلى أن أخرجت ضمة مرامية في كيس من البلاستيك. أما هذه المخملية، فهي السحر بعينه، إنها مرامية الجليل. ليس هناك بعد مرامية الجليل. اغليها كلما أحسست بألم، مهما كان الألم، واشربيها، فيها شفاء للناس. هذه الأشياء صارت نادرة اليوم، لهذا أنا أخفيها. في إسرائيل صار كل شيء نادرًا، فلسطين لم تنته إلى الأبد، ولكن في إسرائيل صار كل شيء نادرًا.

- شكرًا، همهمت أبولين دوفيل.

- شكرًا، همهم فرانك لانج.

- هل تأخذان قهوة ثانية؟ سألت الجدة، وهي تنهض.

- سأعملها أنا، سارع رجل التحري الخاص إلى القول.

- أنا أقف على قدميّ كما تراني، رمت سلوى، وأنت لا تعرف كيف تعمل قهوتنا.

- شكرًا، عاد فرانك لانج يهمهم. أحسن؟ سأل أبولين دوفيل أول ما وجد نفسه وحيدًا معها.

- أسوأ، جمجمت ضابطة الدي جي إس إي.

- كل هذه الحكايات تؤثر عليك نفسيًا.

- ألم أقل لك إنها اللعنة؟

- لن أدعك تسقطين فريسة لها.

- بعض الأيام وسنترك كل هذا من ورائنا.

- ككل شيء.

- ككل شيء.

- إذن لِمَ كل هذا؟

- لنترك كل هذا من ورائنا.

- ألا يمكن للمرء أن يرتاح؟

- المرء يرتاح.

- في قبره تريدين القول.

- الخنازير أيضًا ترتاح، ولكن الفرق بيننا وبين الخنازير أننا لسنا خنازير.

- سلوى تلك تعرف هذا، ويعقوب ذاك يعرف هذا.

- يجب أن يعرفا، دون أن يعرفا لن يتعبا.

- ها أنا، طلع عليهما صوت الجدة، وهي تحمل البكرج. سنشرب القهوة، ومع القهوة سيجارة، قالت، وهي تصب السائل الأسود. تلفتت حولها، وأضافت، ابن بنتي ليس هنا.

عادت تجلس على الدوشك، وهي تهمس: احمنا من الشياطين الإنس قبل الشياطين الجن، يا إلهي. وزعت السجائر، وأشعلتها.

- في الدخان نرى الأشياء كما لو كنا ننظر إليها من ضباب البحر، همهمت العجوز. وإلى فرانك لانج، وهي تعطيه الأوراق المصفرة: خذ، اقرأ لنا بصوت عال.

*

بعد مصرع الأبوين، وجد يعقوب وسلوى نفسيهما وحيدين. كان كل واحد منهما عائلة الآخر، ولكن كل القدس كانت ضدهما، القدس الغربية كالشرقية، كل القدس، كانت كل القدس ضدهما. لو كانت يهودية مع عربي لهان الأمر، فالكثير من الفلسطينيين تزوجوا من إسرائيليات. أما عربية مع يهودي... كان الأمر غريبًا. كان الأمر جسيمًا.

- سنتزوج بعيدًا عن كل هذا، قال يعقوب.

- بعيدًا أين؟ سألت سلوى.

- بعيدًا.

- أين؟

- سنذهب إلى فرنسا.

- ولم لا إلى أمريكا عند أختيك.

- أختاي كغيرهما لن تقبلا بنا.

- إذن لن نتزوج.

- فرنسا.

- أنا لا أعرف الفرنسية، وفرنسا بعيدة.

- ليست أبعد من أمريكا.

- أنا لا أعرف الفرنسية.

- ستتعلمينها.

- لم يعد لي رأس لهذا.

- سأعلمك إياها.

- لم يعد لي رأس لهذا.

- سأبدأ بتعليمك إياها منذ اليوم.

- لم يعد لي رأس لهذا قلت لك.

- سأنشئ هناك مصنعًا للعطور والمساحيق.

- أنت المحامي عطور ومساحيق.

- فكرة ورثتها عن جدي.

- جدك؟

- جدي. فكرة غالية على قلب جدي. فكرة لم يتمكن أبي من تحقيقها.

- وأنت ستتمكن.

- معك سأتمكن. سأنجح في كل شيء من أجلك.

- أحبك يعقوب.

تقبله قبلة طويلة، ثم تدغدغه، فيفرط وإياها من الضحك، يريدها، فتهرب، يركض من ورائها، ويمسك بها، وكلاهما يضحك، يرفع فستانها. دومًا ما كانت عارية تحت فستانها. فخذاها المرمريتان يأخذها منهما، ويرميها، فتفتح فخذيها. كان محرابه هناك، توراته، قرآنه، إنجيله، كان يقرأ الآيات المقدسة بلسانه، يرشف العسل بلسانه، يلعق اللبن بلسانه، كان كل الوعد هناك، وعندما ترفعه إليها، كان يسمع صوت الله، كان الله يكلمه، ليس كموسى، ولكن لأنه موسى. وهو يغرق في بطنها، كان كليم الله، وهو يعض ثديها كان يبحث عن سوفوكل، ويجده تحت لسانها. كل التراجيديا الإنسانية كانت تحت لسانها. لم تكن التراجيديا التي نعرف، كانت التراجيديا التي لا نعرف. كانت تراجيديا زمن المتعة، زمن لا يتعدى بضع ثوان. وكل العالم كان يرتعش لذة. كل العالم كان يضاجع معهما. كل العالم كان يتأوه متعة. كل العالم كان يخترق مهبل سلوى كنعان الصغير، كل العالم بإنسه وجنه وملائكته وشياطينه. القدس أول العالم. كانت القدس أول العالم الداخل في معركة العناق، كانت القدس وكل العالم مع القدس في المهبل الصغير. وكان المهبل الصغير يسع العالم والقدس، القدس بكل أطيافها، القدس بكل قديسيها، القدس بكل رذيليها، وكانت القدس تتأوه من اللذة، لم تعد القدس، تهدمت القدس، واندثرت، وسكن المهبل سكون العاصفة بعد طوفان، انسحب منه العالم، دون القدس العالم لا مكان له هناك.

*

استأجرا شقة صغيرة في حيفا، ولم يخالطا أحدًا كيلا تعرفهما حيفا. اختبآ بين سكانها، ولم يجعلا أحدًا إلا البحر صديقًا. وقعت سلوى حاملاً، فكان يعقوب أسعد الناس. لم تكن حال سلوى. لو كان أبوها لم يزل حيًا لما أسعده ذلك. لو عاد أخوها إلى الحياة لانتحر مرة ثانية. في أحد الأيام، قررت الإسقاط. كل هذا عبث. كل هذا إذلال. كل هذا مسئولية. لم تقل له. رتبت كل شيء مع الطبيب، وهي في طريقها إلى غرفة العمليات، فطن يعقوب إلى كل شيء. جاء يجري، سقط عليها، وهم ينقلونها على العربة، وانفجر باكيًا. بكى كما لم يبك أحد. بكى بقدر كل المعذبين على الأرض. بكى. بكى، وهو يتشبث بها. كالطفل يتشبث بها.

في تلك الليلة، بقي يقظًا حتى الصباح، قال لها هناك قضية هامة يقوم بتحضيرها، قضية يتوقف عليها مستقبله. إذا نجح سيواصل مهنة المحاماة، وإذا لم ينجح... لم يقل ماذا سيفعل. ولم ينجح. ذهب إلى مقهى، وشرب حتى تختخ.

- لم تنجح، قالت له سلوى أول ما دخل.

- في حيفا الكثير من الملائكة لهذا السبب، همهم يعقوب.

- من الملائكة العرب أم من الملائكة اليهود؟

- من الملائكة، راح يصرخ كالمجنون، فقط من الملائكة، من الملائكة، لماذا يجب أن يكونوا عربًا لماذا يجب أن يكونوا خراء، من الملائكة، أنت مثلهم، مثلهم كلهم، لست أحسن منهم، أنت أسوأ من الجميع. من الملائكة، يا رب السموات، فقط من الملائكة.

أنزلت حقيبتها من فوق الخزانة، وبدأت ترمي فيها ثيابها دون أن تفوه بكلمة واحدة.

- سلوى، ماذا تفعلين؟ ذهب عنه سكره. سلوى لماذا كل هذا؟ سلوى إلى أين أنت ذاهبة؟ سلوى أجيبيني. سلوى ما كل هذه الخرينات؟ سلوى ردي عليّ عندما أسألك. سلوى لم نعد أطفالاً. سلوى كل الأرض سأحرقها. سلوى كل البحر سأغلقه. سلوى كل العجول سأذبحها. سلوى، وجذبها من ذراعها لتصرخ من الألم.

- أتركني، يا وغد! صاحت بأعلى صوتها. جذبت حقيبتها، وخرجت.

لم تعد سلوى إلى دارهم في القدس، سارت في شوارع حيفا. كان في حيفا الكثير من الملائكة بالفعل، فالكل كان ينظر إليها، وهي تجر حقيبتها من ورائها دون هدف، والكل كان يكتفي بذلك. الملائكة لا يتعذبون من أجلنا، قالت المرأة البائسة. جلست على مقعد قرب الشاطئ، وأصغت. لم يكن البحر يصرخ من وضعها، كانت الأمواج تنساب واحدة تلو الأخرى، وتذوب في الرمل. لم يكن الذهب، كان الموت. لم يكن الزمن، كان المحطة. لم يكن حلم البحارة، كان كابوس الصيادين. كانت الأمواج تنساب الواحدة تلو الأخرى، وتذوب في الموت. كل لحظات حياتها كانت كالأمواج، تنساب الواحدة تلو الأخرى، وتذوب في العدم. وجدت نفسها تنهض، وتسير باتجاه البحر، وتدخل البحر إلى حيث يعود البحر بالأمواج. غمرها البحر كما يغمر كل حيفا، وبدا البحر منتشيًا لعناقه معها. ملأها بالماء. كان الماء منيه. وجذبها إلى القاع.

بعد هذا الحادث، فترت العلاقة بين الحبيبين. عاشا تحت سقف واحد كغريبين. هكذا هي النوارس. كانا ينعقان من وقت إلى آخر كلما جاءت سفينة من بعيد، ويحلقان معها حتى تصل الميناء. عندما وضعت يوسف، أحست بخلاصها.

- إني أتركه لك، همهمت سلوى.

باع يعقوب دارهم في حوش القدس، وغادر مع ابنه إلى باريس.

*

- هل تشعرين بالألم، يا حبيبتي؟ سألت سلوى أبولين دوفيل.

- وأنت؟ ردت ضابطة الدي جي إس إي، وهي مريضة بحكايتها.

- أنا ألمي ميتافيزيقي، أجابت الجدة باسمة.

- في الخارج، همهم فرانك لانج مأخوذًا، وهو يشير بيده إلى جهة ما، في الخارج.

- ماذا؟ سألت الشقراء الفرنسية.

- في الخارج.

- في الخارج ماذا فرانك؟

- في الخارج.

- يريد القول، نعم، في الخارج، همهمت سلوى.

- في الخارج ماذا فرانك؟

- في الخارج.

- نعم، نعم، هذا لا شيء، قالت العجوز لتطمئنه.

نهض رجل التحري الخاص، وذهب.

- فرانك! صاحت أبولين دوفيل من ورائه. وقفت على الباب، ونادت: فرانك، عد. رجعت إلى الداخل، وقالت لسلوى: سأذهب، سألحق به. وسارعت إلى الذهاب.

- لم تأخذي... سارعت إلى القول، وهي تشير إلى قنينة الزيت وضمة المرامية، فلم تلتفت أبولين دوفيل.

وضابطة الدي جي إس إي تجري من وراء فرانك لانج، كانت أصوت الطبول والأبواق، الطبول تدق، والأبواق تدوي، في فناء الأقصى، كيوم القيامة. نظرت، ورأت مئات المؤمنين قيامًا قعودًا، وكأنه يوم الحشر. كانت كل تلك الطقوس توحي بأن هناك شيئًا مدنسًا في مملكة القدس. مضى فرانك بهم، وهو لا يعيرهم أدنى انتباه، ظل يمشي كمن ركبه شيطان من الشياطين. كان يبدو كالمسحور، وكان لا ينظر إلى أحد. وهو على مقربة من حائط المبكى، كان المؤمنون هنا هم أيضًا قيامًا قعودًا، الطبول تدق، والأبواق تدوي.

- فرانك ماذا دهاك؟ سألت أبولين دوفيل، وهي تجذبه من ذراعه.

- ماذا؟ سأل رجل التحري الخاص بدوره كمن يصحو.

- لماذا؟

- ماذا لماذا؟

- لا شيء.

- سنأكل شيئًا.

- سنعود إلى الفندق.

- أنت لست جائعة؟

- لا.

- سآكل شيئًا، وسألحق بك، قال، وذهب.

- فرانك، نادت، فالتفت. كل شيء على ما يرام؟

رفع لها يده، واختفى.

*

- سلوى، ما الذي تقولينه، يا مجنونة؟ استغرب يعقوب آدم.

- أعرف أنني مجنونة، أجابت سلوى كنعان.

- وليس مجنونة فحسب.

- ماذا؟

- مهسترة.

- مستهترة.

- أيضًا.

- أخذت مني ابني ألا يكفيك هذا؟

- أخذت منك ابنك لأنك...

- أريد أن آخذ منك كما أخذت مني، هكذا نصبح متساوين.

- لكنى لن أمكث في القدس سوى ثلاثة أيام.

- ثلاثة ايام تكفي لصنع ابن لي.

- سلوى!

- ثلاثة ايام تكفي، ثلاثة أيام فيها الكفاية.

- سلوى، فكري.

- فكرت.

- تعالي معي إلى باريس إذن.

- لن نعود إلى ما سبق وتحدثنا فيه آلاف المرات، أنت كحكامك أرعن لا تمل.

- كحكامي وحكامك.

- كحكامك.

- وحكامك أنت؟

- أنا لا حكام لي.

- كما تشائين.

- تعال، سأفتح لك، وستبصق في.

- سأبصق فيك.

- ستبصق فيّ، فتصنع لي ابنًا.

- سلوى.

- ابصق فيّ قلت لك.

- أبصقُ فيك.

- أبصق فيّ، أبصق فيّ، أمرته، وهي تجذبه على السرير، تحت صورة أبيها، أبصق فيّ، وهي تخلع بنطاله، وتمسكه، وتضعه فيها. أبصق فيّ، همهمت المرأة اليائسة، ودموعها تسيل على خدها.

قال الكشف بعد عدة أسابيع بوقوع سلوى حبلى، وبعد عدة أشهر، ولدت سلمى.

*

انتظرت أبولين دوفيل عودة فرانك لانج في غرفته، فتأخر رجل التحري الخاص إلى ساعة بعيدة من المساء. لم تكن تشعر بألم، وكأنها برئت تمامًا. فكرت في جرعة الزيت التي أخذتها، وابتسمت.

- لماذا تأخرت فرانك؟ سألت الساحرة الشقراء أول ما دخل، فلم يجبها.

أخرج من جيبه الأوراق المصفرة، ورماها لها.

- قرأت إذن باقي الحكاية، همهمت أبولين دوفيل.

- هل تشعرين بألم؟

- لا، أعني قليلاً، تعال، وجذبته من يده إلى السرير، أريدك أن تدلكني قليلاً.

- تريدينني أن أحنو عليك.

- آه! صاحت، لكم أريد.

- الحنان، هذا ما كان ينقصها.

- من؟

- سلوى.

- والإدراك.

- إدراك ما لا يُفهم.

- هل تريدني أن أخلع ثيابك أولاً أم ثيابي؟

- تريدين أن "نتضاجع" بالفعل؟

- آه! صاحت، لكم أريد.

- وإذا كنت لا أحبك؟

- هذا لا يهم.

- أحبك أبولين.

التقط شفتيها، وذهب معها في قبلة طويلة، أثارت كل الرغبات الحيوانية في جسديهما، كان ذلك هو فعل الحب الصادق. خلعا ثيابهما، وهما في أقصى درجات الهيجان، ودخلا الفراش معًا. لم يكونا يريدان أن يصنعا ابنًا بل عالمًا أبديًا من المتعة، لهذا قدمت أبولين دوفيل كل جسدها له، ليعبث به على هواه، ريثما يأتي دوره، فيقدم كل جسده لها، لتعبث به على هواها.

القسم الخامس

كانت القدس القديمة تغلي بالمنتفضين، وكان المنتفضون يتوافدون كالشياطين من كل الأزقة. كانوا كلهم يتوافدون من القدس الشرقية، ويتجهون نحو ساحة الحرية في القدس الغربية. وكلما اقتربوا من ساحة الحرية، كلما علا صراخهم. ومن فترة إلى أخرى، كانت تُسمع في الأجواء أصوات القنابل المسيلة للدموع، وفرقعات الرصاصات المطاطية. وأبولين دوفيل وفرانك لانج على مقربة من الدرج الصاعد إلى بيت بنات الهوى، لاحظا حركة غير عادية في درب الآلام. كانت بنات الهوى يقمن بإسعاف الجرحى الذين كانوا يحتلون الدرج كله حتى داخل بيتهن، وكن يوزعن قناني الماء على الظامئين من الشباب، والكعك، والحلوى.

- ها هما الفرنسيان، صاحت إحداهن، تلك التي تضع على صدرها صليبًا، أول ما وقعت على رجل التحري الخاص وضابطة الدي جي إس إي.

- أنتما لستما جريحين؟ سألت ثانية.

- أنتما لستما ظامئين؟ سألت ثالثة.

- أنتما لستما جائعين؟ سألت الرابعة

- أنتما تريان كل هذا الخراء؟ سألت الخامسة.

- هذا الخراء هو ثورتنا، عادت المومس الأولى إلى القول.

- جميل خراؤنا، أليس كذلك، عادت الثانية إلى القول، رائحته رصاصات مطاطية وقهوة عربية وقنابل مسيلة للدموع.

- خذا، اشربا على حساب البيت، عادت الثالثة إلى القول، وهي تصب لهما فنجاني قهوة.

- لدينا ساندويتشات خنزير، عادت الرابعة إلى القول، للفرنسيين فقط.

- وللإسلاميين إذا أرادوا، عادت الخامسة إلى القول، معذرة، للحريديين.

- أنتن هناك، صاح حريدي، اليوم السبت، فأغلقوا الدكان.

- هذا الشيطان، من أين خرج لنا؟ صاحت بنات الهوى.

حملنه من فوق الرؤوس، وهو يقاوم دون جدوى، وألقين به في صندوقٍ للقمامة، وهن يقهقهن.

وهما على أطراف ساحة الحرية، كانت المواجهات على أشدها، إلى أن تمكن المنتفضون من الطرفين من إحكام الخناق على الجنود. حط الصمت بالتدريج إلى أن توقف التاريخ عن الحركة. راح الجنود ينظرون في وجوه الثوار، والثوار ينظرون في وجوه الجنود، وفجأة، رمى الجنود أسلحتهم وعصيهم في الهواء، وهم وكل من كان هناك يصرخون، وتراموا في أحضان بعضهم. كان التآخي، وكان العلم الإسرائيلي يرفرف في الناحية الغربية، والعلم الفلسطيني في الناحية الشرقية.

- إلى البلدية، صرخ سِلِسْتا.

وهناك من ردد كالصدى:

- إلى البلدية.

توجهت الجموع إلى البلدية، وهي تنشد أغنية الثورة:

لماذا لم تفعل هذا من قبل

وتركت أمك تبكي كل الوقت؟

ألم تفكر في عينيها؟

لماذا لم تفعل هذا من قبل

وتركت أختك تمشي كل الوقت؟

ألم تفكر في قدميها؟

لماذا لم تفعل هذا من قبل

وتركت "فأرتك" تنادي كل الوقت؟

ألم تفكر في نهديها؟

كانت قبة السماء زرقاء، وكان الناس يعلمون دون أن يرفعوا رؤوسهم أن قبة السماء زرقاء. كانت الحرية أن يعلموا دون حاجة بهم إلى معلم. الحرية زرقاء عندما ينتصر الإنسان، لهذا كانت قبة السماء بلون البحر. لم يعد للخوف مكان، كانت الحرية. لم يعد للتخويف مكان، كانت الحرية. لم يعد للاحتلال مكان، كانت الحرية. وكانت الحرية ألا يكون شيء آخر غير الحرية. الوجود. كانت الحرية الوجود. الجوهر. الفكر. العقل. ساندويتشات بنات الهوى. العناق. المتعة. الجمال. الفن. الأدب. الموسيقى. الأيام. كانت الحرية الأيام. كل أيام الأسبوع، وكل أيام الشهر، وكل أيام السنة. وكل أيام العمر. كانت الحرية كل أيام الطير. كانت الحرية حرية الطير، وكان الطير كل هذا، كل الأحلام، كل الأوهام. كل الأقدام. كانت الحرية كل الخطوات الذاهبة إلى البلدية. كل الخطوات. حرية. خطوات. كل الخطوات. كل الخطوات الذاهبة إلى البلدية، وإلى بيت بنات الهوى، وإلى فناء الأقصى، وإلى حائط المبكى، وإلى كنيسة القيامة. كانت الحرية كل الخطوات. كل الطرق. الطريق إلى عمان كالطريق إلى حيفا كالطريق إلى جهنم. كل الطرق الحرية. كل الطرق. كل الخطوات. كل الاتجاهات. كانت الحرية كل طرق العالم. العالم. كل الشعوب. كانت الحرية كل الحكومات. كل الجامعات. كل الجمعيات. كل البارات. كل النقابات. كل خلايا النحل. كل أروقة النمل. كل الأعشاش. كل الأعشاب. من الهندباء إلى الماريجوانا. كل النجمات. فينوس نجمة الصبح أولها. كل الشموس. كل الشامات. كل الحلمات. الحرية. كل الحرية. كانت الحرية كل حرية، وكل حرية الحرية. الحرية. الحرية. الحرية.

في البلدية المجتاحة بأبناء الحرية، تمكن فرانك لانج من الوصول إلى سِلِسْتا. كان يحتل مكتب جده، وصورة جده المبتسم من أمامه، ومن حوله سامي ودافيد وعيسى وحنان وشلومو وآخرون غيرهم.

- لو كان جدك لم يزل على قيد الحياة لكان فخورًا بك، قال فرانك لانج.

- التآخي في الاختلاف شعاره هو كل هذا وقد تحقق، قال سِلِسْتا.

- أضف إلى ذلك أنكم لستم في القدس وحدكم، قالت أبولين دوفيل.

- معظم بلديات المدن الأخرى تم اجتياحها من طرف المنتفضين، تباهى سِلِسْتا.

- والآن ماذا ستفعلون.

- سنشكل حكومة جديدة، وسنكتب دستورًا جديدًا.

- هل أنت لينين جديد أم مايكل جاكسون جديد؟

- لا هذا ولا ذاك.

- أنت من إذن؟

- أنا كلب الحرية.

- سؤال أخير.

- ما هو؟

- من قتل جدك؟

- لا، ليس الموساد.

- إذن من؟

- الموساد كان يعرف، وترك القاتل يفعل.

- إذن من؟

- ليس الموساد على كل حال.

- إذن من؟

- الكل يعلم أن جدي كان ضد الاحتلال، ضد الجدار، ضد المستعمرات، ضد التهويد، وكان ينفق الأموال على كل الجمعيات والمؤسسات دون أي تفريق.

- إذن من؟ إذن من؟

- ليس الإرهابيين العرب على كل حال.

- إذن من؟ إذن من؟ إذن من؟

تدفق المنتفضون الذين جاءوا ليحملوا سِلِسْتا على أكتافهم، وحصل ضجيج لم يسمع التحريان على أثره اسم القاتل. رأيا شفتا الثوري الشاب تتحركان قبل أن تجرفه الأمواج.

وهما يدخلان على الجدة في وسط دارها، كانت على الهاتف تقول:

- تحبينني؟ وأنا أيضًا أحبك، يا بنتي. تحبينني أكثر من أي شيء في الوجود؟ وأنا أيضًا أحبك أكثر من أي شيء في الوجود، يا بنتي. بنتي، بنتي، اسمعي، بنتي، متى ستعودين إلى البيت؟ بنتي، آلو! بنتي، بنتي، آلو! آلو! آلو! قالت للفرنسيين حزينة، وهي تقفل: كانت سلمى، بنتي، قالت تحبني أكثر من أي شيء في الوجود. وبعد قليل: تعالي، يا حبيبتي، قالت للساحرة الشقراء.

- جئنا فقط لنقول لك مع السلامة، همهمت أبولين دوفيل.

- هل أنهيتم إعادة كتابة مدينة الشيطان؟

- أنهينا، أجاب فرانك لانج، وهو يعيد إليها أوراقها المصفرة. هذه الذكريات قيمتها لا تقدر بثمن!

- والآن؟ سألت، وهي تشعلها بعود كبريت تحت نصف صرخة من فم التحريين. الآن هذه الذكريات دخان. رماد. ككل شيء مات، وانتهى. ثم لأبولين دوفيل: نسيت أن تأخذي قنينة الزيت وضمة المرامية، قالت، وهي تقدمهما لها.

- شكرًا كثيرًا، همهمت أبولين دوفيل، وهي تأخذهما من يدها.

قبلتها ضابطة الدي جي إس إي من خدها، وقبلها فرانك لانج من يدها. أعطياها ظهرهما، وبعد خطوتين، التفت فرانك لانج، وهمهم:

- سؤال أخير.

- ما هو؟

- من قتل يعقوب؟

- يوسف.

باريس الجمعة في 2012.09.07

أعمال أفنان القاسم

المجموعات القصصية

1) الأعشاش المهدومة 1969
2) الذئاب والزيتون 1974
3) الاغتراب 1976
4) حلمحقيقي 1981
5) كتب وأسفار 1988
6) الخيول حزينة دومًا 1995

الأعمال الروائية

7) الكناري 1967
8) القمر الهاتك 1969
9) اسكندر الجفناوي 1970
10) العجوز 1971
11) النقيض 1972
12) الباشا 1973
13) الشوارع 1974
14) المسار 1975
15) العصافير لا تموت من الجليد 1978
16) مدام حرب 1979
17) تراجيديات 1987
18) موسى وجولييت 1990
19) أربعون يومًا بانتظار الرئيس 1991
20) لؤلؤة الاسكندرية 1993
21) شارع الغاردنز 1994
22) باريس 1994
23) مدام ميرابيل 1995
24) الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون 1995
25) أبو بكر الآشي 1996
26) ماري تذهب إلى حي بيلفيل 1999
27) بيروت تل أبيب 2000
28) بستان الشلالات 2001
29) فندق شارون 2003
30) عساكر 2003
31) وصول غودو 2010
32) الشيخ والحاسوب 2011
33) تراجيديا النعامة 2011
34) ستوكهولم 2012
35) شيطان طرابلس 2012
36) زرافة دمشق 2012
37) البحث عن أبولين دوفيل 2012
38) قصر رغدان 2012
39) الصلاة السادسة 2012

40) مدينة الشيطان 2012

الأعمال المسرحية النثرية

41) مأساة الثريا 1976
42) سقوط جوبتر 1977
43) ابنة روما 1978

الأعمال الشعرية

44) أنفاس (مجموعة قصائد أولى – ثلاثة أجزاء) 1966
45) العاصيات (مسرحية شعرية) 1967
46) المواطئ المحرمة (مسرحية شعرية) 1968
47) فلسطين الشر (مسرحية شعرية) 2001
48) الأخرق (مسرحية شعرية) 2002
49) غرافيتي (مجموعة قصائد فرنسية) 2009
50) غرب (ملحمة فرنسية) 2010
51) البرابرة (مجموعة قصائد أخيرة) 2008 – 2010

الدراسات

52) البنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسان كنفاني 1975
53) البطل السلبي في القصة العربية المعاصرة عبد الرحمن مجيد الربيعي نموذجًا (جزءان) 1983
54) موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1984
55) البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش 1984
56) نصوص خاضعة للبنيوية 1985 – 1995
57) دفاعًا عن الشعب الفلسطيني 2004
58) خطتي للسلام 2004
59) شعراء الانحطاط الجميل 2007 – 2008
60) نحو مؤتمر بال فلسطيني وحوارات مع أفنان القاسم 2009
61) حوارات بالقوة أو بالفعل 2007 – 2010
62) الله وليس القرآن 2008 - 2012
63) نافذة على الحدث 2008 - 2012



عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

مدينة الشيطان رواية الثورة الإسرائيلية، رواية متخيلة، اقترحتها على المؤلف حركة الاحتجاجات التي اجتاحت إسرائيل، فكانت مناسبة للتشريح الكياني والتحليل المجتمعي، وقول ما كان من اللازم أن يقع تحت شروط لم تزل بعد في مرحلة المخاض، لكنها تؤشر في العمق إلى تغيير حتمي قادم، يضع حدًا لسياسة "شزفرنة" المجتمع، ليسهل على حكام هذا البلد تمرير برنامجهم التغريبي، تغريب الآخر، وتغريب الذات، من أجل الإبقاء على المكاسب الشخصية والمطامع الشيطانية. لهذا كان لا بد لهذه السطور من أن "تمضي كالمسيح من هنا"، جملة تقولها إحدى شخصيات الرواية، فالشيطان كعنصر بنيوي وعنصر درامي هو البطل الرئيسي، والقدس كمدينة للشيطان هي الفضاء القدسي.

في هذه الرواية عودة إلى الرواد اليهود الأوائل "الاشتراكيين-الثوريين"، وفشلهم التاريخي، وعودة إلى الفاجعة الفلسطينية منذ وعد بلفور إلى اليوم تحت رؤية جديدة وتناول جديد، خمسة أجيال من عمر تاريخنا المشترك، والأهم من هذا وذاك عملية "الأنسنة"، أنسنتنا وأنسنتهم، عملية كلفت أفنان القاسم جهدًا جماليًا جبارًا ومهارة حبكوية لم يعتد عليها قلمه من قبل.

هذه الرواية هي السادسة من السلسلة التي يكتبها أفنان القاسم مع بطليه التيميين فرانك لانج رجل التحري الخاص وأبولين دوفيل ضابطة الدي جي إس إي.

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.