اخر الاخبار:
محافظ نينوى يزور مطرانية القوش - الثلاثاء, 16 نيسان/أبريل 2024 10:33
زيارة وفد هنغاري الى دار مطرانية القوش - الثلاثاء, 16 نيسان/أبريل 2024 10:32
طهران تتراجع عن تصريحات عبداللهيان - الإثنين, 15 نيسان/أبريل 2024 11:24
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ألمكتبة

• مدخل الى الاشتراكية العلمية .. الجزء الرابع والاخير - الصفحة 2

 2- الشروط الاقتصادية والاجتماعية لبلوغ هذا الهدف

 

 

إذا كنا لا نكتفي بالحلم بمستقبل مشرق، وإذا كنا نريد الكفاح من أجل بلوغ هذا المستقبل، علينا أن نفهم أن بناء مجتمع اشتراكي يقلب رأس على عقب تقاليد الناس وعاداتهم التي تبلورت خلال آلاف السنين في مجتمعات منقسمة إلى طبقات، هذا البناء يخضع لتحولات مادية ليست أقل زعزعة ينبغي إنجازها مسبقا.

يتطلب بلوغ الاشتراكية قبل كل شيء إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. هذه الملكية تفترض حتما في عصر الصناعة الكبرى والتقنية الحديثة (التي لا يمكن إلغاؤها دون حشر البشرية في زاوية الفقر المعمم) قسمة المجتمع إلى أقلية من الرأسماليين المستغِلين (بكسر الغين) وأكثرية مستغَلة (بفتح الغين) من مأجورين.

إن بلوغ المجتمع الاشتراكي يتطلب إلغاء العمل المأجور وبيع قوة العمل لقاء أجرة ثابت من المال يجعل من المنتج جزءا عاجزا من الحياة الاقتصادية. ينبغي أن يحل محل العمل المأجور تعويض العمل بالحصول الحر على كل الخيرات الضرورية لكفاية حاجات المنتجين، ولا يمكن أن يولد وعي اجتماعي جديد وموقف جديد يتخذه الناس بعضهم تجاه البعض الآخر إلاّ في مجتمع يضمن للإنسان هكذا وفرة في الخيرات.

هكذا وفرة في الخيرات ليست طوباوية إطلاقا، شرط إدخالها تدريجيا والانطلاق من عقلنة تدريجية لحاجات الناس الذين تحرروا من إكراه المنافسة، ومن مطاردة الثراء الفردي، ومن استخدام الإعلان الذي يهتم بخلق حالة عدم اكتفاء دائم لدى الأفراد. هكذا خلقت التطورات في مستوى الحياة حالة إشباع الاستهلاك الخبز والبطاطا والخضار وبعض الفواكه، لا بل منتجات الحليب والسمنة واللحم في الجزء الأقل فقرا من سكان البلدان الإمبريالية. كما أن اتجاها مماثلا يتجلى على صعيد الألبسة الداخلية والأحدية والأثاث المنزلي الأساسي، الخ. فهذه المنتجات جميعا يمكن أن توزع بالتدريج مجانا، دون تدخل المال، ودون أن يؤدي هذا إلى زيادات مهمة في الإنفاقات الجماعية. والإمكانية ذاتها قائمة بالنسبة للخدمات الاجتماعية كالتعليم والعناية بالصحة والنقل المشترك، الخ.

إلاّ أن إلغاء العمل المأجور لا يتطلب تبديل شروط المكافأة وتوزيع الأموال الاستهلاكية وحسب، بل كذلك تبديل بنية المشروع التسلسلية، وإحلال نظام ديموقراطية المنتجين محل نظام الأمر المحصور بالمدير (يساعده رؤساء المشاغل ورؤساء الفرق، الخ.). إن هدف الاشتراكية حكم الناس ذاتهم بذاتهم على كل مستويات الحياة الاجتماعية ابتداء بالحياة الاقتصادية. إنه استبدال كل المندوبين المعينين بقادة منتخبين، كل المندوبين الدائمين بقادة يمارسون وظيفتهم بالتناوب. على هذه الطريق يتم التوصل لخلق شروط مساواة حقيقية.

إن الثروة الاجتماعية التي تسمح بإرساء نظام وفرة، غير ممكن بلوغها إلاّ عن طريق تخطيط الاقتصاد، الذي يسمح بتلافي كل تبذير يتمثل بعدم استخدام وسائل الإنتاج والبطالة، أو باستخدامها لأهداف متعارضة مع مصالح البشرية. ويبقى تحرير العمل خاضعا للتطور العظيم للتقنية الحديثة (التطبيق الإنتاجي للطاقة الذرية بعد استجماع شروط الأمن القصوى، والبحث المكثف عن موارد طاقة بديلة، الإلكترونيك والتوجيه من بعيد اللذان يسمحان بالأتمتة الكلية للإنتاج) الذي يحرر الإنسان أكثر فأكثر من المهام الثقيلة والمحطة. هكذا يجيب التاريخ مقدما على الاعتراض المبتذل القديم على الاشتراكية: «من سيمارس إذا المهمات الدنيا في مجتمع اشتراكي؟»

إن التطور الأقصى للإنتاج ضمن الشروط الأكثر ريعية بالنسبة للبشرية يتطلب الإبقاء على تقسيم دولي للعمل والتوسع به، تقسيم معدل مع ذلك بعمق من أجل إلغاء الانقسام إلى بلدان «متقدمة» وبلدان «تابعة»، وإلغاء الحدود وتخطيط الاقتصاد على المستوى العالمي. إن إلغاء الحدود والتوحيد الفعلي للجنس البشري هو أيضا أمر سيكولوجي من أوامر الاشتراكية، والوسيلة الوحيدة لإلغاء اللاّ مساواة الاقتصادية والاجتماعية بين الأمم. ولا يعني إلغاء الحدود إلغاء الشخصية الثقافية الخاصة بكل أمة، بل يسمح على العكس بتأكيد هذه الشخصية بصورة أكثر سطوعا مما هي الحال اليوم، في الميدان الخاص بها.

إن تسيير الشغيلة للمشاريع، وتسيير مؤتمر مجالس الشغيلة للاقتصاد، وتسيير كل دوائر الحياة الاجتماعية عن طريق التجمعات المعنية، يتطلب هو الآخر شروط تحقيق مادية، إذا شاء ألاّ يكون وهميا. ولا غنى عن الخفض الجذري ليوم العمل -أو اتباع الدوام النصفي- من أجل أن يتوفر للمنتجين الوقت لتسيير المشاريع والكومونات، ولكي لا تتشكل شريحة جديدة من المدراء المحترفين.

لا غنى عن تعميم التعليم العالي -وتوزيع جديد لـ«وقت الدراسة» و«وقت العمل» على امتداد كل حياة الرشد للرجل والمرأة- من أجل أن يزول بالتدريج فصل العمل اليدوي عن العمل الذهني. كما لا غنى عن المساواة الدقيقة في المكافأة وفي التمثيل وفرص التأهيل العالي للنساء من أجل ألاّ تستمر اللا مساواة بين الجنسين بعد زوال اللا مساواة بين الطبقات الاجتماعية.

 

3- الشروط السياسية، والأيديولوجية، والنفسية والثقافية لبلوغ هذا الهدف

 

إن الشروط المادية لبلوغ مجتمع لا طبقي هي شروط ضرورية لكنها غير كافية، فالاشتراكية والشيوعية لن تكونا الناتج الآلي لتطور قوى الإنتاج، ولاختفاء النقص في الحاجيات، ولارتفاع مستوى التأهيل التقني والثقافي للبشرية. ينبغي كذلك تبديل العادات والتقاليد والبنى الذهنية التي تنتج عن آلاف السنوات من الاستغلال والقمع وعن الشروط الاجتماعية التي تلائم الرغبة في الإثراء الفردي.

قبل كل شيء، ينبغي انتزاع كل سلطة سياسية من الطبقات المسيطرة ومنعها من استعادة تلك السلطة. إن التسليح العام للشغيلة، الذي يحل محل الجيوش الدائمة، ثم التدمير التدريجي لكل الأسلحة وعجز أنصار محتملين لإعادة حكم الأقلية عن إنتاج تلك الأسلحة، كل ذلك ينبغي أن يسمح ببلوغ الهدف المشار إليه.

إن ما يضمن استمرار الشروط التي يستحيل معها العودة لنظام قمع واستغلال يتلخص بالأمور التالية: ديموقراطية مجالس الشغيلة، ممارسة تلك المجالس لكامل السلطة السياسية، الرقابة العامة على الإنتاج وتوزيع الثروات، تأمين علنية تامة للنقاشات التي تؤدي إلى القرارات السياسية والاقتصادية الكبرى، وصول الشغيلة جميعا إلى وسائل الإعلام وتكوين الرأي العام.

يتعلق الأمر فيما بعد بخلق الشروط الملائمة لكي يعتاد المنتجون على العيش بأمان ويتوقفوا عن قياس جهودهم تبعا للمكافآت التي يتوقعونها لقاءها. ولا يمكن لهذه الثورة النفسية أن تظهر إلاّ حين تعلم التجربة الناس أن المجتمع الاشتراكي يضمن فعليا، وبصورة دائمة، كفاية حاجاتهم الأساسية، دون حساب كل واحد منهم، بالمقابل، في الثروة الاجتماعية.

إن مجانية الغداء واللباس الضروري، والخدمات العامة، والعناية بالصحة، والتعليم، والخدمات الثقافية، سوف تسمح ببلوغ هذا الهدف بعدما يكون قد مر على اعتمادها جيلان أو ثلاثة. فمنذ ذاك لا يعود ينظر إلى العمل كوسيلة «لكسب المعيشة» أو لتأمين الاستهلاك الجاري، بل يصبح حاجة للنشاط الخلاق الذي يساهم كل واحد عبره في رخاء الجميع وتطورهم.

إن التبديل الراديكالي لبنى القمع المتمثلة بالعائلة البطريركية وبالمدرسة المتسلطة المتقوقعة في برجها العاجي، وبالاستهلاك السلبي للأفكار و«الخيرات الثقافية»، سوف يتلازم مع هذه التحولات الاجتماعية والسياسية.

لن تتولى ديكتاتورية البروليتاريا قمع أية فكرة وأي تيار علمي أو أدبي أو ثقافي أو فني، فهي لن تخاف من الأفكار، لقناعتها بتفوق الأفكار الشيوعية. ومع ذلك فلن تكون حيادية إزاء النضال الأيديولوجي الذي يستمر. وسوف تخلق كل الشروط الملائمة من أجل أن تتمثل البروليتاريا المتحررة أفضل منتجات الثقافية القديمة، وتبني بالتدريج عناصر الثقافة الشيوعية الموحدة للبشرية القادمة.

إن الثورة الثقافية التي ستطبع بخاتمها بناء الشيوعية ستكون قبل كل شيء ثورة الشروط التي يخلق الناس من ضمنها ثقافتهم الخاصة بهم، وتحويل جمهور المواطنين من مستهلكين سلبيين إلى منتجين ثقافيين فاعلين وخلاقين.

والعائق الأكبر الذي يبقى على البشرية أن تتخطاه لخلق عالم شيوعي إنما هو المسافة الضخمة التي تفصل الإنتاج ومستوى معيشة الفرد في البلدان المتقدمة صناعيا عنهما في البلدان المتخلفة. فالماركسية تنبذ الطوبى الرجعية لشيوعية قائمة على التقشف والعسر. إن تفتح الحياة الاقتصادية والاجتماعية لشعوب نصف الكرة الجنوبي لا يتطلب فقط تخطيطا اشتراكيا للاقتصاد العالمي، بل كذلك إعادة توزيع جذرية للموارد لصالح تلك الشعوب.

إن تبديل أنماط التفكير الأنانية وقصيرة النظر البورجوازية الصغيرة التي تواصل الحياة اليوم على مستوى جزء مهم من الطبقة العاملة في نصف الكرة الشمالي سيسمح وحده ببلوغ هذا الهدف. وعلى التربية الأممية أن تسير نحو هذا الهدف جنبا إلى جنب مع عادة الوفرة التي ستبرهن أنه يمكن القيام بإعادة التوزيع تلك دون إحداث تراجع في مستوى معيشة الجماهير الشمالية.

 

4- أطوار المجتمع غير الطبقي

 

على أساس التجربة الغنية للثورات البروليتارية منذ أكثر من قرن -أي منذ كومونة باريس- يمكن أن نميز ثلاثة أطوار من بناء مجتمع لا طبقي:

- طور الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، وهو طور ديكتاتورية البروليتاريا، واستمرار الرأسمالية في بلدان مهمة، والاستمرار الجزئي للإنتاج البضاعي والاقتصاد النقدي، واستمرار العديد من الطبقات والشرائح الاجتماعية داخل البلدان المنخرطة في هذا الطور، وبالتالي ضرورة استمرار الدولة من أجل الدفاع عن مصالح الشغيلة ضد جميع أنصار العودة إلى مملكة رأس المال.

- طور الاشتراكية، التي ينجز بناؤها والتي تتميز بزوال الطبقات الاجتماعية («الاشتراكية هي المجتمع اللا طبقي» حسب تعبير لينين)، وبزوال الاقتصاد البضاعي والنقدي واخفتاء الدولة وانتصار المجتمع الجديد على المستوى العالمي. إلاّ أنّ مكافأة كل شخص في الطور الاشتراكي (بغض النظر عن الكفاية المجانية للحاجات الأساسية) سيستمر قياسها تبعا لكمية العمل الذي يقدمه هذا الشخص للمجتمع.

- طور الشيوعية، الذي يتميز بالتطبيق الكامل لمبدأ «من كل حسب قدرته، ولكل حسب حاجته»، وبزوال التقسيم الاجتماعي للعمل والفصل بين العمل اليدوي والعمل الذهني، وبزوال الفروق بين المدينة والريف. سوف تعيد البشرية تنظيم نفسها بشكل كومونات حرة من المنتجين-المستهلكين، القادرين على إدارة أوضاعهم بأنفسهم دون أي جهاز منفصل، وقد أعيد دمجهم في وسط طبيعي معاد تأهيله، وقدمت لهم الحماية ضد مخاطر تدمير توازن البيئة.

إلا أنه حين نجد أنفسنا أمام مجتمع لاحق للرأسمالية تخلص من احتكار السلطة بين يدي شريحة بيروقراطية -أي إزاء سلطة فعلية للشغيلة- لن تعود هناك حاجة لأية ثورة وأية قطيعة مفاجئة لتسجيل تعاقب هذه الأطوار، فهي ستنتج عن تطور تدريجي لعلاقات الإنتاج والعلاقات الاجتماعية، وستكون تعبيرا عن الاضمحلال التدريجي للمقاولات البضاعية والمال والطبقات الاجتماعية والدولة والتقسيم الاجتماعي للعمل والبنى الذهنية التي نجمت عن كل الماضي القائم على اللا مساواة والصراع الاجتماعيين. إن الجوهري يكمن في الشروع حالا بسيرورات الاضمحلال وعدم تأجيلها لأجيال قادمة.

هذا هو مثلنا الأعلى الشيوعي، وهو يشكل الحل الوحيد للمشكلات الحادة التي تواجهها الإنسانية. وتكريس الحياة لتحقيقه يبرهن عن الجدارة بفطنة أفضل أولاد جنسنا وشهامتهم، بالمفكرين الأكثر جسارة والمقاتلين الأكثر جرأة من أجل تحرير العمل، بالأمس كما اليوم.

*******

 

16/ الدياليكتيك المادي

 

1- الحركة الشاملة

 

إذا عدنا إلى مضمون الفصول الخمسة عشر السابقة وحاولنا أن نختصرها بصيغة واحدة، لا يمكننا أن نجد أفضل من الصيغة التالية: كل شيء يتغير، كل شيء في حركة دائمة.

لقد انتقلت البشرية من المجتمع البدائي غير الطبقي إلى المجتمع المنقسم إلى طبقات، الذي سيكون بدوره منطلقا للمجتمع الاشتراكي اللا طبقي اللاحق. إن أنماط الإنتاج تتعاقب، وحتى قبل أن تزول تخضع لتبدلات متواصلة. تختلف الطبقة المسيطرة اليوم كثيرا عن طبقة مالكي العبيد التي كانت مهيمنة في الإمبراطورية الرومانية، والبروليتاري المعاصر يختلف كليا عن القن في القرون الوسطى. وبين الرأسمالي صاحب المعمل الصغير في بداية القرن التاسع عشر، والسيد روكفلر أو صاحب تروست رون بولنك في أيامنا هذه، بون شاسع. كل شيء يتغير، كل شيء في حركة دائمة.

هذه الحركة الشاملة يمكن أن نجدها على كل مستويات الواقع، وليس فقط مستوى تاريخ المجتمعات البشرية. فالأفراد يتبدلون، خاضعين لقدر محتوم. إنهم يولدون ويكبرون وينضجون ويرشدون، ثم يشرعون بالانحدار وينتهون إلى الموت، وهذا القدر يصيب الأنواع الحية كما يصيب الأفراد. فالجنس البشري لم يكن حيا على الدوام، والعديد من الأنواع التي كانت تقطن في الماضي كوكبنا، من مثل الزواحف العملاقة في العصر الثالث، قد اندثرت، بينما تندثر الآن تحت أعيننا أنواع أخرى نباتية وحيوانية، وذلك جزئيا كنتيجة لأشكال الخلل الفوضوية التي أحدثها نمط الإنتاج الرأسمالي في البيئة الأرضية.

إن كوكبنا بدوره لن يحيا إلى الأبد، ففقدان الطاقة يحكم عليه بالزوال حتما في يوم من الأيام. كما أنه لم يكن موجودا منذ البدء، فقد ولد من مجموعة نجوم ليست بحد ذاتها إلاّ واحدة من مجموعات لا تحصى مشابهة لها في الكون. إن الحركة أو التطور الشامل تتحكم بكل وجود، وهذا الوجود مادي بحت، وفي أساس المادة ذرات تتألف هي الأخرى من دقائق أصغر، وإدغامات الذرات تشكل جزيئات تكوّن فيما بينها العناصر الأساسية المختلفة للقشرة الأرضية والجو. هكذا فإن الأوكسجين والهيدروجين، بعد أن يدخلا في إدغام معيّن، مرموز إليه بـ H2O يؤلفان الماء، بينما تشكل الجزيئات الأسس التي تقود عملية تكوين الحوامض الأمينية.

هكذا نرى أن تطور المادة غير العضوية أدى إلى ولادة المادة العضوية، ضمن شروط محددة. فالحوامض الأمينية تشكل البروتيينات التي تعمل كخلايا، وهذه الأخيرة تستثير تطور الأنواع الحية، أكانت نباتية أو حيوانية. وتولد في مجرى هذا التطور الكائنات الحية العليا، أو الثدييات، وتتفرع عنها القرديات التي تحدر منها النوع البشري.

 

2-الدياليكتيك، منطق الحركة

 

بما أن حركة شاملة تميز -كما يبدو- كل وجود، فينبغي أن نستخلص ملامح مشتركة بين حركة المادة (أو الطبيعة) وحركة المجتمع الإنساني وحركة معارفنا (أو العلم، الفكر الإنساني). إن الدياليكتيك المادي الذي بلوره ماركس وإنجلز يؤكد أنه عرّى في الواقع هذه الملامح المشتركة للحركة الشاملة.

يتجلى الدياليكتيك إذا، أو منطق الحركة، على ثلاثة مستويات:

 

  ديالكتيك الطبيعة وهو ديالكتيك موضوعي كليا، أي مستقل عن الوجود الإنساني وعن مشاريع الإنسان ونواياه أو حوافزه، وهو لا يفعل مباشرة في التاريخ البشري. لا يستبعد ذلك أن تتمكن البشرية مع تطور قوى الإنتاج من استخدام قوانين الطبيعة من أجل إعادة تكييف بيئتها الطبيعية.

 

  ديالكتيك التاريخ، وهو ديالكتيك موضوعي إلى حد بعيد أولا، ولكن يشكل اقتحامه من جانب مشروع البروليتاريا، القاضي بإعادة بناء المجتمع وفقا لبرنامج معد مسبقا، إنعطافا ثوريا، حتى لو ارتبط وضع هذا المشروع وتحقيقه بشروط مادية موضوعية موجودة مسبقا ومستقلة عن إرادة البشر.

 

  ديالكتيك المعرفة (الفكر الإنساني) الذي هو ديالكتيك الموضوع-الذات بامتياز، وناتج تفاعل مستمر بين الموضوعات المطلوبة معرفتها (موضوعات كل فرع من العلوم) وعمل الذوات التي تسعى لفهمها والتي يشرطها وضعها الاجتماعي، ووسائل التقصي الموروثة الموضوعة تحت تصرفها -وسائل العمل كما المفاهيم- وتحويل تلك الوسائل عبر النشاط الاجتماعي الجاري، الخ.

بمقدار ما يشكل اكتشاف الديالكتيك الموضوعي طورا من تاريخ المعارف والفكر البشري (بلور الديالكتيك في البدء فلاسفة إغربق مثل هيراقليط، ثم استعاده سبينوزا وطوّره هيغل)، يمكن أن نخضع لإغراء إرجاع كل الديالكتيك إلى ديالكتيك الموضوع-الذات، وهو ما يمكن اعتباره خطأ.

واضح أن كل ما نعرفه، ومن بينه ما له علاقة بديالكتيك الطبيعة، إنما نعرفه بواسطة دماغنا وأفكارنا وممارستنا الاجتماعية، التي تحددها شروط وجودنا الاجتماعي. إلاّ أن هذا الواقع البديهي لا يحول دون أن نتمكن من معرفة أن الحياة أقدم من الفكر الإنساني (ومن التأكيد من صحة ذلك، ورؤية إثبات ذلك عن طريق براهين عملية متعددة)، وأن الأرض أقدم من الحياة، والكون أقدم من الأرض، وأن كل هذه الحركة هي حركة مستقلة عن العمل وعن وجود الإنسان أو فكره، وأنّ الفكر الإنساني ذاته هو ناتج تلك الحركة: فالفكر هو المادة التي تعي ذاتها. ذلكم هو المعنى الدقيق لمفهوم: «الديالكتيك المادي».

أكثر من ذلك، فبقدر ما تتحسن معارفنا وتصبح علمية أكثر فأكثر، وبقدرما تقترب المعرفة من الواقع (إن تطابقا كليا للمعرفة والواقع مستحيل، لا سيما لكون هذا الأخير في حالة تبدل دائم)، بمقدار ما تتابع مسيرة تلك المعرفة الحركة الموضوعية للمادة أكثر فأكثر. إن بوسع ديالكتيك فكرنا العلمي، أو الديالكتيك المادي، أن يقارب الواقع، بالضبط لكون حركته الخاصة تتوافق أكثر فأكثر مع حركة المادة، لا سيما بفضل الممارسة الاجتماعية التي تعبر عن سيطرة متنامية على قوى الطبيعة، لأن قوانين المعرفة والفهم الذهني للواقع الذي تطبقه تتوافق أكثر فأكثر مع القوانين التي تقود الحركة الشاملة للواقع الموضوعي.

ينبغي أن نشير إلى وجود اختلاف كبير بين تطور العلوم الطبيعية وتطور العلوم الاجتماعية أي معارفنا المتعلقة بكل ما يتخذ الحياة الاجتماعية موضوعا للبحث، بما فيها معارفنا حول بدايات تطور العلوم جميعا، ومن بينها العلوم الطبيعية، وحول ديالكتيكها.

إن تطور العلوم الطبيعية محدد هو الآخر تاريخيا واجتماعيا، فالناس، ومن بينهم العباقرة الأكثر جسارة، عاجزون عن أن يطرحوا أكثر من عدد معين من المشكلات العلمية في كل عصر، وعن أن يحلوا أكثر منه. إنهم يخضعون للأفكار والتربية المتلقاة، والإشكاليات الجديدة تولد في هذا السياق، في علاقة مع تبدلات مادية، لا سيما تلك المتعلقة بالعمل وبأدوات العمل وأدوات الاستقصاء العلمية، الخ. إلاّ أن الأمر يتعلق بتحديد غير مباشر، لا تتوسطه بشكل مباشر مصالح مادية طبقية. ولا يمكن دحض نظريات علمية تقوم على براهين اختبارية عن طريق الرجوع إلى الديالكتيك عموما أو إلى الأصل الاجتماعي أو المواقف السياسية لدى العلماء الذين صاغوا تلك النظريات. لا يمكن دحضها إلاّ عبر نظريات علمية أخرى جرى البرهان على صحتها اختباريا، نظريات تحلل بشكل أفضل واقعا أكثر تعقيدا.

يختلف الأمر مع العلوم الاجتماعية، إذ هي تتناول عن كثب أكثر تنظيم المجتمع الطبقي وبنيته. ووزن «الأفكار المتلقاة والموروثة» أكبر فيها، لا سيما أن هذه الأفكار ليست سوى التعبير، على المستوى الإيديولوجي، عن مصالح ترمي للمحافظة على الواقع الاجتماعي أو للثورة الاجتماعية، مصالح يمكن إرجاعها في نهاية المطاف إلى مواقف طبقية متضادة. ودون أن نريد تحويل الفلاسفة والمؤرخين والاقتصاديين وعلماء الاجتماع والأنتبولوجيا إلى «عملاء» واعين لهذه أو تلك من الطبقات الاجتماعية، منخرطين في «مؤامرة» للدفاع عن الوضع القائم أو لـ«تنظيم التخريب»، من البديهي أن التحديد الاجتماعي لتطور العلوم الاجتماعية هو أكثر مباشرة وفورية بكثير من تطور العلوم الطبيعية. وفي الوقت ذاته، فإن موضوع العلوم الاجتماعية يتحدد فورا، وبقوة الأشياء، ببنية المجتمعات التي ترتبط بها الوقائع المدروسة وبتاريخها، وهو ما ليس حال موضوع العلوم الطبيعية.

 

3- الديالكتيك والمنطق الصوري

 

يتميز الديالكتيك، أو منطق الحركة، عن المنطق الصوري أو المنطق السكوني. فالمنطق الصوري يقوم على ثلاثة قوانين أساسية:

أ- قانون التماثل: أ = أ. يبقى الشيء مساويا لداته على الدوام.

ب- قانون التضاد: أ، مختلفة عن لا-أ، أ لا يمكن أن تكون مساوية أبدا للا -أ.

ج- قانون الثالث المستبعد: أمّا أ، وأمّا لا-أ. لا يمكن لشيء أن لا يكون أ، وأن لا يكون لا-أ.

تسمح لنا لحظة من التأمل بالاستنتاج أن ما يميز المنطق الصوري هو المسار الذي يكمن في وضع الحركة والتبدل بين هلالين. كل القوانين التي أوردنا صحيحة، إذا لم نأخذ الحركة بالاعتبار. أ تبقى مساوية لذاتها طالما لم تتغير. أ تختلف عن لا-أ طالما لم تتحول إلى نقيضها. هنالك أ، او لا-أ طالما ليست هناك حركة تدغم أ مع لا-أ، الخ، الخ. إزاء لآتحول الشرقنة إلى فراشة والمراهق إلى راشد، يصبح «قانون التماثل» غير كاف، بوضوح.

إن غض النظر عن الحركة والتحول والتبدلات مفيد من زاويتين: أولا للتمكن من دراسة ظاهرات معينة بصورة معزولة ومتواصلة، وهو ما يسمح، دون شك، بتعميق معارفنا حول هذه الظاهرات. وبالتالي، من زاوية عملية، حين تكون التبدلات الحادثة طفيفة للغاية بحيث يمكن تجاهلها عمليا.

فإذا اشتريت كيلو سكر من حانوت السمان، فالمساواة التي يشير إليها الميزان: 1 كغ سكر = 1 كغ، ذات قيمة بالنسبة إلي، نظرا للهدف العملي للشراء. فللتمكن من تحلية قهوتي والإبقاء على توازن موازنتي المنزلية، لا يهم كثيرا ألاّ يكون الوزن الفعلي لهذه الرزمة كيلو غراما، بل فقط 999 غ، وأن يكون وزن تلك الرزمة الأخرى 980 غ (بسبب رطوبة الجو على الأقل)، ففرق صغير جدا يمكن تجاهلها من الزاوية العملية.

هذا هو السبب في أن المنطق الصوري ما يزال يستخدم في النظرية كما في الممارسة، وفي أن الديالكتيك المادي لا «ينكر» المنطق الصوري بل يستوعبه، يعتبره أداة تحليل ومعرفة مقبولة -لكن مقبولة شرط فهم حدودها: أي فهم استحالة تطبيقها على ظاهرات الحركة وسيرورة التبدل. فمذ نصبح إزاء هكذا ظاهرات يفرض اللجوء إلى مقولات الديالكتيك، أو منطق الحركة، نفسه، وهي مقولات مختلفة عن مقولات المنطق الصوري.

 

4- الحركة، تبعا للتناقض

 

الحركة بطبيعتها عبور وتخطّ. فمن زاوية سكونية، لا يمكن لشيء محدد أن يكون في مكانين مختلفين في الوقت ذاته (ولو كان هذا الوقت في منتهى القصر). وحركة الشيء، من وجهة النظر الدينامية، هي بالتحديد انتقاله من نقطة إلى أخرى.

يدرس الدياليكتيك أو منطق الحركة إذا قوانين الحركة على وجه الخصوص، والأشكال التي تتبناها. وسوف نتفحص تلك القوانين من وجهتين: الحركة تبعا للتناقض، والحركة تبعا للكلية.

لكل حركة سبب دائما، والسببية واحدة من مقولات الدياليكتيك الأساسية، تماما كما هي مقولة أساسية في كل علم. وإنكار السببية هو إنكار لإمكانية المعرفة، في نهاية المطاف.

إن السبب الأخير لكل حركة، ولكل تبدل، يكمن في التناقضات الداخلية للموضوع المتبدل. كل موضوع، كل ظاهرة، يتغير، يتحرك، يتعدل، ويتحول في التحليل الأخير تحت تأثير تناقضاته الداخلية والتناقضات التي تنتج عن علاقاته بظاهرات أخرى (تناقضات داخلية في «نظام» الموضوعات والظاهرات التي هو جزء منها). بهذا المعنى، غالبا ما سمي الدياليكتيك، بحق، علم التناقضات. إن منطق الحركة ومنطق التناقضات تعريفان متماثلان عمليا للديالكتيك.

ينبغي إذا لتحليل كل موضوع، وكل ظاهرة أو مجموعة من الظاهرات، أن يهدف لتحديد ما هي عناصره المكونة المتناقضة، وما هي الحركة أو الدينامية التي تستثيرها تلك التناقضات.

هكذا رأينا على امتداد عرضنا إلى أي حد يقوم الصراع الطبقي -وهو محصلة وجود طبقات اجتماعية متضادة داخل المجتمع- بتوجيه حركة تاريخ المجتمعات المنقسمة إلى طبقات. يمكننا أن نقول، ونحن نشمل في الوقت ذاته المجتمع البدائي غير الطبقي والمجتمع المنقسم إلى طبقات والمجتمع الاشتراكي القادم، أن التناقض بين المستوى الذي بلغه في بعض العهود تطور قوى الإنتاج (درجة تحكم الإنسان بالطبيعة)، وعلاقات الانتاج (التنظيم الاجتماعي) المنبثقة في التحليل الأخير من مستويات تطور سابقة لقوى الانتاج ذاتها، إنما يوجه كل التطور البشري.

يمكننا ونحن نختصر الأمور إلى درجة لا متناهية أن نشير إلى القوانين التالية للحركة، أو الأشكال الرئيسية التي تتخذها، والتي تقدم مقولات أساسية للمنطق الدياليكتيكي أو منطق الحركة:

أ- وحدة الأضداد وتداخلها وصراعها

من يقل حركة يقل تناقضا، ومن يقل تناقضا يقل تعايشا بين عناصر متعارضة بعضها مع البعض الآخر، تعايشا وصراعا في الوقت ذاته بين تلك العناصر. إذا كان ثمة تجانس كلي وانعدام كامل لعناصر متعارض بعضها عن البعض الآخر، فليس هناك تناقض وليس هناك حركة، لا حياة هنالك ولا وجود. يتشكل الوجود من وحدة عناصر متضادة ومن تداخلها وصراعها، أي من حركتها.

إن وجود عناصر متناقضة يشمل (تعايشها في كلية مبنية totalité structurée، في مجموع لكل من هذه العناصر مكانه ضمنه، وفي الوقت ذاته صراع تلك العناصر لتحطيم هذا المجموع. ليست الرأسمالية ممكنة دون الوجود المتلازم لرأس المال والعمل المأجور، للبورجوازية والبروليتاريا. ولا يمكن للواحد أن يوجد دون الآخر، إلا أن هذا لا يعني أن لا يسعى الواحد باستمرار ليكبت الآخر، وأن لا تسعى البروليتاريا لإلغاء رأس المال والعمل المأجور، إذا لتخطي الرأسمالية.

ب- تحولات كمية وتحولات نوعية

تتخذ الحركة شكل تحولات تبقي على بنية (أو نوعية) الظاهرات، وسوف نتكلم في هذه الحالة على تبدل كمي، غالبا ما يكون غير ملحوظ. منذ بلوغ «عتبة» معينة، يتحول التبدل الكمي إلى تبدل نوعي، ومنذ تلك «العتبة»، بدل أن يحدث التبدل الكمي تدريجيا يتم بـ«قفزة»، وتظهر للحال «نوعية» جديدة. يمكن لقرية صغيرة أن تتحول تدريجيا إلى قرية كبيرة أو دسكرة، لا بل إلى مدينة صغيرة. لكن بين مدينة وقرية، ليس هنالك فرق كمي (عدد السكان والأبنية، الخ) وحسب، بل كذلك فرق نوعي. فالنشاط المهني لاغلبة السكان قد تغير، وحل محل المزارع العامل والمستخدم. لقد ولدت بيئة اجتماعية جديدة تطرح مشكلات اجتماعية لم تكن قائمة في القرية، من مثل مشكلة النقل المشترك، وتظهر طبقات اجتماعية جديدة وتناقضات جديدة فيما بينها.

ج- النفي والتخطي

كل حركة تميل لانتاج نفي لبعض ظاهراتها، ولتحويل موضوعات إلى نقيضها. الحياة تنتج الموت، ولا يمكن الشعور بالحرارة إلاّ تبعا للبرد، والمجتمع اللا طبقي ينتج المجتمع المنقسم إلى طبقات، الذي ينتج بدوره مجتمعا غير طبقي. إلاّ أنه ينبغي التمييز بين النفي «الصرف» و«نفي النفي»، الذي هو تخطي التناقض إلى مستوى أعلى، يستتبع في الوقت ذاته نفيا ومحافظة وارتفاعا إلى مستوى أعلى. لقد كان للمجتمع البدائي اللاطبقي مستوى عال من التماسك الداخلي، تبعا لفقره على وجه التحديد، ولخضوعه شبه الكلي لقوى الطبيعة. إن المجتمع المنقسم إلى طبقات هو مرحلة من السيطرة العليا للإنسان على قوى الطبيعة، ثمنها تمزق أعمق للتنظيم الاجتماعي. أمّا في المجتمع الاشتراكي القادم فهذا التناقض سيتم تخطيه، وسوف يندمج إذاك شكل رفيع من سيطرة الإنسان على الطبيعة بشكل رفيع أيضا من التماسك الاجتماعي والتعاضد، بفضل وجود مجتمع لا طبقي.

 

5- بعض المشكلات الإضافية بخصوص ديالكتيك المعرفة

 

أ- المضمون والشكل

كل حركة تتخذ بالضرورة أشكالا متتالية، يمكن أن تتبدل وفقا لعدد كبير من الظروف، وليس بوسعها أن تتخلص آليا من هذا الشكل أو ذاك الذي تم تبنيه من قبل، فهو يقاوم وهذه المقاومة ينبغي تحطيمها. ينبغي أن يتوافق الشكل مع المضمون، وهو يتوافق معه إذا، إلاّ أن ذلك لا يتعدى درجة معينة. فطبيعة الشكل الأكثر تحجرا تتعارض مع كل توافق مطلق ودائم مع حركة هي النقيض بالذات لكل ما هو متحجر.

ب-الأسباب والنتائج

كل حركة تبرز كسلسلة متداخلة من الأسباب والنتائج، يمزجها بعضها ببعض تفاعل معقد جدا، للوهلة الأولى. إن سبب العمل المأجور هو التملك الخاص لوسائل الانتاج التي أصبحت حكرا على طبقة اجتماعية، إلاّ أن هذا الاحتكار يستمر بالضبط كنتيجة للعمل المأجور. فالأجور لا تسمح باكتساب العمال وسائل الإنتاج، والعمل المأجور ينتج فائض قيمة يستملكه الرأسماليون ويتحول إلى ملكية بورجوازية لوسائل إنتاج إضافية، وهكذا دواليك.

لكي لا نقع في انتقائية مبتذلة وعقيمة، علينا تطبيق الطريقة التكونية، أي البحث عن الأصل التاريخي للحركة التي نحن بصددها. هكذا نجد أن رأس المال وفائض القيمة سابقان للعمل المأجور، وأنهما انبثقا من خارج دائرة الإنتاج، وأنه قد حصل تراكم بدائي لرأس المال، يكسر حلقة الأسباب والنتائج، عمل مأجور-رأس المال-عمل مأجور، هذه الحلقة المقفلة في الظاهر.

ج- العام والخاص

لكل حركة وكل ظاهرة ميزات خاصة بها. ورغم هذه الميزات النوعية الخاصة، فكل حركة، كل ظاهرة، لا يمكن فهمها وتفسيرها إلاّ في إطار مجموعات أوسع وأعم، فالرأسمالية البريطانية في القرن التاسع عشر لا تشبه الرأسمالية البريطانية في النصف الثاني من القرن العشرين، ولا الرأسمالية الأمريكية الحالية. كل من هذه الرأسماليات يمثل تكوينا اجتماعيا خاصا، مع الانخراط الخاص في اقتصاد عالمي تغير جدا في ظرف قرن. بيد أنه لا يمكن فهم الرأسمالية البريطانية في العصر الفيكتوري، ولا الرأسمالية البريطانية الآفلة المعاصرة، ولا الرأسمالية الأمريكية الحالية، خارج قوانين التطور العامة التي تطبع الرأسمالية عموما. فالديالكتيك العام والخاص لا يكتفي بـ«دغم» تحليل «العام» و«الخاص». إنه يجتهد في تفسير الخاص تبعا للقوانين العامة، وفي تعديل القوانين العامة تبعا لفعل العديد من العوامل الخاصة.

هـ-النسبي والمطلق

إن فهم الحركة أو التبدل الشامل هو فهم وجود ما لا نهاية له من الحالات الانتقالية. «الحركة هي وحدة التواصل والانقطاع» (هيغل). لذا فإن واحدة من الميزات الأساسية للديالكتيك هي فهم نسبية الأشياء، هي رفض إقامة حواجز مطلقة بين المقولات، السعي وراء توسطات بين العناصر المتعارضة. ويستتبع التطور الشامل وجود ظاهرات هجينة، وجود أوضاع وحالات «انتقالية» بين الحيات والموت، بين الأنواع النباتية والحيوانية، بين العصافير والثيديات، بين القرود والإنسان، تجعل التمايزات بين كل هذه المقولات نسبية.

بيد أن الدياليكتيك قد استخدم مرارا عديدة بصورة ذاتية، كـ«فن خلط المفارقات» أو «فن الدفاع عن المفارقات». ويكمن الفرق بين الدياليكتيك العلمي، أداة معرفة الواقع، والديالكتيك الذاتي أو السفسطائية، في أن نسبية الظاهرات والمقولات تصبح بدورها شيئا مطلقا لدى السفسطائيين. إنهم ينسون (أو يتناسون) أن نسبية المقولات ليست سوى نسبية جزئية، لا نسبية مطلقة، وأنه ينبغي إذا تنسيب النسبية.

يقول الديالكتيك العلمي أن الفرق «المطلق» بين الحياة والموت يحد من إطلاقيته وجود حالات إنتقالية. كل شيء نسبي، فليس الفرق بين الحياة والموت إذا إلا نسبيا، إذا لم يكن معدوما، حسب ادعاء السفسطائي. إلاّ أن الديالبكتيكي يرد عليه بقوله: ثمة شيء مطلق في الفرق بين الحياة والموت، لا نسبي وحسب. يجب ألاّ نخرج بالاستنتاج العبثي الذي يكمن في إنكار أن الموت يبقى نفي الحياة، إنطلاقا من الواقع الثابت أن ثمة العديد من المراحل الوسطية.

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.