اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ألمكتبة

• كتاب / مدخل الى الاشتراكية العلمية .. الجزء الثاني - الصفحة 2

  

4- حركة التحرر القومي

 

كان محتما مع مرور الزمن ألا يخضع مئات الملايين من البشر لنظام استغلال واضطهاد كانت تفرضه عليهم حفنة من كبار رأسماليي البلدان الإمبريالية بواسطة الأجهزة الإدارية والقمعية لتي في خدمتها. فمدت حركة تحرر قومي جذورها تدريجيا في صفوف المثقفين الشباب في بلدان أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، حركة تبنت أفكارا ديموقراطية-برجوازية بل شبه اشتراكية واشتراكية من أفكار الغرب، لتعارض السيطرة الأجنبية على بلادها. إن النزعة القومية ذات التوجه المعادي للإمبريالية، تتمحور في البلدان التابعة حول المصالح المختلفة لثلاث قوى اجتماعية:

 

  يتم تبنيها قبل كل شيء من قبل البرجوازية القومية الصناعية الفتية، في كل مكان تحوز فيه هذه الأخيرة على قاعدة مادية خاصة تجعل مصالحها تتزاحم مع مصالح الدول الإمبريالية المسيطرة. إن المثال الأكثر نموذجية في هذا الصدد هو مثال حزب المؤتمر الهندي الذي قاده غاندي والذي دعمته بقوة المجموعات الصناعية الهندية الكبيرة.

 

  بحفز من الثورة الروسية، يمكن أن يتم تبني النزعة القومية من قبل الحركة العمالية الناشئة التي سوف تجعل منها على الأخص أداة تعبئة للجماهير المدينية والقروية ضد السلطة القائمة. إن المثال الأكثر نموذجية في هذا الصدد هو مثال الحزب الشيوعي الصيني منذ العشرينات ومثال الحزب الشيوعي في الهند الصينية في العقود اللاحقة.

 

  يمكن أن تحفز النزعة القومية انفجار تمردات للبرجوازية الصغيرة المدينية وللفلاحين، تتخذ كشكل سياسي شكل النزعة الشعبية القومية. إن ثورة 1910 المكسيكية هي النموذج الأخص لهذا الشكل من الحركة المناهضة للإمبريالية.

بوجه عام، فإن تأزم النظام الإمبريالي الذي عرف تمزقات داخلية متتالية -هزيمة روسيا القيصرية في الحرب ضد اليابان في سنتي 1904-1905، ثورة عام 1905 الروسية، الحرب العالمية الأولى، ثورة عام 1917 الروسية، ظهور الحركة الجماهيرية في الهند والصين، أزمة سنوات 1929-1932 الاقتصادية، الحرب العالمية الثانية، هزائم الإمبريالية الغربية على يد الإمبريالية اليابانية في سنتي 1941-1942، هزيمة الإمبريالية اليابانية في سنة 1945- تأزم النظام الإمبريالي هذا قد حفز حركة التحرر القومي في البلدان التابعة حفزا قويا. وقد تلقت هذه الحركة دفعها الرئيسي عند انتصار الثورة الصينية عام 1949.

إن المشكلات التكتيكية والاستراتيجية التي تنجم عن ظهور حركة التحرر القومي في البلدان المستعمَرة والشبه المستعمَرة، بالنسبة للحركة العمالية العالمية (والمحلية في البلدان التابعة)، سوف يتم تناولها بصورة أكثر تفصيلا في الفصل العاشر، النقطة 4، والفصل الثالث عشر، النقطة 4. أما هنا فنكتفي بالتأكيد على أن الواجب الخاص للحركة العمالية في البلدان الإمبريالية هو أن تؤيد بلا شروط كل حركة وكل عمل فعلي تقوم بهما جماهير البلدان المستعمَرة والشبه المستعمَرة ضد الاستغلال والاضطهاد اللذين تعاني منهما على يد الدول الإمبريالية. هذا الوالجب يقتضي تمييزا صارما بين الحروب الإمبريالية، وهي حروب رجعية، وحروب التحرر القومي التي هي حروب عادلة بصرف النظر عن القوة السياسية التي تقود الشعب المضطهد في هذه المرحلة من النضال أو تلك، وينبغي على البروليتاريا العالمية في هذه الحروب أن تعمل لأجل انتصار الشعوب المضطهدة.

 

5-الاستعمار الجديد

 

إن ازدهار حركة التحرر القومي غداة الحرب العالمية الثانية قد جر الإمبريالية إلى تعديل أشكال سيطرتها على البلدان المتخلفة. فقد تحولت هذه السيطرة تدريجيا من سيطرة مباشرة إلى غير مباشرة. وقد تقلص بسرعة عدد المستعمرات بحصر المعنى، التي تديرها الدول الاستعمارية مباشرة. وانتقل هذا العدد، في غضون عقدين، من حوالي السبعين إلى بعض الوحدات فقط. وانهارت بمعظمها الإمبراطوريات الاستعمارية الإيطالية والبريطانية والهولندية والفرنسية وأخيرا البرتغالية والإسبانية.

لم يحصل طبعا زوال الإمبراطوريات الاستعمارية هذا دون مقاومة دموية ومضادة للثورة من قبل قطاعات هامة من الرأسمال الإمبريالي. تشهد على ذلك الحروب الاستعمارية الدموية التي خاضتها الإمبريالية الهولندية في أندونيسيا، والإمبريالية البريطانية في ماليزيا وفي كينيا، والإمبريالية الفرنسية في الهند الصينية وفي الجزائر، كما تشهد عليه «الحملات» الأقصر مدة لكن التي لا تقل دموية لحملة السويس سنة 1956 ضد مصر. غير أن هذه الأعمال المشؤومة تبدو تاريخيا كمعارك رجعية. يقينا أن الاستعمار المباشر كان محكوما عليه بالوزال.

بيد أن زواله لا يعني البتة تفكك النظام الإمبريالي العالمي. بل يستمر هذا النظام في الوجود، وإن في أشكال معدلة. فتبقى الغالبية العظمى من البلدان شبه المستعمرة محصورة في تصدير المواد الأولية. وتظل خاضعة لجميع النتائج المضرة للتبادل الاستغلالي غير المتساوي. ويستمر التباعد، بدل التقارب، بين درجة تطور هذه البلدان ودرجة تطور البلدان الإمبريالية . ويزداد بعد المسافة بين القسم «الشمالي» والقسم «الجنوبي» من الكرة الأرضية، من حيث الدخل الفردي ومستوى الرفاهية.

هذا ويقتضي تحول السيطرة الإمبريالية المباشرة إلى سيطرة إمبريالية غير مباشرة على البلدان المتخلفة، إشراكا أوثق للبرجوازية الصناعية «القومية» في استغلال الجماهير الكادحة في هذه البلدان، ويستتبع أيضا إسراعا ما لسيرورة التصنيع في جملة من البلدان شبه المستعمرة. هذا ينجم في آن واحد عن تبدل موازين القوى السياسية (أي أنه يشكل تنازلا محتما للنظام تحت ضغط الجماهير المتعاظم) وعن تبدل المصالح الأساسية للمجموعات الإمبريالية الرئيسية بذاتها.

إن طبيعة البضائع المصدرة من قبل البلدان الإمبريالية قد شهدت بالفعل تبدلا هاما. وأصبحت فئة «الآلات والسلع التجهيزية ووسائل النقل» تحتل فيها الصدارة بعد أن كانت تحتلها فئتا السلع الاستهلاكية والفولاذ. والحال أنه يستحيل أن تصدر التروستات الاحتكارية الرئيسية قدرا أكبر فأكبر من الآلات إلى البلدان التابعة دون أن تحفز فيها بعض أشكال التصنيع (المحصور إجمالا وبوجه خاص في صناعة السلع الاستهلاكية).

ومن جهة أخرى، فإن الشركات متعددة القوميات تجد في إطار استراتيجيتها العالمية مصلحة في الانغراس في عدد من البلدان التابعة لتحتل فيها السوق منذ البدء تقريبا، نظرا لتوسع المبيعات اللاحق الذي تتوقعه. هكذا تتعمم صيغة المنشآت المشتركة (joint-ventures) بين الرأسمال الإمبريالي والرأسمال الصناعي «القومي» في تلك البلدان، أكان رأسمالا خاصا أو رأسمال دولة، حيث تشكل هذه الصيغة إحدى ميزات البنية شبه الاستعمارية. ويزداد بالتالي ثقل الطبقة العاملة في المجتمع.

هذه البنية تظل منخرطة في منظومة إمبريالية قاسية واستغلالية. ويبقى التصنيع محدودا، حيث تكاد «سوقه الداخلية» لا تتعدى إجمالا ما بين 20% و25% من السكان: الطبقات الميسورة + التقنيون والكوادر، الخ + الفلاحون الأغنياء. ويضل بؤس الجماهير هائلا. فتتزايد التناقضات الاجتماعية بدل أن تتقلص: من هنا تبقى طاقة الانفجارات الثورية المتتالية في البلدان التابعة.

في هذه الشروط، تكتسب شريحة اجتماعية جديدة أهمية: أنها بيروقراطية الدولة التي «تدير» إجمالا قطاعا مؤمما هاما وتنصب نفسها ممثلة للاهتمامات القومية تجاه الخارج، لكنها تستغل في الواقع احتكارها للإدارة لتجري تراكمها الخاص على نطاق واسع.

 

*******

 

 

8- نشأة الحركة العمالية الحديثة

 

منذ أن وجد عمال مأجورون، أي قبل تكون الرأسمالية الحديثة بكثير، حصلت ظاهرات صراع طبقي بين أرباب العمل والعمال. فالصراع الطبقي ليس بنتاج نشاطات تحريضية من قبل أفراد «يدعون إليه». بالعكس، فإن مذهب الصراع الطبقي هو نتاج ممارسة الصراع الطبقي التي سبقته.

 

1- الصراع الطبقي الأولي للبروليتاريا

 

تتمحور التجليات الأولية لصراع الأجراء الطبقي حول مطالب ثلاثة على الدوام. هذه المطالب هي التالية:

أ. زيادة الأجور. وهي وسيلة فورية لتعديل توزيع الناتج الاجتماعي بين أرباب العمل والعمال لصالح الأجراء.

ب. إنقاص ساعات العمل دون تخفيض الأجر، وهي وسيلة مباشرة أخرى لتعديل هذا التوزيع لصالح الشغيلة.

ج. حرية التنظيم. ففي حين يستحوذ رب العمل، مالك رأس المال ووسائل الإنتاج، على القوة الاقتصادية، يجد العمال أنفسهم منزوعي السلاح طالما هم يخوضون فيها بينهم صراعا تنافسيا للحصول على عمل. ضمن هذه الشروط، تصب «قواعد اللعبة» في صالح الرأسماليين على وجه الحصر، الذين يستطيعون تخفيض مستوى الأجور قدر ما يشاءون، فيما يضطر العمال للقبول بها خشية فقدان عملهم، وبالتالي لقمة عيشهم.

ليس للشغيلة فرصة الحصول على منافع من خلال النضال الذي يواجهون به أرباب العمل، إلاّ عن طريق إلغاء هذه المنافسة التي تفرق بينهم، ورفضهم جميعا أن يعملوا ضمن شروط غير ممكن قبولها. إن التجربة تعلمهم سريعا أنه إن لم تكن لهم حرية التنظيم، كانوا منزوعي السلاح في مواجهة الضغط الرأسمالي.

لقد اتخذ الصراع الطبقي الأولي الذي يخوضه البروليتاريون طابعا تقليديا يتمثل بالرفض الجماعي للعمل، أي بالإضراب. وينقل لنا مدونو أخبار قصص إضرابات حدثت في مصر والصين القديمتين. لدينا كذلك وقائع إضرابات حدثت في مصر في ظل الإمبراطورية الرومانية، لاسيما في القرن الأول من التاريخ الميلادي.

 

2- الوعي الطبقي الأولي للبروليتاريا

 

إن تنظيم إضراب يتطلب على الدوام درجة ما -أولية- من التنظيم الطبقي. يتطلب على وجه الخصوص معرفة أن خلاص كل من الأجراء يتوقف على عمل جماعي، وهو حل قائم على التضامن الطبقي، بالتعارض مع الحل الفردي (المتمثل بمحاولة زيادة الربح الفردي دون اهتمام بدخول بقية الأجراء).

هذه المعرفة هي الشكل الأولى للوعي الطبقي البروليتاري. يضاف إلى ذلك أن المأجورين يتعلمون فطريا خلال تنظيم إضراب أن ينشئوا صناديق مساعدة. يتم إنشاء صناديق مساعدة والتعاون هذه أيضا للتخفيف قليلا من عدم استقرار الوجود العمالي، وللسماح للبروليتاريين بالدفاع عن أنفسهم خلال فترات البطالة، الخ. تلك هي الأشكال الأولية للتنظيم الطبقي.

إلاّ أن هذه الأشكال الأولية من الوعي والتنظيم الطبقيين لا تتطلب وعي الأهداف التاريخية للحركة العمالية، ولا فهم ضرورة عمل سياسي مستقل من جانب الطبقة العاملة.

هكذا تجد الأشكال الأولى للعمل السياسي العمالي موقعها إلى أقصى يسار الراديكالية البرجوازية الصغيرة. إن مؤامرة المتساوين التي نظمها غراكوس بابوف [20]، والتي تمثل أول حركة سياسية حديثة تهدف إلى تجميع وسائل الإنتاج، ظهرت إبان الثورة الفرنسية إلى أقصى يسار اليعاقبة.

يهيئ لمجيء مجتمع اشتراكي، ويهيئ القوى المادية والأدبية London Corresponding Society التي حاولت تنظيم حركة تضامن مع الثورة الفرنسية. إلاّ أن القمع البوليسي تمكن من سحق المنظمة المذكورة. لكن نشأت على الفور، بعد نهاية الحروب النابوليونية، رابطة الاقتراع العام التي تشكلت في منطقة مانشستر-ليفربول الصناعية من عمال على وجه الخصوص، وكانت إلى أقصى يسار الحزب الراديكالي (البورجوازي الصغير). لقد تسارع بعد أحداث بيترلو الدامية في عام 1817 انفصال حركة عمالية مستقلة عن الحركة البورجوازية الصغيرة، ونشأ هكذا بعد قليل الحزب الشارطي أول حزب عمالي بصورة أساسية، يطالب بالاقتراع العام.

 

3- الاشتراكية الطوباوية

 

تلك الحركات الأولية للطبقة العاملة قادها كلها إلى حد بعيد عمال بالذات، أي عصاميون autodidactes كانوا غالبا ما يصوغون أفكار ساذجة حول موضوعات تاريخية واقتصادية واجتماعية، تتطلب دراسات علمية متينة كي تتم معالجتها بعمق. تطورت تلك الحركات إذا على هامش التطور العلمي في القرنين 17 و18. على عكس ذلك، وفي إطار هذا التطور العلمي بالذات تقع جهود أوائل المفكرين الكبار الطوباويين من أمثال توماس مور (مستشار إنكلترا في القرن 16)، وكامبانيلا (كاتب إيطالي في القرن 17)، وروبيرت أوين، وشارل فورييه وسان سيمون (كتّاب في القرنين 18 و19). حاول هؤلاء الكتّاب أن يجمعوا كل معارف عصرهم العلمية ليقوموا بصياغة:

أ. نقد حاد للا مساواة الاجتماعية، لا سيما تلك التي تميز المجتمع البورجوازي (وهو ما يعني أوين وفورييه وسان سيمون)

ب. مخطط تنظيم مجتمع متساو، قائم على الملكية الجماعية.

بهدين الوجهين لعمل كبار الاشتراكيين الطوباويين، يشكل هؤلاء الرواد الحقيقيين للاشتراكية الحديثة. إلاّ أن ضعف نظامهم يكمن في:

أ. واقع أن المجتمع المثالي الذي يحلمون به (من هنا تعبير الاشتراكية الطوباوية) ينطرح كمثل أعلى مطلوب بناؤه وبلوغه دفعة واحدة عبر جهد للفهم يبذله الناس وإرادة حسنة، وذلك من دونما علاقة بالتطور التاريخي الذي يؤدي إليه المجتمع الرأسمالي بالذات إلى هذا الحد أو ذاك.

ب. واقع أن تفسيرات الظروف التي ظهرت خلالها اللا مساواة الاجتماعية والتي يمكن أن تختفي خلالها، هي تفسيرات ناقصة علميا وتقوم على عوامل ثانوية (العنف، الأخلاق، المال، علم النفس، الجهل، الخ)، ولا تنطلق من المشكلات البنيوية الاقتصادية والاجتماعية، مشكلات التفاعل بين علاقات الإنتاج ومستوى تطور قوى الإنتاج.

 

4- ولادة النظرية الماركسية -البيان الشيوعي

 

في هذين الحقلين بالذات، نرى أن إرساء النظرية الماركسية في الأيديولوجية الألمانية (1845)، وخصوصا، في البيان الشيوعي (1847) الذي وضعه ماركس وإنجلز، إنما يشكل تقدما حاسما. فمع النظرية الماركسية، يتجسد الوعي الطبقي العمالي في نظرية علمية من المستوى الأرفع.

لم يكتشف ماركس وإنجلز مفهومي الطبقة الاجتماعية والصراع الطبقي، فهذان المفهومان كان يعرفهما الاشتراكيون الطوباويون وبورجوازيون آخرون من مثل المؤرخين الفرنسيين تييري وغيزو. بيد أنهما شرحا علميا أصل الطبقات، وأسباب تطور الطبقات، وواقع إمكان تفسير التاريخ الإنساني بكامله انطلاقا من مفهوم صراع الطبقات، وعلى وجه الخصوص الشروط المادية والمعنوية التي بموجبها يمكن لانقسام المجتمع إلى طبقات أن يخلي المجال لمجتمع اشتراكي خال من الطبقات.

لقد فسرا من جهة أخرى كيف أن تطور الرأسمالية بالذات يهيء لمجيء مجتمع اشتراكي، ويهيئ القوى المادية والأدبية التي تضمن انتصار المجتمع الجديد. لا يعود هذا المجتمع يظهر مذاك كمجرد محصلة لأحلام الناس ورغباتهم، بل كالناتج المنطقي لتطور التاريخ البشري.

هكذا يمثل البيان الشيوعي شكلا أسمى من الوعي الطبقي البروليتاري. يعلّم الطبقة العاملة أن المجتمع الاشتراكي سوف يكون ناتج صراعها الطبقي ضد البورجوازية. إنه يعلمها ضرورة ألاّ تكتفي بالنضال من أجل زيادة الأجور، وأن تعمل بالتالي لإلغاء العمل المأجور. يعلمها على وجه الخصوص ضرورة تشكيل أحزاب عمالية مستقلة، وأن تستكمل عملها المتمثل بمطالب اقتصادية بعمل سياسي على الصعيدين القومي والأممي.

لقد ولدت الحركة العمالية الحديثة إذا من الاندماج بين الصراع الطبقي الأولي للطبقة العاملة والوعي الطبقي البروليتاري البالغ درجته العليا من التعبير المتجسدة في النظرية الماركسية.

 

5- الأممية الأولى

 

هذا الاندماج هو مآل كل تطور الحركة العمالية الأممية بين الخمسينات والثمانينات من القرن 19.

وخلال ثورات 1848 التي هزت أركان معظم بلدان أوروبا، لم تظهر الطبقة العاملة في أي مكان، ما عدا في ألمانيا (في جمعية الشيوعيين الصغيرة، التي كان يقودها ماركس) كحزب سياسي بالمعنى الحديث للكلمة. كانت تسير في كل مكان في ذيل الراديكالية البورجوازية الصغيرة، إلاّ أنها انفصلت في فرنسا عن هذه الأخيرة إبان أيام يونيو الدامية عام 1848، دون أن تتمكن من تشكيل حزب سياسي مستقل (كانت المجموعات الثورية التي شكلها أوغست بلانكي نواته إلى هذا الحد أو ذاك). واثر سنوات الردة الرجعية التي تلت هزيمة ثورة 1848، كانت المنظمات النقابية والتعاونية التابعة للطبقة العاملة هي التي تطورت قبل كل شيء في معظم البلدان، باستثناء ألمانيا، حيث سمح التحريض من أجل الاقتراع العام للاسال أن يشكل حزبا سياسيا عماليا هو الجمعية العامة للشغيلة الألمان.

لقد اندمج ماركس والمجموعة الصغيرة من نصرائه اندماجا حقيقيا مع الحركة العمالية الأولية في ذلك العصر بتأسيس الأممية الأولى عام 1864، وقد هيأوا بذلك تشكيل الأحزاب الاشتراكية في معظم بلدان أوروبا. ومن قبيل المفارقة البالغة أن الأحزاب التي اجتمعت لتشكيل الأممية الأولى لم تكن أحزابا عمالية. إن تشكيل هذه الأخيرة هو الذي سمح بالتجميع القومي لمجموعات محلية ونقابية انضمت إلى الأممية الأولى.

وحين تصدعت الأممية بعد هزيمة كومونة باريس احتفظ العمال الطليعيون بوعي ضرورة تجمع من هذا النوع على المستوى القومي. وخلال السبعينات والثمانينات، وبعد العديد من المحاولات الفاشلة، تشكلت نهائيا أحزاب اشتراكية مستندة إلى الحركة العمالية الأولية في ذلك الزمن. وكانت الإستثناءات المهمة الوحيدة لهذه السيرورة هي بريطانيا العظمى والولايات المتحدة، فالأحزاب الاشتراكية التي تشكلت فيهما في ذلك العصر بالذات بقيت على هامش حركة نقابية كانت قد أصبحت قوية. ولم يظهر حزب العمال المستند إلى النقابات في بريطانيا إلاّ في القرن العشرين. وفي الولايات المتحدة، ما يزال إنشاء حزب من هذا النوع هو المهمة الملحة للحركة العمالية.

 

6-الأشكال المختلفة لتنظيم الحركة العمالية

 

يسمح لنا هذا بأن نوضح أن النقابات وشركات التعاون mutualites والأحزاب الاشتراكية قد ظهرت تقريبا كالنواتج العفوية المحتومة للنضال داخل المجتمع الرأسمالي، وأن الأمر يتوقف في النهاية على عوامل متعلقة بالتراث والأحوال القومية إذا كان شكل ما يتطور قبل شكل آخر.

أمّا التعاونيات فليست الناتج العفوي للصراع الطبقي، بل ناتج المبادرة التي قام بها روبيرت أوين ورفاقه عام 1844 حين أسسوا أول تعاونية في روشدال في إنكلترا.

إن أهمية الحركة التعاونية لا تنكر، لا فقط لأنه يمكنها أن تكون مدرسة تسيير عمالي للاقتصاد بالنسبة للطبقة العاملة، بل خصوصا لأنها يمكن أن تهيئ داخل المجتمع الرأسمالي بالذات حل واحدة من المشكلات الأكثر صعوبة في المجتمع الاشتراكي، مشكلة التوزيع. بيد أنها تنطوي في الوقت ذاته على طاقة كامنة خطيرة من المنافسة الاقتصادية داخل النظام الرأسمالي مع مشاريع رأسمالية، وهي منافسة لا يمكن إلاّ أن تؤدي إلى نتائج مشؤومة بالنسبة إلى الطبقة العاملة وخصوصا إلى تخريب الوعي الطبقي البروليتاريا.

 

7- كومونة باريس

 

تلخص كومونة باريس كل الاتجاهات التي برزت في أصل الحركة العمالية الحديثة وفي أوائل تفتحها. لقد ولدت من الحركة العمالية الجماهيرية العفوية لا من خطة أو برنامج وضعهما حزب عمالي بصورة مسبقة، وبيّنت اتجاه الطبقة العاملة لتخفي الطور الاقتصادي الصرف من نضالها -إن الأصل المباشر للكومونة سياسي للغاية، وهو يتمثل في حذر عمال باريس تجاه البورجوازية المتهمة بنيتها تسليم المدينة للجيوش البروسية التي كانت تحاصرها- وذلك بالدمج المستمر للمطالب الاقتصادية والمطالب السياسية. حملت الطبقة العاملة للمرة الأولى على استلام السلطة السياسية، ولو على أرض مدينة واحدة. لقد عكست اتجاه الطبقة العاملة لتدمير جهاز الدولة البورجوازي واستبدال الديموقراطية البورجوازية بديموقراطية بروليتارية هي شكل رفيع من الديموقراطية. بيّنت كذلك أنه من دون قيادة ثورية واعية فإن البطولة العارمة التي تعبر عنها البروليتاريا في خضم معركة ثورية تظل غير كافية لضمان النصر.

*******

 

 

 

9- إصلاحات وثورة

 

إن ولادة الحركة العمالية الحديثة وتطورها داخل المجتمع الرأسمالي يقدمان لنا مثلا عن العمل المتبادل الذي يمارسه الواحد حيال الآخر، كل من الوسط الاجتماعي الذي يتواجد ضمنه الناس، بالاستقلال عن إرادتهم، والعمل الواعي إلى هذا الحد أو ذاك الذي يطورونه لتغيير هذا الوسط.

***

 

1- التطور والثورة عبر التاريخ

 

أن التغييرات على صعيد النظام الاجتماعي، التي حدثت عبر العصور، كانت على الدوام نتيجة تغيير مفاجئ وعنيف، بفعل حروب أو ثورات أو شيء من هذه وتلك. ليس من دولة قائمة في أيامنا هذه إلاّ وكانت ناتج هكذا خضات ثورية، فلقد قامت الدولة الأمريكية على قاعدة ثورة 1776 وحرب 1861-1865 الأهلية، ونشأت الدولة البريطانية عن ثورة 1648 وثورة 1689، والدولة الفرنسية عن ثورات 1789 و1830 و1848 و1870، والدولة البلجيكية عن ثورة 1830. والدولة النيرلندية عن ثورة البلدان الواطئة في القرن 16، والدولة الألمانية عن حروب 1870-1871، و1914-1918 و1939-1945، وعن ثورات 1848 و1918 الخ..

إلاّ أنه من قبيل الخطأ الافتراض أنه يكفي استخدام العنف للتمكن من تغيير البنية الاجتماعية حسب مشيئة المقاتلين. فلكي تقوم ثورة بإحداث تغيير حقيقي في المجتمع وفي ظروف حياة الطبقات الكادحة، ينبغي أن يسبقها تطور يخلق داخل المجتمع القديم القواعد المادية (الاقتصادية والتقنية و…) والبشرية (الطبقات الاجتماعية المتميزة ببعض السمات النوعية الخاصة بها) للمجتمع الجديد، إذ حين لا تتوفر تلك القواعد، تنتهي الثورات، مهما تكن عنيفة، إلى وضع تعيد معه إنتاج الظروف التي هدفت إلى إلغائها.

إن الانتفاضات الفلاحية الظافرة التي تتعاقب على امتداد التاريخ الصيني تقدم لنا المثال الكلاسيكي على هذا الواقع، فهي تمثل في كل مرة رد فعل الشعب ضد المظالم والأعباء الضريبية التي لا تطاق، التي كانت تلحق بالفلاحين في فترات انحطاط السلالات المتعاقبة التي حكمت الإمبراطورية السماوية. وقد كانت تؤدي تلك الانتفاضات إلى قلب سلالة ووصول أخرى إلى السلطة، منبثقة غالبا عن قادة الانتفاضة الفلاحية ذاتهم، كما كانت الحال مع سلالة الهانيين.

إن السلالة الجديدة تشرع بإرساء شروط معيشة أفضل بالنسبة للفلاحين. لكن بقدر ما تتوطد سلطتها وتتدعم إدارتها، تزيد نفقات الدولة، وهو ما يستتبع زيادة الضرائب، فيشرع الماندرينيون [20]، الذين يدفع لهم في البداية صندوق الدولة، بإساءة استخدام سلطتهم ويقتطعون لأنفسهم ملكيات اعتباطية على حساب أراضي الفلاحين، ناهبين منها ريعا «عقاريا» يضاف إلى الضريبة.

هكذا تعقب عقودا من الحياة الفضلى عودة الفلاحين إلى مهاوي البؤس. إن انعدام حدوث «قفزة إلى الأمام» على صعيد قوى الإنتاج، وغياب تطور صناعة حديثة قائمة على استخدام الآلات، يفسران هذا الطابع الدوري للثورات الاجتماعية في الصين القديمة، واستحالة توصل الفلاحين إلى تحرر طويل الأمد.

 

2-التطور والثورة في الرأسمالية الحديثة

 

لقد نجمت الرأسمالية المعاصرة هي الأخرى عن الثورات الاجتماعية والسياسية، ونعني بذلك الثورات البورجوازية الكبرى التي توالت بين القرنين 16 و18، والتي كانت في أساس قيام الدولة القومية. لقد مهد لهذه الثورات تطور سابق تمثل بنمو قوى الإنتاج داخل المجتمع الإقطاعي، تلك القوى التي غدت متعارضة مع استمرار القنانة والنقابات الحرفية والتضييقات المفرطة على التداول الحر للسلع.

لقد ولّد هذا التطور كذلك طبقة اجتماعية جديدة هي البورجوازية الحديثة التي تدربت على النضال السياسي في إطار كومونة القرون الوسطى، والمناوشات التي كانت تتم في ظل الملكية المطلقة، قبل الانطلاق في طريق الاستيلاء على السلطة السياسية.

إن المجتمع البورجوازي يتصف عند نقطة معينة من نموه بتطور يمهد حتما لثورة اجتماعية جديدة.

فعلى المستوى المادي، تنمو قوى الإنتاج إلى الحد الذي تصبح معه أكثر فأكثر تصادما مع الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج الرأسمالية. إن نمو الصناعة الكبيرة، وتركز الرأسمال وخلق التروستات، والتدخل المتزايد من جانب الدولة البورجوازية بغية «تنظيم» مسيرة الاقتصاد الرأسمالي، تمهد الطريق أمام تشريك (التملك الجماعي) وسائل الإنتاج، وأمام تسييرها من جانب المنتجين المتشاركين بالذات، وفقا لخطة موضوعة مسبقا.

أمّا على الصعيد البشري (الاجتماعي) فتتكون وتتوطد طبقة تجمع شيئا فشيئا كل الميزات المطلوبة لتحقيق هذه الثورة الاجتماعية: «إن الرأسمالية تنتج مع البروليتاريا حفاري قبورها» هذه البروليتاريا المتركزة في مشاريع كبرى فاقدة أي أمل بالارتقاء الاجتماعي الفردي، تكتسب عبر نضالها الطبقي اليومي تلك الصفات الأساسية، المتمثلة بالتضامن الجماعي والتعاون والانضباط في العمل، التي تسمح بإعادة تنظيم أساسية لكل الحياة الاقتصادية والاجتماعية.

وكلما تفاقمت التناقضات الملازمة للرأسمالية كلما احتدم الصراع الطبقي، وكلما مهد تطور الرأسمالية طريق الثورة، كلما أخذ وجهة انفجارات متنوعة (اقتصادية واجتماعية وسياسية وعسكرية ومالية، الخ..) يمكن للبروليتاريا أن تعمل خلالها لانتزاع السلطة السياسية وإنجاز الثورة الاجتماعية.

 

3- تطور الحركة العمالية الحديثة

 

إلاّ أن تاريخ الرأسمالية وتاريخ الحركة العمالية لم يتبعا خطا واضحا ومستقيما بالقدر الذي كان يأمله الماركسيون حوالي عام 1880.

إن التناقضات الداخلية للاقتصاد والمجتمع في البلدان الإمبريالية لم تحتدم فورا. على العكس من ذلك، شهدت أوروبا الغربية والولايات المتحدة ما بين هزيمة كومونة باريس واندلاع الحرب العالمية الأولى مرحلة طويلة من الازدهار لقوى الإنتاج، بطيء تارة، ومتسارع طورا، غطى «النشاط التدميري» لتناقضات النظام الداخلية وطمسه.

تلك التناقضات انفجرت بعنف عام 1914، وقد كان بين علاماتها الأولى على وجه الخصوص ثورة 1905 الروسية والإضراب العام لشغيلة النمسا في العام ذاته. إلاّ أن التجربة المباشرة للشغيلة والحركة العمالية في تلك البلدان لم تكن تعكس تعمقا لتناقضات النظام، بل على العكس الاعتقاد بتطور تدريجي، سلمي إلى حد بعيد ولا رجعة فيه، للتقدم نحو الاشتراكية (لم يكن الأمر هو ذاته في أوروبا الشرقية، من هنا الوزن المحدود لتلك الأوهام في بلدانها المختلفة).

لا شك أن الأرباح الكولونيالية الفائضة التي راكمها الإمبرياليون سمحت لهم بتقديم إصلاحات لشغيلة البلدان الغربية. إلاّ أنه ينبغي أن نأخذ بالحسبان عوامل أخرى لفهم هذا التطور.

إن الهجرة الواسعة نحو البلدان البعيدة وازدهار الصادرات الأوروبية وجهة سائر بلدان المعمور حدث على المدى الطويل من «ضخامة جيش الاحتياط الصناعي». لقد تحسنت هكذا موازين القوى بين رأس المال والعمل، في «سوق العمل»، لصالح الشغيلة، مما خلق قواعد لازدهار نقابية جماهيرية لا تقتصر على العمال المتخصصين وحدهم. لقد ارتعبت البورجوازية إزاء كومونة باريس والإضرابات العنيفة في بلجيكا (1886-1893)، والصعود الذي لا يقاوم في الظاهر للاشتراكية-الديموقراطية الألمانية، كما عملت على تهدئة الجماهير المنتفضة عن طريق إصلاحات اجتماعية.

كانت النتيجة العملية للتطور المشار إليه حركة عمالية في الغرب تكتفي على الصعيد العملي بالنضال من أجل إصلاحات ممكنة التحقيق فورا: من مثل زيادة الأجور وتدعيم التشريع الاجتماعي وتوسيع الحريات الديموقراطية، الخ… كانت تلك الحركة تحول المعركة من أجل ثورة اجتماعية إلى حقل الدعاية الأدبية وتربية الكادرات. توقفت هكذا عن إعداد نفسها بصورة واعية للثورة الاشتراكية، معتقدة أنه تكفي تقوية المنظمات الجماهيرية للبروليتاريا لكي تلعب هذه القوة العملاقة آليا، «ما أن تحل ساعة الحسم»، دورا ثوريا.

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.