اخر الاخبار:
محافظ نينوى يزور مطرانية القوش - الثلاثاء, 16 نيسان/أبريل 2024 10:33
زيارة وفد هنغاري الى دار مطرانية القوش - الثلاثاء, 16 نيسان/أبريل 2024 10:32
طهران تتراجع عن تصريحات عبداللهيان - الإثنين, 15 نيسان/أبريل 2024 11:24
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ألمكتبة

• مدخل الى الاشتراكية العلمية .. الجزء الثالث

ارنست ماندل

مدخل الى الاشتراكية العلمية .. الجزء الثالث

 

 

11/ الحرب العالمية الأولى والثورة الروسية

 

إن اندلاع الحرب العالمية الأولى قد مثل الإشارة الأكثر وضوحا إلى أن الرأسمالية قد دخلت في طور انحدارها، فكل ما استطاعت أن تؤدي إليه من تقدم للبشرية يتعرض مذ ذاك للتهديد. يتم تدمير دوري لموارد مادية عظيمة: الحرب العالمية، الأزمة الاقتصادية لأعوام 1929-1932، الحرب العالمية الثانية، الحروب الإستعمارية، والعديد من أزمات الركود الاقتصادي. إن استمرار الرأسمالية على قيد الحياة ينتهي إلى مجازر حقيقية للأرواح البشرية. والديكتاتوريات الدامية، أكانت عسكرية أو فاشية، تأخذ في طريقها مكتسبات الثورات الديموقراطية البرجوازية الكبرى. إن البشرية أمام خيار مصيري فأما الاشتراكية وأمّا الهمجية.

***

 

1- الحركة العمالية العالمية حيال الحرب الإمبريالية

 

خلال العقد الذي سبق عام 1914، اجتهدت الأممية الاشتراكية وكل الحركة العمالية الأممية في تربية الجماهير الكادحة وتعبئتها ضد صعود تهديدات الحرب. فسباق التسلح وتزايد النزاعات «المحلية» وتفاقم التناقضات في الصفوف الإمبريالية أنذرت بالانفجار الوشيك. لقد ذكرت الأممية الشغيلة من كل البلدان بأن مصالحهم مشتركة وأنه ليس عليهم أن يتحملوا أعباء الخصومات المقرفة بين المالكين، وهي خصومات لأجل اقتسام الأرباح المنهوبة من البروليتاريين ومن شعوب العالم المستعمرة.

بيد أنه حين انفجرت الحرب عام 1914 ألقت القيادات الاشتراكية-الديموقراطية السلاح أمام الموجة الشوفينية التي أطلقتها البورجوازية. لقد التحقت كل منها بمعسكر«ها» الإمبريالي ضد معسكر خصوم برجوازيتها الخاصة بها، ولم تنقصها الأعذار. فالأمر كان يتعلق بالنسبة للقادة الاشتراكيين الديموقراطيين الألمان والنمساويين بحماية الشعوب ضد همجية «الحكم القيصري المطلق»، بينما اعتبر القادة الاشتراكيون-الديموقراطيون البلجيكيون والفرنسيون والبريطانيون أن النضال ضد «العسكرية البروسية» يتقدم على كل شيء.

إن الاصطفاف الشوفيني في كلا المعسكرين إلى جانب الدفاع القومي عن «الوطن» الإمبريالي قد استتبع وقف الدعاية الاشتراكية الثورية ضد العسكرية، لا بل وقف كل دفاع عن المصالح الطبقية للشغيلة، حتى المباشرة منها. تم إعلان «الوحدة المقدسة» للبروليتاريين والرأسماليين إزاء «العدو الأجنبي». لكن لما كانت تلك «الوحدة المقدسة» والحرب التي خيضت تحت رايتها لم تعدلا في شيء من الطبيعة الرأسمالية، أي الاستغلالية، للاقتصاد والمجتمع، فلقد استتبعت النزعة الاشتراكية-الوطنية القبول العملي لتفاقم ظروف معيشة العمال وشروط عملهم، وللثراء الفاحش للتروستات وغيرها من المستفيدين الرأسماليين من الحرب.

 

2- الحرب الإمبريالية تصب في الأزمة الثورية

 

مذ ذاك كان على تناقضات الاشتراكية-الوطنية أن تنفجر سريعا، فالقادة الاصلاحيون الأكثر مكرا برروا مواقفهم بكون الجماهير مؤيدة للحرب وبأن حزبا عماليا جماهيريا عاجز عن الوقوف في وجه المشاعر الشعبية المهيمنة. بيد أنه سرعان ما مالت المشاعر الجماهيرية المهيمنة نحو الاستياء، ومعارضة الحرب، والتمرد. إلاّ أن القادة الاشتراكيين-الوطنيين الألمان من أمثال شايدمان ونوسكي، والفرنسيين من أمثال رونوديل وجول غيسر، لم يفعلوا شيئا حينذاك من أجل «التكيف مع المشاعر المهيمنة داخل الطبقة العاملة». لا بل حاولوا على العكس أن يتحاشوا بجميع الوسائل انفجار الإضرابات والمظاهرات الجماهيرية، داخلين في حكومات تحالف مع البرجوازية، مساعدينها على قمع الدعاية المعادية للنزعة العسكرية والداعية للإضرابات والثورة، مخربين تطور النضالات العمالية. وحين انفجرت بعض الثورات عاد القادة الاشتراكيون-الديموقراطيون، الذين كانوا أيدوا المجازر بحق ملايين الجنود لمصلحة الخزنات المالية، فاكتشفوا من جديد، فجأة، ميلا إلى السلام في أعماقهم وهو ما دفعهم إلى الابتهال إلى العمال كي لا يلجأوا إلى العنف ولا يكونوا سببا في اهراق المزيد من الدماء.

أمّا في بدء الحرب، حين كانت الجماهير مرتبكة بفعل الدعاية البرجوازية وخيانة قيادات تلك الجماهير بالذات، فلم تبق إلاّ قبضة من الاشتراكيين الثوريين أمينة للأممية البروليتارية، رافضة أن تخلط الرايات مع بورجوازية بلدانها. بين هؤلاء الثوريين كارل ليبكنخت وروزا لوكسمبورغ في ألمانيا، مونات وروزمير في فرنسا، لينين وقسم من البلاشفة وتروتسكي ومارتوف في روسيا، والحزب الاشتراكي الديموقراطي في هولندا وماك لين في بريطانيا، ودبس في الولايات المتحدة. كما أن أغلبية الحزب الاشتراكي الديموقراطي في إيطاليا والصرب وبلغاريا حافظت على مواقف أممية.

لقد سقطت الأممية الاشتراكية إلى الحضيض، وعاد الأمميون إلى التجمع في البدء في مؤتمري زيمرفالد (1915) وكينتال (1916)، إلاّ أنهم انقسموا مع ذلك إلى تيارين: التيار الوسطي الذي كان يرغب في الواقع أن يعيد بناء أممية معاد توحيدها مع الاشتراكيين-الوطنيين، والتيار الثوري الذي اتجه نحو تشكيل الأممية الثالثة.

إن لينين، الذي كان روح اليسار الزيمرفالدي، أرسى تحليلاته على اليقين بأن الحرب ستفاقم كل التناقضات داخل النظام الإمبريالي وتؤدي إلى أزمة ثورية واسعة المدى. كان بوسع الأمميين أن يتصوروا ضمن هذا المنظور قلبا مشهودا لموازين القوى بين أقصى اليسار في الحركة العمالية ويمينها.

تلك التوقعات تأكدت منذ عام 1917، فلقد انفجرت الثورة الروسية في مارس من ذلك العام، وانفجرت الثورة في نوفمبر من العام التالي في ألمانيا وفي النمسا-هنغاريا. وفي العامين 1919-1920 شهدت إيطاليا صعودا ثوريا عظيما لا سيما في مناطق الشمال الصناعية. كما اتسع الشرخ بين الاشتراكيين-الوطنيين والأمميين ليصبح شرخا بين الاشتراكيين-الديموقراطيين الرافضين قطع علاقتهم بالدولة البرجوازية وبالرأسمالية، والشيوعيين الميممين وجههم شطر انتصار الثورة البروليتارية وجمهوريات المجالس العمالية. لقد تبنى الأولون موقفا معاديا للثورة بصورة جذرية منذ هددت الجماهير أركان البرجوازية.

 

3- ثورة فبراير 1917 في روسيا

 

في فبراير 1917 (مارس حسب التقويم الغربي) تهاوت الاستبدادية القيصرية تحت الضريات المزدوجة لانتفاضات الجوع العمالية، ولتفكك الجيش، أي للمعارضة المتنامية للحرب داخل طبقة الفلاحين. لقد كان وراء إخفاق ثورة 1905 الروسية غياب التلاحم بين الحركة العمالية وحركة الفلاحين، من هنا كان توفر ذلك التلاحم عام 1917 ذا نتائج قاصمة بالنسبة للقيصرية.

لقد لعبت الطبقة العاملة الدور الأساسي في الأحداث الثورية التي تفجرت في فبراير 1917. إلاّ أن افتقادها لقيادة ثورية جعلها تحرم من ثمار انتصارها، فالسلطة التنفيذية التي انتزعت من القيصرية تم تسليمها لحكومة مؤقتة تجمع الأحزاب البرجوازية، وفي مقدمتها حزب الكاديت (الديموقراطيين-الدستوريين)، إلى المجموعات المعتدلة داخل الحركة العمالية (المناشفة والاشتراكيين-الثوريين).

بيد أن حركة الجماهير كانت قوية إلى حد أنها استطاعت امتلاك بنية تنظيمية خاصة بها، تمثلت بمجالس (سوفييتات) مندوبي العمال والجنود والفلاحين يسندها حراس حمر مدججون بالسلاح. هكذا شهدت روسيا منذ فبراير 1917 نظام ازدواجية سلطة فعلية. ففي وجه الحكومة المؤقتة التي تقف على رأس جهاز دولة برجوازية في حالة تفكك بطيء كان هنالك شبكة من السوفييتات تبني سلطة دولة عمالية يوما بعد يوم.

قدمت الأحداث هكذا برهانا ساطعا على صحة التوقع الذي صاغه ليون تروتسكي منذ نهاية ثورة 1905 الروسية، والذي رأى أن روسيا سوف تكتسحها السوفييتات في ثورتها القادمة. كان على الماركسيين الروس والعالميين أن يعيدوا النظر هكذا بتحليلهم للطبيعة الاجتماعية للثورة الروسية القائمة.

هؤلاء الماركسيون كانوا قد اعتبروا أن الثورة الروسية سوف تكون ثورة برجوازية، ذلك أنه لما كانت روسيا بلدا متخلفا فقد بدا لهم أن المهام الأساسية التي على تلك الثورة أن تحلها شبيهة بمهمات الثورات الديموقراطية-البرجوازية الكبرى في القرنين 18 و19، تختصرها شعارات إطاحة الحكم الاستبدادي المطلق، وانتزاع الحريات الديموقراطية والدستور، وتحرير الفلاحين من الرواسب نصف الاقطاعية، وتحرير القوميات المضطهدة وخلق سوق قومية موحدة لضمان الازدهار السريع للرأسمالية الصناعية الذي لا بد منه من أجل تهيئة انتصار ثورة اشتراكية لاحقة. وقد نجم عن ذلك استراتيجية تحالف بين البرجوازية الليبرالية والحركة العمالية، بحيث تكتفي الأخيرة بالنضال من أجل أهداف طبقية مباشرة (يوم عمل من ثماني ساعات، حرية التنظيم والإضراب، الخ.)، في حين تدفع البرجوازية لتستكمل بصورة أكثر جذرية عمل ثورتـ«ها».

لقد رفض لينين هذه الاستراتيجية عام 1905، وذكر بتحليل ماركس لمسلك البرجوازية منذ ثورة 1848، فحين ظهرت البروليتاريا على المسرح السياسي انزلقت البرجوازية إلى المعسكر المضاد للثورة، خوفا من الثورة العالمية. وهو لم يعدل تحليل المهام التاريخية للثورة الروسية، كما صاغها الماركسيون الروس من قبل، إلاّ أنه استنتج من الطابع المعادي للثورة بوضوح، الذي اتخذه مسلك البورجوازية، استحالة إنجاز تلك المهام عن طريق تحالف بين البرجوازية والبروليتاريا. من هنا فهو أحل محل ذلك فكرة التحالف بين البروليتاريا والفلاحين.

 

4- نظرية الثورة الدائمة

 

لقد تصور لينين هذه «الديكتاتورية الديموقراطية للعمال والفلاحين» على قاعدة اقتصاد لا يزال رأسماليا وفي إطار دولة لم تزل بورجوازية.

أمّا تروتسكي فقد لاحظ ضعف هذا التصور الكامن في عجز الفلاحين المزمن (الذي وافق عليه لينين بعد عام 1917) عن التشكل في قوة سياسية مستقلة. فعلى امتداد التاريخ الحديث بمجمله تلتحق طبقة الفلاحين على الدوام بقيادة بورجوازية أو بقيادة بروليتارية. فإذا كانت البورجوازية سوف تنتقل حتما إلى معسكر الثورة المضادة، يتوقف مصير الثورة على قدرة البروليتاريا على اكتساب الهيمنة السياسية داخل الحركة الفلاحية، وإرساء التحالف بين العمال والفلاحين بقيادتها هي. بتعبير آخر، لم يكن في وسع الثورة الروسية أن تنتصر وتنجز مهامها الثورية إلاّ إذا استولت البروليتاريا على السلطة السياسية واقامت دولة عمالية، مستندة إلى التحالف مع الفلاحين الكادحين.

تعلن نظرية الثورة الدائمة هكذا أن المهام التاريخية للثورة الديموقراطية-البورجوازية (الثورة الزراعية، الاستقلال القومي، الحريات الديموقراطية، توحيد البلاد لأجل إفساح المجال أمام ازدهار الصناعة) في عصر الإمبريالية لا يمكن أن تتحقق إلاّ عن طريق إرساء ديكتاتورية البروليتاريا المستندة إلى الفلاحين الكادحين، وذلك لأن روابط لا تحصى تشد البورجوازية المسماة «قومية» أو «ليبرالية» في البلدان المتخلفة إلى الإمبريالية الأجنبية من جهة، وإلى الطبقات المالكة القديمة من جهة أخرى. إن هذا التوقع الذي صاغه تروتسكي عام 1906 قد تأكدت صحته كليا في مجرى ثورة 1917 الروسية، كما تأكد كذلك في مجرى كل الثورات التي انفجرت مذ ذاك، في البلدان المتخلفة.

 

5- ثورة أكتوبر 1917

 

إن لينين العائد إلى روسيا من المهجر لمِس لمْس اليد الإمكانات الثورية العظيمة، فأعاد توجيه الحزب البلشفي عن طريق «موضوعات أبريل» ضمن خط نظرية الثورة الدائمة: ينبغي النضال من أجل استلام السوفييتات للسلطة، ومن أجل إرساء ديكتاتورية البروليتاريا. هذا الموقف الذي طعن فيه في البدء القادة البلاشفة القدامى (ومن بينهم ستالين وكامينيف ومولوتوف) الذين تمسكوا بصيغ عام 1905، وكانوا يرغبون بالتوحد مجددا مع المناشفة وبتقديم دعم نقدي للحكومة المؤقتة، سرعان ما وافق عليه مجمل الحزب، لا سيما تحت ضغط العمال البلاشفة الطليعيين الذين تبنوه تلقائيا حتى قبل أن يصوغه لينين بصورة واعية. هكذا اندمج أنصار تروتسكي مع البلاشفة، وهبوا جميعا لكسب أغلبية الشغيلة.

بعد تطورات عديدة (انتفاضة يوليوز المبكرة، والانقلاب الفاشل المعادي للثورة الذي قام به الجنرال كورنيلوف في غشت) تحولت تلك الأغلبية لصالح البلاشفة في سوفييتات المدن الكبرى منذ شتنبر 1917. مذ ذاك وضع النضال من أجل الاستيلاء على السلطة على جدول الأعمال. وهو ما تحقق في أكتوبر (نونبر حسب التقويم الغربي) بقيادة اللجنة العسكرية الثورية لمدينة بتروغراد، التي كان يرأسها تروتسكي وتنبثق من سوفييت تلك المدينة.

نجح ذلك السوفييت في أن يضمن مسبقا ولاء كل الفيالق تقريبا، المتمركزة داخل العاصمة القيصرية القديمة، فلقد رفضت تلك الفيالق أن تطيع هيئة أركان الجيش البورجوازي. هكذا رأينا أن الانتفاضة التي تطابق موعدها مع موعد انعقاد المؤتمر الثاني للسوفييتات لعموم روسيا تحققت تقريبا دون اهراق الدماء. تهاوى إلى الحضيض جهاز الدولة القديم والحكومة المؤقتة، بينما صوت المؤتمر الثاني للسوفييتات بأغلبية كبرى على انتقال السلطة لسوفييتات العمال والفلاحين، وللمرة الأولى في التاريخ أقيمت على كامل أرض بلد كبير دولة تتخذ مثالا لها كومونة باريس، دولة عمالية.

 

6- تحطيم الرأسمالية في روسيا

 

توقع تروتسكي في نظريته عن الثورة الدائمة أنه لا يمكن للبروليتاريا، بعد أن تستولي على السلطة، الاكتفاء بتحقيق المهام التاريخية للثورة الديموقراطية-البرجوازية، بل يكون عليها أن تبادر إلى الاستيلاء على المعامل وإلغاء الاستغلال الرأسمالي والبدء ببناء مجتمع اشتراكي. وهو ما حدث بالفعل في روسيا بعد أكتوبر 1917.

فبرنامج الحكومة التي تولت السلطة في المؤتمر الثاني للسوفييتات اكتفى للوهلة الأولى بإقامة الرقابة العمالية على الإنتاج، على أساس أن المهام الفورية لثورة أكتوبر هي قبل كل شيء إعادة السلام وتوزيع الأراضي وحل المسألة القومية وخلق سلطة سوفياتية حقيقية على كامل الأراضي الروسية.

إلاّ أن البورجوازية ما لبثت أن بدأت تخرب تطبيق سياسة السلطة الجديدة. أمّا العمال الذين وجدوا أنفسهم أقوى فلم يتسامحوا مع استغلال الرأسماليين، ولا مع تخريبهم. هكذا تم الانتقال سريعا من إرساء الرقابة العمالية إلى تأميم المصارف والمعامل الكبرى ووسائط النقل. وسرعان ما أصبحت كل وسائل الإنتاج -ما خلا تلك العائدة إلى الفلاحين وصغار الحرفيين- بين أيدي الشعب.

كان على تنظيم اقتصاد قائم على الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج أن يصطدم حتما بالعديد من الصعوبات في بلد شديد التخلف حيث لم تكن الرأسمالية قد أنجزت ولو من بعيد مهمة خلق الأسس المادية للاشتراكية، وكان البلاشفة واعين هذه الصعوبة وعيا تاما. إلاّ أنهم كانوا على قناعة بأنهم لن يبقوا معزولين لمدة طويلة، فالثورة البروليتارية كانت على وشك الاندلاع في العديد من البلدان المتقدمة صناعيا، ولاسيما في ألمانيا. إن الاندماج بين الثورة الروسية والثورة الألمانية والثورة الإيطالية كان قادرا على خلق قاعدة انطلاق مادية لا تتزعزع لبناء مجتمع لا طبقي.

لقد برهن التاريخ على أن تلك الآمال لم تكن من دون أساس، فالثورة انفجرت عمليا في ألمانيا، وكانت إيطاليا في وضع شبيه جدا بين عامي 1919 و1920. وقد لعبت الثورة الروسية دورها كمفجر ونموذج محفز للثورة الاشتراكية العالمية. إن الاشتراكيين-الديموقراطيين الروس الأوروبيين الذين سخروا فيما بعد معتبرين أن «أحلام» لينين وتروتسكي حول الثورة العالمية كانت من دون أساس، وأنه محكوم على الثورة الروسية أن تنعزل، وأنه من قبيل الطوباوية التفكير ببناء اقتصاد اشتراكي في بلد متخلف، إنما ينسون أن هزيمة الصعود الثوري لعامي 1919-1920 في أوروبا الوسطى لم تكن ناجمة إطلاقا عن غياب النضالات أو العنفوان الثوري لدى الجماهير، بل عن الدور المضاد للثورة الذي لعبته الاشتراكية-الديموقراطية العالمية عن سابق تصور وتصميم.

بهذه المعنى، فإن لينين وتروتسكي ورفاقهما بقيادتهم لبروليتاريا بلد أول نحو الاستيلاء على السلطة السياسية، فعلوا الشيء الوحيد الذي يمكن أن يفعله ماركسيون ثوريون لتعديل موازين القوى لصالح طبقتهم، ألا وهو الاستغلال العميق للفرص الأكثر مناسبة التي توجد في بلد من البلدان، من أجل إطاحة سلطة رأس المال. وهذا لا يكفي بحد ذاته لتقرير مصير الصراع الأممي بين رأس المال والعمل، إلاّ أنه يشكل في كل حال الوسيلة الوحيدة للتأثير على مصير هذا الصراع في اتجاه ملائم لمصالح البروليتاريا.

 

******* 

 

12/ الستالينية

 

1- إخفاق الصعود الثوري لأعوام 1918-1923 في أوروبا

 

عام 1918 انفجرت الثورة العالمية التي انتظرتها البروليتاريا الروسية والقادة البلاشفة، وأقيمت مجالس عمال وجنود في ألمانيا والنمسا. وفي هنغاريا أعلن في مارس 1919 قيام جمهورية المجالس، وفي بافيير خلال شهر أبريل 1919. أما العمال في شمالي إيطاليا، الذين كانوا في حالة غليان متنامية منذ عام 1919 فقد احتلوا كل المصانع في أبريل 1920. واكتسحت تيارات ثورية بلدانا أخرى، من مثل فنلندا وبولونيا وتشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا وبلغاريا. بدت مقدمات إضراب عام في هولندا، بينما أقام العمال في بريطانيا العظمى «التحالف الثلاثي» للنقابات الثلاث الكبرى في البلاد، الذي زعزع أركان الحكم.

إلاّ أن هذه الموجة الثورية انتهت بالإخفاق، وقد كان وراء ذلك الإخفاق الأسباب التالية:

 

  إن روسيا السوفييتات كانت تمزقها الحرب الأهلية، فالملاكون العقاريون القدامى والضباط القيصريون، يدعمهم الرأسماليون الروس والأجانب، حاولوا أن يقلبوا بقوة السلاح أول جمهورية للعمال والفلاحين. من هنا لم يكن بوسع سلطة السوفييتات أن تقدم إلاّ عونا ماديا وعسكريا محدودا للثورات الأوروبية، التي كانت تقاتلها الجيوش الإمبريالية كافة.

 

  لم تتردد الاشتراكية-الديموقراطية العالمية في الانضمام إلى معسكر الثورة المضادة، ساعية بكل أنواع الوعود والمخادعات الممكن تصورها (وعدت في ألمانيا منذ فبراير 1919 بالتشريك الفوري للصناعات الكبرى، وهو ما لم يتحقق على الإطلاق) أن تحرف الشغيلة عن النضال لأجل السلطة. كما لم تتردد كذلك في تنظيم العنف المعادي للثورة، لا سيما عن طريق تنظيم الفرق غير النظامية التي دعاها نوسكي للنجدة في مواجهة الثورة الألمانية، ولقد كانت تلك الفرق نواة العصابات النازية لاحقا.

 

  إن الأحزاب الشيوعية الفتية التي أسست الأممية الثالثة كانت تنقصها التجربة والنضج فاقترفت العديد من الأخطاء «اليسارية» أو اليمينية.

 

  إن البورجوازية التي أرعبها شبح الثورة قدمت تنازلات اقتصادية مهمة للشغيلة دفعة واحدة، لاسيما يوم العمل من ثماني ساعات والاقتراع العام في بلدان عدة، وهو ما أوقف الصعود الثوري في العديد من تلك البلدان.

لقد انتهت الاخفاقات الأولى للثورة بهزائم دامية في هنغاريا حيث رافق سحق جمهورية المجالس اهراق دم غزير، كما في إيطاليا حيث استولت الفاشية على السلطة عام 1922. إلاّ أن الحزب الشيوعي في ألمانيا تقوّى تدريجيا واكتسب قاعدة جماهيرية أكثر فأكثر اتساعا، وانطلق في العامين 1922-1923 لكسب النقابات الكبرى ومجالس المشاريع.

ولقد كان عام 1923 عام أزمة ثورية استثنائية في البلد المذكور، فالجيش الفرنسي احتل الروهر، وتفاقم التضخم، وانفجر إضراب عام ظافر نجح في قلب الحكومة، كما تشكلت حكومة تحالف بين الاشتراكيين اليساريين والشيوعيين في ساكس وتورينج. إلاّ أن الحزب الشيوعي الذي أساءت الأممية الشيوعية نصحه فشل في التنظيم المنهجي للانتفاضة المسلحة في اللحظة المناسبة، فاستطاع رأس المال الكبير أن يعيد تثبيت الوضع واستقرار المارك، وأن يعيد إلى السلطة تحالفا بورجوازيا، مما أدى إلى وضع حد للأزمة الثورية لما بعد الحرب.

 

2- صعود البيروقراطية السوفياتية

 

لقد خرجت روسيا السوفياتية منتصرة من الحرب الأهلية عام 1920-1921، إلاّ أنها خرجت منهكة من تلك الحرب، فالإنتاج الزراعي والصناعي انخفض بشكل ذريع وأصابت المجاعة مناطق واسعة من البلاد. وبانتظار صعود جديد للثورة العالمية، ومن أجل تقديم العلاج لهذا الوضع، قرر لينين وتروتسكي القيام بتراجع اقتصادي. فلقد أبقى على الملكية المؤممة بما يخص الصناعة الكبرى بمجملها والمصارف ونظام النقل، إلاّ أنه أعيدت حرية التجارة بصدد الفوائض الزراعية بعد تمام دفع الضريبة العينية، بالإضافة إلى الأعمال الحرفية والتجارة والطناعية الصغيرة الخاصة.

كان البلاشفة ينظرون إلى ذلك على أنه مجرد عمل مؤقت حسبوا مخاطره على الصعيد الاقتصادي، إذ أنه كان بإمكان البرجوازية الصغيرة المغتنمة أن تعيد باستمرار إنتاج التراكم الرأسمالي الخاص. إلاّ أن النتائج الاجتماعية والسياسية لانعزال الثورة البروليتارية في بلد متخلف كانت أكثر رهبة من تلك المخاطر الاقتصادية. وهي تتلخص كالتالي: لقد فقدت البروليتاريا الروسية يوما بعد يوم الممارسة المباشرة للسلطة السياسية والاقتصادية. بدأت شريحة جديدة ذات امتيازات تعتلي ظهرها، وقد اكتسبت هذه البيروقراطية احتكارا حقيقيا لممارسة السلطة في كل حقول المجتمع.

لم تكن تلك السيرورة نتيجة مؤامرة عن سابق تصور وتصميم، بل نجمت عن تفاعل مجموعة من العوامل. فلقد ضعفت البروليتاريا عدديا بفعل انخفاض الإنتاج الصناعي والنزوح إلى الريف، كما فقدت تسيسها جزئيا تحت وطأة الجوع والحرمانات. أمّا عناصرها الأكثر وعيا فامتصها الجهاز السوفياتي، وكان الكثير من أفضل أفرادها قد سقطوا في الحرب الأهلية. إن تلك الفترة المضطربة بمجملها لم تكن مناسبة لتكوين الكادرات المتميزة تقنيا وثقافيا داخل الطبقة العاملة. هكذا احتفظت الأنتليجنسيا البورجوازية الصغيرة والبورجوازية باحتكارها للمعارف، ذلك أن فترة قحط عظيم ملائمة لاكتساب امتيازات مادية والدفاع عنها.

لا نعتقد أن هذه السيرورة قد بقيت خارج إدراك الماركسيين الثوريين الروس، فمنذ عام 1920 قرعت المعارضة العمالية داخل الحزب الشيوعي السوفياتي جرس الإنذار، وطرحت في الوقت ذاته حلولا غير مناسبة إلى حد بعيد. ومنذ عام 1921 أصبح شغل لينين الشاغل التفكير بالخطر البيروقراطي، وكان يسمي الدولة الروسية دولة عمالية مشوهة بيروقراطيا ويشير شبه عاجز إلى سطوة البيروقراطية الوليدة على جهاز الحزب بالذات. ومنذ عام 1923 تشكلت المعارضة اليسارية التروتسكية التي سوف تجعل من النضال ضد البيروقراطية نقطة من النقاط الأساسية في برنامجها.

وقد يكون من قبيل الخطأ الاعتقاد أن صعود البيروقراطية السوفياتية يمثل ظاهرة حتمية، فإذا كانت تغرز جذورا عميقة في الواقع الاجتماعي والاقتصادي الروسي في أوائل العشرينات، فقد كان ممكنا في الوقت ذاته مجابهتها مع حظوظ نجاح حقيقية. كان برنامج المعارضة اليسارية التروتسكية يتجه بمجمله لخلق شروط ملائمة لتقويم الوضع من جديد.

أ- عن طريق تسريع تصنيع روسيا، بزيادة الوزن النوعي للبروليتاريا في المجتمع.

ب- بزيادة الأجور ومكافحة البطالة بغية تنمية ثقة الجماهير العمالية بذاتها.

ج- بالتوسيع الفوري للديموقراطية السوفياتية والديموقراطية داخل الحزب، بغية رفع مستوى النشاط السياسي ومستوى وعي البروليتاريا الطبقي.

د- بزيادة حدة التمايز داخل الفلاحين، عن طريق مساعدة الفلاحين الفقراء عبر تقديم قروض وآلات زراعية اليهم في بناء تعاونيات إنتاجية، وفرض ضرائب تصاعدية على الفلاحين الأغنياء.

هـ- بالإبقاء على التوجه شطر الثورة العالمية، وبتصحيح الأخطاء التكتيكية والاستراتيجية للكومنترن.

لو فهم مجمل القادة والكادرات البلاشفة ضرورة إنجاز برنامج من هذا النوع وإمكان ذلك، لكانت إعادة إطلاق السوفييتات وممارسة البروليتاريا للسلطة ممكنة منذ أواسط العشرينات. إلاّ أن معظم كادرات الحزب كانوا قد انخرطوا من جانبهم في سيرورة البقرطة. معظم القادة تأخروا كثيرا في فهم خطر المميت لصعود البيروقراطية. إن ضعف «العامل الذاتي» (أي الحزب الثوري) انظم إلى الشروط الموضوعية الملائمة، لتفسير انتصار البيروقراطية الستالينية في الاتحاد السوفياتي.

 

3- طبيعة البيروقراطية وطبيعة الاتحاد السوفياتي

 

ليست البيروقراطية طبقة مسيطرة جديدة. وهي لا تلعب أي دور ضروري في سيرورة الإنتاج. إنها شريحة ذات امتيازات اغتصبت ممارسة وظائف الإدارة في الدولة والاقتصاد السوفياتيين، وتمنح لنفسها على أساس احتكار السلطة هذا منافع وفيرة في حقل الاستهلاك (أجور مرتفعة، منافع عينية، مخازن خاصة، الخ). ليست مالكة لوسائل الإنتاج، ولا تملك أي ضمانة للاحتفاظ بتلك المنافع أو توريثها لأولادها، إنما كل شيء مرتبط بممارسة وظائف نوعية خاصة.

إنها شريحة اجتماعية متميزة من البروليتاريا تقيم سلطتها على مكاسب ثورة أكتوبر الاشتراكية، كتأميم وسائل الإنتاج والتخطيط الاقتصادي واحتكار الدولة للتجارة الخارجية. وهي محافظة كما الحال مع أي بيروقراطية عمالية، إنها تضع الحفاظ على ما تم اكتسابه فوق كل مشروع يرمي إلى التوسع بالمكاسب الثورية.

إنها تخاف من الثورة العالمية التي قد تؤدي إلى إنعاش النشاط السياسي للبروليتاريا السوفييتية وتدمير سلطة البيروقراطية على هذا الأساس. من هنا فهي ترغب في الحفاظ على الوضع القائم العالمي. إلا أنها تبقى، من حيث هي شريحة اجتماعية، ضد إعادة الرأسمالية إلى الاتحاد السوفياتي، ذلك أن هذه قد تدمر أسس امتيازاتها بالذات (وهو ما لا يمنع البيروقراطية من أن تكون الوسط الملائم لنمو مجموعات ثانوية واتجاهات فرعية يمكن أن تحاول التحول إلى رأسماليين جدد).

ليس الاتحاد السوفياتي مجتمعا اشتراكيا، أي مجتمعا بلا طبقات. إنه ما يزال، تماما كما غداة ثورة أكتوبر 1917، مجتمعا انتقاليا بين الرأسمالية والاشتراكية، ويمكن أن تتم إعادة الرأسمالية فيه، لكن على أساس ثورة مضادة اجتماعية. كما يمكن بالمقابل إعادة إرساء السلطة المباشرة للشغيلة فيه، لكن على أساس ثورة سياسية تكسر احتكار ممارسة السلطة بأيدي البيروقراطية.

رغم أن الاقتصاد السوفياتي هو نظام «سيطرة البيروقراطية على المنتجين»، ورغم أنه أعطى الأولوية زمنا طويلا لتطور الآلات على حساب استهلاك الجماهير، فهو لا يستحق وصمه بـ«الرأسمالية». إن الرأسمالية نظام نوعي خاص للسيطرة الطبقية، يتصف بالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وبالمنافسة والإنتاج البضاعي المعمم، وبالطابع البضاعي لقوة العمل، وبحتمية الأزمات الدورية لفيض الإنتاج المعمم، ونحن لا نجد أيا من هذه الملامح الأساسية في الاقتصاد السوفياتي.

إلاّ أنه إذا لم يكن الاقتصاد السوفياتي رأسماليا فهو ليس اشتراكيا أيضا، على الأقل بالمعنى التقليدي للكلمة، كما يتبين من كتابات ماركس وانجلز ولينين بالذات. فالاقتصاد الاشتراكي يتحدد بنظام المنتجين المتشاركين الذين ينظمون بأنفسهم حياتهم الإنتاجية والاجتماعية عن طريق وضع تسلسل في الحاجات التي ينبغي كفايتها تبعا للموارد التي في حوزتهم ولوقت العمل الذي هم مستعدون لتكريسه للجهد الإنتاجي، والاتحاد السوفياتي على بعد بعيد عن هذا الوضع. إن اقتصادا اشتراكيا يتحدد بزوال كل إنتاج بضاعي، وماركس وانجلز يوضحان أن هذا الزوال ليس خاصا «بالمرحلة الثانية» من المجتمع اللا طبقي، التي تطلق عليها عادة تسمية «المرحلة الشيوعية»، بل هو من سمات المرحلة الأولى المسماة «اشتراكية»، وذلك على عكس العقيدة المعتمدة رسميا في الاتحاد السوفياتي.

إن ستالين الذي فضل النظرية المضادة للماركسية حول الإمكانية المزعومة لإنجاز بناء الاشتراكية في بلد واحد، إنما كان يعبر بصورة تجريبية عن النزعة المحافظة البرجوازية الصغيرة لدى البيروقراطية السوفياتية المؤلفة من خليط من الموظفين القدامى في الدولة البرجوازية ومن محدثي النعمة في جهاز الدولة السوفياتية وشيوعيين مفسدين ومستخفين، وتقنيين شباب راغبين في «النجاح في المهنة» دون أدنى مراعاة للمصالح الطبقية للبروليتاريا.

لقد واجه تروتسكي والمعارضة اليسارية هذه النظرية بمبادئ أساسية في الماركسية («لا يمكن تحقيق المجتمع اللا طبقي إلا على المستوى العالمي، بحيث يضم على الأقل بعضا من الدول المصنعة الرئيسية» -«تشرع الثورة بالانتصار في بلد من البلدان، ثم تمتد على الصعيد الدولي، وتخوض في نهاية المطاف معركة حاسمة على المستوى العالمي»)، وهما لم يدافعا بذلك عن موقف «انتضاري» أو «انهزامي» تجاه الثورة الروسية. لقد سعيا لحفز فوري لتصنيع البلاد، وذلك قبل ستالين وبصورة أكثر عقلانية، وكانا نصيرين للدفاع عن الاتحاد السوفياتي ضد الامبريالية، وللدفاع عمّا بقي من مكاسب ثورة أكتوبر ضد أي محاولة لإعادة الرأسمالية في الاتحاد السوفياتي، وقد ظلا كذلك إلى النهاية. إلاّ أنهما فهما أن مصير الاتحاد السوفياتي سوف يحسمه في نهاية المطاف ما يؤول إليه الصراع الطبقي على المستوى العالمي، وهو استنتاج لا يزال اليوم صحيحا كما كان صحيحا بالأمس.

 

4- ما هي الستالينية؟

 

حين ألقى خروتشيف مرافعته المشهورة ضد جرائم ستالين في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي، فسر تلك الجرائم بـ«عبادة الشخصية» التي هيمنت خلال ديكتاتورية ستالين. وهذا التفسير الذاتي، لا بل السيكولوجي، لنظام سياسي قلب رأسا على عقب حياة عشرات الملايين من الكائنات البشرية، لا يتفق إطلاقا مع الماركسية. فظاهرة الستالينية لا يمكن اختصارها بالخصائص السيكولوجية أو السياسية لرجل فرد. إن الأمر يتعلق بظاهرة اجتماعية ينبغي تعرية جذورها الاجتماعية.

إن الستالينية في الاتحاد السوفياتي هي التعبير عن الانحطاط البيروقراطي لأول دولة عمالية، حيث اغتصبت شريحة اجتماعية ذات امتيازات ممارسة السلطة الاقتصادية والسياسية. إن الأشكال الفظة (الإرهاب البوليسي، التطهيرات الجماعية في الثلاثينات والأربعينات، اغتيال مجمل الكادرات القديمة للحزب الشيوعي السوفياتي تقريبا، ومحاكمات موسكو، الخ.) والأكثر «دقة» لهذه السلطة البيروقراطية يمكن أن تتبدل، إلاّ أنّ أسس الانحطاط البيروقراطي تبقى قائمة بعد ستالين كما في ظل ستالين.

فلسلطة لا تمارسها سوفييتات ينتخبها كل الشغيلة بحرية، والمشاريع لا يسيّرها الشغيلة. لا الطبقة العاملة ولا أعضاء الحزب الشيوعي يتمتعون بالحريات الديموقراطية الضرورية للتمكن بحرية من تحديد الخيارات الكبرى بصدد السياسة الاقتصادية والثقافية، الداخلية والعالمية.

إن الستالينية تعني في العالم الرأسمالي قيام الأحزاب التي تتمبع سياسة الكريملين بإخضاع مصالح الثورة الاشتراكية في بلدانها إلى مصالح ديبلوماسية الكريملين. فهذا الأخير يستخدم الأحزاب الشيوعية الستالينية، وحركة الجماهير التي تشرف عليها، كمجرد عملة للتبادل في جهوده لتكريس الوضع القائم العالمي مع الامبريالية.

إن الستالينية تمثل على الصعيد الايديولوجي تشويها تبريريا وتجريبيا للنظرية الماركسية. فبدل أن تلعب النظرية الماركسية دور أداة تحليلية لتطور تناقضات الرأسمالية وموازين القوى بين الطبقات والواقع الموضوعي للمجتمع الانتقالي من الرأسمالية إلى الاشتراكية، بغية إسناد نضال البروليتاريا التحرري، يجري الحط منها إلى مستوى أداة تبرير لكل من «الانعطافات التكتيكية» للكريملين والأحزاب الستالينية.

تسعى الستالينية لتبرير هذه المناورات باسم حاجات الدفاع عن الاتحاد السوفياتي، «القلعة الرئيسية للثورة العالمية» كما كان يسمى قبل الحرب العالمية الثانية، و«مركز المعسكر العالمي للاشتراكية» كما أصبح يسمى منذ الحرب العالمية الثانية. وبالفعل على الشغيلة أن يدافعوا عن الاتحاد السوفياتي ضد محاولات الإمبريالية إعادة سلطة رأس المال إليه.

إلاّ أن المناورات التكتيكية الستالينية التي ساهمت في هزيمة كذا من الثورات في العالم، والتي سهلت وصول هتلر إلى السلطة في ألمانيا عام 1933، وحكمت على الثورة الإسبانية لعام 1936 بالهزيمة، وأجبرت الجماهير الشيوعية الفرنسية والإيطالية على إعادة بناء الدولة البورجوازية والاقتصاد الرأسمالي في بلادها ما بين 1944 و1946، وأدت إلى سحق الحركة الثورية في أندونيسيا والبرازيل والشيلي والعديد من البلدان الأخرى مذ ذاك، لا تتوافق إطلاقا مع مصالح الاتحاد السوفياتي كدولة، بل مع المصالح الضيقة المتعلقة بالدفاع عن امتيازات البيروقراطية السوفياتية المتناقضة في كل من تلك الحالات مع المصالح الحقيقية للاتحاد السوفياتي.


 5- أزمة الستالينية

 

 

إن انحدار الثورة العالمية بعد عام 1923 والوضع المتخلف للاقتصاد السوفياتي هما الدعامتان الرئيسيتان لسلطة البيروقراطية في الاتحاد السوفياتي، وهاتان الدعامتان قد تآكلتا تدريجيا منذ نهاية الأربعينات.

فلقد تلا عشرين عاما من هزائم الثورة صعود جديد للثورة العالمية، انحصر في البدء في بلدان متخلفة هي الأخرى (يوغسلافيا، الصين، فيتنام، كوبا)، إلاّ أنه امتد إلى الغرب منذ ماي 1968. وبعد سنوات من جهود «التراكم الاشتراكي»، توقف الاتحاد السوفياتي عن أن يكون بلدا متخلفا، إذ هو اليوم القوة الصناعية الثانية في العالم، ويبلغ المستوى التقني والثقافي فيه مستوى العديد من البلدان الرأسمالية المتقدمة. أمّا البروليتاريا السوفياتية فهي، إلى جانب بروليتاريا الولايات المتحدة، البروليتاريا الأقوى من حيث العدد.

ضمن هذه الشروط، بدأت تزول أسس سلبية الجماهير في البلدان التي تسيطر عليها البيروقراطية السوفياتية، حيث تتوافق مع انتعاش النشاطات المعارضة انقصافات داخل البيروقراطية بالذات التي تخضع، منذ القطيعة بين ستالين وتيتو عام 1948، لسيرورة تمايز متنامية. إن التداخل بين العاملين يشجع على فورات مفاجئة للنشاط السياسي الجماهيري تنطلق على طريق الثورة السياسية، كما حدث في أكتوبر-نونبر 1956 في هنغاريا، أو خلال «ربيع براغ» عام 1968 في جمهورية تشيكوسلوفاكيا الاشتراكية.

جرى إلى الآن قمع هذه الحركات الجماهيرية عبر التدخل العسكري للبيروقراطية السوفياتية، إلاّ أنه بمقدار ما تنضج هذه السيرورات ذاتها في الاتحاد السوفياتي فلن يكون بإمكان أية قوة خارجية أن توقف أمواج الثورة السياسية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي، وسوف يعاد إرساء الديموقراطية السوفياتية، ويتم التحطيم النهائي لأي خطر يهدد بعودة الرأسمالية. سوف يمارس السلطة السياسية الشغيلة والفلاحون الكادحون، كما سيصبح النضال من أجل الثورة الاشتراكية في سائر أنحاء العالم أسهل بما لا يقاس.

 

6- الإصلاحات الاقتصادية

 

بعد موت ستالين، ولاسيما في بداية الستينات، بدأت حركة إصلاح واسعة لطرائق التخطيط والتسيير في الاتحاد السوفياتي وفي العديد من «الديموقراطيات الشعبية». وقد كانت الإصلاحات الأكثر إلحاحا في ميدان الزراعة، حيث كان إنتاج المواد الغذائية على أساس الفرد عند وفاة ستالين أدنى بعض الأحيان مما كان عليه عام 1928، وأدنى فيما يخص الإنتاج الحيواني، مما كان عليه في عهد القياصرة. استهدفت تدابير متتالية إثارة اهتمام الفلاحين، وعقلنة استخدام الآلات الزراعية (التي بيعت للكولخوزات)، وإقامة مزارع دولة عملاقة على «الأراضي البكر» في كازاخستان، والمضاعفة الكثيفة للتثميرات في الزراعة.

أمّا الإصلاحات على صعيد الصناعة فكانت أكثر بطءا وترددا، فالضرورة الموضوعية لتلك الإصلاحات نجمت عن أزمة نمو الاقتصاد السوفياتي وعن انخفاض في نسبة النمو السنوية للإنتاج الصناعي، وهي تتوافق مع نفاد الحوافز التي سمحت بالتسيير كيفما أتفق لعملية التصنيع الواسع، أي دون بذل جهد لتوفير أقصى ما يمكن من نفقات اليد العاملة، والمواد الأولية والأراضي. لقد أدى استنفاد الاحتياطي لضرورة اعتماد حساب أكثر دقة، وخيار أكثر عقلانية بين مختلف مشاريع التثميرات. إن ازدهار الاقتصاد ومضاعفة المشاريع وموارها هددا بزيادة التبذير إلى الحد الأقصى ما لم يتم اعتماد طرائق إدارة وتخطيط أكثر عقلانية.

إن ضغط الجماهير الكادحة التي أنهكتها عقود من التضحيات والتوترات وترغب في تحسين استهلاكها وتنويعه، بالإضافة إلى ضرورة الاقتراب بالقرارات -على مستوى الصناعة الخفيفة- من تلك الرغبات الاستهلاكية، قد فعلا فعلهما في الاتجاه ذاته. وقد شجع عنصر آخر أيضا السعي وراء الاصلاحات، ونقصد بذلك التأخر التكنولوجي المتناهي بالنسبة للثورة التكنولوجية الثالثة للاقتصاد الرأسمالي، وهو تأخر ناجم عن نظام حوافز مادية بالنسبة للبيروقراطية يثبط الهمم إزاء الاختبار والتجديد على صعيد التكنولوجيا، لذا تم تعديل شكل تلك الحوافز مذ ذاك.

لقد جرى الاعتقاد بالحؤول دون تبذير المواد الأولية وقوة العمل وبتشجيع استخدام للتجهيز أكثر عقلانية، عن طريق ربط العلاوات المقدمة للمديرين بـ«الربح» (الفرق بين سعر الكلفة وسعر المبيع) المفترض أنه «يؤلف» النتيجة الإجمالية النهائية للمشروع، بدل ربطها بالإنتاج الخام المعبر عنه بمصطلحات مادية. كانت النتائج متواضعة، لكن إيجابية في الصناعة الخفيفة، إلاّ أنها لم تعدل أبدا في طبيعة النظام الهجينة، لأن أسعار المبيع ظلت تحددها سلطات الخطة المركزية.

إن أهمية تلك الإصلاحات جميعا محدودة، بقدر ما لا تحل المشكلة الأساسية، فما من «آلية اقتصادية»، خارج الرقابة الديموقراطية والعامة التي يمارسها جمهور المنتجين والمستهلكين، يمكنها أن تبلغ الحد الأقصى من المردود مقابل الحد الأدنى من الجهود. كل إصلاح يميل إلى إحلال شكل جديد من التعسفات البيروقراطية والتبذيرات محل الشكل السابق، وليس هناك من عقلنة إجمالية للتخطيط ممكنة في ظل سلطة البيروقراطية وانتفاعها المادي المعتبر محركا رئيسيا لتنفيذ الخطة. إن الإصلاحات لم تعد الرأسمالية ولم تعد إدخال ربح المشاريع كدليل لقرارات التثمير، إلاّ أنها زادت من تناقضات النظام الداخلية. فمن جهة زادت من حدة اندفاع جناح من البيروقراطية لصالح استقلال أكبر لمديري المعامل، وألغت بعض مكاسب الطبقة العاملة من مثل ضمان حق العمل، وزادت من جهة أخرى من حدة مقاومة الشغيلة للميول إلى تحطيم تلك المكتسبات والاقتصاد المخطط.

 

7- الماوية

 

كان انتصار الثورة الصينية الثالثة عام 1949 أهم انتصار حققته الثورة العالمية منذ انتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية. فهو كسر التطويق الرأسمالي للاتحاد السوفياتي وحفز حفزا عظيما سيرورة الثورة الدائمة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وعدل موازين القوى بشكل محسوس على المستوى العالمي على حساب ألإمبريالية. ولقد تم ذلك الانتصار لأن القيادة الماوية للحزب الشيوعي الصيني قطعت على مستوى الممارسة مع الخط الستاليني القائل بـ«كتلة الطبقات الأربع» وبالثورة على مراحل، وقادت انتفاضة زراعية واسعة واتجهت نحو تدمير الجيش والدولة البرجوازية، رغم إعلاناتها المؤيدة لتحالف مع تشانغ كاي تشيك.

إلاّ أن هذه الثورة الظافرة كانت منذ البدء مشوهة بيروقراطيا، فالقيادة الماوية حدّت من نشاط البروليتاريا المستقل، إذا لم تمنعه منعا تاما، والدولة العمالية التي أقيمت لم يتم إرساؤها على أساس المجالس العمالية والفلاحية المنتخبة ديموقراطيا. انتشرت أشكال إدارة وامتيازات بيروقراطية تتشبه بتلك القائمة في روسيا الستالينية. وهو ما أدى إلى استياء متنام لدى الجماهير، لاسيما الجماهير العمالية والشابة، سعى ماو إلى احتوائه عن طريق تفجير «الثورة الثقافية البروليتارية الكبرى» بين عامي 1964 و1965.

هذه «الثورة» دمجت أشكالا أصيلة من التعبئة والوعي المعاديين للبيروقراطية لجماهير المدن مع محاولة ماو تطهير جهاز الحزب الشيوعي من خصومه داخل البيروقراطية. وعندما هددت تعبئة الجماهير والتطور الأيديولوجي الأكثر فأكثر نقدية من جانب «الحراس الحمر» بالإفلات من رقابة الجناح الماوي، أوقف هذا الجناح «الثورة الثقافية»، وأعاد إلى حد بعيد وحدة البيروقراطية، مرجعا إلى مراكز القيادة معظم البيروقراطيين الذين تمت تنحيتهم حين بلغت تلك «الثورة» ذروتها.

إن النزاع الصيني-السوفياتي الذي أثارته محاولة البيروقراطية السوفياتية فرض رقابة صارمة على قيادة الحزب الشيوعي الصيني، وإلغاء المساعدة الاقتصادية والعسكرية المقدمة لجمهورية الصين الشعبية ردا على رفض ماو الانحناء أمام تلك القرارات التعسفية، تحول تدريجيا من نزاع بين البيروقراطيتين إلى نزاع على مستوى الدولة وإلى معركة تنظيمية وأيديولوجية داخل الحركة الستالينية العالمية. لقد وجهت النزعة القومية الضيقة للبيروقراطيتين السوفياتية والصينية ضربة قاصمة لمصالح الحركة العمالية والمعادية للإمبريالية على المستوى العالمي، وسمحت للإمبريالية بالمناورة لاستغلال النزاع الصيني-السوفياتي.

تمثل الماوية على المستوى الأيديولوجي تيارا خاصا داخل الحركة العمالية، العديد من وجوهه تنويع من التشويه الستاليني للماركسية-اللينينية، إلاّ أنه لا يمكن حصره بالستالينية. ففيما الستالينية ناتج وتعبير في الوقت ذاته عن ثورة مضادة سياسية داخل ثورة بروليتارية ظافرة، فالماوية هي في الوقت ذاته تعبير عن انتصار ثورة اشتراكية وعن الطبيعة المشوهة بيروقراطيا منذ البدء لتلك الثورة. إنها تدمج إذا ملامح مقاربة أكثر مرونة وأكثر انتقائية للعلاقات بين الأجهزة والجماهير، مع ملامح مميزة لخنق كل استقلال لنشاط الجماهير وتنظيمها، لاسيما الجماهير العمالية. وهي تتميز على وجه الخصوص بعدم فهم الطبيعة الاجتماعية للبيروقراطية العمالية وأصول الانحطاط البيروقراطي المحتمل للثورات الاشتراكية والدول العمالية، طالما هي بذاتها التعبير الأيديولوجي عن واحد من أجنحة البيروقراطية. وهي إذ تماثل بصورة غير مسؤولة وغير علمية بين «البيروقراطية» و«بورجوازية الدولة» في الاتحاد السوفياتي، تبرر مسبقا كل انعطافات السياسة الخارجية الصينية والمجموعات الماوية، إلى حد وضع الإمبريالية الأمريكية والاتحاد السوفياتي، والأحزاب البرجوازية والأحزاب الشيوعية، على قدم المساواة، لا بل إلى حد اعتبار الاتحاد السوفياتي والأحزاب الشيوعية «العدو الرئيسي للشعوب»، عارضة التحالف مع القوى الإمبريالية العظمى والأحزاب البورجوازية في مجه الاتحاد السوفياتي والأحزاب الشيوعية. زد على أن هذه التكتيكات تستند إلى الموضوعة التي تقول أن معظم البلدان الرأسمالية ليست اليوم إزاء مهمة الثورة الاشتراكية، بل فقط إزاء مهمة «النضال من أجل الاستقلال القومي في مواجهة القوى العظمى».

إن الطابع الاعتباطي لهذه النظريات جميعا، التي ليست في نهاية المطاف أكثر من تبريرات لاحقة لمناورات بيكين الديبلوماسية، تمد جذورها في تشويه الماركسية المثالي والإرادي، فبحجة مكافحة «النزعة الاقتصادية» التي هي المراجعة «الأخطر» للماركسية، يتوقف «الماويون الأورثوذكسيون» عن اعتبار الطبقات الاجتماعية كحقائق موضوعية تحددها علاقات الإنتاج التي تعقدها في إنتاجها لحياتها المادية. تجري مماثلة الطبقات الاجتماعية مع خيارات إيديولوجية، ولا تعود البروليتاريا مجموع من يحصلون على أجور لقاء عملهم، بل أولئك الذين «يسيرون وفقا لخط ماو تسي تونغ». وبهذه الطريقة تجري مماثلة تيارات ذات أيديولوجية بورجوازية أو بورجوازية صغيرة داخل الطبقة العاملة مع «البورجوازية» أو «ممثليها»، والنضال الأيديولوجي داخل الحركة العمالية مع «الصراع الطبقي بين البروليتاريا والبورجوازية». يشكل ذلك مذ ذاك ركيزة رفض الديموقراطية العمالية، وتبرير استخدام العنف والقمع داخل الحركة العمالية، ورفض كل التراث الماركسي-اللينيني للنضال من أجل الجبهة الموحدة للمنظمات العمالية في وجه العدو الطبقي المشترك. تتم مماثلة ديكتاتورية البروليتاريا مع «فكر ماو تسي تونغ»، ويمارسها «حزب ماو تسي تونغ». هكذا تغلق الحلقة، وبعد الدخول في حرب ضد سلطة البيروقراطية في الاتحاد السوفياتي، تنتهي القيادة الماوية إلى تنصيب نظام قيادة بيروقراطية شبيهة جدا بتلك الموجودة في الاتحاد السوفياتي، حتى ولو أحاطت بها بهارج «ديموقراطية مباشرة» و«مشاركة» جماهيرية باتخاذ القرارات. ولا يقل رفض ماو عن رفض ستالين أو خروتشيف أو بريجنيف للنظرية اللينينية حول ديكتاتورية البروليتاريا كديكتاتورية مرتكزة إلى ممارسة السلطة من جانب مجالس العمال والفلاحين المنتخبة انتخابا حرا وديموقراطيا.

*******

 

13/ من النضالات الجارية التي تخوضها الجماهير إلى الثورة الاشتراكية العالمية

 

منذ الحرب العالمية الأولى والشروط المادية الضرورية لقيام مجتمع اشتراكي قيد الوجود. فالمنشأة الكبيرة أصبحت قاعدة الإنتاج، والتقسيم العالمي للعمل بلغ مستوى عاليا، وتحقق التداخل بين البشر جميعا -«التشريك الموضوعي للعمل»- إلى حد بعيد. مذ ذاك أصبح ممكنا من الناحية الموضوعية استبدال نظام الملكية الخاصة والمنافسة واقتصاد السوق بنظام قائم على التشارك بين جميع المنتجين وتخطيط الاقتصاد بغية تحقيق أغراض مختارة بحرية.

***

 

1- شروط انتصار الثورة الاشتراكية

 

إلاّ أن الثورة الاشتراكية، على نقيض كل الثورات الاجتماعية الماضية، تتطلب جهدا واعيا وإراديا من جانب الطبقة الثورية، أي من جانب البروليتاريا. ففي حين أحلت ثورات الماضي نظام استغلال اقتصادي للمنتجين محل نظام آخر، واكتفت هكذا بإزالة الحواجز من على طريق اشتغال هذه الآلية الاقتصادية أو تلك، تسعى الثورة الاشتراكية لإعادة تنظيم الاقتصاد والمجتمع وفقا لمشروع متصور مسبقا، يكمن في التنظيم الواعي للاقتصاد بهدف كفاية كل الحاجات العقلانية لدى البشر وضمان التفتح الكامل لشخصيتهم.

مشروع من هذا النوع لا يتحقق آليا، إنه يتطلب من الطبقة الثورية وعيا كاملا لأهدافها ولوسائل بلوغ تلك الأهداف، لاسيما أن على طبقة الشغيلة خلال نضالها من أجل الثورة الاشتراكية أن تواجه عدوا طبقيا، منظما تنظيما عاليا، يملك أكثر فأكثر شبكة عالمية من القوى العسكرية والمالية والسياسية والتجارية والأيديولوجية بغية تأبيد سيطرته.

يتطلب انتصار الثورة الاشتراكية إذا نوعين من الشروط ليضمن النجاح:

 

  شروطا موضوعية -كما يقال- أي مستقلة عن مستوى وعي البروليتاريين والثوريين، ومن بينها نضج الشروط المادية والاجتماعية (القاعدة الاقتصادية وقوة البروليتاريا العددية) - الحاصلة على المستوى العالمي بصورة مستمرة منذ ما قبل عام 1914. ينبغي أن نضيف كذلك شروطا سياسية، من مثل عجز الطبقة البورجوازية عن الحكم وانقساماتها الداخلية المتعاظمة، ورفض الطبقات المنتجة لسلطة البورجوازيين وتمردها المتعاظم على تلك السلطة. هذه الشروط السياسية الموضوعية الضرورية لانتصار ثورة اجتماعية يتم اكتسابها دوريا في العديد من البلدان، إبان أزمات سابقة للثورة وأزمات ثورية عميقة تنفجر فيها.

 

  وشروطا ذاتية، أي متعلقة بمستوى وعي الطبقة البروليتاريا وبدرجة نضج قيادتها الثورية أو حزبها الثوري وتأثير تلك القيادة وقوتها.

يمكن أن نستخلص أن الثورات الاشتراكية الظافرة منذ الحرب العالمية الأولى كانت ممكنة موضوعيا في العديد من المرار وفي العديد من البلدان، ونكتفي في هذا المجال بالإشارة إلى البلدان المتقدمة صناعيا، من مثل ألمانيا بين 1918 و1920، وعام 1923، وفي أعوام 1930-1932، وإيطاليا بين 1919 و1920 وبين 1946 و1948، وبين 1969 و1970، وفرنسا عام 1936، وبين 1944 و1947، وفي ماي 1968، وبريطانيا بين 1919 و1920، وعام 1926، وعام 1945، وإسبانيا بين 1936 و1937 الخ. الخ.

بالمقابل، لم تكن الشروط الذاتية ناضجة لانتصار الثورة، فغياب الانتصارات الثورية في الغرب مرتهن إلى الآن قبل كل شيء بـ«أزمة العامل الذاتي للتاريخ»، أزمة الوعي الطبقي والقيادة الثورية للبروليتاريا.

 

2- بناء الأممية الرابعة

 

انطلاقا من هذا التحليل المرتكز إلى الإفلاس التاريخي للإصلاحية والستالينية في قيادة البروليتاريا إلى النصر، اضطلع تروتسكي وقبضة من الشيوعيين المعارضين منذ عام 1933 بمهمة بناء قيادة ثورية جديدة للبروليتاريا العالمية، وقد أسسوا عام 1938 الأممية الرابعة لهذه الغاية.

طبعا لم تصبح بحد ذاتها الأممية الثورية الجماهيرية التي ستكون وحدها قادرة على العمل كهيئة أركان عامة للثورة العالمية، إلاّ أنها تنقل برنامج هكذا أممية ثورية جماهيرية وتتقنه وتحسنه، بفضل نشاطاتها الدائبة في قلب الصراع الطبقي في خمسين بلدا. وهي تكون كادرات ثورية على قاعدة هذا البرنامج وعبر نشاطاتها المتعددة، وتحفز هكذا عن سابق تصور وتصميم توحيد تجارب الثوريين ووعيهم على المستوى العالمي، عن طريق تعليمهم العملل داخل تنظيم واحد بدل أن ينتظروا عبثا توحيدا من هذا النوع من النتائج العفوية لانطلاق القوى الثورية في مختلف بلدان العالم وأجزائه، تلك القوى التي تتطور منفصلة بعضها عن البعض الآخر.

لا تكتفي الأممية الرابعة بأن تنتظر بصورة سلبية «ذلك المساء العظيم» فيما تنجز إبان ذلك برنامجها. وهي لا تتقوقع في الدعاية المجردة لهذا البرنامج. كما أنها لا تبذر كذلك قواها في نشاطية وتحريض عقيمين، محصورين في دعم النضالات المباشرة للجماهير المستغلة.

إن بناء أحزاب ثورية جديدة وأممية ثورية جديدة ينطوي في الوقت ذاته على الدفاع الحازم عن البرنامج الماركسي الثوري الذي يجمع دروس كل التجارب الماضية للصراع الطبقي، وعلى الدعاية والتحريض من أجل برنامج عمل هو جزء من البرنامج الماركسي-الثوري العام، دعاه تروتسكي برنامج المطالب الانتقالية وهو يستوحي تعابير استخدمها قادة الأممية الشيوعية خلال سنواتها الأولى، وعلى التدخل المتواصل في نضالات الجماهير بغية الوصول بها إلى أن تتبنى عمليا برنامج العمل هذا، وبغية تزويد تلك النضالات بأشكال تنظيم تؤول إلى خلق مجالس عمالية.

إن ضرورة قيام أممية ثورية، هي أكثر من جمع أحزاب ثورية قومية، ضرورة ترتكز إلى قواعد مادية صلبة. فالعصر الإمبريالي هو عصر الاقتصاد والسياسة والحروب العالمية، والإمبريالية هي نظام عالمي متمفصل، وقوى الإنتاج أصبحت دولية منذ زمن بعيد. أمّا رأس المال فينتظم يوما بعد يوم على المستوى الدولي في تروستاته الكبيرة متعددة الجنسيات، والدولة القومية صارت منذ زمن بعيد عائقا دون التطورات اللاحقة للإنتاج والحضارة. من هنا لا يمكن حل مشكلات الإنسانية إلاّ على المستوى العالمي، تلك المشكلات التي نختصرها بالأمور التالية: الحؤول دون الحرب النووية العالمية، سد جوع نصف الكرة الجنوبي، تخطيط النمو الاقتصادي، التوزيع العادل للموارد والمداخيل بين الشعوب جمعاء، حماية البيئة، وضع العلم في خدمة الإنسان.

إنه لمن قبيل الطوباوية أن نريد ضمن هذه الشروط التقدم نحو الاشتراكية فرادى، أن نريد الإجهاز على خصم منظم عالميا فيما نحتقر كل تنسيق أممي للمشروع الثوري، لا بل أن نريد مواجهة تروستات متعددة الجنسيات عبر نضالات عمالية مقصورة على بلد واحد.

أضف إلى ذلك أن للنضالات الثورية اتجاها موضوعيا وعفويا للامتداد على المستوى الدولي، لا فقط ردا على تدخلات مضادة للثورة من جانب العدو الطبقي، بل كذلك، على وجه الخصوص، بفعل الحافز الذي تمارسه على شغيلة العديد من البلدان. إن التأخير المتواصل لخلق منظمة أممية حقيقية للثوريين لا يعني التأخر فقط بالنسبة للضرورات الموضوعية لعصرنا بل كذلك بالنسبة للاتجاهات العفوية للقطاعات الجماهيرية الأكثر تقدما.

في إطار الصعود الجديد للنضالات العمالية ولتجذر الشبيبة عبر العالم منذ نهاية الستينات، الذي يرمز إليه ماي 1968 في فرنسا، تمكنت الأممية الرابعة من مضاعفة قواها بشكل محسوس. إنها الآن موجودة في 65 بلدا، وفي كل القارات. عشرون من منظماتها شهدت تطورا ذا شأن إذ حققت انغراسا حقيقيا وسط الجماهير، وشاركت أحيانا من مستوى القيادة، في نضالات طبقية مهمة. نشير في هذا المجال إلى دور التروتسكيين الفرنسيين في ماي 1968 وفي تشكيل طليعة عمالية ونقابية جديدة مذ ذاك. وإلى دور التروتسكيين الأمريكيين في التعبئة ضد الحرب القذرة في فيتنام! وإلى دور التروتسكيين الإسبانيين في تكوين طليعة ثورية جديدة! وإلى دور التروتسكيين الأرجنتينيين والمكسيكيين والكولومبيين في خلق تيار طبقي داخل الحركة الجماهيرية في بلدانهم! وإلى دور التروتسكيين السيلانيين في إعادة إطلاق اليسار العمالي بعد انحدار القيادة القديمة للحركة العمالية إلى حضيض التعاون الطبقي. تلك الأدوار تشكل بعض النتائج الرئيسية التي تم التوصل إليها ما بين 1968 و1977.

 

3- المطالب المباشرة والمطالب الانتقالية

 

إن الاستغلال والاضطهاد الإمبرياليين، في عصرنا، يدفعان الجماهير في كل مرة من جديد على طريق معارك كبرى. إلاّ أن الجماهير، متروكة لذاتها، لا تصوغ أكثر من أهداف مباشرة لتلك النضالات، من مثل الدفاع عن الأجور الفعلية أو زيادتها والدفاع عن بعض الحريات الديموقراطية الأساسية أو انتزاعها، وإسقاط حكومات قمعية بوجه خاص، الخ.

يمكن للبرجوازية أن تقدم تنازلات للجماهير المناضلة تلافيا لتطور معاركها إلى درجة تهديد مجمل الاستغلال الرأسمالي. وهي تسمح لنفسها بذلك، لاسيما أنها تمتلك العديد من الأدوات الصالحة للاستعمال من أجل إفراغ تلك التنازلات من مضامنها، واستعادة يد ما تقدمه اليد الأخرى. فإذا كانت تقبل بزيادات في الأجور، يمكن لرفع الأسعار أن يبقي الأرباح عند مستواها الأصلي، وإذا تم الحد من دوام العمل يمكن تسريع وثيرته، وإذا انتزع الشغيلة تدابير ضمان اجتماعي يمكن مضاعفة الضرائب التي تصيب مداخيلهم، بحيث يدفعون بذاتهم ما يبدو أن الدولة تمنحهم إياه، الخ.

من أجل الخروج من هذه الدائرة المفرغة، ينبغي دفع الجماهير لتضع لأنفسها أهدافا لنضالاتها الجارية تتمثل بمطالب انتقالية يتعارض تحقيقها مع المسار الطبيعي للاقتصاد الرأسمالي والدولة البرجوازية، وينبغي أن تصاغ هذه المطالب بحيث تفهمها الجماهير، وإلاّ بقيت حبرا على ورق. يلزم أن تكون في الوقت ذاته قادرة على أن تثير بمضمونها، وباتساع النضالات التي تستثيرها، رفضا إجماليا للنظام الرأسمالي وولادة أجهزة من النموذج السوفياتي، أجهزة ازدواجية سلطة. ليست المطالب الانتقالية صالحة فقط في فترة الأزمة الثورية الحادة -ومن بينها مطلب الرقابة العمالية-، بل هي تتجه على وجه التحديد نحو توليد هكذا أزمة ثورية، عبر دفع الشغيلة إلى رفض النظام الرأسمالي، سواء على المستوى العملي أو على مستوى وعيهم.

 

4- القطاعات الثلاث للثورة العالمية في أيامنا

 

بفعل تأخر الثورة الاشتراكية في البلدان الصناعية المتقدمة تجد البروليتاريا العالمية نفسها في مواجهة مهام مختلفة في أجزاء مختلفة من العالم.

ففي البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة، لا يمكن للشغيلة والفلاحين الفقراء أن ينتظروا هرع عمال البلدان المصنعة لمساعدتهم. إن اندلاع نضالات جماهيرية وحركات ثورية واسعة أمر محتوم بفعل العبء الثقيل من القمع والبؤس الذي فرضته الإمبريالية على الجماهير العمالية والفلاحية في تلك البلدان. على الشغيلة أن يدعموا كل حركة جماهيرية معادية للإمبريالية، سواء كانت موجهة ضد السيطرة الأجنبية أو ضد الاستغلال الذي تمارسه التروستات الأجنبية، وسواء استهدفت الثورة الفلاحية أو تصفية ديكتاتوريات محلية دموية. إن البروليتاريا التي اكتسبت القيادة السياسية لتلك الحركات الجماهيرية، بفضل حزمها واجتهادها في تبني المطالب التقدمية لكل طبقات الأمة وشرائحها المستغلة، إنما تقاتل لأجل استلام السلطة، ولتطيح في الوقت ذاته ملكية البرجوازية الصناعية وسلطتها.

وفي البلدان العمالية المتبقرطة، تنتفض الجماهير من أجل انتزاع حريتها الديموقراطية، وذلك في وجه احتكار ممارسة السلطة من جانب البيروقراطية، وضد انبعاث الاضطهاد القومي، وضد الفوضى والتبذير والامتيازات المادية الملازمة للتسيير البيروقراطي للاقتصاد. إنها تطالب بتسيير الدولة العمالية بواسطة الشغيلة أنفسهم، المنظمين في مجالسهم (السوفييتات)، وبتسيير الاقتصاد المخطط عن طريق نظام مجالس شغيلة ممركز ديموقراطيا.

أما في البلدان الإمبريالية فتتحول حركات الجماهير ضد الاستغلال الرأسمالي والتضييق على الحريات الديموقراطية أو إلغائها، بفضل البرامج الانتقالي وبناء قيادة ثورية جديدة، إلى نضالات لإطاحة الدولة البرجوازية ومصادرة رأس المال، فإلى ثورة اشتراكية ظافرة.

إن المهام المختلفة التي تواجه البروليتاريا والثوريين في أجزاء مختلفة من العالم -أي مهام الثورة الدائمة في البلدان المتخلفة ومهام الثورة السياسية المناهضة للبيروقراطية في البلدان العمالية المتبقرطة، ومهام الثورة البروليتارية في البلدان الإمبريالية- إنما تعكس التطور اللا متساوي والمركب للثورة العالمية. فهذه الأخيرة لا تنفجر بصورة متشابهة في كل البلدان، إذ لا تعيش كل البلدان ضمن شروط اجتماعية واقتصادية وسياسية متماثلة.

تكمن المهمة العليا للماركسيين الثوريين في التوحيد التدريجي لتلك الحركات الثورة الثلاث في السيرورة ذاتها للثورة الاشتراكية العالمية. هذا التوحيد ممكن موضوعيا بفضل كون طبقة اجتماعية واحدة، هي البروليتاريا، قادرة لوحدها على أن تقود إلى الشاطئ الأمين المهام التاريخية المتمايزة للثورة في كل من القطاعات الثلاثة التي أشرنا إليها، وسيصبح هذا التوحيد حقيقيا بفضل التربية والسياسة الأمميتين للطليعة الثورية التي سوف تستخلص من النضالات الجارية يوما بعد يوم تجارب تضامن أممي بين الشغيلة والمضطهدين في كل البلدان، وتقاتل بصورة منهجية كره الأجنبي والعنصرية ومختلف المسبقات القومية، من أجل إدخال هذا الوعي الأممي إلى أعماق الجماهير الواسعة.

 

5- الديموقراطية العمالية والتنظيم الذاتي للجماهير والثورة الاشتراكية

 

إن أحد الوجوه الرئيسية لعمل الجماهير المباشرة، لحركات التظاهر أو الإضراب الضخمة التي يقومون بها، إنما هو رفع مستوى وعيهم عن طريق تزايد ثقتهم بأنفسهم.

يعتاد الشغيلة والفلاحون الفقراء وصغار الحرفيين والنساء والشباب والأقليات القومية والعرقية على التعرض خلال الحياة اليومية للانسحاق والاستغلال والاضطهاد من جانب خليط من المالكين والأقوياء. لديهم انطباع أن التمرد مستحيل وغير مجد، وأن قوة خصومهم كبيرة لدرجة ينتهي معها كل شيء إلى «العودة للنظام» على الدوام. إلاّ أن هذا الخوف، هذا الإحباط، هذا الشعور بالدونية والعجز، يذوب فجأة في مصهر التعبئة والمعارك الجماهيرية الكبرى. فالجماهير تكتسب إذ ذاك وعيا عميقا لسلطتها العظيمة الكامنة، منذ تتحرك مجتمعة، بصورة جماعية ومتضامنة، منذ تتنظم وتنظم معركتها بفعالية.

لذا يعلق الماركسيون الثوريون أهمية قصوى على كل ما يضاعف هذا الشعور بالثقة بالذات لدى الجماهير، على كل ما يحررهم من السلوك المطواع والخاضع الذي تشربوه خلال الآلاف من سنوات سيطرة الطبقات المالكة. «لسنا شيئا، فلنكن كل شيء»: إن هذه الكلمات من المقطع الأول في نشيدنا، «نشيد الأممية»، تلخص بصورة مدهشة تلك الثورة النفسية التي لا بد منها لأجل انتصار ثورة اشتراكية.

على طريق التنظيم الذاتي للجماهير، تلعب دورا حيويا جمعيات ديموقراطية للمضربين تنتخب لجان إضراب، وكل آلية مشابهة داخل أشكال أخرى للعمل الجماهيري. في تلك الجمعيات تتمرن الجماهير على حكم ذاتها بذاتها، وبتعلمها قيادة نضالاتها الخاصة بها تتعلم كيف تدير الدولة والاقتصاد غدا. إن أشكال التنظيم التي تعتاد هكذا عليها هي الأشكال الجنينية للمجالس العمالية القادمة، للسوفييتات القادمة، هي أشكال التنظيم الأساسية للدولة العمالية التي ينبغي بناؤها.

إن وحدة العمل التي لا بد منها من أجل جمع قوى الشغيلة المبعثرة، الروح الوحدوية العظيمة التي تجمع عبر حالات التعبئة والأعمال الجماهيرية الكبرى ملايين الأشخاص الذين لم يعتادوا على العمل معا، لا يمكن تحقيقها من دون ممارسة أوسع قدر من الديموقراطية العمالية. ينبغي للجنة إضراب منتخبة ديموقراطيا أن تكون، من حيث تحديدها، منبثقة من كل المضربين في المنشأة، أو في الفرع الصناعي، أو المدينة، أو المنطقة، أو البلد الذي يشهد حالة الإضراب. إن استبعاد ممثلي هذا القطاع أو ذاك من الشغيلة المعنيين، بحجة أن آراءهم السياسية أو الفلسفية لا تناسب قادة الإضراب المؤقتين، هو كسر لوحدة الإضراب، وبالتالي كسر للإضراب.

يطبق المبدأ ذاته على كل أشكال العمل الجماهيري الواسع وعلى أشكال التنظيم التمثيلية التي يتخذها. إن الوحدة التي لا غنى عنها من أجل تحقيق النصر تفترض الديموقراطية العمالية مسبقا، أي مبدأ عدم استبعاد أي تيار من المقاتلين. فللكل الحق في الكلام والتمثيل، وللكل الحق في الدفاع عن اقتراحاتهم الخاصة بهم بغية تتويج النضال بالنصر.

إذا تم احترام تلك الديموقراطية فسوف تحترم الأقليات بدورها قرارات الأكثريات لأنها تحتفظ بإمكانية تعديلها على ضوء التجربة. وبهذا التأكيد للديموقراطية العمالية تبشر أشكال التنظيم الديموقراطية لنضالات الشغيلة بإحدى خصائص الدولة العمالية القادمة، المتمثلة بتوسيع الحريات الديموقراطية لا الحد منها.

*******

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.