ألمكتبة

• كتاب / مدخل الى الاشتراكية العلمية .. الجزء الثاني

ارنست ماندل

كتاب / مدخل الى الاشتراكية العلمية .. الجزء الثاني

 

6 - رأسمالية الاحتكارات

 

لا يبقى سير نمط الإنتاج الرأسمالي على حاله منذ نشأته. فبدون تناول رأسمالية المانيفكتورات التي تمتد من القرن السادس عشر حتى الثامن عشر، يمكن تمييز طورين في تاريخ الرأسمالية الصناعية بحصر المعنى:

 

  طور رأسمالية المزاحمة الحرة الذي يبدأ بالثورة الصناعية (بعد عام 1760) وينتهي في ثمانينات القرن التاسع عشر.

 

  طور الإمبريالية الذي يمتد منذ ثمانينات القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا.

 

1- من المزاحمة الحرة إلى الاتفاقات الرأسمالية

 

طوال الطور الأول من وجود الرأسمالية الصناعية تميزت بوجود عدد كبير من المنشآت المستقلة في كل فرع من الفروع الصناعية. ولم يكن بوسع أية منشأة أن تسيطر على السوق. فكانت كل واحدة تحاول أن تبيع بثمن أقل لتتمكن من تصريف بضاعتها.

تبدل هذا الوضع عندما أدى التركز والتمركز الرأسماليان إلى أنه لم يبق في جملة من الفروع الصناعية سوى عدد محدود من المنشآت ينتج بمجمله 60% أو 70% أو 80% من الإنتاج. فأصبح بإمكان هذه المنشآت أن تتحد لتحاول الهيمنة على السوق، أي الكف عن خفض أسعار المبيع، وذلك بتوزيع منافذ التصريف بينها حسب ميزان القوى الراهن.

لقد سهلت مثل هذا الانحدار للمزاحمة الحرة الرأسمالية ثورة تكنولوجية هامة حدثت في الوقت نفسه: استبدال المحرك البخاري بالمحرك الكهربائي والمحرك الانفجاري كمصدر الطاقة الرئيسي في الصناعة وفروع النقليات الرئيسية. فتطورت جملة من الصناعات الحديثة -الصناعة الكهربائية، صناعة الأجهزة الكهربائية، الصناعة النفطية، صناعة السيارات، الكيمياء التركيبية- تطلبت تكاليف إنشاء أهم بكثير مما في الفروع الصناعية القديمة، الأمر الذي قلص منذ البدء عدد المتزاحمين الممكنين.

إن الأشكال الرئيسية للاتحادات بين الرأسماليين هي:

-الكارتيل والنقابة في فرع صناعي، حيث تحافظ كل منشأة مشتركة في الاتحاد على استقلالها

 

  التروست واندماج المنشآت، حيث يزول هذا الاستقلال ضمن شركة عملاقة واحدة.

 

  المجموعة المالية والشركات الكبرى (holding) حيث يسيطر عدد صغير من الرأسماليين على منشآت عديدة في بضعة فروع صناعية، تبقى مستقلة قانونيا بعضها عن البعض الآخر.

 

2- التركزات المصرفية والرأسمال المالي

 

إن سيرورة تركز وتمركز الرأسمال ذاتها التي تتحقق في مجال الصناعة والنقاليات تحصل أيضا في مجال المصاريف. وفي نهاية هذا التطور، يهيمن عدد صغير من المصارف العملاقة على مجمل الحياة المالية في البلدان الرأسمالية.

إن الدور الرئيسي للمصارف في النظام الرأسمالي هو منح قروض للمنشآت. وعندما يصبح التركز المصرفي متقدما جدا، يحوز عدد صغير من رجال المصارف على احتكار فعلي لمنح القروض. ويجرهم هذا الأمر إلى تخطي سلوك الدائنين السلبيين، الذين يكتفون بقبض الفوائد على الرساميل المقروضة بانتظار تسديد القروض عندما يبلغ الدين أجله.

فالمصارف التي تمنح قروضا للمنشآت العاملة في نشاطات متماثلة أو متصلة، تجد مصلحة كبيرة في ضمان إيرادية جميع هذه المنشآت وملاءتها. إن مصلحتها تقتضي بأن تحول دون سقوط الأرباح إلى الصفر بنتيجة مزاحمة شرسة. فتتدخل المصارف بالتالي للإسراع في التركز والتمركز الصناعيين، ولفرضهما أحيانا.

وفي قيامها بهذا الدور، تستطيع أن تتخذ مبادرات تنشيط لخلق تروستات كبيرة. وتستطيع كذلك أن تستعمل مواقعها الاحتكارية في مجال الاقراض لتحصل لقاء القروض على مساهمات في رأسمال المنشآت الكبيرة. هكذا يتطور الرأسمال المالي، أي الرأسمال المصرفي الذي يدخل في الصناعة ويحتل فيها موقع مهيمنا.

فتبرز في قمة هرم السلطة في عصر رأسمالية الاحتكارات مجموعات مالية تسيطر في آن واحد على المصارف وعلى مؤسسات مالية أخرى (مثل شركات التأمين) وعلى التروستات الكبيرة في الصناعة والنقليات وعلى المخازن الكبرى، الخ. إن حفنة من كبار الرأسماليين، اشتهرت بينها «العائلات الستون» في الولايات المتحدة الأمريكية «والمائتا عائلة» في فرنسا، تمسك بيدها جميع مقاليد السلطة الاقتصادية في البلدان الإمبريالية.

في بلجيكا، تسيطر نحو عشر مجموعات مالية على القسم الأساسي من الاقتصاد، إلى جانب بعض المجموعات الأجنبية الكبيرة. وفي الولايات المتحدة، تمارس بعض المجموعات المالية (لاسيما مورغان، روكفيلر، ديبون، ملون، مجموعة شيكاغو، مجموعة كليفلاند، بنك أوف أميركا، الخ) هيمنة واسعة جدا على مجمل الحياة الاقتصادية. والأمر كذلك في اليابان حيث أعادت الزيباتسو (تراستات) القديمة تشكيل نفسها بسهولة بعد أن بدا أنها تفككت إثر الحرب العالمية الثانية. والمجموعات اليابانية الرئيسية هي ميتسوبيشي وميستوي وايتوه وسوميدومو وماروبيني.

 

3- رأسمالية الاحتكارات ورأسمالية المزاحمة الحرة.

 

لا يعني ظهور الاحتكارات أن المزاحمة الحرة زالت. ولا يعني بالأحرى أن كل فرع صناعي أصبح تحت الهيمنة النهائية لمنشأة واحدة. بل يعني قبل كل شيء وفي قطاعات الاحتكارات:

أ- إن المزاحمة لم تعد تجري بصورة عادية عن طريق خفض الأسعار.

ب- أن التروستات الكبيرة أصبحت، بنتيجة ذلك، تحصل على أرباح فائضة احتكارية، أي على معدل ربح أعلى من معدل ربح المنشآت العاملة في القطاعات غير الاحتكارية.

وتستمر المزاحمة من جهة أخرى:

أ- داخل قطاعات الاقتصاد غير الاحتكارية وهي لا زالت عديدة.

ب- بين الاحتكارات، بصورة عادية عن طريق تقنيات غير خفض أسعار المبيع (لا سيما خفض سعر الكلفة، والاعلانات، الخ)، وبصورة استثنائية أيضا عن طريق «حرب أسعار»، خاصة عندما يكون ميزان القوى بين التروستات قد تغير، وتكون الغاية تكييف تقسيم الأسواق مع ميزان القوى الجديد هذا.

ج- بين الاحتكارات «القومية» في السوق العالمية، عن الطريق «العادية» لـ«حرب الأسعار» بصورة رئيسية. بيد أن تركز الرأسمال يمكن أن يتقدم إلى حد أنه حتى في السوق العالمية، لا يبقى سوى بعض المنشآت في فرع من الفروع الصناعية، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى خلق كارتيلات دولية تتقاسم منافذ التصريف.

 

4- تصدير الرساميل

 

لا تستطيع الاحتكارات أن تسيطر على الأسواق الاحتكارية إلاّ شرط أن تحد من ازدياد الإنتاج فيها، وبالتالي تراكم الرأسمال. لكن هذه الاحتكارات ذاتها تحوز من جهة أخرى على رساميل وافرة، لا سيما بنتيجة الأرباح الفائضة الاحتكارية التي تحققها. إن عصر الرأسمالية الإمبريالي يتميز إذا بظاهرة الرساميل الفائضة في أيدي احتكارات البلدان الإمبريالية، وهي رساميل تبحث عن حقول جديدة للتوظيفات فيصبح تصدير الرساميل هو أيضا ميزة رئيسية للعصر الإمبريالي.

هذه الرساميل تصدر نحو بلدان يمكن أن تحقق فيها ربحا أعلى من الربح المتوسط في القطاعات المتزاحمة في البلدان الإمبريالية، لتحفز في تلك البلدان صناعات مكملة للصناعة الإمبريالية. ويجري استعمالها قبل كل شيء لتطوير إنتاج مواد أولية نباتية ومعدنية في البلدان المتخلفة (في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية).

طالما كانت الرأسمالية تعمل في السوق العالمية لبيع بضائعها وشراء مواد أولية ومؤن فحسب، لم يكن لديها مصلحة كبيرة في شق طريقها بالقوة العسكرية (بيد أن هذه القوة كانت تستعمل لهدم الحواجز أمام دخول البضائع -مثلا، حرب الأفيون التي خاضتها بريطانيا العظمى لتجبر الإمبراطورية الصينية على رفع الموانع التي أعاقت استيراد الأفيون القادم من الهند البريطانية). لكن هذا الوضع تغير عندما بدأ تصدير الرساميل يحتل مكانة مهيمنة في عمليات الرأسمال الدولية.

وفي حين يدفع ثمن بضاعة مباعة خلال بضعة أشهر كحد أقصى، لا يتم استهلاك رساميل موظفة في بلد ما سوى بعد سنوات طويلة. فتصبح بالتالي لدى القوى الإمبريالية مصلحة كبيرة في إقامة رقابة دائمة على البلدان التي وظفت فيها تلك الرساميل. ويمكن أن تكون هذه الرقابة غير مباشرة -من خلال حكومات عميلة للخارج لكنها في دول مستقلة شكليا- في البلدان شبه المستعمرة. كما يمكن أن تكون مباشرة - من خلال إدارة تابعة مباشرة للدول الإمبريالية- في البلدان المستعمرة. إن العصر الإمبريالي يتميز إذا بـ ميل إلى تقسيم العالم إلى إمبراطوريات استعمارية ومناطق نفوذ للدول الإمبريالية الكبرى.

لقد حصل هذا التقسيم في فترة معينة (خاصة في حقبة 1880-1900) وفقا لميزان القوى القائم في تلك الفترة: هيمنة بريطانيا العظمى، القوة الهامة للإمبرياليات الفرنسية والهولندية والبلجيكية، الضعف النسبي للدول الإمبريالية «الشابة»: ألمانيا، الولايات المتحدة، إيطاليا واليابان.

وسوف تجهد الدول الإمبريالية «الشابة» بواسطة سلسلة من الحروب الإمبريالية لتستعمل تبدل ميزان القوى من أجل تغيير هذا التقسيم للعالم لصالحها: الحرب الروسية-اليابانية، الحرب العالمية الأولى، الحرب العالمية الثانية.

إنها حروب تخاض لأجل النهب، للحصول على حقول لتوظيف الرساميل ومصادر مواد أولية ومنافذ تصريف مميزة، وليست حروب من أجل «مثال» سياسي («مع الديموقراطية أو ضدها»، مع الاستبدادية أو ضدها، مع الفاشية أو ضدها) والملاحظة ذاتها تنطبق على حروب الفتح الاستعماري التي تتخلل العصر الإمبريالي (لا سيما، في القرن العشرين، حرب إيطاليا ضد تركيا والحرب الصينية-اليابانية وحرب إيطاليا ضد الحبشة) أو الحروب الاستعمارية ضد حركات تحرر الشعوب (حرب الجزائر، حرب فيتنام، الخ). التي يسعى فيها أحد الطرفين وراء النهب بينما يدافع الشعب المستعمَر أو شبه المستعمر عن قضية عادلة بسعيه وراء الإفلات من الاستعباد الإمبريالي.

 

5-البلدان الإمبريالية والبلدان التابعة

 

هكذا، فإن العصر الإمبريالي لا يشهد إقامة سيطرة لحفنة من كبار رجال المال والصناعة على الأمم الإمبريالية فحسب. بل يتميز أيضا بإقامة سيطرة للبرجوازية الإمبريالية في حفنة من البلدان على شعوب البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة، التي تمثل ثلثي الجنس البشري.

وتستخرج البرجوازية الإمبريالية ثروات طائلة من البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة. وتدر رساميلها الموظفة في هذه البلدان أرباحا فائضة استعمارية، يتم تصديرها من جديد إلى الدول الإمبريالية. إن التقسيم العالمي للعمل القائم على مبادلة منتجات الصناعة الإمبريالية بمواد أولية مستخرجة في المستعمرات، هذا التقسيم يؤدي إلى تبادل غير متساو، تبادل فيه البلدان الفقيرة كميات كبرى من العمل (لأنه عمل أقل كثافة) بكميات أدنى من العمل (لأنه عمل أكثر كثافة) تصدرها البلدان الإمبريالية. وتتمول الإدارة الاستعمارية بواسطة ضرائب تنتزعها من الشعوب المستعمرة، وتصدر جزءا هاما منها إلى الدولة الإمبريالية.

جميع هذه الموارد المستخرجة من البلدان التابعة تضيع بالنسبة لتمويل نموها الاقتصادي. هكذا فإن الإمبريالية أحد مصادر التخلف الرئيسية بالنسبة لجنوب الكرة الأرضية.

 

6- عصر الرأسمالية المتأخرة

 

يمكن تقسيم العصر الإمبريالي بدوره إلى طورين: عصر الإمبريالية «الكلاسيكية» الذي يشمل حقبة ما قبل الحرب العالمية الأولى وحقبة ما بين الحربين، وعصر الرأسمالية المتأخرة الذي يبدأ مع الحرب العالمية الثانية أو مع نهايتها.

في هذا العصر من انحدار الرأسمالية، يمتد تركز وتمركز الرأسمال أكثر فأكثر على الصعيد العالمي. ففي حين شكل التروست الاحتكاري القومي «الخلية الأساسية» في العصر الإمبريالي الكلاسيكي، أصبحت الشركة متعددة القوميات هي «الخلية الأساسية» في عصر الرأسمالية المتأخرة. بيد أن عصر الرأسمالية المتأخرة يتميز في الوقت نفسه بتسارع للابتكار التكنولوجي وبحقب أقصر لاستهلاك الرأسمال الموظف في الآلات وباضطرار المنشآت الكبرى لحساب تكاليفها وتوظيفاتها ولتخطيطها بصورة أكثر دقة، وبالميل إلى البرمجة الاقتصادية للدولة الذي ينجم بصورة طبيعية عن ذاك الاضطرار.

كذلك فإن تدخل الدولة الاقتصادي يتزايد بنتيجة اضطرار البرجوازية لتعوّم بمساعدة الدولة قطاعات صناعية أصبحت في وضع من الإفلاس المزمن، ولتمول بواسطة الدولة قطاعات طليعية لم تصبح بعد مربحة، ولتؤمن عن طريق الدولة ضمانة لأرباح الاحتكارات الكبرى، لاسيما بواسطة طلبيات الدولة (خاصة، وليس حصرا، طلبيات عسكرية) والإعانات والمساعدات، الخ.

هذا التداول المتزايد للإنتاج من جهة، وهذا التدخل المتزايد للدولة القومية في الحياة الاقتصادية من جهة أخرى، يسببان جملة من التناقضات الجديدة في عصر الرأسمالية المتأخرة، أحد تعبيراتها الرئيسية أزمة النظام النقدي العالمي التي يغذيها التضخم الدائم.

ويتميز عصر الرأسمالية المتأخرة أيضا بتفكك معمم للإمبراطوريات الاستعمارية وبتحول البلدان المستعمرة إلى بلدان شبه مستعمرة وبإعادة توجيه تصديرات الرساميل التي أصبحت الآن تنتقل قبل كل شيء من بلد إمبريالي إلى آخر وليس من البلدان الإمبريالية إلى البلدان المستعمرة، وببداية تصنيع (محصور خاصة في دائرة السلع الاستهلاكية) في البلدان شبه المستعمرة. إن هذا التصنيع ليس فقط محاولة من قبل البرجوازية المحلية في البلدان التابعة لكبح حركات التمرد الشعبية، بل هو أيضا نتيجة لكون تصديرات الآلات والسلع التجهيزية تشكل اليوم القسم الأعظم من تصديرات البلدان الامبريالية ذاتها.

فلا التحولات التي حدثت في سير الاقتصاد الرأسمالي داخل البلدان الإمبريالية بالذات، ولا التحولات المتعلقة باقتصاد البلدان شبه المستعمرة وبالسير الإجمالي للنظام الإمبريالي، تسمح إذا بإعادة النظر في الاستنتاج الذي وصل اليه لينين قبل أكثر من نصف قرن والمتعلق بالمعنى التاريخي الإجمالي للعصر الإمبريالي. إنه عصر تفاقم جميع التناقضات بين الإمبرياليات. إنه عصر شعاره النزاعات العنيفة والحروب الإمبريالية وحروب التحرر القومي والحروب الأهلية. إنه عصر الثورات والثورات المضادة، والانفجارات الأكثر فأكثر خطورة، وليس عصر تقدم هادئ وسلمي للحضارة.

وكم هو أحرى أن نستبعد الأساطير التي تقول أن الاقتصاد الغربي الحالي لم يعد اقتصادا رأسماليا بحصر المعنى. إن الانكماش المعمم للاقتصاد الرأسمالي الدولي في سنتي 1974-1975 قد سدد ضربة قاضية للأطروحة القائلة أننا نعيش في «اقتصاد مختلط» مزعوم، يسمح فيه تنظيم الحياة الاقتصادية من قبل السلطات العامة بتأمين النمو الاقتصادي والعمالة الكاملة وتوسيع رفاهية الجميع بصورة غير منقطعة. لقد أثبت الواقع مرة أخرى أن مقتضيات الربح الخاص لا زالت تتحكم بهذا الاقتصاد وتتسبب فيه دوريا ببطالة جماهيرية وفيض إنتاج، وأنه بالتالي اقتصاد لا يزال رأسماليا.

كذلك فإن الأطروحة القائلة أن المدراء والبيروقراطية، بل التكنوقراطيين والعلماء، لا أكبر التجمعات الرأسمالية، هم الذين يديرون المجتمع الغربي، أطروحة لا تستند إلى أي برهان علمي جدي. إن العديد من «سادة» المجتمع هؤلاء قد فقدوا منصبهم خلال فترتي الانكماش الأخيرتين. فإن انتداب السلطات الذي يقبل به الرأسمال الكبير ويحسنه داخل الشركات العملاقة التي يسيطر عليها، يشمل معظم صلاحياته التقليدية، ما عدا الجوهري: قرارات التعيين الأخير حول الأشكال والتوجهات الأساسية لاستثمار الرأسمال وتراكمه، أي كل ما يتعلق بـ«أقدس المقدسات»: أولوية ربح الاحتكارات، التي يمكن التضحية في سبيلها بتوزيع أرباح الأسهم على المساهمين. فالذين يرون في هذا الأمر برهانا على أن الملكية الخاصة لم تعد مهمة، ينسون الميل إلى التضحية بملكية الصغار الخاصة لأجل ملكية حفنة من الكبار، وهو ميل مهيمن منذ بداية الرأسمالية.

*******

 

 

7/ النظام الإمبريالي

 

1- التصنيع الرأسمالي وقانون التطور المتفاوت والمركب

 

ولدت الرأسمالية الصناعية الحديثة في بريطانيا العظمى. وامتدت تدريجيا، خلال القرن التاسع عشر، إلى معظم بلدان أوروبا الغربية والوسطى وإلى الولايات المتحدة، ولاحقا إلى اليابان. وقد بدا أن وجود بعض البلدان ذات التصنيع الأولي لم يكن حائلا دون دخول الرأسمالية الصناعية وتوسعها في سلسلة متتالية من البلدان السائرة على درب التصنيع.

على العكس، فقد دمرت الصناعة الكبيرة البريطانية والبلجيكية والفرنسية، دمرت في تلك البلدان وبدون رحمة أشكال الإنتاج ما قبل الصناعية (الصناعة الحرفية والصناعة المنزلية). لكن الرساميل البريطانية والبلجيكية والفرنسية كانت لا تزال لديها حقول واسعة للتوظيفات مفتوحة أمامها في بلدانها الخاصة. وهكذا فقد حلت إجمالا صناعة حديثة قومية تدريجيا محل الصناعة الحرفية التي دمرتها مزاحمة البضائع الأجنبية الرخيصة. هذا ما حصل بالأخص بالنسبة لإنتاج المنسوجات في ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا والنمسا وبوهيميا وروسيا القيصرية (بما فيها بولندا) والبلدان الواطئة، الخ.

ومع ولادة العصر الإمبريالي ورأسمالية الاحتكارات، تبدل هذا الوضع تبدلا كليا. فمنذ ذلك التاريخ، لم يعد سير السوق الرأسمالية العالمية يسهل التطور الرأسمالي «العادي»، ولاسيما التصنيع في العمق، للبلدان المتخلفة، بل أصبح بالعكس يعرقله. وتفقد عبارة ماركس القائلة أن كل بلد متقدم يدل بلدا اقل تطورا على صورة مستقبله الخاص، تفقد هذه العبارة صحتها التي حافظت عليها طوال عصر الرأسمالية المزاحمة الحرة.

ثلاثة عوامل رئيسية (وعوامل إضافية عديدة لن نذكرها) تحدد هذا التغير الأساسي في سير الاقتصاد الرأسمالي الدولي:

أ- اتساع الإنتاج بالجملة للعديد من بضائع البلدان الإمبريالية التي تغرق السوق العالمية وتحوز على تقدم في الإنتاجية وسعر الكلفة بالنسبة لكل إنتاج صناعي أولي في البلدان المتخلفة إلى حد أن هذا الإنتاج الأخير لا يعود يستطيع أن ينطلق فعلا على صعيد واسع ويصمد جديا في وجه مزاحمة الإنتاج الأجنبي. فتصبح الصناعة الغربية (ولاحقا الصناعة اليابانية أيضا) هي التي تستفيد أكثر فأكثر بعد تلك المرحلة من الإفلاس التدريجي للصناعة الحرفية والصناعة المنزلية والمانيفكتورة في بلدان أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا.

ب- أن فائض الرساميل، الذي يظهر بصورة دائمة إلى هذا الحد أو ذاك في البلدان الرأسمالية المصنعة التي تسيطر الاحتكارات عليها تدريجيا، يطلق حركة واسعة من تصدير الرساميل نحو البلدان المتخلفة ويطور فيها فروع إنتاج مكملة وليست منافسة بالنسبة للصناعة الغربية. هكذا فإن الرساميل الأجنبية التي تهيمن على اقتصاد هذه البلدان تفرض عليها التخصص في إنتاج المواد الأولية المعدنية والنباتية وفي إنتاج المؤن. علاوة على ذلك، ففي هذه البلدان التي تنحدر تدريجيا إلى وضع البلدان المستعمرة أو شبه المستعمرة، تدافع الدولة قبل كل شيء عن مصالح الرأسمال الأجنبي. فهي لا تتخذ بالتالي حتى الإجراءات البسيطة لحماية الصناعة الجنينية ضد مزاحمة المنتجات المستوردة.

ج- تخلق هيمنة الرساميل الأجنبية على اقتصاد البلدان التابعة وضعا اقتصاديا واجتماعيا تحافظ فيه الدولة على مصالح الطبقات السائدة القديمة وتدعمها، بربطها بمصالح الرأسمال الإمبريالي، بدل إزالتها بصورة جذرية إلى هذا الحد أو ذاك كما جرى خلال الثورات الديموقراطية-البرجوازية الكبرى في أوروبا الغربية والولايات المتحدة.

إن مجمل هذا التطور الجديد للاقتصاد الرأسمالي الدولي في عصر الإمبريالي يمكن تلخيصه بقانون التطور المتفاوت والمركب. فالبنية الاجتماعية والاقتصادية في البلدان المتخلفة -أو في جملة من هذه البلدان على الأقل- ليست في سماتها الأساسية بنية مجتمع إقطاعي صرف ولا بنية مجتمع رأسمالي صرف. تحت تأثير هيمنة الرأسمال الإمبريالي، تدمج هذه البنية بصورة استثنائية سمات إقطاعية وشبه إقطاعية وشبه رأسمالية ورأسمالية. إن القوة الاجتماعية السائدة هي قوة الرأسمال -لكنه إجمالا الرأسمال الأجنبي. فالبورجوازية المحلية لا تمارس بالتالي السلطة السياسية. ولا تتألف غالبية السكان بالتالي من الأجراء، ولا من الأقنان بوجه عام، بل من فلاحين يخضعون بدرجات متفاوتة لابتزاز الملاك العقاريين شبه الإقطاعيين وشبه الرأسماليين والتجار- المرابين وجباة الضرائب. وبالرغم من أن هذا الجمهور الكبير يعيش جزئيا خارج الإنتاج البضاعي بل خارج الإنتاج النقدي، فإنه يصاب بالنتائج الكارثية لتذبذبات أسعار المواد الأولية في السوق الإمبريالية العالمية من خلال النتائج الإجمالية التي تجرها هذه التذبذبات على الاقتصاد القومي.

 

2-استغلال البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة من قبل الرأسمال الإمبريالي

 

إن تدفق الرساميل الأجنبية نحو البلدان التابعة، المستعمرة وشبه المستعمرة، قد تسبب طوال عقود متعاقبة بالنهب والاستغلال والاضطهاد لأكثر من مليار إنسان من قبل الرأسمال الإمبريالي، الأمر الذي يشكل إحدى الجرائم الرئيسية التي تقع مسئوليتها على النظام الرأسمالي في تاريخه. وإذا ظهرت الرأسمالية على الأرض وهي تنضح الدم والعرق من جميع مسامها كما قال ماركس، فإن هذا التعريف لا ينطبق في مكان بالدقة التي ينطبق بها في البلدان التابعة.

يندرج العصر الإمبريالي في المقام الأول تحت شعار الفتح الاستعماري. طبعا، إن الاستعمار أقدم من الإمبريالية. فقد سبق أن أحل الفاتحون الإسبان والبرتغاليون الحرق والقتل في الجزر الخضراء والرأس الأخضر وكذلك في بلدان أمريكا الوسطى والجنوبية، مبيدين في كل مكان تقريبا قسما كبيرا من السكان المحليين، إن لم يكن جميعهم. ولم يتصرف المستعمرون البيض بطريقة أكثر إنسانية إزاء هنود أمريكا الشمالية. وترافق فتح إمبراطورية الهند من قبل بريطانيا العظمى بسلسلة من الفضاعات، وكذلك بالنسبة لفتح الجزائر من قبل فرنسا.

ومع ولادة العصر الإمبريالي، امتدت هذه الفضاعات إلى قسم كبير من إفريقيا وآسيا وأوقيانيا. فتعاقبت على نطاق واسع المجازر ونقل السكان وطرد الفلاحين من أراضيهم وإدخال العمل الإجباري، إن لم يكن القنانة بالفعل.

إن العنصرية «تبرر» هذه الممارسات اللا إنسانية بتأكيدها على تفوق العرق الأبيض و«رسالته التاريخية الحضارية». وبصورة أكثر حذاقة، تجرد العنصرية الشعوب المستعمرة من ماضيها الخاص وثقافتها الخاصة وعزتها العرقية، لا بل تجردها من لغتها في الوقت نفسه الذي تنتزع فيه منها ثرواتها القومية وقسما هاما من ثمار عملها.

وإذا تجرأ العبيد المستعمرون على التمرد ضد السيطرة الاستعمارية، جرى قمعهم بوحشية أفظع من أن توصف. نساء وأطفال هنود ذهبوا ضحية المجازر في حرب الهنود في الولايات المتحدة، «متمردون» هنديون وضعوا أمام مدافع أطلقت النار، قبائل في الشرق الأوسط قصفها الطيران الملكي البريطاني بلا رحمة، عشرات الآلاف من الجزائريين المدنيين ذهبوا ضحية المجازر «انتقاما» من الانتفاضة الوطنية في ماي 1945: كل ذلك ينذر بأوحش فظاعات النازية، بما فيها الإبادة الجماعية الصريحة، بل يكررها تماما. وإذا سخط برجوازيو أوروبا وأمريكا على هتلر سخطا شديدا، فلأنه ارتكب جريمة انتهاك العرق الأبيض عندما طبق على شعوب أوروبية، لحساب الإمبريالية الألمانية، ما أصاب شعوب آسيا وأمريكا وأفريقيا على يد الإمبريالية العالمية.

إن اقتصاد البلدان التابعة خاضع برمته لمصالح الرأسمال الأجنبي وما يفرضه. ففي معظم هذه البلدان، تصل السكك الحديدية مراكز الإنتاج العاملة من أجل التصدير بالموانئ، لكنها لا تصل المراكز المدينة الرئيسية بعضها ببعض. ويخدم البناء التحتي المؤمَّن نشاطات الاستيراد والتصدير، أمّا الشبكات المدرسية والصحية والثقافية فتعاني من تخلف مخيف. إن القسم الأعظم من السكان يعاني من الأمية والجهل والبؤس.

أكيد أن دخول الرأسمال الأجنبي قد سمح بتطور معين للقوى المنتجة وخلق بعض المدن الصناعية الكبيرة وطوّر جنينا متفاوت الأهمية من البروليتاريا في الموانئ والمناجم والمزارع والسكك الحديدية والإدارة العامة.

بيد أننا نستطيع أن نقول بدون مبالغة أن مستوى معيشة السكان المتوسطين في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية (عدا بعض البلدان صاحبة الامتيازات) قد راوح مكانه أو تراجع خلال ثلاث أرباع القرن التي تفصل بين بداية الاندفاع نحو الاستعمار الشامل للبلدان المتخلفة وانتصار الثورة الصينية.

 

3-«الكتلة الطبقية» الحاكمة في البلدان شبه المستعمرة

 

لكي نفهم فهما أكثر تعمقا الطريقة التي «جمدت» بها السيطرة الإمبريالية البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة في تطورها وحالت دون تصنيع تدريجي «عادي» فيها على النمط الرأسمالي الغربي، يجب أن نوسع الشرح أكثر حول طبيعة «كتلة الطبقات الاجتماعية» الحاكمة في هذه البلدان خلال العصر الإمبريالي «الكلاسيكي» وما تستتبعه هذه «الكتلة» بالنسبة للتطور الاقتصادي والاجتماعي.

عندما يدخل الرأسمال الأجنبي بكثافة إلى البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة، تكون الطبقة السائدة المحلية مؤلفة إجمالا من ملاك عقاريين (شبه إقطاعيين وشبه رأسماليين بمقادير تختلف حسب البلد المعني) متحالفين مع الرأسمال التجاري والمصرفي أوالمرابي. أمّا في البلدان الأكثر تخلفا كبلدان أفريقيا السوداء، فإننا نجد مجتمعات قبلية في طور التفكك تحت التأثير المديد لتجارة العبيد.

ويتحالف إجمالا الرأسمال الأجنبي مع هذه الطبقات السائدة المحلية ويعاملها كوسيطات لاستغلال الفلاحين والشغيلة المحليين ويدعم علاقاتها الاستغلالية مع شعوبها الخاصة. حتى أنه يرفع أحيانا بصورة هامة درجة الاستغلال هذا بشكله ما قبل الرأسمالي ويدمجه مع إدخال أشكال جديدة من الاستغلال الرأسمالي. ففي البنغال، حوّل الاستعمار البريطاني الزمندار، الذين كانوا في الأمس مجرد جباة ضرائب في خدمة الأباطرة المغول، حولهم إلى ملاك كاملي الحقوق للأراضي التي كانوا يجبون الضرائب عليها.

هكذا تظهر ثلاث طبقات اجتماعية هجينة في مجتمع البلدان المتخلفة، تطبع بطابعها تجميد تطور هذه البلدان الاقتصادي والاجتماعي:

 

  طبقة البرجوازية الكومبرادورية، وهي برجوازية محلية تتكون في البدء من مجرد شركاء تعينهم المؤسسات الأجنبية للاستيراد والتصدير، ويغتنون من ثم ويتحولون تدريجيا إلى مقاولين مستقلين. غير أن منشآتهم تنحصر بصورة رئيسية في دائرة التجارة (و«الخدمات») أمّا أرباحهم فتوظف إجمالا في التجارة والربا وشراء الأراضي والمضاربة العقارية.

 

  طبقة التجار-المرابين ( أو التجار-المرابين-الكولاك). إن الدخول البطيء للاقتصاد النقدي يفكك تقاليد التعاون داخل المشاعة القروية. ومع تعاقب المحاصيل السيئة والجيدة، على أراض خصبة إلى هذا الحد أو ذاك، يتقدم التفاضل الاجتماعي في القرية بدون رحمة. ويتواجه الفلاحون الأغنياء والفلاحون الفقراء، ويخضع هؤلاء أكثر فأكثر لأولئك، حيث يضطر الفلاحون الفقراء إلى الاستدانة لشراء البذور والمؤن عندما لا يكفي المحصول حتى لتغطية الحاجات الأكثر أولية. فيقعون تحت تبعية التجار-المرابين- الفلاحين الأغنياء الذين يصادرون منهم تدريجيا ملكية حقولهم ويخضعونهم لإبتزازات لا تحصى.

 

  طبقة شبه البروليتاريا الريفية (التي شملت لاحقا «الهامشيين» المدينيين). إن الفلاحين المفقرين والمطرودين من أراضيهم لا يجدون عملا في الصناعة، نظرا لتخلفها. فيضطرون إلى البقاء في الريف أو يؤجرون سواعدهم للفلاحين الأغنياء أو يستأجرون قطع أرض لكي يحصلوا منها على عيشة بائسة لقاء ريع عقاري (أو حصة من المحصول في نظام المحاصصة) أكثر فأكثر بهظا. وكلما زاد بؤسهم ونقص استخدامهم قوة، كان الريع الذي هم على استعداد لدفعه لاستئجار حقل أكثر ارتفاعا. وكلما كان الريع العقاري أكثر ارتفاعا، تراجعت مصلحة أصحاب الرساميل في توظيفها في الصناعة بل يستخدمون رساميلهم بالأحرى لشراء الأرض. وكلما كان بؤس جمهور الفلاحين أكبر، ضاقت السوق الداخلية للسلع الاستهلاكية وبقيت الصناعة متخلفة وبقي نقص الاستخدام قويا.

ليس التخلف إذا نتيجة لنقص مطلق في الرساميل أو الموارد. بل بعكس ذلك، غالبا ما تشكل حصة النتاج الاجتماعي الفائض من الدخل القومي حصة أكبر في البلدان المتخلفة مما في البلدان المصنعة. إن التخلف نتاج بنية اجتماعية واقتصادية، ناجمة عن السيطرة الامبريالية، تجعل تراكم الرساميل النقدية لا يتجه بصورة رئيسية نحو التصنيع ولا حتى نحو التوظيف المنتج، الأمر الذي يتسبب في نقص استخدام (كمي ونوعي) ضخم إذا ما قورن بالبلدان الإمبريالية.


  

4- حركة التحرر القومي

 

كان محتما مع مرور الزمن ألا يخضع مئات الملايين من البشر لنظام استغلال واضطهاد كانت تفرضه عليهم حفنة من كبار رأسماليي البلدان الإمبريالية بواسطة الأجهزة الإدارية والقمعية لتي في خدمتها. فمدت حركة تحرر قومي جذورها تدريجيا في صفوف المثقفين الشباب في بلدان أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، حركة تبنت أفكارا ديموقراطية-برجوازية بل شبه اشتراكية واشتراكية من أفكار الغرب، لتعارض السيطرة الأجنبية على بلادها. إن النزعة القومية ذات التوجه المعادي للإمبريالية، تتمحور في البلدان التابعة حول المصالح المختلفة لثلاث قوى اجتماعية:

 

  يتم تبنيها قبل كل شيء من قبل البرجوازية القومية الصناعية الفتية، في كل مكان تحوز فيه هذه الأخيرة على قاعدة مادية خاصة تجعل مصالحها تتزاحم مع مصالح الدول الإمبريالية المسيطرة. إن المثال الأكثر نموذجية في هذا الصدد هو مثال حزب المؤتمر الهندي الذي قاده غاندي والذي دعمته بقوة المجموعات الصناعية الهندية الكبيرة.

 

  بحفز من الثورة الروسية، يمكن أن يتم تبني النزعة القومية من قبل الحركة العمالية الناشئة التي سوف تجعل منها على الأخص أداة تعبئة للجماهير المدينية والقروية ضد السلطة القائمة. إن المثال الأكثر نموذجية في هذا الصدد هو مثال الحزب الشيوعي الصيني منذ العشرينات ومثال الحزب الشيوعي في الهند الصينية في العقود اللاحقة.

 

  يمكن أن تحفز النزعة القومية انفجار تمردات للبرجوازية الصغيرة المدينية وللفلاحين، تتخذ كشكل سياسي شكل النزعة الشعبية القومية. إن ثورة 1910 المكسيكية هي النموذج الأخص لهذا الشكل من الحركة المناهضة للإمبريالية.

بوجه عام، فإن تأزم النظام الإمبريالي الذي عرف تمزقات داخلية متتالية -هزيمة روسيا القيصرية في الحرب ضد اليابان في سنتي 1904-1905، ثورة عام 1905 الروسية، الحرب العالمية الأولى، ثورة عام 1917 الروسية، ظهور الحركة الجماهيرية في الهند والصين، أزمة سنوات 1929-1932 الاقتصادية، الحرب العالمية الثانية، هزائم الإمبريالية الغربية على يد الإمبريالية اليابانية في سنتي 1941-1942، هزيمة الإمبريالية اليابانية في سنة 1945- تأزم النظام الإمبريالي هذا قد حفز حركة التحرر القومي في البلدان التابعة حفزا قويا. وقد تلقت هذه الحركة دفعها الرئيسي عند انتصار الثورة الصينية عام 1949.

إن المشكلات التكتيكية والاستراتيجية التي تنجم عن ظهور حركة التحرر القومي في البلدان المستعمَرة والشبه المستعمَرة، بالنسبة للحركة العمالية العالمية (والمحلية في البلدان التابعة)، سوف يتم تناولها بصورة أكثر تفصيلا في الفصل العاشر، النقطة 4، والفصل الثالث عشر، النقطة 4. أما هنا فنكتفي بالتأكيد على أن الواجب الخاص للحركة العمالية في البلدان الإمبريالية هو أن تؤيد بلا شروط كل حركة وكل عمل فعلي تقوم بهما جماهير البلدان المستعمَرة والشبه المستعمَرة ضد الاستغلال والاضطهاد اللذين تعاني منهما على يد الدول الإمبريالية. هذا الوالجب يقتضي تمييزا صارما بين الحروب الإمبريالية، وهي حروب رجعية، وحروب التحرر القومي التي هي حروب عادلة بصرف النظر عن القوة السياسية التي تقود الشعب المضطهد في هذه المرحلة من النضال أو تلك، وينبغي على البروليتاريا العالمية في هذه الحروب أن تعمل لأجل انتصار الشعوب المضطهدة.

 

5-الاستعمار الجديد

 

إن ازدهار حركة التحرر القومي غداة الحرب العالمية الثانية قد جر الإمبريالية إلى تعديل أشكال سيطرتها على البلدان المتخلفة. فقد تحولت هذه السيطرة تدريجيا من سيطرة مباشرة إلى غير مباشرة. وقد تقلص بسرعة عدد المستعمرات بحصر المعنى، التي تديرها الدول الاستعمارية مباشرة. وانتقل هذا العدد، في غضون عقدين، من حوالي السبعين إلى بعض الوحدات فقط. وانهارت بمعظمها الإمبراطوريات الاستعمارية الإيطالية والبريطانية والهولندية والفرنسية وأخيرا البرتغالية والإسبانية.

لم يحصل طبعا زوال الإمبراطوريات الاستعمارية هذا دون مقاومة دموية ومضادة للثورة من قبل قطاعات هامة من الرأسمال الإمبريالي. تشهد على ذلك الحروب الاستعمارية الدموية التي خاضتها الإمبريالية الهولندية في أندونيسيا، والإمبريالية البريطانية في ماليزيا وفي كينيا، والإمبريالية الفرنسية في الهند الصينية وفي الجزائر، كما تشهد عليه «الحملات» الأقصر مدة لكن التي لا تقل دموية لحملة السويس سنة 1956 ضد مصر. غير أن هذه الأعمال المشؤومة تبدو تاريخيا كمعارك رجعية. يقينا أن الاستعمار المباشر كان محكوما عليه بالوزال.

بيد أن زواله لا يعني البتة تفكك النظام الإمبريالي العالمي. بل يستمر هذا النظام في الوجود، وإن في أشكال معدلة. فتبقى الغالبية العظمى من البلدان شبه المستعمرة محصورة في تصدير المواد الأولية. وتظل خاضعة لجميع النتائج المضرة للتبادل الاستغلالي غير المتساوي. ويستمر التباعد، بدل التقارب، بين درجة تطور هذه البلدان ودرجة تطور البلدان الإمبريالية . ويزداد بعد المسافة بين القسم «الشمالي» والقسم «الجنوبي» من الكرة الأرضية، من حيث الدخل الفردي ومستوى الرفاهية.

هذا ويقتضي تحول السيطرة الإمبريالية المباشرة إلى سيطرة إمبريالية غير مباشرة على البلدان المتخلفة، إشراكا أوثق للبرجوازية الصناعية «القومية» في استغلال الجماهير الكادحة في هذه البلدان، ويستتبع أيضا إسراعا ما لسيرورة التصنيع في جملة من البلدان شبه المستعمرة. هذا ينجم في آن واحد عن تبدل موازين القوى السياسية (أي أنه يشكل تنازلا محتما للنظام تحت ضغط الجماهير المتعاظم) وعن تبدل المصالح الأساسية للمجموعات الإمبريالية الرئيسية بذاتها.

إن طبيعة البضائع المصدرة من قبل البلدان الإمبريالية قد شهدت بالفعل تبدلا هاما. وأصبحت فئة «الآلات والسلع التجهيزية ووسائل النقل» تحتل فيها الصدارة بعد أن كانت تحتلها فئتا السلع الاستهلاكية والفولاذ. والحال أنه يستحيل أن تصدر التروستات الاحتكارية الرئيسية قدرا أكبر فأكبر من الآلات إلى البلدان التابعة دون أن تحفز فيها بعض أشكال التصنيع (المحصور إجمالا وبوجه خاص في صناعة السلع الاستهلاكية).

ومن جهة أخرى، فإن الشركات متعددة القوميات تجد في إطار استراتيجيتها العالمية مصلحة في الانغراس في عدد من البلدان التابعة لتحتل فيها السوق منذ البدء تقريبا، نظرا لتوسع المبيعات اللاحق الذي تتوقعه. هكذا تتعمم صيغة المنشآت المشتركة (joint-ventures) بين الرأسمال الإمبريالي والرأسمال الصناعي «القومي» في تلك البلدان، أكان رأسمالا خاصا أو رأسمال دولة، حيث تشكل هذه الصيغة إحدى ميزات البنية شبه الاستعمارية. ويزداد بالتالي ثقل الطبقة العاملة في المجتمع.

هذه البنية تظل منخرطة في منظومة إمبريالية قاسية واستغلالية. ويبقى التصنيع محدودا، حيث تكاد «سوقه الداخلية» لا تتعدى إجمالا ما بين 20% و25% من السكان: الطبقات الميسورة + التقنيون والكوادر، الخ + الفلاحون الأغنياء. ويضل بؤس الجماهير هائلا. فتتزايد التناقضات الاجتماعية بدل أن تتقلص: من هنا تبقى طاقة الانفجارات الثورية المتتالية في البلدان التابعة.

في هذه الشروط، تكتسب شريحة اجتماعية جديدة أهمية: أنها بيروقراطية الدولة التي «تدير» إجمالا قطاعا مؤمما هاما وتنصب نفسها ممثلة للاهتمامات القومية تجاه الخارج، لكنها تستغل في الواقع احتكارها للإدارة لتجري تراكمها الخاص على نطاق واسع.

 

*******

 

 

8- نشأة الحركة العمالية الحديثة

 

منذ أن وجد عمال مأجورون، أي قبل تكون الرأسمالية الحديثة بكثير، حصلت ظاهرات صراع طبقي بين أرباب العمل والعمال. فالصراع الطبقي ليس بنتاج نشاطات تحريضية من قبل أفراد «يدعون إليه». بالعكس، فإن مذهب الصراع الطبقي هو نتاج ممارسة الصراع الطبقي التي سبقته.

 

1- الصراع الطبقي الأولي للبروليتاريا

 

تتمحور التجليات الأولية لصراع الأجراء الطبقي حول مطالب ثلاثة على الدوام. هذه المطالب هي التالية:

أ. زيادة الأجور. وهي وسيلة فورية لتعديل توزيع الناتج الاجتماعي بين أرباب العمل والعمال لصالح الأجراء.

ب. إنقاص ساعات العمل دون تخفيض الأجر، وهي وسيلة مباشرة أخرى لتعديل هذا التوزيع لصالح الشغيلة.

ج. حرية التنظيم. ففي حين يستحوذ رب العمل، مالك رأس المال ووسائل الإنتاج، على القوة الاقتصادية، يجد العمال أنفسهم منزوعي السلاح طالما هم يخوضون فيها بينهم صراعا تنافسيا للحصول على عمل. ضمن هذه الشروط، تصب «قواعد اللعبة» في صالح الرأسماليين على وجه الحصر، الذين يستطيعون تخفيض مستوى الأجور قدر ما يشاءون، فيما يضطر العمال للقبول بها خشية فقدان عملهم، وبالتالي لقمة عيشهم.

ليس للشغيلة فرصة الحصول على منافع من خلال النضال الذي يواجهون به أرباب العمل، إلاّ عن طريق إلغاء هذه المنافسة التي تفرق بينهم، ورفضهم جميعا أن يعملوا ضمن شروط غير ممكن قبولها. إن التجربة تعلمهم سريعا أنه إن لم تكن لهم حرية التنظيم، كانوا منزوعي السلاح في مواجهة الضغط الرأسمالي.

لقد اتخذ الصراع الطبقي الأولي الذي يخوضه البروليتاريون طابعا تقليديا يتمثل بالرفض الجماعي للعمل، أي بالإضراب. وينقل لنا مدونو أخبار قصص إضرابات حدثت في مصر والصين القديمتين. لدينا كذلك وقائع إضرابات حدثت في مصر في ظل الإمبراطورية الرومانية، لاسيما في القرن الأول من التاريخ الميلادي.

 

2- الوعي الطبقي الأولي للبروليتاريا

 

إن تنظيم إضراب يتطلب على الدوام درجة ما -أولية- من التنظيم الطبقي. يتطلب على وجه الخصوص معرفة أن خلاص كل من الأجراء يتوقف على عمل جماعي، وهو حل قائم على التضامن الطبقي، بالتعارض مع الحل الفردي (المتمثل بمحاولة زيادة الربح الفردي دون اهتمام بدخول بقية الأجراء).

هذه المعرفة هي الشكل الأولى للوعي الطبقي البروليتاري. يضاف إلى ذلك أن المأجورين يتعلمون فطريا خلال تنظيم إضراب أن ينشئوا صناديق مساعدة. يتم إنشاء صناديق مساعدة والتعاون هذه أيضا للتخفيف قليلا من عدم استقرار الوجود العمالي، وللسماح للبروليتاريين بالدفاع عن أنفسهم خلال فترات البطالة، الخ. تلك هي الأشكال الأولية للتنظيم الطبقي.

إلاّ أن هذه الأشكال الأولية من الوعي والتنظيم الطبقيين لا تتطلب وعي الأهداف التاريخية للحركة العمالية، ولا فهم ضرورة عمل سياسي مستقل من جانب الطبقة العاملة.

هكذا تجد الأشكال الأولى للعمل السياسي العمالي موقعها إلى أقصى يسار الراديكالية البرجوازية الصغيرة. إن مؤامرة المتساوين التي نظمها غراكوس بابوف [20]، والتي تمثل أول حركة سياسية حديثة تهدف إلى تجميع وسائل الإنتاج، ظهرت إبان الثورة الفرنسية إلى أقصى يسار اليعاقبة.

يهيئ لمجيء مجتمع اشتراكي، ويهيئ القوى المادية والأدبية London Corresponding Society التي حاولت تنظيم حركة تضامن مع الثورة الفرنسية. إلاّ أن القمع البوليسي تمكن من سحق المنظمة المذكورة. لكن نشأت على الفور، بعد نهاية الحروب النابوليونية، رابطة الاقتراع العام التي تشكلت في منطقة مانشستر-ليفربول الصناعية من عمال على وجه الخصوص، وكانت إلى أقصى يسار الحزب الراديكالي (البورجوازي الصغير). لقد تسارع بعد أحداث بيترلو الدامية في عام 1817 انفصال حركة عمالية مستقلة عن الحركة البورجوازية الصغيرة، ونشأ هكذا بعد قليل الحزب الشارطي أول حزب عمالي بصورة أساسية، يطالب بالاقتراع العام.

 

3- الاشتراكية الطوباوية

 

تلك الحركات الأولية للطبقة العاملة قادها كلها إلى حد بعيد عمال بالذات، أي عصاميون autodidactes كانوا غالبا ما يصوغون أفكار ساذجة حول موضوعات تاريخية واقتصادية واجتماعية، تتطلب دراسات علمية متينة كي تتم معالجتها بعمق. تطورت تلك الحركات إذا على هامش التطور العلمي في القرنين 17 و18. على عكس ذلك، وفي إطار هذا التطور العلمي بالذات تقع جهود أوائل المفكرين الكبار الطوباويين من أمثال توماس مور (مستشار إنكلترا في القرن 16)، وكامبانيلا (كاتب إيطالي في القرن 17)، وروبيرت أوين، وشارل فورييه وسان سيمون (كتّاب في القرنين 18 و19). حاول هؤلاء الكتّاب أن يجمعوا كل معارف عصرهم العلمية ليقوموا بصياغة:

أ. نقد حاد للا مساواة الاجتماعية، لا سيما تلك التي تميز المجتمع البورجوازي (وهو ما يعني أوين وفورييه وسان سيمون)

ب. مخطط تنظيم مجتمع متساو، قائم على الملكية الجماعية.

بهدين الوجهين لعمل كبار الاشتراكيين الطوباويين، يشكل هؤلاء الرواد الحقيقيين للاشتراكية الحديثة. إلاّ أن ضعف نظامهم يكمن في:

أ. واقع أن المجتمع المثالي الذي يحلمون به (من هنا تعبير الاشتراكية الطوباوية) ينطرح كمثل أعلى مطلوب بناؤه وبلوغه دفعة واحدة عبر جهد للفهم يبذله الناس وإرادة حسنة، وذلك من دونما علاقة بالتطور التاريخي الذي يؤدي إليه المجتمع الرأسمالي بالذات إلى هذا الحد أو ذاك.

ب. واقع أن تفسيرات الظروف التي ظهرت خلالها اللا مساواة الاجتماعية والتي يمكن أن تختفي خلالها، هي تفسيرات ناقصة علميا وتقوم على عوامل ثانوية (العنف، الأخلاق، المال، علم النفس، الجهل، الخ)، ولا تنطلق من المشكلات البنيوية الاقتصادية والاجتماعية، مشكلات التفاعل بين علاقات الإنتاج ومستوى تطور قوى الإنتاج.

 

4- ولادة النظرية الماركسية -البيان الشيوعي

 

في هذين الحقلين بالذات، نرى أن إرساء النظرية الماركسية في الأيديولوجية الألمانية (1845)، وخصوصا، في البيان الشيوعي (1847) الذي وضعه ماركس وإنجلز، إنما يشكل تقدما حاسما. فمع النظرية الماركسية، يتجسد الوعي الطبقي العمالي في نظرية علمية من المستوى الأرفع.

لم يكتشف ماركس وإنجلز مفهومي الطبقة الاجتماعية والصراع الطبقي، فهذان المفهومان كان يعرفهما الاشتراكيون الطوباويون وبورجوازيون آخرون من مثل المؤرخين الفرنسيين تييري وغيزو. بيد أنهما شرحا علميا أصل الطبقات، وأسباب تطور الطبقات، وواقع إمكان تفسير التاريخ الإنساني بكامله انطلاقا من مفهوم صراع الطبقات، وعلى وجه الخصوص الشروط المادية والمعنوية التي بموجبها يمكن لانقسام المجتمع إلى طبقات أن يخلي المجال لمجتمع اشتراكي خال من الطبقات.

لقد فسرا من جهة أخرى كيف أن تطور الرأسمالية بالذات يهيء لمجيء مجتمع اشتراكي، ويهيئ القوى المادية والأدبية التي تضمن انتصار المجتمع الجديد. لا يعود هذا المجتمع يظهر مذاك كمجرد محصلة لأحلام الناس ورغباتهم، بل كالناتج المنطقي لتطور التاريخ البشري.

هكذا يمثل البيان الشيوعي شكلا أسمى من الوعي الطبقي البروليتاري. يعلّم الطبقة العاملة أن المجتمع الاشتراكي سوف يكون ناتج صراعها الطبقي ضد البورجوازية. إنه يعلمها ضرورة ألاّ تكتفي بالنضال من أجل زيادة الأجور، وأن تعمل بالتالي لإلغاء العمل المأجور. يعلمها على وجه الخصوص ضرورة تشكيل أحزاب عمالية مستقلة، وأن تستكمل عملها المتمثل بمطالب اقتصادية بعمل سياسي على الصعيدين القومي والأممي.

لقد ولدت الحركة العمالية الحديثة إذا من الاندماج بين الصراع الطبقي الأولي للطبقة العاملة والوعي الطبقي البروليتاري البالغ درجته العليا من التعبير المتجسدة في النظرية الماركسية.

 

5- الأممية الأولى

 

هذا الاندماج هو مآل كل تطور الحركة العمالية الأممية بين الخمسينات والثمانينات من القرن 19.

وخلال ثورات 1848 التي هزت أركان معظم بلدان أوروبا، لم تظهر الطبقة العاملة في أي مكان، ما عدا في ألمانيا (في جمعية الشيوعيين الصغيرة، التي كان يقودها ماركس) كحزب سياسي بالمعنى الحديث للكلمة. كانت تسير في كل مكان في ذيل الراديكالية البورجوازية الصغيرة، إلاّ أنها انفصلت في فرنسا عن هذه الأخيرة إبان أيام يونيو الدامية عام 1848، دون أن تتمكن من تشكيل حزب سياسي مستقل (كانت المجموعات الثورية التي شكلها أوغست بلانكي نواته إلى هذا الحد أو ذاك). واثر سنوات الردة الرجعية التي تلت هزيمة ثورة 1848، كانت المنظمات النقابية والتعاونية التابعة للطبقة العاملة هي التي تطورت قبل كل شيء في معظم البلدان، باستثناء ألمانيا، حيث سمح التحريض من أجل الاقتراع العام للاسال أن يشكل حزبا سياسيا عماليا هو الجمعية العامة للشغيلة الألمان.

لقد اندمج ماركس والمجموعة الصغيرة من نصرائه اندماجا حقيقيا مع الحركة العمالية الأولية في ذلك العصر بتأسيس الأممية الأولى عام 1864، وقد هيأوا بذلك تشكيل الأحزاب الاشتراكية في معظم بلدان أوروبا. ومن قبيل المفارقة البالغة أن الأحزاب التي اجتمعت لتشكيل الأممية الأولى لم تكن أحزابا عمالية. إن تشكيل هذه الأخيرة هو الذي سمح بالتجميع القومي لمجموعات محلية ونقابية انضمت إلى الأممية الأولى.

وحين تصدعت الأممية بعد هزيمة كومونة باريس احتفظ العمال الطليعيون بوعي ضرورة تجمع من هذا النوع على المستوى القومي. وخلال السبعينات والثمانينات، وبعد العديد من المحاولات الفاشلة، تشكلت نهائيا أحزاب اشتراكية مستندة إلى الحركة العمالية الأولية في ذلك الزمن. وكانت الإستثناءات المهمة الوحيدة لهذه السيرورة هي بريطانيا العظمى والولايات المتحدة، فالأحزاب الاشتراكية التي تشكلت فيهما في ذلك العصر بالذات بقيت على هامش حركة نقابية كانت قد أصبحت قوية. ولم يظهر حزب العمال المستند إلى النقابات في بريطانيا إلاّ في القرن العشرين. وفي الولايات المتحدة، ما يزال إنشاء حزب من هذا النوع هو المهمة الملحة للحركة العمالية.

 

6-الأشكال المختلفة لتنظيم الحركة العمالية

 

يسمح لنا هذا بأن نوضح أن النقابات وشركات التعاون mutualites والأحزاب الاشتراكية قد ظهرت تقريبا كالنواتج العفوية المحتومة للنضال داخل المجتمع الرأسمالي، وأن الأمر يتوقف في النهاية على عوامل متعلقة بالتراث والأحوال القومية إذا كان شكل ما يتطور قبل شكل آخر.

أمّا التعاونيات فليست الناتج العفوي للصراع الطبقي، بل ناتج المبادرة التي قام بها روبيرت أوين ورفاقه عام 1844 حين أسسوا أول تعاونية في روشدال في إنكلترا.

إن أهمية الحركة التعاونية لا تنكر، لا فقط لأنه يمكنها أن تكون مدرسة تسيير عمالي للاقتصاد بالنسبة للطبقة العاملة، بل خصوصا لأنها يمكن أن تهيئ داخل المجتمع الرأسمالي بالذات حل واحدة من المشكلات الأكثر صعوبة في المجتمع الاشتراكي، مشكلة التوزيع. بيد أنها تنطوي في الوقت ذاته على طاقة كامنة خطيرة من المنافسة الاقتصادية داخل النظام الرأسمالي مع مشاريع رأسمالية، وهي منافسة لا يمكن إلاّ أن تؤدي إلى نتائج مشؤومة بالنسبة إلى الطبقة العاملة وخصوصا إلى تخريب الوعي الطبقي البروليتاريا.

 

7- كومونة باريس

 

تلخص كومونة باريس كل الاتجاهات التي برزت في أصل الحركة العمالية الحديثة وفي أوائل تفتحها. لقد ولدت من الحركة العمالية الجماهيرية العفوية لا من خطة أو برنامج وضعهما حزب عمالي بصورة مسبقة، وبيّنت اتجاه الطبقة العاملة لتخفي الطور الاقتصادي الصرف من نضالها -إن الأصل المباشر للكومونة سياسي للغاية، وهو يتمثل في حذر عمال باريس تجاه البورجوازية المتهمة بنيتها تسليم المدينة للجيوش البروسية التي كانت تحاصرها- وذلك بالدمج المستمر للمطالب الاقتصادية والمطالب السياسية. حملت الطبقة العاملة للمرة الأولى على استلام السلطة السياسية، ولو على أرض مدينة واحدة. لقد عكست اتجاه الطبقة العاملة لتدمير جهاز الدولة البورجوازي واستبدال الديموقراطية البورجوازية بديموقراطية بروليتارية هي شكل رفيع من الديموقراطية. بيّنت كذلك أنه من دون قيادة ثورية واعية فإن البطولة العارمة التي تعبر عنها البروليتاريا في خضم معركة ثورية تظل غير كافية لضمان النصر.

*******

 

 

 

9- إصلاحات وثورة

 

إن ولادة الحركة العمالية الحديثة وتطورها داخل المجتمع الرأسمالي يقدمان لنا مثلا عن العمل المتبادل الذي يمارسه الواحد حيال الآخر، كل من الوسط الاجتماعي الذي يتواجد ضمنه الناس، بالاستقلال عن إرادتهم، والعمل الواعي إلى هذا الحد أو ذاك الذي يطورونه لتغيير هذا الوسط.

***

 

1- التطور والثورة عبر التاريخ

 

أن التغييرات على صعيد النظام الاجتماعي، التي حدثت عبر العصور، كانت على الدوام نتيجة تغيير مفاجئ وعنيف، بفعل حروب أو ثورات أو شيء من هذه وتلك. ليس من دولة قائمة في أيامنا هذه إلاّ وكانت ناتج هكذا خضات ثورية، فلقد قامت الدولة الأمريكية على قاعدة ثورة 1776 وحرب 1861-1865 الأهلية، ونشأت الدولة البريطانية عن ثورة 1648 وثورة 1689، والدولة الفرنسية عن ثورات 1789 و1830 و1848 و1870، والدولة البلجيكية عن ثورة 1830. والدولة النيرلندية عن ثورة البلدان الواطئة في القرن 16، والدولة الألمانية عن حروب 1870-1871، و1914-1918 و1939-1945، وعن ثورات 1848 و1918 الخ..

إلاّ أنه من قبيل الخطأ الافتراض أنه يكفي استخدام العنف للتمكن من تغيير البنية الاجتماعية حسب مشيئة المقاتلين. فلكي تقوم ثورة بإحداث تغيير حقيقي في المجتمع وفي ظروف حياة الطبقات الكادحة، ينبغي أن يسبقها تطور يخلق داخل المجتمع القديم القواعد المادية (الاقتصادية والتقنية و…) والبشرية (الطبقات الاجتماعية المتميزة ببعض السمات النوعية الخاصة بها) للمجتمع الجديد، إذ حين لا تتوفر تلك القواعد، تنتهي الثورات، مهما تكن عنيفة، إلى وضع تعيد معه إنتاج الظروف التي هدفت إلى إلغائها.

إن الانتفاضات الفلاحية الظافرة التي تتعاقب على امتداد التاريخ الصيني تقدم لنا المثال الكلاسيكي على هذا الواقع، فهي تمثل في كل مرة رد فعل الشعب ضد المظالم والأعباء الضريبية التي لا تطاق، التي كانت تلحق بالفلاحين في فترات انحطاط السلالات المتعاقبة التي حكمت الإمبراطورية السماوية. وقد كانت تؤدي تلك الانتفاضات إلى قلب سلالة ووصول أخرى إلى السلطة، منبثقة غالبا عن قادة الانتفاضة الفلاحية ذاتهم، كما كانت الحال مع سلالة الهانيين.

إن السلالة الجديدة تشرع بإرساء شروط معيشة أفضل بالنسبة للفلاحين. لكن بقدر ما تتوطد سلطتها وتتدعم إدارتها، تزيد نفقات الدولة، وهو ما يستتبع زيادة الضرائب، فيشرع الماندرينيون [20]، الذين يدفع لهم في البداية صندوق الدولة، بإساءة استخدام سلطتهم ويقتطعون لأنفسهم ملكيات اعتباطية على حساب أراضي الفلاحين، ناهبين منها ريعا «عقاريا» يضاف إلى الضريبة.

هكذا تعقب عقودا من الحياة الفضلى عودة الفلاحين إلى مهاوي البؤس. إن انعدام حدوث «قفزة إلى الأمام» على صعيد قوى الإنتاج، وغياب تطور صناعة حديثة قائمة على استخدام الآلات، يفسران هذا الطابع الدوري للثورات الاجتماعية في الصين القديمة، واستحالة توصل الفلاحين إلى تحرر طويل الأمد.

 

2-التطور والثورة في الرأسمالية الحديثة

 

لقد نجمت الرأسمالية المعاصرة هي الأخرى عن الثورات الاجتماعية والسياسية، ونعني بذلك الثورات البورجوازية الكبرى التي توالت بين القرنين 16 و18، والتي كانت في أساس قيام الدولة القومية. لقد مهد لهذه الثورات تطور سابق تمثل بنمو قوى الإنتاج داخل المجتمع الإقطاعي، تلك القوى التي غدت متعارضة مع استمرار القنانة والنقابات الحرفية والتضييقات المفرطة على التداول الحر للسلع.

لقد ولّد هذا التطور كذلك طبقة اجتماعية جديدة هي البورجوازية الحديثة التي تدربت على النضال السياسي في إطار كومونة القرون الوسطى، والمناوشات التي كانت تتم في ظل الملكية المطلقة، قبل الانطلاق في طريق الاستيلاء على السلطة السياسية.

إن المجتمع البورجوازي يتصف عند نقطة معينة من نموه بتطور يمهد حتما لثورة اجتماعية جديدة.

فعلى المستوى المادي، تنمو قوى الإنتاج إلى الحد الذي تصبح معه أكثر فأكثر تصادما مع الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج الرأسمالية. إن نمو الصناعة الكبيرة، وتركز الرأسمال وخلق التروستات، والتدخل المتزايد من جانب الدولة البورجوازية بغية «تنظيم» مسيرة الاقتصاد الرأسمالي، تمهد الطريق أمام تشريك (التملك الجماعي) وسائل الإنتاج، وأمام تسييرها من جانب المنتجين المتشاركين بالذات، وفقا لخطة موضوعة مسبقا.

أمّا على الصعيد البشري (الاجتماعي) فتتكون وتتوطد طبقة تجمع شيئا فشيئا كل الميزات المطلوبة لتحقيق هذه الثورة الاجتماعية: «إن الرأسمالية تنتج مع البروليتاريا حفاري قبورها» هذه البروليتاريا المتركزة في مشاريع كبرى فاقدة أي أمل بالارتقاء الاجتماعي الفردي، تكتسب عبر نضالها الطبقي اليومي تلك الصفات الأساسية، المتمثلة بالتضامن الجماعي والتعاون والانضباط في العمل، التي تسمح بإعادة تنظيم أساسية لكل الحياة الاقتصادية والاجتماعية.

وكلما تفاقمت التناقضات الملازمة للرأسمالية كلما احتدم الصراع الطبقي، وكلما مهد تطور الرأسمالية طريق الثورة، كلما أخذ وجهة انفجارات متنوعة (اقتصادية واجتماعية وسياسية وعسكرية ومالية، الخ..) يمكن للبروليتاريا أن تعمل خلالها لانتزاع السلطة السياسية وإنجاز الثورة الاجتماعية.

 

3- تطور الحركة العمالية الحديثة

 

إلاّ أن تاريخ الرأسمالية وتاريخ الحركة العمالية لم يتبعا خطا واضحا ومستقيما بالقدر الذي كان يأمله الماركسيون حوالي عام 1880.

إن التناقضات الداخلية للاقتصاد والمجتمع في البلدان الإمبريالية لم تحتدم فورا. على العكس من ذلك، شهدت أوروبا الغربية والولايات المتحدة ما بين هزيمة كومونة باريس واندلاع الحرب العالمية الأولى مرحلة طويلة من الازدهار لقوى الإنتاج، بطيء تارة، ومتسارع طورا، غطى «النشاط التدميري» لتناقضات النظام الداخلية وطمسه.

تلك التناقضات انفجرت بعنف عام 1914، وقد كان بين علاماتها الأولى على وجه الخصوص ثورة 1905 الروسية والإضراب العام لشغيلة النمسا في العام ذاته. إلاّ أن التجربة المباشرة للشغيلة والحركة العمالية في تلك البلدان لم تكن تعكس تعمقا لتناقضات النظام، بل على العكس الاعتقاد بتطور تدريجي، سلمي إلى حد بعيد ولا رجعة فيه، للتقدم نحو الاشتراكية (لم يكن الأمر هو ذاته في أوروبا الشرقية، من هنا الوزن المحدود لتلك الأوهام في بلدانها المختلفة).

لا شك أن الأرباح الكولونيالية الفائضة التي راكمها الإمبرياليون سمحت لهم بتقديم إصلاحات لشغيلة البلدان الغربية. إلاّ أنه ينبغي أن نأخذ بالحسبان عوامل أخرى لفهم هذا التطور.

إن الهجرة الواسعة نحو البلدان البعيدة وازدهار الصادرات الأوروبية وجهة سائر بلدان المعمور حدث على المدى الطويل من «ضخامة جيش الاحتياط الصناعي». لقد تحسنت هكذا موازين القوى بين رأس المال والعمل، في «سوق العمل»، لصالح الشغيلة، مما خلق قواعد لازدهار نقابية جماهيرية لا تقتصر على العمال المتخصصين وحدهم. لقد ارتعبت البورجوازية إزاء كومونة باريس والإضرابات العنيفة في بلجيكا (1886-1893)، والصعود الذي لا يقاوم في الظاهر للاشتراكية-الديموقراطية الألمانية، كما عملت على تهدئة الجماهير المنتفضة عن طريق إصلاحات اجتماعية.

كانت النتيجة العملية للتطور المشار إليه حركة عمالية في الغرب تكتفي على الصعيد العملي بالنضال من أجل إصلاحات ممكنة التحقيق فورا: من مثل زيادة الأجور وتدعيم التشريع الاجتماعي وتوسيع الحريات الديموقراطية، الخ… كانت تلك الحركة تحول المعركة من أجل ثورة اجتماعية إلى حقل الدعاية الأدبية وتربية الكادرات. توقفت هكذا عن إعداد نفسها بصورة واعية للثورة الاشتراكية، معتقدة أنه تكفي تقوية المنظمات الجماهيرية للبروليتاريا لكي تلعب هذه القوة العملاقة آليا، «ما أن تحل ساعة الحسم»، دورا ثوريا.


  

4- الانتهازية الإصلاحية

 

لم تكتف الأحزاب والنقابات الجماهيرية في أوروبا الغربية بأن تعكس تطورا مؤقتا لصراعات طبقية محصورة بمعظمها في حقل الاصلاحات، لقد أصبحت بدورها قوة سياسية زادت من حدة تكيف الحركة العمالية الجماهيرية مع الرأسمالية «المزدهرة» للبلدان الإمبريالية. أهملت الانتهازية الاشتراكية-الديموقراطية عملية إعداد الشغيلة للتغيرات المفاجئة في المناخ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي التي كانت تعلن عن نفسها، وأصبحت هكذا عاملا مهما سهل استمرار الرأسمالية على قيد الحياة في خضم سنوات 1914-1923.

تجلت الانتهازية على الصعيد النظري عن طريق مراجعة للماركسية أطلقها رسميا إدوارد برنشتاين («الحركة كل شيء، الهدف لا شيء») الذي كان يطلب من الاشتراكية-الديموقراطية أن تتخلى عن كل نشاط عدا ذلك الذي يتوخى إحداث إصلاحات في صلب النظام. أمّا «الحركة الماركسية الوسطية» المتمحورة حول كاوتسكي فقد كافحت النزعة المراجعة، إلاّ أنها قدمت لها في الوقت ذاته العديد من التنازلات، لاسيما عن طريق تبرير ممارسة للأحزاب والنقابات كانت تقترب أكثر فأكثر من النزعة المراجعة.

لقد تجلت الانتهازية على الصعيد العملي بقبول التحالف الانتخابي مع أحزاب بورجوازية «ليبرالية»، وبالقبول التدريجي للمشاركة الوزارية في حكومات تحالف مع البورجوازية، وبانعدام نضال منسجم ضد الاستعمار وتجليات أخرى للإمبريالية. إذا كانت هذه الانتهازية قد تلقت ضربة قاسية من نتائج ثورة 1905 في روسيا، فقد تجلت على وجه الخصوص في ألمانيا برفض الموافقة على اقتراح روزا لوكسمبورغ تفجير إضرابات جماهيرية لأهداف سياسية. كانت تعكس في الواقع المصالح الخاصة بجهاز بيروقراطي إصلاحي (نواب اشتراكيون ديموقراطيون، وموظفون في الحزب والنقابات حصلوا على مكاسب وفيرة داخل المجتمع البورجوازي).

ويدل هذا المثال على أن اكتساح الانتهازية الإصلاحية للحركة العمالية لم يكن أمرا محتوما. لقد كان بالإمكان القيام بنشاطات غير برلمانية وبإضرابات أكثر فأكثر اتساعا خلال السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى، وكان بإمكان تلك النشاطات أن تعد الجماهير العمالية للمهام التي طرحها الصعود الثوري عند نهاية تلك الحرب.

 

5- ضرورة بناء حزب طليعي

 

تثبت التجربة هكذا العناصر الأساسية للنظرية اللينينية حول حزب الطليعة. إذا كان للطبقة العاملة أن تنخرط بذاتها في نضالات طبقية بالغة الاتساع حول أهداف فورية، وإذا كان بإمكانها أن تبلغ مستوى أوليا من الوعي الطبقي، فلا يمكنها أن تصل تلقائيا إلى الأشكال العليا من الوعي الطبقي السياسي، التي لا غنى عنها من أجل توقع المنعطفات المفاجئة للوضع الموضوعي للتمكن من إنجاز مهام الحركة العمالية التي تترتب عليها، والتي لا غنى عنها كذلك للانتصار على المناورات البورجوازية وعلى كل التأثيرات التي يمكن أن تمارسها الأيديولوجية البورجوازية والبورجوازية الصغيرة على الجماهير الكادحة.

زد على ذلك أن الحركة الجماهيرية تمر حتما بحاولات متفاوتة فالجماهير الواسعة لا تبقى على الدوام عند مستوى مرتفع من النشاط السياسي. إن منظمة جماهيرية تسعى للتكيف مع المستوى المتوسط من نشاط تلك الجماهير ووعيها سوف تلعب إذا دورا كابحا لتفتح النشاط الثوري الذي لا يتم إلا في فترات محددة.

لهذه الأسباب جميعا لا غنى عن بناء منظمة طليعية للطبقة العاملة، لا غنى عن بناء حزب ثوري. هذا الحزب سوف يبقى أقليا في الأزمنة العادية، إلاّ أنه سيبقى على استمرارية نشاط مناضليه وعلى مستوى وعيهم. سوف يسمح بالحفاظ على مكاسب التجربة النضالية وبنشرها في الطبقة، ويظل مشدودا نحو نضالات ثورية قادمة، ويرى في تهيئة تلك النضالات رسالته الأساسية، وهو سيسهل هكذا إلى حد بعيد حدوث الانعطافات في ذهنية الشغيلة المنظمين والجماهير الكادحة الواسعة وفي سلوكها، وهي الانعطافات التي تتطلبها التبدلات المفاجئة للوضع الموضوعي.

طبعا،لا يمكن لأحزاب طليعية كهذه أن تحل محل الجماهير للسعي وراء تحقيق ثورة اجتماعية بالنيابة عنها. «لا يمكن لتحرير الشغيلة أن يكون إلاّ على أيدي الشغيلة أنفسهم». إن كسب أغلبية الشغيلة إلى جانب برنامج الحزب الثوري واستراتيجيته وتكتيكه هو الشرط المسبق الذي لا بد منه لكي يتمكن حزب طليعي من لعب دوره بالكامل.

لن يكون هذا الكسب ممكنا بصورة طبيعية إلاّ في لحظات «حارة» من الأزمنة ما قبل الثورية أو الثورية «يشير إليها» إنفجار حركات جماهيرية عفوية ضخمة. لذا ليس من تعارض مطلق بين عفوية الجماهير وضرورة بناء منظمة ثورية طليعية، فهذه الأخيرة تستند إلى تلك العفوية وتواصلها وتكملها وتسمح لها بالانتصار عن طريق تركيز كل طاقتها على النقطة الحساسة، المتمثلة بقلب السلطة السياسية والاقتصادية لرأس المال.

 

6- الثوريون إزاء النضال من أجل الإصلاحات

 

لقد تطورت، داخل شرائح أقلية في الحركة العمالية والطبقة العاملة، مواقف يسارية متطرفة ترفض أي نضال من أجل تحقيق الإصلاحات، وذلك كرد فعل تجاه الانتهازية الإصلاحية.

إن النزعة الإصلاحية لا تتماثل إطلاقا مع النضال من أجل الإصلاحات، في نظر الماركسيين الثوريين، فالإصلاحية هي وهم إلغاء الرأسمالية تدريجيا، عن طريق مراكمة الإصلاحات. إلاّ أنه يمكن دمج المساهمة في نضالات لتحقيق إصلاحات فورية مع إعداد الطليعة العمالية لنضالات مناهضة لرأس المال يصل حجمها إلى حد التسبب بأزمة ثورية في المجتمع.

إن الرفض الجذري لكل نضال من أجل إنجاز إصلاحات يستتبع القبول السلبي بتردي وضع الطبقة العاملة، إلى أن يأتي اليوم الذي تصبح هذه قادرة فيه على قلب النظام الرأسمالي بضربة واحدة. هذا الموقف هو في الوقت ذاته طوباوي ورجعي.

هو طوباوي لأنه يتجاهل أن الشغيلة المنقسمين على أنفسهم وفاقدي المعنويات، يوما بعد يوم، بفعل عجزهم عن الدفاع عن مستوى معيشتهم، وعن عملهم وحرياتهم وحقوقهم الأولية، ليسوا بقادرين أبدا على مواجهة ظافرة حيال طبقة اجتماعية تمتلك الثروة والتجربة السياسية، هي البورجوازية الحديثة. وهو رجعي لأنه يخدم موضوعيا قضية رأس المال وأرباب العمل الذين لهم مصلحة في خفض الأجور والإبقاء على بطالة كثيفة وإلغاء النقابات وحق الإضراب فيما لو ترك الشغيلة أنفسهم يتحولون إلى عبيد مكتوفي الأيدي.

يرى الماركسيون الثوريون في تحرر الشغيلة وقلب الرأسمالية نهاية مطاف حقبة من القوة التنظيمية المتزايدة لدى البروليتاريا، والتماسك والتضامن الطبقي المضاعف، والثقة المتنامية بقواها الخاصة. ولا يمكن لهذه التحولات الذاتية أن تنجم عن الدعاية وحدها أو التربية الفكرية. إنها حاصل نجاحات متراكمة إبان نضالات يومية هي النضالات من أجل الإصلاحات.

ليست الإصلاحية الناتج الآلي لتلك النضالات أو النجاحات. إنها نتيجتها في حالة واحدة تتحقق حين تمتنع الطليعة العمالية عن تربية الطبقة على فكرة ضرورة إطاحة النظام، حين تمتنع عن مكافحة تأثير الأيديولوجيا البورجوازية الصغيرة والبورجوازية داخل الطبقة العاملة، وعن الانخراط عمليا في نضالات جماهيرية غير برلمانية معادية لرأس المال تستهدف تجاوز طور الإصلاحات.

لابد للأسباب ذاتها من أن ينشط الثوريون في النقابات الجماهيرية ويناضلوا لتقوية المنظمات النقابية لا لإضعافها.

طبعا، تكون النقابات عاجزة عادة عن الإعداد لمعارك ثورية وعن تنظيمها، فليست تلك وظيفتها، إلاّ أنها ضرورية للدفاع عن مصالح الشغيلة يوما بيوم في وجه مصالح رأس المال. إن النضال الطبقي اليومي لا يختفي، حتى في عصر انحطاط الرأسمالية، فبدون نقابات قوية تضم جزءا عظيما من الطبقة العاملة، يتمتع أرباب العمل بفرص كبيرة للخروج منتصرين من تلك المناوشات اليومية. إن التشكك والحذر، من جانب الجماهير العمالية الواسعة حيال قواها الخاصة بها، اللذين ينتجان عن تجارب بائسة كهذه، يضران إلى حد بعيد بنمو وعي طبقي رفيع لدى تلك الجماهير.

يضاف إلى ذلك أن العمل النقابي لم يعد يتقوقع حتما في دائرة النضال من أجل رفع الأجور، ومن أجل خفض عدد ساعات العمل، في عصر الرأسمالية الحديثة، إذ أنه تواجه الشغيلة يوما بعد يوم مشكلات اقتصادية شاملة تؤثر على مستوى حياتهم، من مثل التضخم وإغلاق المعامل والبطالة وتسريع وثائر العمل ومحاولات الدولة للحد من ممارسة حق الإضراب والتفاوض الحر بخصوص الأجور، الخ… هكذا تجد النقابة نفسها مجبرة على اتخاذ موقف، عاجلا أو آجلا، من كل تلك المسائل، فتصبح إذا مدرسة تربية للطبقة العاملة تتناول بين ما تتناول مشكلات شاملة تطرحها الرأسمالية والاشتراكية. تصبح حلبة تتواجه فيها اتجاهات مؤيدة للتعاون الطبقي الدائم، لا بل لدمج النقابات في الدولة البورجوازية، واتجاهات نضال طبقي ترفض إلحاق مصالح الشغيلة بـ«مصلحة عامة» مزعومة، ليست سوى مصلحة رأس المال وقد تم تمويهها قليلا. وبما أن الثوريين المنخرطين في اتجاه الصراع الطبقي يدافعون ضمن هذه الشروط عن المصالح المباشرة للجمهور الكبير، في وجه محاولات حرف النقابات عن وظيفتها الأساسية، فإن لديهم حظا بالتأثير المتنامي داخل النقابات، شريطة أن يعملوا بصبر ومثابرة وألا يتخلوا عن حقل العمل الجماهيري هذا للبيروقراطيين والإصلاحيين واليمينيين من كل الأنواع.

يسعى الثوريون لكي يكونوا أفضل النقابيين أي لكي يضغطوا باتجاه تبني النقابات وأعضائها للاقتراحات المتعلقة بأهداف النضال وأشكال تنظيم النضالات، تلك الاقتراحات الأكثر توافقا مع المصالح الطبقية الفورية للشغيلة. إنهم لا يتوانون أبدا عن الدفاع عن تلك المصالح الفورية، في حين يطورون بلا انقطاع دعايتهم العامة لصالح الثورة الاشتراكية التي لا يمكن بدونها توطيد أي مكسب عمالي، ولا تقديم حل نهائي لأي مشكلة حيوية تخص الطبقة العاملة.

زد على ذلك أن البيروقراطية النقابية الأكثر فأكثر اندماجا في الدولة البورجوازية، والتي تعمد أكثر فأكثر إلى إحلال سياسة مصالحة طبقية و«سلام اجتماعي» محل مهمتها الأصلية المتمثلة بالدفاع الذي لا يلين عن مصالح أعضاء النقابات، تتولى إضعاف النقابة موضوعيا إذ تدوس بأقدامها يوما بعد يوم مشاغل وقناعات المنتسبين إليها. إن النضال من أجل الديموقراطية النقابية والنضال من أجل نقابية قائمة على الصراع الطبقي يتكاملان هكذا بصورة منطقية، في خضم المعارك اليومية.

******

 

 

10/ الديموقراطية البورجوازية والديموقراطية البروليتارية

 

1- الحرية الاقتصادية والحرية السياسية

 

إن الحرية السياسية والحرية الاقتصادية مفهومان متساويات في نظر الكثيرين ممن لا يفكرون بهذه المسألة، وهو ما تؤكده العقيدة الليبرالية على وجه الخصوص، هذه العقيدة التي تزعم اليوم اصطفافها «بجانب الحرية» في جميع الحقول، وبالطريقة ذاتها.

إلاّ أنه إذا أمكن تحديد الحرية السياسية بسهولة، بحيث لا تستتبع حرية البعض استعباد الغير، فليس الأمر هو ذاته بالنسبة للحرية الاقتصادية. إن لحظة من التفكير تبرهن أن معظم مظاهر هذه «الحرية الاقتصادية» تستتبع اللا مساواة على وجه التحديد، وحرمان جزء كبير من المجتمع من إمكانية الاستمتاع بهذه الحرية بالذات.

إن حرية شراء عبيد وبيعهم تفترض أن يكون المجتمع منقسما إلى مجموعتين: مجموعة العبيد ومجموعة أسياد العبيد، وتفترض حرية تملك وسائل الإنتاج الكبرى تملكا شخصيا وجود طبقة اجتماعية مضطرة لبيع قوة عملها، إذ ما الذي يمكن أن يفعله مالك مصنع كبير لو لم يكن أحد مضطرا للعمل لحساب الغير؟

لقد دافع بورجوازيو عصر صعود الرأسمالية المنسجمون مع أنفسهم عن مبدأ حرية تشغيل الأطفال في سن العشر سنوات بالأعمال المنجمية، وحرية إجبار الشغيلة على الكد ما بين 12 و14 ساعة في اليوم، إلاّ أنهم حظروا بشدة حرية واحدة، هي حرية تجمع الشغيلة التي منعها في فرنسا قانون لوشابلييه الذي تم تبنيه في أوج الثورة الفرنسية، بحجة تحظير كل التكتلات من أصل حرفي [20].

تختفي هذه التناقضات الظاهرة في الأيديولوجية البورجوازية منذ يعاد تنظيم كامل تلك المواقف حول موضوعة مركزية واحدة، تتمثل بالدفاع عن الملكية والمصلحة الطبقية الرأسماليتين. تلك هي قاعدة الأيديولوجية البورجوازية بمجملها، لا مجرد دفاع حازم عن «مبدأ» الحرية.

يظهر هذا بوضوح أكبر في تاريخ حق التصويت، فالبرلمانية الحديثة نشأت كتعبير عن حق البورجوازية في فرض رقابتها على النفقات العامة التي تمولها الضرائب التي تتولى هي دفعها. لقد أعلنت إبان ثورة 1649 الإنكليزية أن «لا ضرائب دون تمثيل» (برلماني) [21]، واستتبع ذلك منطقيا إنكار حق الطبقات الشعبية، التي لا تدفع ضرائب، بأن تدلي بأصواتها. الا يجد ممثلوها «الديماغوجيون» أنفسهم مدفوعين للتصويت «باستمرار» لصالح نفقات جديدة، طالما يتولى دفعها آخرون؟

مجددا نقول أن ما يوجد في أساس الأيديولوجية البورجوازية ليس مبدأ مساواة كل المواطنين في الحقوق (إن حق التصويت الذي يتمتع به دافعو الضرائب يدوس هذا المبدأ بالكثير من الوقاحة) ولا مبدأ الحرية السياسية المضمونة للجميع، بل مبدأ الدفاع عن الخزانات المالية وكبار المتمولين!

 

2- الدولة البرجوازية في خدمة مصالح رأس المال الطبقية

 

هكذا لم يكن صعبا إبان القرن 19 التوجه إلى الشغيلة بشرح مفاده أن الدولة البرجوازية لم تكن يوما «حيادية» في الصراع الطبقي، ولم تكن «حكما» بين رأس المال والعمل، وهي المكلفة بالدفاع عن «المصلحة العامة»، لا بل أنها مثلت أداة للدفاع عن مصالح رأس المال في وجه مصالح العمل.

لقد كان حق التصويت موقوفا على البرجوازية وحدها، ولها وحدها الحق المطلق لرفض تشغيل الشغيلة. وما أن أضرب العمال ورفضوا بمجموعهم بيع قوة عملهم بالشروط التي يمليها رأس المال، حتى ووجهوا برجال الدرك أوالجيش الذين أطلقوا عليهم النار. لقد كانت العدالة عدالة طبقية بما لا يقبل الشك، فالبرلمانيون والقضاء وكبار الضباط وكبار الموظفين الاستعماريين والوزراء والمطارنة كانوا ينتمون جميعا إلى الطبقة الاجتماعية ذاتها، وكانوا يرتبطون فيما بينهم جميعا بالروابط ذاتها، عنينا روابط المال والمصلحة، لا بل العائلة. أما الطبقة العاملة فكانت مستبعدة كليا عن هذا العالم الجميل!

تعدل هذا الوضع بدءا من اللحظة التي انطلقت فيها الحركة العمالية الحديثة، واكتسبت قوة تنظيمية مرهونة، وانتزعت حق التصويت العام عن طريق نضالات مباشرة فرضت نفسها (إضرابات سياسية في بلجيكا والنمسا والسويد وهولندا وإيطاليا، الخ.). أصبح للطبقة العاملة تمثيل واسع في البرلمان (وهي وجدت نفسها مجبرة بذلك على أن تدفع حصة أكبر من الضرائب، إلاّ أن هذه قصة أخرى). ثمة أحزاب عمالية إصلاحية تشارك في حكومات تحالف مع البرجوازية، إلاّ أنها بدأت تشكل أحيانا حكومات مؤلفة من ممثلين لأحزاب اشتراكية-ديموقراطية على وجه الحصر (بريطانيا، سكاندينافيا).

مذ ذاك أصبح وهم قيام دولة «ديموقراطية» فوق الطبقات تكون «حكما» حقيقيا و«مصالحا» للتعارضات الطبقية، أمرا مقبولا بشكل أسهل داخل الطبقة العاملة، وأنها لإحدى الوظائف الأساسية للنزعة الإصلاحية المراجعة أن تنشر تلك الأوهام بصورة واسعة. لقد كان ذلك حكرا على الاشتراكية-الديموقراطية في الماضي، إلا أنّ الأحزاب الشيوعية المنخرطة في طريق إصلاحي جديد تنشر اليوم النوع ذاته من الأوهام.

إلاّ أن الطبيعة الحقيقية للدولة البرجوازية، حتى الأكثر «ديموقراطية» تظهر للعيان حالا إذا تفحصنا في الوقت ذاته مسارها العملي والشروط المادية لهذا المسار.

إنه لنموذجي أنه كلما انتزعت الجماهير الكادحة حق الاقتراع العام ودخل الممثلون العماليون إلى البرلمان بقوة كلما انتقل مركز ثقل الدولة القائمة على الديموقراطية البرلمانية من البرلمان إلى جهاز الدولة البرجوازي الدائم: «الوزراء يأتون ويمضون، أمّا الشرطة فتبقى».

والحال أن جهاز الدولة هذا يفرز توحدا كاملا مع البرجوازيتين الوسطى والكبرى، بالطريقة التي يتم بها اختيار قياداته، وبتلك التي ينظم تسلسله وفقا لها، وبقواعد الاختيار والمهنة التي تحكمه. ثمة وشائج أيديولوجية واجتماعية واقتصادية لا تنفصم تشد هذا الجهاز إلى الطبقة البرجوازية، فكل الموظفين الكبار يقبضون معاشات تسمح لهم بمراكمة خاصة لرأس المال لا بأس بها، ولو كانت متواضعة أحيانا، وهو ما يحفز هؤلاء الأشخاص بالذات، على الصعيد الفردي، للدفاع عن الملكية الخاصة، ويثير اهتمامهم بسير الاقتصاد الرأسمالي سيرا حسنا.

يضاف إلى ذلك أن الدولة القائمة على البرلمانية البرجوازية تنشد كليا إلى رأس المال بواسطة السلاسل الذهبية للتبعية المالية والدين العام. ولا يمكن لأي حكومة برجوازية أن تحكم دون اللجوء باستمرار إلى التسليف الذي تشرف عليه المصاريف ورأس المال المالي والبرجوازية الكبرى. إن أي سياسة معادية للرأسمالية تكتفي حكومة إصلاحية برسم خطوطها العريضة تصطدم فورا بالتخريب المالي والاقتصادي من جانب الرأسماليين. فـ«إضراب التثميرات»، وهرب الرساميل، والتضخم، والسوق السوداء، وهبوط الإنتاج، والبطالة، تنجم جميعها عن هذا الرد في مهلة زمنية قصيرة جدا.

إن تاريخ القرن العشرين بمجمله يؤكد استحالة استخدام البرلمان البرجوازي والحكومة المرتكزين إلى الملكية الرأسمالية والدولة البرجوازية استخداما منطقيا في وجه البرجوازية. فكل سياسة تود أن تتبع عمليا طريقا مناهضة للرأسمالية تصطدم سريعا بخيار مصيري: أمّا الاستسلام لقدرة رأس المال تحت تأثير الابتزاز والتهويل، أو تحطيم جهاز الدولة البرجوازية وإحلال التملك الجماعي لوسائل الإنتاج محل علاقات الملكية الرأسمالية.

 

3- حدود الحريات الديموقراطية البورجوازية

 

ليس صدفة أن تكون الحركة العمالية في طليعة النضال من أجل الحريات الديموقراطية في القرنين 19 و20. فالحركة العمالية إذ تدافع عن الحريات تدافع في الوقت ذاته عن أفضل شروط ارتقائها، والطبقة العاملة هي الطبقة الأكبر عددا في المجتمع المعاصر. إن اكتساب الحريات الديموقراطية يسمح لها بأن تنظم نفسها وتضمن إلى جانبها العدد الأكبر من الناس، وترجح كفتها أكثر فأكثر في موازين القوى.

زد على ذلك أن الحريات الديموقراطية التي ثم انتزاعها في ظل النظام الرأسمالي تمثل المدرسة الفضلى للديموقراطية الجوهرية التي سوف يستمتع بها الشغيلة لاحقا، بعد إطاحة مملكة رأس المال.

يتكلم تروتسكي، وهو محق، على «خلايا الديموقراطية البروليتارية داخل الديموقراطية البرجوازية» التي تمثلها التنظيمات الجماهيرية للطبقة العاملة، وقدرة الشغيلة على عقد مؤتمراتهم وتسيير مواكبهم وتنظيم إضرابات ومظاهرات جماهيرية وامتلاكهم صحافتهم ومدارسهم ومسارحهم وصالاتهم السينمائية، الخ.

ولكن تهم معرفة حدود الديموقراطية البرلمانية البرجوازية مهما تكن متقدمة، لأن الحريات الديموقراطية تكتسب بالضبط أهمية جوهرية في نظر الشغيلة.

فالديموقراطية البرلمانية البرجوازية هي ديموقراطية غير مباشرة قبل كل شيء، يعد بالآلاف من الوكلاء فقط، أو بعشرات الآلاف (نوابا وشيوخا ومختارين وعمدا وأعضاء مجالس البلديات أو مجالس عامة، الخ) من يشاركون في ظلها بإدارة الدولة، بينما تحرم من تلك المشاركة أكثرية المواطنين الساحقة، التي تكمن سلطتها الوحيدة في وضع بطاقة الاقتراع في صندوق كل أربع سنوات أو خمس.

ثم إن المساواة السياسية في ديموقراطية برلمانية برجوازية هي مساواة شكلية لا أكثر، وليست مساواة حقيقية. فمن حيث الشكل، يتمتع الغني والفقير «بالحق» ذاته، «حق» تأسيس جريدة يكلف إصدارها مئات الملايين من الفرنكات، ومن حيث الشكل يتمتع الغني والفقير بـ«الحق» ذاته، حق شراء فترة ظهور على شاشة التلفزيون، وبـ«القدرة» ذاتها في التأثير على الناخبين. إلاّ أنه لما كانت الممارسة العملية لتلك الحقوق تفترض مسبقا تحريك وسائل مادية ذات شأن فليس لغير الغني وحسب أن يتمتع بها كليا. سوف ينجح الرأسمالي في التأثير على عدد كبير من الناخبين الذين يرتبطون به ماديا، وفي شراء صحف ومحطات إذاعة أو فترات بث تلفزيوني، بفضل إمكاناته المالية. سوف «يقبض على ناصية» برلمانيين وحكومات بقوة رأسماله.

حتى لو طرحنا جانبا في نهاية المطاف كل هذه الحدود التي تقف عندها الديموقراطية البرلمانية البرجوازية، ولو افترضنا خاطئين أنه لا ينقصها شيء، يبقى أنها ليست أكثر من ديموقراطية سياسية. لكن ما نفع مساواة سياسية بين الغني والفقير -وهي مساواة لا علاقة لها بالواقع- إذا كانت تتطابق في الوقت ذاته مع لامساواة اقتصادية واجتماعية عظيمة، لا تنفك تتعاظم، وذلك منذ أكثر من نصف قرن، لا بل منذ أكثر من قرن؟ حتى لو كان الأغنياء والفقراء يتمتعون بالحقوق السياسية ذاتها، فالأولون يحتفظون مع ذلك بسلطة اقتصادية واجتماعية عظيمة لا يمتلكها الأخيرون، سلطة تخضع الأخيرين للأولين حتما في الحياة اليومية.

 

4- القمع والديكتاتوريات البرجوازية

 

إن الطبيعة الطبقية للدولة المرتكزة إلى الديموقراطية البرلمانية البرجوازية تبدو واضحة تماما حين نتفحص دورها القمعي. فنحن نعرف ما لا يحصى من النزاعات الاجتماعية التي تدخل فيها رجال الشرطة والدرك والجيش بغية «تحطيم» فرق إضراب، وتفريق مظاهرات عمالية، وإخلاء معامل يحتلها الشغيلة وإطلاق النار على المضربين، بينما لا نعرف حالة واحدة تدخلت فيها الشرطة والدرك أو جيش البرجوازية لتوقيف أرباب عمل يصرفون عمالا، أو لمساعدة شغيلة على احتلال معامل أغلقها رأس المال، أو لإطلاق النار على برجوازيين ينظمون غلاء المعيشة أو هرب الرساميل أو الغش الضريبي.

سوف يرد المدافعون عن الديموقراطية البرجوازية بأن العمال أنتهكوا حرمة «القانون» في كل الحالات آنفة الذكر، وأنهم كانوا يهددون «النظام العام» الذي يفترض بقوى القمع أن تدافع عنه. أمّا نحن فنجيب بأن ذلك يؤكد تماما أن «القانون» ليس حياديا على الإطلاق، بل هو قانون برجوازي يحمي الملكية الرأسمالية، وأن قوى القمع في خدمة تلك الملكية، لذا فهي تتصرف بصورة مختلفة جدا حسبما يكون العمال، أو الرأسماليون هم الذين يقترفون انتهاكات شكلية بحق «القانون»، وأنه لا شيء يثبت بأفضل من ذلك الطابع البرجوازي قبل كل شيء الذي تتسم به الدولة.

لا تلعب أجهزة القمع في الظروف العادية أكثر من دور هامشي في الحفاظ على النظام الرأسمالي، لا سيما أن هذا النظام يحظى باحترام فعلي، في الحياة اليومية، من جانب الغالبية العظمى للطبقات الكادحة. إلاّ أن الأمر يختلف كليا في فترات الأزمات الحادة (أكانت اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو عسكرية أو مالية)، حين يكون النظام الرأسمالي عرضة لهزات عميقة، وحين تبدي الطبقات الكادحة إرادتها في إسقاط النظام، أو حين لا يعود هذا الأخير قادرا على العمل بشكل طبيعي.

إذ ذاك يتصدر القمع المسرح السياسي، وتظهر الطبيعة الأساسية للدولة البرجوازية فجأة بكل عريها: مجموعة من الناس المسلحين في خدمة رأس المال. هكذا تتأكد قاعدة أكثر عمومية في تاريخ المجتمعات الطبقية: فكلما كان هذا المجتمع أكثر استقرارا كلما أمكنه منح حريات شكلية متنوعة للمضطهدين، وكلما كان عديم الاستقرار تهزه أزمات عميقة كلما كان عليه أن يمارس السلطة السياسية عن طريق العنف الصريح.

هكذا نلاحظ أن تاريخ القرنين 19 و20 هو تاريخ العديد من تجارب القمع، تمارسها الديكتاتوريات البرجوازية ضد الحريات الديموقراطية للشغيلة، سواء كانت ديكتاتوريات عسكرية أو بونابرتية أو فاشية، إلاّ أنّ الديكتاتورية الفاشية هي الشكل الأكثر شراسة وهمجية للديكتاتورية الموضوعة في خدمة رأس المال الكبير.

تتميز هذه الديكتاتورية على وجه الخصوص بكونها لا تكتفي بإلغاء الحريات المتعلقة بالمنظمات الثورية أو الراديكالية للطبقة العاملة، بل تسعى كذلك إلى تحطيم كل شكل من أشكال التنظيم الجماعي لدى الشغيلة، ومن أشكال مقاومتهم، بما فيها النقابات وأشكال الإضرابات الأكثر بدائية. إنها تتميز كذلك بواقع أن محاولة تذرير الطبقة العاملة لا يمكن أن تحضى بالفعالية عن طريق الاستناد فقط إلى جهاز القمع التقليدي (الجيش والدرك والشرطة والقضاة)، بل هي تحتاج إلى عصابات مسلحة خاصة تنبثق هي الأخرى عن حركة جماهيرية، هي حركة البرجوازية الصغيرة المفقرة، التي أيأستها الأزمة والتضخم، والتي لم تفلح الحركة العمالية في جرها إلى خندقها عبر سياسة هجوم جريئة في مواجهة رأس المال.

ولا يمكن للطبقة العاملة وطليعتها الثورية أن تكونا حياديتين إزاء صعود الفاشية، بل عليهما أن تستميتا في الدفاع عن حرياتهما الديموقراطية. لذا عليهما أن تشكلا جبهة موحدة تضم كل المنظمات العمالية، بما فيها أكثرها إصلاحية واعتدالا، من أجل مواجهة صعود الفاشية وسحق الوحش الشرير وهو ما يزال في البيضة. عليهما أن يخلقا وحداتهما للدفاع الذاتي في وجه عصابات رأس المال المسلحة، وإلاّ يثقا بحماية الدولة البرجوازية. إن الطريق من أجل الحؤول دون الهمجية الفاشية المؤدية إلى معسكرات الاعتقال والمذابح وعمليات التعديب، من بوشنفالد إلى أوشويتز، إنما تكمن في بناء المليشيات العمالية المستندة إلى جماهير الشغيلة، بحيث تضم كل المنظمات العمالية وتمنع أي محاولة فاشية لإرهاب قطاع من القطاعات الجماهيرية أو لكسر إضراب واحد، أو لـ«تخريب» ندوة واحدة لمنظمة عمالية. إن أي نجاح على هذا الطريق يسمح للجماهير الكادحة بالانتقال بجزم إلى الهجوم المضاد وإلى الإجهاز على الخطر الفاشي، وفي الوقت ذاته على النظام الرأسمالي الذي أطلقه وغذاه.

 

5- الديموقراطية البروليتارية

 

إن الدولة العمالية وديكتاتورية البروليتاريا والديموقراطية البروليتارية التي يريد الماركسيون أن يحلوها محل الدولة البرجوازية التي تظل في المحصلة النهائية ديكتاتورية البرجوازية حتى وهي تتلبس الشكل الأكثر ديموقراطية، إنما تتميز بتوسيع الحريات الديموقراطية الفعلية لجمهور المواطنين الكادحين لا بالحد منها. لا بد من التذكير بشدة بهذا المبدأ الأساسي، لاسيما بعد التجربة المريعة للستالينية التي دمرت مصداقية الإيمان الديموقراطية التي أقسمتها الأحزاب الشيوعية الرسمية.

سوف تكون الدولة العمالية أكثر ديموقراطية من الدول المستندة إلى الديموقراطية البرلمانية، بمقدار ما سوف توسع من مساحة الديموقراطية المباشرة. سوف تكون دولة تشرع بالزوال منذ ولادتها، عن طريق تسليم ميادين كاملة من النشاط الاجتماعي إلى التسيير الذاتي والإدارة الذاتية للمواطنين المعنيين (البريد والمواصلات السلكية والصحة والتعليم والثقافة، الخ)، وتشرك جمهور الشغيلة المنظمين في مجالس عمالية في ممارسة السلطة مباشرة، عن طريق إلغاء الحدود الوهمية بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية. كما سوف تلغي الاحتراف من الحياة العامة عبر الحد من أجور الموظفين، بمن فيهم من هم في أعلى المناصب، حيث لا تزيد عن أجرة العامل المتخصص المتوسط، وتعيق تشكيل فئة مغلقة جديدة من المدراء -مدى- الحياة عبر إدخال مبدأ التناوب الإلزامي إلى كل انتداب للسلطة.

سوف تكون الدولة العمالية أكثر ديموقراطية من الدولة القائمة على الديموقراطية البرلمانية، بمقدار ما ستخلق القواعد المادية لممارسة الجميع للحريات الديموقراطية. تصبح المطابع ومحطات الإذاعة والتلفزيون وقاعات الاجتماع ملكية جماعية وتوضع تحت التصرف الفعلي لكل مجموعة من الشغيلة تطلبها. إن حق خلق العديد من المنظمات السياسية، بما فيها المنظمات المعارضة، وخلق صحافة معارضة، والسماح للأقليات السياسية بالتعبير عن آرائها عبر الصحافة والاداعة والتلفزيون، هذا الحق سوف تدافع عنه المجالس العمالية دفاع المستميت. أمّا التسليح العام للجماهير الكادحة وإلغاء الجيش الدائم وأجهزة القمع، وانتخاب القضاة، والعلنية التامة لكل المحاكمات، فسوف تكون الضمانة الأقوى للحيلولة دون تمكن أي أقلية من ادعاء حق استبعاد أي مجموعة من المواطنين الكادحين من ممارسة الحريات الديموقراطية.