اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ألمكتبة

• مدخل الى الاشتراكية العلمية .. الجزء الرابع والاخير - الصفحة 3

 6- الحركة، تبعا للكلية-المجردة والملموس

 

 

رأينا أن كل حركة ترتبط على الدوام بالتناقضات الداخلية للظاهرة أو لمجموعة الظاهرات المأخوذة بالاعتبار. كل ظاهرة -أكانت خلية حية، أو بيئة طبيعية تتعايش فيها أجناس متنوعة، أو مجتمعا إنسانيا، أو نظاما كواكبيا- تنطوي مع ذلك على ما لا يحصى من الوجوه والعناصر المكونة. ولا تتجمع هذه العناصر بعضها مع بعض بصورة عرضية ومتبدلة باستمرار، بل تشكل مجموعات مبنية، تشكل كلية مركبة بناء على قوانين محددة.

هكذا فالعلاقات المتبادلة والمتضادة، في المجتمع البورجوازي، بين رأس المال والعمل ليست عرضية على الاطلاق، بل يحددها الاضطرار الاقتصادي للعامل المأجور إلى بيع قوة عمله للرأسمالي مالك وسائل الإنتاج ووسائل الاستمرار على قيد الحياة، بشكل بضائع. إن علاقات متبادلة مختلفة نوعيا عن هذه العلاقات أنتجت مجتمعات أخرى قائمة على الاستغلال، إلاّ أنها لم تكن بمجتمعات رأسمالية.

على الدياليكتيك المادي إذا أن يتناول كل ظاهرة، وكل موضوع تحليل ومعرفة، لا فقط ليحدد تناقضاته الداخلية التي تتحكم بتطوره («قوانين تطوره»)، بل عليه أن يسعى كذلك لتناول تلك الظاهرة بصورة اجمالية، وأن يفهمها بكل جوانبها، ويعتبرها بكليتها، ويتحاشى كل مقاربة من جانب واحد، تعزل هذا الوجه الخاص أو ذاك من وجوه الواقع عزلا اعتباطيا، وتلغي بالاعتباط ذاته هذا أو ذاك من وجوه، وتعجز بالتالي عن فهم التناقضات بمجملها، إذا عن فهم الحركة بكليتها.

إن قدرة الدياليكتيك هذه على أن يدمج في تحليله المنهج «الشمولي» (أو Allseitigkeit كما يقول لينين بالألمانية والروسية) هي إحدى جداراته الرئيسية. و«منطق الحركة» و«منطق التناقض» و«منطق الكلية» مرادفات على المستوى العملي. إن بعض المفكرين غير الديالكتيكيين يمضون من الكلي إلى الجزئي، مفرغين التناقض والكلية في الوقت ذاته، وذلك فيما يغمضون الأعين إزاء بعض عناصر الواقع المتناقضة التي تبدو كما لو كانت تجعل التحليل «عظيم التعقيد».

طبعا إن اختزالا ما، «حصرا» لـ«الكلية» بعناصرها المكونة الحاسمة، أمر محتوم كمسعى أول لمقاربة أي تحليل علمي. وهذا الأخير هو في البدء مجرد بالضرورة، فبدون هذا التجريد يستحيل تحليل الظاهرة في حركتها ومع تناقضاتها. كل «تفسير» يبقى متعلقا بالظاهرات الظاهرة هو وصف أكثر منه تفسير علمي لجوهر تلك الظاهرات. إن الأسعار مثلا هي ظاهرات ظاهرة، والقيمة، أو العمل الاجتماعي، هي الجوهر.

إلاّ أنه ينبغي ألاّ ننسى أن سيرورة التجريد المحتومة هذه تفقر الواقع. فكلما اقتربنا أكثر من الواقع كلما اقتربنا من كلية غنية بما لا يحصى من الوجوه التي على التحليل العلمي والمعرفة أن يفسراها في علاقاتها المتبادلة وفي علاقاتها المتناقضة في الوقت ذاته: «الحقيقة دائما ملموسة» (لينين). «الحقيقي هو الكلية» (هيغل). إن الكلية هي مجمل الجوهر، ومظاهره، والتوسطات التي تفسر لماذا يتجلى الجوهر في هذه المظاهر بالضبط لا في مظاهر أخرى.

 

7- النظرية والممارسة

 

إن الدياليكتيك نظرية، أو أداة، للمعرفة. يمكن أن نعرف الدياليكتيك المادي، تاريخيا، كنظرية المعرفة لدى البروليتاريا (وهو ما لا ينقص في شيء طابعها العلمي الموضوعي الذي يتطلب تثبتا دائما، وصارما، وموضوعيا، من دون مسبقات أو تحيّزات، في الميدان العلمي أيضا). وكل نظرية للمعرفة تخضع لامتحان صارم هو امتحان الممارسة.

ليست المعرفة ذاتها، في التحليل الأخير، ظاهرة منفصلة عن حياة الناس ومصالحهم. فهي سلاح للمحافظة على النوع، وسلاح يسمح للانسان بالسيطرة على قوى الطبيعة، وسلاح لفهم (لاحق) لجذور «المسألة الاجتماعية» ووسائل حلها. لقد انبثقت المعرفة إذا من الممارسة الاجتماعية لدى الانسان، ووظيفتها تحسين هذه الممارسة. وتقاس فعاليتها في التحليل الأخير بنتائجها العملية، فالتثبت العملي من صحتها أفضل سلاح ضد السفسطائيين والمتشككين.

لا يعني ذلك أن النظرية تذوب في برنامج مبتذل قصير النظر. فغالبا ما لا تظهر فورا الفعالية العملية، والطابع «الصحيح» أو«المغلوط» لفرضية علمية. هنالك حاجة للوقت، للمسافة، لتجارب جديدة، ولسلسلة متتالية من «امتحانات الممارسة» قبل أن يتمكن الطابع العملي لنظرية محددة من فرض نفسه فعليا في الممارسة. يمكن للعديد من الرجال والنساء، أسرى المظاهر، وأسرى رؤية جزئية وسطحية للواقع، رؤية مؤقتة للسيرورة الثورية (التي تحددها بدورها أيديولوجية الطبقات أو الشرائح الاجتماعية غير الثورية)، أن يشكوا، رغم أفضل النوايا والقناعات الاشتراكية، بعضهم بالطابع البورجوازي للديموقراطية البرلمانية، وبعضهم بضرورة ديكتاتورية البروليتاريا، والبعض الآخر بضرورة انتصار الثورة الأممية لاستكمال بناء مجتمع اشتراكي حقا في الاتحاد السوفياتي أو في بلد آخر.

بيد أن الوقائع تنتهي في خاتمة المطاف باثبات أي نظرية كانت علمية حقا، أي قادرة على فهم الواقع بكل تناقضاته، وكل حركته الاجمالية وأي الفرضيات كانت خاطئة، إي قادرة على أن تفهم فقط أجزاء من الواقع، عبر عزلها عن الكلية المبنية، وبالتالي عاجزة عن فهم الحركة على المدى الطويل بالدياليكتيكها الأساسي. إن انتصار الثورة الاشتراكية العالمية، وبلوغ مجتمع لا طبقي، سوف يثبتان عمليا صحة النظرية الماركسية الثورية.

********

 

 

17/ المادية التاريخية

 

نرى في الختام أن نصوغ بصورة أكثر منهجية الموضوعات الأساسية للمادية التاريخية، التي جرى الإلمام بها سريعا في الفصول الأولى من هذا الكتيب

***

 

 

1- الإنتاج والتواصلات الإنسانية

 

المخلوق الذي أصبح إنسانا حيوان خاص من حيث مواصفاته ونقاط ضعفه البدنية. فمن جهة هناك القامة الواقفة، واليد ذات الإبهام الحر والمطواع، والعينان المرتفعتان اللتان تسمحان بالرؤية الناتئة, واللسان والحلق والأوتار الصوتية التي تسمح بالتلفظ بأصوات متقطعة ومدموجة، والفص الجبهي من الدماغ والتلافيف المخية وقشرة الدماغ المتطورة جدا، والتكوير الجمجمي والحد من مساحة الوجه، التي تسمح بهذا التطور: هذه الصفات الجسدية جميعا لا غنى عنها من أجل صنع الأدوات، وهي تتحسن مع تحسن الأدوات والعمل الإنتاجي.

لكن من جهة أخرى، معظم الحواس والأعضاء البشرية أقل تطورا منها لدى أنواع حيوانية متخصصة جدا. فلم يكن بوسع الإنسان البدائي، المضطر تحت وطأة تغيير في المناخ حتما للترجل من الأشجار والعيش في السهول المعشبة على غذاء متنوع، أن يدافع عن نفسه ضد آكلات اللحوم من الحيوانات عن طريق الركض كالضبي، ولا عن طريق التسلق كالشمبانزي، ولا عن طريق الطيران كالعصفور، ولا بالاكتفاء بقوته البدنية كالجاموس أو الغوريلا، ولا بفضل قوقعة كتلك التي لوحيد القرن. لم يكن بوسعه الحصول لوحده على الغداء الأكثر إثارة للقابلية، نظرا لوجود عدد لا يحصى من المجترات التي تعيش معه في السهل المعشب. ثم أن الوليد البشري كان سريع العطب وعاجزا بوجه خاص، وغرائزه قليلة النمو بوضوح، وهو بمثابة جنين حقيقي خارج الرحم محتاج كليا لعناية أمهات الجماعة (إن وضع الوقوف الذي ضيّق حوض النساء ساهم بالتأكيد في هذا الطابع المبكر للوضع لدى أفراد الجنس البشري).

في هذا الخليط من الميزات ونقاط الضعف تمد الجذور إمكانية التنظيم الاجتماعي وضرورته. فالإنسان عاجز عن الحياة منعزلا وعن تأمين معيشته خارج التعاون مع آخرين من نوعه. ولا تسمح له أعضاء جسده غير النامية بالحصول مباشرة على طعامه، إذ عليه أن ينتج هذا الطعام بصورة جماعية، بواسطة أدوات تشكل امتدادا لأعضائه وتحسينا لها. ذلك هو اللعمل المشترك لمجموعة بشرية تؤمن هذا الإنتاج. إن الأطفال البشريين يندمجون بالجماعة عن طريق الكسب التدريجي للطابع الاجتماعي ويتعلمون قواعد الاستمرار في الحياة وتقنيته كأعضاء في الجماعة.

إن التنظيم الاجتماعي للبشر واكتساب الأطفال الطابع الاجتماعي يفرضان مسبقا أشكالا عالية نوعيا من التواصلات بين أعضاء الجماعة البشرية، بالنسبة إلى تلك التي تعرفها أنواع حيوانية أخرى. هذه الأشكال الرفيعة من اللغة، المرتبطة بتطور القشرة الدماغية، تسمح بانطلاق القدرة على التجريد، وعلى التعلم، أي حفظ دروس التجارب ونقلها، كما تسمح بإنتاج المفاهيم والفكر والوعي. بهذا المعنى، ترتبط مواصفات الإنسان المختلفة -«صفتنا الأنتربولوجية»- ارتباطا وثيقا بعضها بالبعض الآخر. فلكون الانسان «قردا عاريا يسير واقفا» ولأنه يبقى بعد ولادته «جنينا خارج الرحم»، عليه أن يصير صانع أدوات، حيوانا اجتماعيا مطورا للغته، يختزن الانطباعات والصور المتتالية، قادرا على استخدامها لغايات التجريد، قادرا على التفكير والتخيل والاختراع.

إن التفاعل بين هذه المواصفات ودغمها أمر حاسم، فثمة قرود متطورة جدا تستخدم أدوات وتستطيع حتى أن تتخطى أحيانا عتبة صناعتها البدائية، وثمة العديد من الأنواع التي تعرف أشكالا غريزية من التعاون الجماعي، لا بل ثمة أنواع كثيرة تعرف أشكالا بدائية من التواصل. إلاّ أن النوع البشري هو الوحيد القادر على صنع الأدوات بصورة واعية أكثر فأكثر، من أجل أن تصير أكثر فأكثر اتقانا، بعد أن تم تصميمها على هذا الحال بشكل واع، على قاعدة التجربة التدريجية، التي يتم نقلها بفضل وسائل اتصال أكثر فأكثر تنوعا وأكثر فأكثر اتقانا. فالأدات تسمح بتحرير الفهم، وهو ما يسمح بتحسين الأداة عن طريق إتقان اللغة والقدرة علىالتجريد. أمّا اليد فتطور الدماغ الذي يخلق شروط تحسين قدراته عن طريق تحسين استخدام اليد.

إذا كان تحويل المقدمات البشرية إلى بشر مشروطا بوجود بنية تحتية تشريحية وعصبية، فهو لا يقتصر على هذه البنية التحتية. فالديالكتيك «إنتاج/ وسائل اتصال» يخلق إمكانية تطور غير محدود لصنع الأدوات، وبالتالي الإنتاج البشري، تطور غير محدود للتجارب وإمكانات التعلم البشرية، إذا مطواعة وقدرة على التكيف غير محدودتين عمليا لدى الجنس البشري. يصبح المجتمع وثقافة الإنسان المادية طبيعته الثانية.

ينتج عن ذلك أنه من العبث إعلان هذه أو تلك من المؤسسات الاجتماعية (الملكية الخاصة، انعدام الملكية الخاصة) «متعارضة مع الطبيعة البشرية»، فالإنسان عاش، ويمكنه أن يعيش، ضمن أقصى الشروط تنوعا، وما من مؤسسة بدت ممتنعة على التحول أو شرطا مسبقا مطلقا لاستمرار الإنسان على قيد الحياة. إن التأكيد أن «الغريزة العدوانية» سوف تهيمن على التطور البشري إنما هو الخلط بين وجود ميل (يتعايش في كل حال مع نفيه، الذي هو غريزة الحس الاجتماعي والتعاون) وتحقيقه. فالتاريخ وما قبل التاريخ يؤكدان وجود مؤسسات وشروط اجتماعية تسمح باحتواء هذا الاتجاه وكبته، بينما ثمة مؤسسات أخرى تشجع على العكس تجليه الأكثر فأكثر إفراطا.

إن ديالكتيك «الإنتاج-التواصل» يتحكم بالشرط الإنساني بكامله. فكل ما يصنعه الإنسان «يمر عبر رأسه»، والإنتاج البشري يتميز عن التملك الحيواني للغذاء بواقع كونه ليس نشاطا غريزيا. إنه يشكل عموما تنفيذا لمشروع يجول أولا في رأسه، إلاّ أن هذا «المشروع» لا يسقط من السماء، وهو ليس سوى عمد دماغ الإنسان إلى إعادة إنتاج، أو تأليف، عناصر نشاطات لا غنى عنها لاستمراره ومشكلاتها، التي اختبرها هذا الدماغ وسجلها مئات المرات على أساس ممارسة فعلية. إن المادية التاريخية هي علم المجتمعات الإنسانية الذي يحاول أن يعطي صورة عن ديالكتيك «الإنتاج-التواصلات البشرية» وأن يشرحه.

 

2- القاعدة والبنية الفوقية الاجتماعيتان

 

على كل مجتمع بشري أن ينتج لكي يستمر على قيد الحياة، فإنتاج وسائل العيش -بالمعنى الضيق أو الواسع للكلمة، أي كفاية الحاجات الاستهلاكية- وأدوات العمل ومواده الضرورية لهذا الإنتاج، هو الشرط المسبق لكل تنظيم أو نشاط اجتماعي أكثر تعقيدا.

تعتبر المادية التاريخية أن الطريقة التي ينظم الناس وفقا لها إنتاجهم المادي تشكل أساس كل تنظيم اجتماعي. ويحدد هذا الأساس بدوره كل النشاطات الاجتماعية الأخرى، من مثل إدارة العلاقات بين الجماعات البشرية (لا سيما ظهور الدولة وتطورها)، والإنتاج الفكري، والقانون والأخلاق والدين الخ. وهذه النشاطات العائدة -كما يقال- للبنية الفوقية في المجتمع، يتم ربطها بالأساس دائما، بصورة أو بأخرى.

لقد صدمت هذه الفكرة الكثير من الناس ولا تزال تصدمهم. فهل يمكن للأناجيل، وشعر هوميروس، ومبادئ الحق الروماني، ومسرح شكسبير، ورسم ميكايلانج، وإعلان حقوق الإنسان، والبيان الشيوعي بالذات، أن تتوقف على الطريقة التي كان معاصروها يحرثون حقولهم وفقا لها أو يدعكون الأجواخ؟ إن فهم موضوعة المادية التاريخية يتطلب البدء بصياغتها بشكل صحيح.

لا تؤكد المادية التاريخية أبدا أن الإنتاج المادي («العامل الاقتصادي») يحدد بصورة مباشرة وفورية مضمون كل النشاطات، التي تنسب إلى البنية الفوقية، وشكلها. والأساس الاجتماعي - ليس النشاط الإنتاجي من حيث هو كذلك، كما ليس «الإنتاج المادي» منظورا إليه لوحده، بل هو العلاقات الاجتماعية التي يعقدها الناس فيما ينتجون حياتهم المادية. فالمادية التاريخية ليست إذا حتمية اجتماعية-اقتصادية.

ثم إن النشاطات على مستوى البنية الفوقية لا تنجم مباشرة عن علاقات الإنتاج الاجتماعية هذه، ولا تتحدد بها إلاّ بالدرجة الأخيرة. فبين مستويي النشاط الاجتماعي سلسلة من التوسطات سوف نمر بها بإيجاز في النقطة الثالثة من هذا الفصل.

أخيرا، إذا كان الأساس الاجتماعي يحدد بالتحليل الأخير الظاهرات والنشاطات على مستوى البنية الفوقية، يمكن لهذه الإخيرة أن تبادله الفعل. ونكتفي بمثال في هذا المجال. فللدولة على الدوام طبيعة طبقية محددة، وهي تتناسب ذا مع قاعدة اجتماعية -اقتصادية محددة، إلاّ أنها تستطيع بدورها تعديل تلك القاعدة جزئيا. فدولة الملكية المطلقة (في القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر، في أوروبا) التي علمت خلال قرون عديدة على انقاد طبقة النبلاء الإقطاعية من الدمار الاقتصادي عن طريق اقتطاعات من مداخيل طبقة اجتماعية أخرى، كانت إلى حد بعيد وراء إحلال نمط الإنتاج الرأسمالي محل نمط الإنتاج الإقطاعي عبر تطوير المركنتيلية والاستعمار وتشجيع المانيفكتورات والنظام النقدي القومي، الخ

إن كون النشاطات على مستوى البنية الفوقية تتحدد في التحليل الأخير بالقاعدة الاجتماعية يمكن تفسيره بعدة أسباب. فمن يشرفون على الإنتاج المادي وفائض الإنتاج الإجتماعي يشرفون في الوقت ذاته على من يتعيشون على فائض الإنتاج الاجتماعي. وسواء وافق المنظرون والفنانون والعلماء على هذه التبعية أو تمردوا عليها، فهي تحدد مع ذلك إطار نشاطهم. والعلاقات الاجتماعية على صعيد الإنتاج تولد نتائج من حيث أشكال النشاط في دائرة البنية الفوقية، وهذا أيضا من قبيل التكييف لها والتحكم بها. إن علاقات الإنتاج تترافق بأشكال تواصل مسيطرة في كل نموذج من المجتمعات، وهو ما يؤدي إلى ظهور بنى ذهنية مسيطرة تكيّف أشكال الفكر والخلق الفني الخ. الخ.

 

3- الإنتاج المادي والإنتاج الفكري

 

إن ديالكتيك الأساس/البنية الفوقية الاجتماعيين يعيدنا إلى العلاقات بين الإنتاج المادي والإنتاج الفكري. ويسمح تفحص أكثر تعمقا لهذه العلاقات بفهم افضل لتعقيد هذا الدياليكتيك، كما يسمح كذلك بإبراز أهمية العنصر الفاعل في هذا الدياليكتيك، وهو عنصر ستتم معالجته في نهاية هذا الفصل.

تعتبر المادية التاريخية أن علاقات الإنتاج تشكل أساس كل مجتمع، الذي تقوم عليه البنية الفوقية: هذان المستويان يتعلقان في الواقع بشكلين متمايزين من النشاط الاجتماعي. فالإنتاج المادي هو الموضوع الأساسي للنشاطات على مستوى الأساس الاجتماعي والإنتاج الأيديولوجي (الفلسفي والديني والقانوني والسياسي، الخ) والإنتاج الفني والعلمي هو الموضوع الأساسي للنشاطات على مستوى البنية الفوقية الاجتماعية. طبعا تشمل هذه الأخيرة أيضا نشاطات جهاز الدولة التي لا تقتصر أبدا على الميدان الإيديولوجي وحده (عالجنا مشكلة الدولة في الفصل الثالث). لكن إذا استثنينا ذلك، يبدو التمييز الذي أدخلناه ملائما.

وتجتهد المادية التاريخية في شرح تطور كل من هاتين الدائرتين، وتداخلهما وعلاقاتهما المتبادلة، هذا الشرح يدمج أربعة مستويات من التحديد:

أ- كل إنتاج فكري مرتبط بصورة أو بأخرى بسيرورات عمل مادي، وهو يعمل على الدوام مع بنية تحتية مادية خاصة به. إن بعض الفنون هي في البدء انبثاق مباشر من العمل المادي (الوظيفة السحرية للرسم البدائي، أصول الرقص في وضع قواعد الحركات الإنتاجية، دمج الأناشيد في الإنتاج، الخ.).

إن الثورات التكنولوجية تؤثر تأثيرا عميقا في الفن والعلم والإنتاج الأيديولوجي، وثمة علوم كالهندسة وعلم الفلك والهيدروغرافيا والبيولوجيا والكيمياء انبثقت في علاقة وثيقة مع الزراعة المروية والتربية المتقدمة للمواشي وعلم التعدين الوليد. أمّا تقنية الطباعة في القرن السادس عشر، والراديو والتلفزيون في القرن العشرين، فهي لم تؤثر فقط تأثيرا عميقا على نشر الأفكار، بل كذلك على شكلها، وبعض مضامينها. ولا جدال في تأثير الآلات الإليكترونية على تطور العلم خلال الثلاثين سنة الأخيرة.

ب- كل إنتاج فكري يتطور تبعا لدياليكتيك داخلي خاص بتاريخه. فكل فيلسوف، أو حقوقي، أو كاهن، أو عالم، يبدأ طالبا، وعبر دراساته يتمثل مفاهيم (أو أنظمة مفاهيم) تم إنتاجها سابقا ونقلها من حيث هي مفاهيم إلى الجيل الحالي. إن المنتجين الفكريين يحفظون هذه المفاهيم، أو فرضيات العمل أو يعدلونها أو يقلبونها رأسا على عقب، وفقا لطرق إنتاج يستعيرونها أو يبتدعونها في إطار الدياليكتيك الخاص لنشاطهم. وكل جيل جديد يعمل على الإحتفاظ بأجوبة على استفهامات ناجمة عن المادة المعالجة، أو على تعميقها، أو نفضها من الأساس. ويمكنه في بعض الأحيان أن يكتشف استفهامات جديدة (تتطلب مذاك أجوبة «ثورية»: الثورات العلمية، والفنية، والفلسفية، الخ.)، أو إعادة اكتشاف استفهامات نحتها جانبا أجيال عديدة سابقة.

ج- إلا أن هذه التعديلات في معالجة المفاهيم الأيديولوجية، والأشكال الفنية، وفرضيات العمل العلمية، لا تحصل بشكل اعتباطي، ولا ضمن أي من الشروط الاجتماعية-التاريخية، بل يكيفها، أو يستثيرها، أو يسمح بها سياق وحاجات اجتماعية-اقتصادية. إن الانتقال من الاروحية animisme [20] إلى الإيمان بالاله الواحد لم يتحقق داخل جماعات بدائية صغيرة متقوقعة في القطاف والصيد، كما لم يظهر المفهوم الثوري للحق الخاص قبل التأسيس الاجتماعي للملكية الخاصة، ولم يمكن للنظرية العلمية حول القيمة-العمل أن تتطور قبل ظهور الرأسمالية الحديثة، كما أن تطور الفيزياء الميكانيكية وثيق الارتباط بتطور الآلات.

هذه التحولات الكبيرة في الإنتاج الفكري مرتبطة ببنى ذهنية خاصة، تحددها مسبقا بنى اجتماعية. فليس صدفة أن كل المحاولات الكبرى للثورة السياسية والاجتماعية من القرن الثالث عشر إلى القرن السابع عشر قد عبرت عن نفسها جميعا بالشكل الأيديولوجي للنضالات الدينية، نظرا للأولوية التي اكتسبها الدين في البنية الفوقية للمجتمع الإقطاعي. كذلك فإن صعود البورجوازية الحديثة خلق ابتداء بالنصف الثاني من القرن السادس عشر بنية ذهنية تنقل الاستقلال والمنافسة لدى مالكي السلع إلى كل حقوق الإنتاج الفكري (الحق الطبيعي، المذاهب التربوية الانسية، الفلسفة المثالية الألمانية، رسوم الأشخاص والطبيعة الميتة في الرسم، الليبرالية السياسية، الاقتصاد السياسي الكلاسيكي الليبرالي، الخ.).

د- يتحدد تطور الإنتاج الفكري أخيرا بالصراعات بين المصالح الاجتماعية. فالكل يعرف أن أعمال الانسيكلوبيديين ومحاجات فولتر وفلسفة جان جاك روسو السياسية أو تحليل ماديي القرن الثامن عشر، كانت جميعها قذائف مدفعية أطلقتها البورجوازية المانيفاكتورية الصاعدة ضد الملكية المطلقة وبقايا المجتمع الإقطاعي. إن الوظيفة التي لعبها الإشتراكيون الطوباويون، ثم ماركس وإنجلز، لتسريع وعي البروليتاريا لطبيعتها الطبقية ولموقعها ومهامها تجاه المجتمع البورجوازي هي كذلك أمر بديهي. واليوم أيضا، لا يمكن الشك بوظيفة التنجيم وبعض البدع الدينية والصوفية، والفلسفات التي تمجد اللاعقلاني ومذاهب «الدم والأرض» (Blut und Boden) من حيث هي أسلحة معادية للعمال ومعادية للثورة تشجع نمو مناخ سابق للفاشية.

لا تستتبع هذه التحديدات فكرة «مؤامرة منظمة» بين طبقات اجتماعية محددة ومنتجين فكريين من حيث هم أفراد، ولا فكرة تواطؤ واع من جانب كل هؤلاء المنتجين مع مشاريع سياسية محددة. إنها تعكس تفاعلا موضوعيا، يمكن أن يتم أحيانا، لكن ليس بالضرورة. فالمنتجون الفكريون يمكن أن تستخدمهم قوى اجتماعية من دون علمهم، لكن ذلك لا يفعل أكثر من تأكيد أن الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي، لا فقط بمعنى تكييفه في التحليل الأخير، بل كذلك بمعنى تعيين وظيفة محددة له في بنية مجتمع معين وفي تطور هذا المجتمع.

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.