ألمكتبة

• مدخل الى الاشتراكية العلمية .. الجزء الرابع والاخير

ارنست ماندل

مدخل الى الاشتراكية العلمية .. الجزء الرابع والاخير

 

14/ كسب الثوريين للجماهير

 

1- التمايز السياسي داخل البروليتاريا

 

لقد رأينا (الفصل 9، النقطة 5) كيف تولد الحاجة إلى حزب طليعي ثوري من تقطع العمل المباشر لأوسع الجماهير، كما من الطابع العلمي للاستراتيجية الضرورية لقلب سلطة البرجوازية. وعلينا أن نضيف الآن عنصرا إضافيا لهذا التحليل، هو التمايز السياسي داخل البروليتاريا.

تظهر الحركة العمالية في كل بلدان العالم كمجموعة تيارات إيديولوجية مختلفة. ويمكن أن نشير في هذا المجال إلى التيارات التالية: التيار الاشتراكي-الديموقراطي، وهو إصلاحي تقليدي! تيار الأحزاب الشيوعية الموالية لموسكو، وهي من أصل ستاليني وذات توجه إصلاحي جديد متنام، التيار الفوضوي أو النقابي الثوري! التيار الماوي! التيار الماركسي الثوري (الأممية الرابعة). تضاف إلى ذلك في العديد من البلدان تشكيلات وسيطة (وسطية) بين هذه التيارات الأيديولوجية الرئيسية.

لهذا التمايز الأيديولوجي داخل الحركة العمالية جذور موضوعية عديدة في واقع البروليتاريا وفي تاريخها.

ليست الطبقة العاملة متجانسة كليا من زاوية ظروفها الإجتماعية، فحسبما يكون الشغيلة يعملون في الصناعة الكبرى أو الصغيرة، استقروا في المدينة منذ أجيال عديدة أو فقط منذ زمن قريب، تلقوا تدريبا عاليا أو متوسطا، يؤدي ذلك بهم لفهم أسرع أو أبطأ لصحة بعض الأفكار الأساسية للاشتراكية العلمية. فالعمال المتخصصون يفهمون ضرورة تنظيم نقابي بسرعة أكبر مما يفعل عمال عاطلون عن العمل خلال نصف حياتهم. إلاّ أن تنظيمهم النقابي مهدد أيضا بالوقوع بسرعة أكبر ضحية النزعة الحرفية الضيقة، التي تخضع المصالح العامة للطبقة العاملة إلى المصالح الخاصة لأريستوقراطية عمالية تدافع على وجه الخصوص عن المكاسب المستحصل عليها فيما تحاول منع الوصول إلى مواقعها المهنية - إنه لأسهل لعمال المدن الكبرى والصناعات الكبيرة أن يعوا القوة الكامنة العظيمة لجمهور البروليتاريا الواسع وأن يؤمنوا بإمكانية نضال ظافر للبروليتاريا نحو انتزاع السلطة والمصانع من البرجوازية، بينما الأمر أقل سهولة بالنسبة لعمال يشتغلون في مؤسسات صغيرة ويعيشون في مدن صغيرة.

يضاف إلى انعدام تجانس الطبقة العاملة تنوع التجربة النضالية وتنوع طاقات الشغيلة الفردية. فهذا الفريق العمالي خاض تجربة عشرة إضرابات (معظمها تتوج بالنصر) والعديد من المظاهرات العمالية، وهذه التجربة تحدد لديه جزئيا وعيا مختلفا عن وعي فريق آخر من البروليتاريين لم يخض أكثر من تجربة إضراب واحد (مني بالفشل) خلال عشر سنوات، ولم يشارك ككتلة واحدة في نضال سياسي.

هذا العامل أو المستخدم يندفع بشكل طبيعي إلى الدراسة، يقرأ الكراسات والكتب بالإضافة إلى قراءة صحيفته المفضلة، بينما لا يقرأ عامل آخر على الإطلاق. هذا ذو طبع مشاكس، لا بل يتمتع بمواهب قيادية، بينما ذاك ذو شخصية سلبية ويفضل السكوت خلال الاجتماعات. واحد يعقد صلات بالرفاق دون صعوبة، بينما الآخر مشدود إلى حياة المنزل ويفضل الاهتمام بعائلته. كل ذلك يؤثر جزئيا في سلوك الشغيلة وخيارهم السياسي على المستوى الفردي، كما يؤثر في مستوى وعيهم الطبقي عند لحظة محددة.

ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار أخيرا التاريخ الخاص للحركة العمالية في كل بلد، وتقاليدها القومية. فالطبقة العاملة البريطانية التي كانت الأولى التي تصل إلى تنظيم نفسها تنظيما طبقيا مستقلا عن طريق الحركة الشارتية لم تعرف يوما حزبا جماهيريا مستندا إلى برنامج أو تربية ماركسيين، ولو بدائيين. إن حزبها الجماهيري قائم على النقابية الجماهيرية، ومنبثق عنها، عنينا حزب العمال. أمّا الطبقة العاملة الفرنسية التي وسمتها بعمق تقاليد النصف الأول من القرن 19 (البابوفية والبلانكية والبرودونية) فقد كبح اعتناقها للماركسية ضعف الصناعة الكبرى النسبي وتوزعها النسبي في مدن المقاطعات الصغيرة نسبيا. لقد توجب انتظار ازدهار المصانع الكبرى في ضواحي باريس وليون ومارسيليا والشمال في العشرينات والثلاتينات من هذا القرن، الذي زاد حدة في الخمسينات والستينات ليتمكن الإضراب الجماهيري من التحكم بالمجرى العام للنضال الطبقي (يونيو 1936، إضرابات 1947-1948، ماي 1968) وليصبح الحزب الشيوعي الفرنسي الحزب المهيمن داخل الطبقة العاملة، مضفيا عليها طابعا ينتمي بوضوح إلى الماركسية. ولقد انطبعت الطبقة العاملة والحركة العمالية الإسبانيتان، لمدة طويلة، بتقاليد النقابية الثورية التي تأثرت عميقا بالتخلف الحاد للصناعة الكبرى في شبه الجزيرة الإيبيرية الخ…

نتج تنع التيارات الأيديولوجية للحركة العمالية عن منطقها وتاريخها الخاصين بها، أي عن النقاشات والتعارضات الناجمة عن مجرى النضال الطبقي بالذات. فقد حدثت في البدء القطيعة بين الماركسيين والفوضويين داخل الأممية الأولى انطلاقا من الخلاف حول مسألة ضرورة الاستيلاء على السلطة السياسية، ثم القطيعة بين الثوريين والإصلاحيين داخل الأممية الثانية حول مسألة المشاركة في حكومات بورجوازية، ودعم الدفاع القومي في البلدان الإمبريالية، ودعم النضال الثوري الجماهيري الذي يهدد استمرار الاقتصاد الرأسمالي والدولة البرجوازية المستندة إلى الديموقراطية البرلمانية، أو خنق ذلك النضال! ثم القطيعة بين الستالينيين والتروتسكيين (الماركسيين الثوريين) داخل الأممية الثالثة والحركة الشيوعية الدولية، بين أنصار نظرية الثورة الدائمة وخصومها، وبين أنصار نظرية «الثورة على مراحل» وخصومها، بين أنصار طوبى إنجاز بناء الاشتراكية في بلد واحد وخصومه، وبالتالي أنصار إخضاع مصالح الثورة العالمية للضرورات المزعومة لهذا الإنجاز وخصومه.

إلاّ أن لهذا التنوع في التيارات الأيديولوجية أيضا جذورا موضوعية ومادية أشد عمقا، من مثل تلك التي قمنا إلى الآن بتعريتها.

 

2- الجبهة العمالية الموحدة ضد العدو الطبقي

 

قاد تنوع التيارات الأيديولوجية داخل الحركة العمالية إلى تفتيت المنظمات السياسية للطبقة العاملة. ففي حين نجد الوحدة النقابية في العديد من البلدان (بريطانيا، البلدان السكندينافية، ألمانيا الاتحادية، النمسا)، نجد الانقسام الشامل على صعيد المنظمات السياسية. وبوصفنا ماديين، علينا أن نفهم أن وراء ذلك أسبابا موضوعية، وليس ناتجا صدفة عن «جرائم» «الانشقاقيين» أو عن «الدور المشؤوم» لهذا أو ذاك من الأفراد.

وإذا نظرنا إلى هذا الانقسام السياسي بحد ذاته فليس شرا، فالطبقة العاملة حققت العديد من انتصاراتها الأكثر دويا ضمن شروط تعايش أحزاب عدة واتجاهات عدة تنتسب جميعا إلى الحركة العمالية. إن مؤتمر السوفييتات الثاني لعامة روسيا، الذي قرر نقل جميع السلطات إلى السوفييتات، كان يتميز بالتفتت إلى أحزاب واتجاهات سياسية مختلفة على صعيد الطبقة العاملة، تفتت أكثر حدة مما نعرفه الآن في الغرب. إن انقسام الطبقة العاملة الألمانية إلى أحزاب كبيرة ثلاثة (والعديد من الشلل والتيارات الصغيرة) لم يحل دون انتصار الإضراب العام في مارس 1920 الذي خنق في البيضة محاولة الانقلاب الرجعية الفاشية التي قام بها فون كاب، كما أن تنوع المنظمات السياسية والنقابية للبروليتاريا الإسبانية في يوليوز 1936 لم يمنعها من التغلب على الانتفاضة العسكرية-الفاشية في معظم أحواض البلاد الصناعية.

إلاّ أن الشرط المسبق لكيلا يؤدي التبعثر السياسي للحركة العمالية إلى إضعاف قوة الهجوم لدى الطبقة العاملة بمجملها، هو ألاّ يحول دون وحدة عمل الشغيلة ضد العدو الطبقي المتمثل بأرباب العمل والبرجوازية الكبرى والحكومة البرجوازية والدولة البرجوازية. أمّا الشرط المسبق الآخر فهو ألاّ يحول دون النضال السياسي والأيديولوجي من أجل هيمنة الماركسية الثورية داخل الطبقة العاملة بهدف بناء الحزب الثوري الجماهيري وبالتالي إعادة الديموقراطية العمالية إلى عقر دار الحركة العمالية المنظمة.

إن الرد الوحدوي للطبقة العاملة أمر لا غنى عنه على الإطلاق بمواجهة هجمات البرجوازية على وجه الخصوص. ويمكن أن تكون تلك الهجمات اقتصادية، من مثل الصرف من العمل وإقفال المنشآت وخفض الأجور الفعلية، الخ. كما يمكن أن تكون سياسية، كالهجمات ضد حق الإضراب والحريات النقابية، وضد الحريات الديموقراطية للجماهير والحركة العمالية، ومحاولات إرساء أنظمة تسلطية، أو فاشية سافرة، تلغي حرية التنظيم والعمل للحركة العمالية بمجموعها. في هذه الحالات جميعا، يمكن فقط لرد جماهيري وموحد أن يؤدي بالهجوم البرجوازي إلى الفشل. ووحدة العمل الفعلية لدى الطبقة العاملة تمر بالجبهة الواحدة الفعلية لكل المنظمات العمالية، بقدر ما تبقى سطوتها داخل قطاعات مهمة من البروليتاريا واقعا حيا.

لقد كانت إحدى المآسي الكبرى في القرن 20 هزيمة البروليتاريا الألمانية بفعل استيلاء هتلر على السلطة في 30 يناير 1933، كنتيجة لرفض قيادتي الحزب الشيوعي الألماني والحزب الاشتراكي الألماني أن تعقدا في اللحظة المناسبة اتفاقا لإقامة جبهة موحدة ضد الصعود النازي، وعجزهما عن القيام بذلك. إن عواقب تلك المأساة كانت على درجة من الخطورة بحيث على جميع الشغيلة أن يحفظوا عن ظهر قلب الدرس الرئيسي لتلك التجربة: في مواجهة صعود الفاشية، لا غنى عن الجبهة الموحدة لكل المنظمات العمالية، بغية الحيلولة دون ارتقاء القتلة والجلادين سدة السلطة، عن طريق عمل حازم وموحد تضطلع به الجماهير الكادحة.

إن الذرائع والعوائق دون تحقيق الجبهة الموحدة ذات طبيعة أيديولوجية وسياسية قبل كل شيء، فمعظم الشغيلة يؤيدون تلقائيا كل مبادرة وحدوية. بين تلك العوائق ذات الطبيعة السياسية والأيديولوجية ما يلي:

 

  الممارسات القمعية للقادة الاشتراكيين-الديموقراطيين الذين يضطلعون بمسؤوليات داخل الدولة البرجوازية، وللقادة الستالينيين في الظروف ذاتها. إن الشرائح المتجذرة من الطبقة العاملة تشعر بالسخط على هكذا ممارسات تبدأ بكسر الإضرابات وتصل إلى التنظيم المنهجي للتجسس داخل المنظمات العمالية، لا بل إلى تنظيم اغتيال القادة الثوريين أو حتى العمال العاديين (نوسكي!).

 

  الممارسات البيروقراطية للقادة النقابيين الإصلاحيين والستالينيين، ولقادة في الأحزاب الشيوعية وصلوا إلى مواقع قيادية في الحركة العمالية، الخ. هذه الممارسات التي تعتبر امتدادا لممارسات البيروقراطية القمعية حيث تمارس السلطة، تثير كذلك اشمئزازا مبررا لدى العديد من شرائح الشغيلة.

 

  الدور المعادي للثورة بصورة منهجية للقيادات التقليدية للحركة العمالية التي تحول دون نمو الوعي الطبقي وتساعد موضوعيا (لا بل إراديا في الغالب) على تحقيق مشاريع معادية للثورة والعمال يقف وراءها رأس المال، وتنشر الأيديولوجية البورجوازية والبورجوازية الصغيرة في صفوف الطبقة العاملة، الخ.

إلاّ أنه ضروري مكافحة العصبوية والتطرف اليساري تجاه منظمات الطبقة العاملة الجماهيرية التقليدية، اللذين لا يحولان فقط دون تحقيق الجبهة العمالية الموحدة في وجه العدو الطبقي، بل كذلك دون النضال الفعال ضد هيمنة القيادات الإصلاحية والستالينية على أغلبية الطبقة العاملة.

نجد في أساس الأخطاء العصبوية واليسارية المتطرفة انعدام فهم الطبيعة المزدوجة والمتناقضة للمنظمات الجماهيرية التقليدية والمتبقرطة في الحركة العمالية. فالعصبوية تتميز عموما على الصعيد الفكري بتضخيم وجه خاص للتكتيك أو للاستراتيجية، وبالعجز عن رؤية مشكلة النضال الطبقي والثورة البروليتارية بكل تعقيداتها وبمجملها. وإذا كان صحيحا أن سياسة قيادات تلك المنظمات لصالح البورجوازية إلى حد بعيد، وأن تلك القيادات تمارس التعاون الطبقي وتضعف نضال البروليتاريا الطبقي، وهي بالتالي مسؤولة عن هزائم لا تحصى لحقت بالطبقة العاملة، فصحيح أيضا أن وجود تلك المنظمات يسمح للشغيلة ببلوغ الحد الأدنى من الوعي والقوة الطبقيتين، اللذين بدونهما يصبح تقدم ذلك الوعي أصعب بكثير. إن وجود هذه المنظمات يسمح كذلك بتعديل موازين القوى اليومية بين رأس المال والعمل الذي بدونه تهتز ثقة الطبقة العاملة بنفسها اهتزازا شديدا. وحده استبدالها المباشر بأشكال أعلى من التنظيم الطبقي (سوفييتات) قد يسمح بألاّ ينتهي إضعافها بتراجع الطبقة العاملة أو شللها. بالمقابل فإن إضعافها، لكي لا نقول تدمير الرجعية الرأسمالية لها، يشكل إضعافا وتراجعا خطيرين لمجمل البروليتاريا. هذه هي القاعدة المبدئية التي يركز الماركسيون الثوريون عليها سياستهم المتمثلة بالجبهة العمالية الموحدة ضد الرجعية الرأسمالية.

 

3- الدينامية الهجومية لجبهة «طبقة ضد طبقة»

 

بمواجهة أي هجوم رأسمالي ضد الطبقة العاملة، ولا سيما بمواجهة أي تهديد فاشي أو إقامة ديكتاتورية يمينية، يدعو الماركسيون الثوريون إلى تشكيل جبهة موحدة من جميع المنظمات العمالية، من القاعدة إلى القمة، ويجتهدون في أن يدخلوا إلى هذه الجبهة الموحدة كل المنظمات التي تنتسب إلى الحركة العمالية بما فيها الأكثر اعتدالا، التي يقودها أشد الناس انتهازية وأشدهم مراجعة. كما يتوجهون منهجيا إلى قادة الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي والنقابات الإصلاحية والمسيحية لكي يتم إرساء جبهة موحدة بين القيادات القومية، والمنطقية والمحلية، كما بين الفروع داخل المنشآت والأحياء، وذلك لمواجهة الهجوم المعادي بكل الوسائل المتوفرة.

إن رفض توسيع الجبهة الموحدة لتشمل قيادة الاشتراكية-الديموقراطية اوالأحزاب الشيوعية (وهي السياسة المسماة «سياسة المرحلة الثالثة» للكومنترن، التي يستعيدها اليوم العديد من المنظمات الماوية-الستالينية) يقوم على عدم فهم قصوي وطفولي للوظيفة الموضوعية لوحدة الجبهة البروليتارية ولشروطها المسبقة الذاتية. إنه يفترض مسبقا أن يكون جمهور الشغيلة الاشتراكيين (أو التابعين للحزب الشيوعي) مستعدا للانخراط في العمل الموحد مع الشغيلة الثوريين، دون الموافقة المسبقة لقياداته «الاشتراكية-الفاشية» أو «المراجعة». أي أنها تفترض كون المهمة التي ينبغي حلها قد تم حلها، إلاّ وهي مهمة فصل هذا الجمهور عبر تجربته الخاصة عن قياداته الانتهازية. ولكن توجيه الدعوة بالضبط إلى قادة الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي للالتقاء داخل جبهة موحدة في وجه هجوم الرجعية، يسمح للشغيلة الذين يتبعون تلك القيادات بان يعيشوا تجربة ثمينة ولا غنى عنها بما يخص مصداقية اولئك القادة وفعالياتهم وحسن نواياهم.

زد على ذلك أن افتراض عدم ضرورة انخراط قيادات الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي في الجبهة الموحدة العمالية، إنما يختصر هذه الجبهة إلى أقلية داخل الطبقة العاملة، وينشر أوهاما خطيرة حول إمكانية دفع أرباب العمل، أو الدولة البورجوازية، أو التهديد الفاشي، إلى الوراء، تحت ضربات نشاطات أقلية.

هل يعني ذلك أن تكتيك الجبهة الموحدة محدود بأهداف دفاعية؟ كلا بالطبع، فتنظيم كامل الطبقة العاملة كتشكيل مثالي -ولو لأهداف دفاعية في البدء- يعدل موازين القوى بين الطبقات ويقوي إلى حد بعيد قتالية الطبقات الكادحة، وقوتها الضاربة، وقدرتها على العمل السياسي وثقتها بأنفسهما، فيخلق بالتالي احتياطيا عظيما إضافيا للنضال، يمكنه أن يتولى التحويل السريع للنضال الدفاعي إلى نضال هجومي. فأثناء الانقلاب الفاشل الذي نظمه فون كاب في مارس 1920 في ألمانيا، خلق الرد الظافر والموحد للمنظمات العمالية الألمانية، خلال أيام قليلات، وضعا وافق أثناءه مناضلو منظمات عديدة -بما فيها منظمات إصلاحية- على تشكيل ميليشيات عمالية مسلحة في العديد من مدن الرور، لا بل طرح القادة النقابيون الأكثر اتعدالا ضرورة قيام حكومة عمالية. إن الرد الظافر والوحدوي للجماهير الإسبانية ضد الانقلاب الفاشي الفاشل في يوليوز 1936 في معظم المدن الكبرى أدى إلى التسليح الشامل للبروليتاريا وإلى الاستيلاء على المصانع.

إن الماركسيين الثوريين الذين يرمون إلى الاستفادة ما أمكن من هذه الطاقة الهجومية الكامنة للجبهة العمالية الموحدة ينادون بضرورة بناء الجبهة الموحدة في القاعدة كما في القمة، دون أن يشكل هذا البناء إنذارا موجها لأحزاب البروليتاريا أو نقاباتها أو جماهيرها. ويفترض بناء من هذا النوع أن تضم الجبهة الموحدة، بالإضافة إلى الاتفاقات و«الكارتيلات» القومية، والنطقية، الخ.. للمنظمات العمالية، لجانا قاعدية في المنشآت والأحياء والنواحي، لجانا ينبغي أن تكون بأسرع ما يمكن لجانا منتخبة ديموقراطيا، ومنخرطة في حشودات وأعمال جماهيرية منهجية. إن الدينامية الهجومية لبنية من هذا النوع، تفتح الطريق في الواقع أمام وضع ثوري، إنما هي أمر بديهي.

 

4- الجبهة الموحدة العمالية والجبهة الشعبية

 

بقدر ما الماركسيون الثوريون هم أنصار الأكثر حزما لسياسة جبهة عمالية موحدة، بقدر ما يرفضون سياسة «الجبهة الشعبية»، التي طرحت من جديد منذ المؤتمر السابع للكومنترن، وهي السياسة الإصلاحية الاشتراكية-الديموقراطية القديمة القاضية بالتحالف بين البرجوازية «الليبرالية» (أو «القومية»، أو «المعادية للفاشية») والحركة العمالية («كارتيل اليسار»).

إن التمييز الجوهري بين الجبهة العمالية الموحدة و«كارتيل اليسار»، أو «الجبهة الشعبية»، يكمن في أن الجبهة العمالية الموحدة تستثير بمنطقها الرافع لشعار «طبقة ضد طبقة» دينامية تصعيدية لنضال البروليتاريا ضد البرجوازية، بينما تستثير سياسة الجبهة الشعبية بالمقابل، انطلاقا من منطقها القائل بالتعاون الطبقي، دينامية كبح للنضالات العمالية، لا بل قمع للشرائح العمالية الأكثر تجذرا. ففي حين لا تنطوي الجبهة العمالية الموحدة في وجه الهجوم الرأسمالي على أي شرط مسبق للدفاع عن النظام البرجوازي والملكية الرأسمالية (مهما يكن تعلق القادة الإصلاحيين بهكذا دفاع)، تقوم الجبهة الشعبية على احترام النظام البورجوازي والملكية، الذي يؤدي انعدامه، كما يقال، إلى استحالة استقبال «البرجوازية التقدمية» في الجبهة، بما «يمكن أن يقوي الرجعية». إن كل منطق الجبهة الشعبية يتجه إذا إلى حرف النضالات الجماهيرية، أو احتوائها، أو تحطيمها، وهو ما ليس واردا في حال اتفاقات الجبهة العمالية الموحدة.

طبعا، إن التمييز بين جبهة عمالية موحدة وجبهة شعبية لا ينطوي على اختلاف «مطلق»، وإن كان يطرح اختلافا ذا شأن، تبعا للطبيعة الطبقية الموضوعية لنوعي الاتفاق. إذ يمكن أن يكون هنالك تطبيقات انتهازية لتكتيك الجبهة العمالية الموحدة يبدأ خلالها قادة المنظمات التي تزعم أنها منظمات ثورية بكبح النضالات الجماهيرية بدورهم، بذريعة «عدم إرعاب القادة الإصلاحيين»، بينما يمكن للجماهير أن تنطلق في بعض الحالات من أوهام وحدوية تبذرها اتفاقات جبهة شعبية من أجل زيادة حدة نضالاتها، لا بل خلق بنى تنظيم ذاتي، وهي مبادرات على الماركسيين الثوريين أن يؤيدوها بالطبع ويدعموها بكل الوسائل.

لكن مهما تكن هذه الحالات الوسيطة، تبقى القضية المبدئية قضية حيوية، إذ علينا من وجهة نظر الصراع الطبقي أن ندعم سياسة الجبهة العمالية الموحدة، وأن نكافح كل اتفاق سياسي مع أحزاب بورجوازية، -حتى لو كانت «يسارية»- يعيد النظر في الاستقلال السياسي الطبقي للبروليتاريا.

 

5- الاستقلال السياسي الطبقي والتنظيم الموحد للطبقة

 

هكذا فإن إشكالية الجبهة الموحدة العمالية، كما إشكالية الجبهة الشعبية، تعيدنا في النهاية إلى مسألة حيوية واحدة، هي كيف يمكن للطبقة العاملة أن تنجز تنظيما توحيديا لقوتها، بالاستقلال التام عن البورجوازية، رغم تفتتها إلى تيارات أيديولوجية وأحزاب وشلل وبدع سياسية مختلفة، ورغم النقص في مستوى المتوسط لوعيها الطبقي.

إن الذين يدعون إلى الزوال المسبق لهذا التفتت، كشرط مسبق لتحقيق التنظيم الطبقي الموحد، يلاحقون سرابا لا أكثر، فهذا التفتت موجود منذ قرن، ولا أدنى إشارة إلى أنه سوف يزول قريبا. إن اعتبار هذا الزوال شرطا تمهيديا يشبه القول علميا أن وحدة الجبهة البروليتارية (إذا انتصارها) مستحيلة حتى مستقبل غير منظور.

إن الذين يرون في تحقيق وحدة عمل الطبقة ناتج اتفاقات على صعيد القمة، بالاستقلال عن المضمون الطبقي والدينامية الموضوعية التي تثيرها تلك الاتفاقات -عن طريق المماثلة مثلا بين الجبهة العمالية الموحدة والجبهة الشعبية- ينسون أن الوحدة الحقيقية للجبهة البروليتارية مستحيلة إلاّ على أساس طبقي. ليس معقولا أن تقبل كل قطاعات الطبقة العاملة وشرائحها الكبح الذاتي والبتر الذاتي اللذين تنطوي عليهما اتفاقات تعاون طبقي.

ثمة إذا رابط وثيق بين وحدة عمل الطبقة العاملة بمجملها والأهداف النضالية التي يوافق عليها الجميع، لا بل أشكال النضال التي تتبناها الطبقة. والماركسيون الثوريون يتمسكون بحزم بكل مبادرة وحدوية حقيقية، لأنهم مقتنعون أن هكذا مبادرات تقوي على الدوام كفاحية الشغيلة ووعيهم، باتجاه النضال الطبقي الحازم ضد رأس المال.

إن استقلال البروليتاريا الطبقي، الذي لا يمكن أن تتحقق بدونه وحدتها، يقع حيال أرباب العمل على مستوى المشروع الصناعي والفرع. كما يقع حيال الأحزاب البورجوازية، لا بل حتى حيال الدولة البورجوازية، والدولة الديموقراطية-البورجوازية الأكثر حرية. فالثقة بالنفس التي تكسبها الطبقة العاملة، التي تمر بتجربة وحدوية حقيقية تشمل الطبقة بأكملها، تحفزها للقبض بيديها الاثنتين على ناصية حل مشكلاتها جميعا، بما فيها المشكلات المتروكة عادة للبرلمان، وهذا سبب إضافي لكي يكون الثوريون المحامين الأشد حزما وصلابة عن وحدة عمل الطبقة العاملة كلها.

 

6- الاستقلال الطبقي والتحالفات بين الطبقات

 

إن التمييز المبدئي، الذي نقيمه بين الجبهة العمالية الموحدة والجبهة الشعبية، تعرض غالبا للاتهام بأنه «دوغمائي». والناقدون يرون أنه «ينكر ضرورة التحالفات»، وأنه بدون «تحالفات طبقية» لا مجال لانتصار الثورة الاشتراكية. لينين ذاته، ألم يركز كل الاستراتيجية البلشفية على ضرورة قيام تحلف بين البروليتاريا والفلاحين؟

فلنشر أولا إلى أن كل مقارنة بين البلدان الإمبريالية حاليا وروسيا القيصرية مقارنة خادعة. ففي روسيا لم تكن تمثل البروليتاريا أكثر من 20% من السكان العاملين. أمّا في البلدان الإمبريالية -باستثناء البرتغال- فالبروليتاريا، أي جمهور الذين يضطرون لبيع قوة عملهم، تمثل الأغلبية الساحقة داخل الأمة، أو 70% إلى 90% من السكان العاملين في معظم تلك البلدان. إن وحدة الجبهة البروليتارية (التي تضم فيما تضم المستخدمين بالطبع) هي أمر أكثر حيوية بكثير بالنسبة للثورة من التحالف مع الفلاحين.

نضيف إلى ذلك أن الماركسيين الثوريين ليسوا معادين أبدا لتحالف بين البروليتاريا والبورجوازية الصغيرة الكادحة (غير المستغِلة) في المدن والأرياف، حتى في البلدان التي تكون هذه الأخيرة فيها أقلية. ففي العديد من البلدان الإمبريالية، مثل البرتغال وإسبانيا وإيطاليا وفرنسا، ما يزال إرساء التحالف العمالي-الفلاحي ذا أهمية سياسية كبرى، وخصوصا اقتصادية، من أجل انتصار الثورة الاشتراكية وتدعيمها.

أمّا ما نرفضه فهو أن يكون التحالف بين الأحزاب العمالية والأحزاب البورجوازية ضروريا لإقامة تحالف الطبقات الكادحة. على العكس من ذلك، فتحرير الفلاحين وصغار البورجوازيين المدينيين من سيطرة البورجوازية يفترض مسبقا تحريرهم من الدعم الذي يقدمونه للأحزاب السياسية البورجوازية. يمكن للتحالف -لا بل ينبغي- أن يقوم على اساس مصالح مشتركة، وعلى البروليتاريا وأحزابها أن تقدم لهاتين الطبقتين أهدافا اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية تهمها وتعجز البرجوازية عن تحقيقها لها. وإذا كانت التجربة تثبت إرادة البروليتاريا انتزاع السلطة وتحقيق برنامجها، فيمكنها أن تحوز على دعم جزء مهم من البورجوازية الصغيرة بغية تحقيق تلك الأهداف.

 

7- حركات تحرر النساء والأقليات القومية المضطهدة في انطلاق النضالات المعادية للرأسمالية

 

تقليديا، فهمت الحركة العمالية المنظمة مشكلة «التحالفات» كمشكلة انتخابية وسياسية (تحالف بين عدة أحزاب)، أو كتحالف بين الطبقة العاملة وطبقة الفلاحين الكادحين وشرائح أخرى مستغلة من البورجوازية الصغيرة. إلاّ أنه خلال الثورات البروليتارية الماضية الكبرى، لاسيما الثورة الروسية والثورة الإسبانية، لعب الدمج بين الثورة الاجتماعية وحركات تحرر القوميات المضطهدة دورا مرموقا.

وإذ تغوص الرأسمالية المعاصرة في أزمة اجتماعية أكثر فأكثر تعميما (لا سيما منذ النصف الثاني من الستينات)، تتسم الصراعات الاجتماعية-السياسية في البلدان الإمبريالية بالدمج بين النضالات البروليتارية «الصرفة» وانفجارات استياء وتمرد اجتماعي لقطاعات واسعة من السكان لا تتشكل بكاملها من البروليتاريا: حركة تمرد الشبيبة، حركة تحرر النساء، حركة تمرد القوميات المضطهدة.

حين نقول «لا تتشكل بكاملها من البروليتاريا»، نريد أن نقول ذلك وحسب. إنه لمن العبث أن نعتبر الشبيبة أو النساء أو الأقليات العرقية والسلالية كـ«غير بروليتاري»، لا بل «بورجوازية صغيرة» بمجملها، تبعا لمعايير أيديولوجية نفسية. فجزء متزايد من النساء في البلدان الإمبريالية (أكثر من 50% في بعض البلدان) يتألف من مأجورات وليس من ربات منازل، وجزء مهم من الشباب يتألف من شغيلة شبان ومن متدربين. إن السود البورتوركيين والشيكانو في الولايات المتحدة، والايرلنديين والمهاجرين من آسيا والهند الغربية إلى بريطانيا، والباسكيين والقشتاليين في إسبانيا -ونحن نقتصر على هذه الأمثلة الثلاثة- لم يتبلتروا فقط إلى حد بعيد، بل يشكلون كذلك جزءا مهما من بروليتاريا تلك الدول بصورة إجمالية.

إن شروط حياة كل هذه الشرائح التي في وضع التمرد من نوع خاص -نساء، وشباب وأقليات عرقية وقومية- ومطالبها الخاصة بها، تستحق انتباها خاصا من جانب الحركة العمالية وطليعتها الثورية لأسباب ثلاثة بديهية.

أولا، لأن هذه الشرائح تضم عموما القسم الأكثر تعرضا للاستغلال والأكثر بؤسا من البروليتاريا الذي يتطلب اهتماما خاصا من جانب كل شغيل واع. ثم إن هذه الشرائح هي عموما ضحايا اضطهاد مزدوج، بما هي بروليتاريون ونساء وشبيبة وأقليات ومهاجرون في الوقت ذاته… والحال أن البروليتاريا ليست قادرة على التحرر نهائيا، ولا أن تلغي العمل المأجور وتبني مجتمعا لا طبقيا، من دون أن تصفي جذريا كل أشكال التمييز والاضطهاد واللا مساواة الاجتماعية. أخيرا، تسمح حركة تمرد تلك الشرائح وتحررها بانخراط قطاعات غير بروليتارية، تشكل أجزاء من الشرائح المضطهدة المشار إليها أعلاه، في النضال من أجل الثورة الاشتراكية.

هذا التحالف ليس آليا طبعا، فهو يتوقف على وزن التفاوت الطبقي الذي سيستثيره التقاطب الأقصى للقوى الاجتماعية، خلال السيرورة الثورية، داخل حركة تحرر النساء والشبيبة والقوميات والأعراق المضطهدة. إلاّ أنه يتوقف أيضا على قدرة الحركة العمالية، ولا سيما على قدرة طليعتها الثورية أن تقبض بجرأة على ناصية القضية العادلة التي يقاتل من أجلها المتعرضون للاضطهاد.

إن الماركسيين الثوريين يعترفون بمبررات حركات التحرر المستقلة للنساء والشبيبة والقوميات والأعراق المضطهدة، لا فقط قبل انهيار الرأسمالية، بل حتى بعده، هذا الانهيار الذي لا يمحو بين ليلة وضحاها رواسب آلاف السنين من المسبقات القائمة على التمييز بين الجنسين، أو العرقية أو الشوفينية، أو الحاقدة على الأجانب، داخل الجماهير الكادحة. ولسوف يسعون لكي يكونوا أفضل المكافحين، داخل هذه لحركات الجماهيرية المستقلة، من أجل كل المطالب العادلة والتقدمية، ولكي يكونوا وراء التعبئات والنضال الأكثر اتساعا والأكثر توحيدية.

كما سيكافحون في الوقت ذاته منهجيا لصالح حلول سياسية واجتماعية إجمالية -استيلاء الطبقة العاملة على السلطة وإلغاء النظام الرأسمالي- بدونها يستحيل تقديم حل عام ودائم للتمييز بين الجنسين وللتمييز العرقي والشوفيني. وسيكونون بصورة ليست أقل منهجية المدافعين الأشداء عن تضامن كل المستغَلين (بفتح الغين) وكل البروليتاريين في النضال من أجل مصالحهم الطبقية، بغض النظر عن كل اختلاف في الجنس أو العرق أو القومية. وكلما كانت معركتهم ضد كل أشكال الاضطهاد الخاصة، التي تعاني منها هذه الشرائح المتعرضة لاستغلال مضاعف، معركة أكثر حزما واقناعا، كلما أصبح هذا النضال من أجل التضامن الطبقي العام داخلها أكثر فعالية.

******* 

 

15/ حول المجتمع اللا طبقي

 

1- الهدف الاشتراكي المقصود

 

إن الهدف الاشتراكي الذي نرمي إلى بلوغه هو استبدال المجتمع البورجوازي، القائم على نضال الجميع ضد الجميع، بمجتمع جماعي لا طبقي، حيث يحل التضامن الاجتماعي محل الرغبة في الثراء الفردي كمحرك أساسي للنشاط، وحيث يضمن ثراء المجتمع التطور المنسجم لجميع الأفراد.

إن الماركسيين لا يطمحون إلى «جعل الناس جميعا متساوين» كما يزعم كل الخصوم الجاهلين للاشتراكية، بل يودون أن يفسحوا في المجال، للمرة الأولى في التاريخ البشري، أمام تطور السلسلة اللا متناهية من إمكانات الفكر والعمل لدى كل فرد. إلاّ أنهم يفهمون أن المساواة الاقتصادية والاجتماعية، وتحرر الإنسان من ضرورة الكفاح لأجل خبزه اليومي، يمثلان شرطا مسبقا للحصول على هذا التحقيق الفعلي للشخصية الإنسانية لدى كل الأفراد.

إن مجتمعا اشتراكيا يتطلب إذا اقتصادا متطورا إلى حد يلي معه الإنتاج وفقا للحاجات الإنتاج بهدف الربح. فالإنسانية الاشتراكية لن تعود تنتج سلعا معدة للتبادل في السوق لقاء المال، بل ستنتج قيما استعمالية توزع على جميع أعضاء المجتمع بهدف كفاية كل حاجاتهم.

إن مجتمعا من هذا النوع سيحرر الإنسان من قيود التقسيم الاجتماعي والاقتصادي للعمل. فالماركسيون يرفضون الموضوعة التي ترى أن بعض الناس «ولدو للقيادة» والبعض الآخر «ولدوا للطاعة». وليس أي من الناس معدا بطبيعته ليكون طيلة حياته عامل منجم أو فرازا أو سائق حافلة كهربائية. في كل إنسان تهجع رغبة ممارسة عدد كبير من النشاطات المختلفة، ويكفي أن نراقب الشغيلة في أوقات فراغهم لنتأكد من ذلك. وفي المجتمع الاشتراكي، سوف يسمح المستوى الرفيع من التأهيل التقني والثقافي لأي مواطن أن يشغل نفسه بالعديد من المهمات المتنوعة المفيدة للجماعة، ولن يفرض اختيار «المهنة» فرضا على الناس، بفعل قوى أو شروط مادية مستقلة عن إرادتهم، بل سيتوقف ذلك الاختيار على حاجتهم الخاصة بهم، وعلى تطورهم الفردي. سيتوقف العمل عن أن يكون نشاطا مفروضا يتهرب المرء منه، ليصبح تحقيقا للذات وحسب، وسيكون الإنسان حرا بالمعنى الحقيقي للكلمة. إن مجتمعا من هذا النوع سوف يجهد لإزالة كل أسباب النزاعات بين البشر، وسيكرس للنضال ضد الأمراض ولتكوين الطبع لدى الطفل، وللتربية والفنون الجميلة، الموارد الهائلة المبذرة اليوم على أهداف التدمير والقسر. وبإزالة كل التناقضات الاقتصادية والاجتماعية بين الناس تتم إزالة كل أسباب الحرب أو الصراعات العنيفة. إن ارساء مجتمع اشتراكي يشمل العالم بأجمعه هو وحده الكفيلة بتأمين هذا السلم الشامل الذي يصير شرطا لاستمرار الجنس البشري على قيد الحياة في عصر الأسلحة الذرية والنووية الحرارية


 2- الشروط الاقتصادية والاجتماعية لبلوغ هذا الهدف

 

 

إذا كنا لا نكتفي بالحلم بمستقبل مشرق، وإذا كنا نريد الكفاح من أجل بلوغ هذا المستقبل، علينا أن نفهم أن بناء مجتمع اشتراكي يقلب رأس على عقب تقاليد الناس وعاداتهم التي تبلورت خلال آلاف السنين في مجتمعات منقسمة إلى طبقات، هذا البناء يخضع لتحولات مادية ليست أقل زعزعة ينبغي إنجازها مسبقا.

يتطلب بلوغ الاشتراكية قبل كل شيء إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. هذه الملكية تفترض حتما في عصر الصناعة الكبرى والتقنية الحديثة (التي لا يمكن إلغاؤها دون حشر البشرية في زاوية الفقر المعمم) قسمة المجتمع إلى أقلية من الرأسماليين المستغِلين (بكسر الغين) وأكثرية مستغَلة (بفتح الغين) من مأجورين.

إن بلوغ المجتمع الاشتراكي يتطلب إلغاء العمل المأجور وبيع قوة العمل لقاء أجرة ثابت من المال يجعل من المنتج جزءا عاجزا من الحياة الاقتصادية. ينبغي أن يحل محل العمل المأجور تعويض العمل بالحصول الحر على كل الخيرات الضرورية لكفاية حاجات المنتجين، ولا يمكن أن يولد وعي اجتماعي جديد وموقف جديد يتخذه الناس بعضهم تجاه البعض الآخر إلاّ في مجتمع يضمن للإنسان هكذا وفرة في الخيرات.

هكذا وفرة في الخيرات ليست طوباوية إطلاقا، شرط إدخالها تدريجيا والانطلاق من عقلنة تدريجية لحاجات الناس الذين تحرروا من إكراه المنافسة، ومن مطاردة الثراء الفردي، ومن استخدام الإعلان الذي يهتم بخلق حالة عدم اكتفاء دائم لدى الأفراد. هكذا خلقت التطورات في مستوى الحياة حالة إشباع الاستهلاك الخبز والبطاطا والخضار وبعض الفواكه، لا بل منتجات الحليب والسمنة واللحم في الجزء الأقل فقرا من سكان البلدان الإمبريالية. كما أن اتجاها مماثلا يتجلى على صعيد الألبسة الداخلية والأحدية والأثاث المنزلي الأساسي، الخ. فهذه المنتجات جميعا يمكن أن توزع بالتدريج مجانا، دون تدخل المال، ودون أن يؤدي هذا إلى زيادات مهمة في الإنفاقات الجماعية. والإمكانية ذاتها قائمة بالنسبة للخدمات الاجتماعية كالتعليم والعناية بالصحة والنقل المشترك، الخ.

إلاّ أن إلغاء العمل المأجور لا يتطلب تبديل شروط المكافأة وتوزيع الأموال الاستهلاكية وحسب، بل كذلك تبديل بنية المشروع التسلسلية، وإحلال نظام ديموقراطية المنتجين محل نظام الأمر المحصور بالمدير (يساعده رؤساء المشاغل ورؤساء الفرق، الخ.). إن هدف الاشتراكية حكم الناس ذاتهم بذاتهم على كل مستويات الحياة الاجتماعية ابتداء بالحياة الاقتصادية. إنه استبدال كل المندوبين المعينين بقادة منتخبين، كل المندوبين الدائمين بقادة يمارسون وظيفتهم بالتناوب. على هذه الطريق يتم التوصل لخلق شروط مساواة حقيقية.

إن الثروة الاجتماعية التي تسمح بإرساء نظام وفرة، غير ممكن بلوغها إلاّ عن طريق تخطيط الاقتصاد، الذي يسمح بتلافي كل تبذير يتمثل بعدم استخدام وسائل الإنتاج والبطالة، أو باستخدامها لأهداف متعارضة مع مصالح البشرية. ويبقى تحرير العمل خاضعا للتطور العظيم للتقنية الحديثة (التطبيق الإنتاجي للطاقة الذرية بعد استجماع شروط الأمن القصوى، والبحث المكثف عن موارد طاقة بديلة، الإلكترونيك والتوجيه من بعيد اللذان يسمحان بالأتمتة الكلية للإنتاج) الذي يحرر الإنسان أكثر فأكثر من المهام الثقيلة والمحطة. هكذا يجيب التاريخ مقدما على الاعتراض المبتذل القديم على الاشتراكية: «من سيمارس إذا المهمات الدنيا في مجتمع اشتراكي؟»

إن التطور الأقصى للإنتاج ضمن الشروط الأكثر ريعية بالنسبة للبشرية يتطلب الإبقاء على تقسيم دولي للعمل والتوسع به، تقسيم معدل مع ذلك بعمق من أجل إلغاء الانقسام إلى بلدان «متقدمة» وبلدان «تابعة»، وإلغاء الحدود وتخطيط الاقتصاد على المستوى العالمي. إن إلغاء الحدود والتوحيد الفعلي للجنس البشري هو أيضا أمر سيكولوجي من أوامر الاشتراكية، والوسيلة الوحيدة لإلغاء اللاّ مساواة الاقتصادية والاجتماعية بين الأمم. ولا يعني إلغاء الحدود إلغاء الشخصية الثقافية الخاصة بكل أمة، بل يسمح على العكس بتأكيد هذه الشخصية بصورة أكثر سطوعا مما هي الحال اليوم، في الميدان الخاص بها.

إن تسيير الشغيلة للمشاريع، وتسيير مؤتمر مجالس الشغيلة للاقتصاد، وتسيير كل دوائر الحياة الاجتماعية عن طريق التجمعات المعنية، يتطلب هو الآخر شروط تحقيق مادية، إذا شاء ألاّ يكون وهميا. ولا غنى عن الخفض الجذري ليوم العمل -أو اتباع الدوام النصفي- من أجل أن يتوفر للمنتجين الوقت لتسيير المشاريع والكومونات، ولكي لا تتشكل شريحة جديدة من المدراء المحترفين.

لا غنى عن تعميم التعليم العالي -وتوزيع جديد لـ«وقت الدراسة» و«وقت العمل» على امتداد كل حياة الرشد للرجل والمرأة- من أجل أن يزول بالتدريج فصل العمل اليدوي عن العمل الذهني. كما لا غنى عن المساواة الدقيقة في المكافأة وفي التمثيل وفرص التأهيل العالي للنساء من أجل ألاّ تستمر اللا مساواة بين الجنسين بعد زوال اللا مساواة بين الطبقات الاجتماعية.

 

3- الشروط السياسية، والأيديولوجية، والنفسية والثقافية لبلوغ هذا الهدف

 

إن الشروط المادية لبلوغ مجتمع لا طبقي هي شروط ضرورية لكنها غير كافية، فالاشتراكية والشيوعية لن تكونا الناتج الآلي لتطور قوى الإنتاج، ولاختفاء النقص في الحاجيات، ولارتفاع مستوى التأهيل التقني والثقافي للبشرية. ينبغي كذلك تبديل العادات والتقاليد والبنى الذهنية التي تنتج عن آلاف السنوات من الاستغلال والقمع وعن الشروط الاجتماعية التي تلائم الرغبة في الإثراء الفردي.

قبل كل شيء، ينبغي انتزاع كل سلطة سياسية من الطبقات المسيطرة ومنعها من استعادة تلك السلطة. إن التسليح العام للشغيلة، الذي يحل محل الجيوش الدائمة، ثم التدمير التدريجي لكل الأسلحة وعجز أنصار محتملين لإعادة حكم الأقلية عن إنتاج تلك الأسلحة، كل ذلك ينبغي أن يسمح ببلوغ الهدف المشار إليه.

إن ما يضمن استمرار الشروط التي يستحيل معها العودة لنظام قمع واستغلال يتلخص بالأمور التالية: ديموقراطية مجالس الشغيلة، ممارسة تلك المجالس لكامل السلطة السياسية، الرقابة العامة على الإنتاج وتوزيع الثروات، تأمين علنية تامة للنقاشات التي تؤدي إلى القرارات السياسية والاقتصادية الكبرى، وصول الشغيلة جميعا إلى وسائل الإعلام وتكوين الرأي العام.

يتعلق الأمر فيما بعد بخلق الشروط الملائمة لكي يعتاد المنتجون على العيش بأمان ويتوقفوا عن قياس جهودهم تبعا للمكافآت التي يتوقعونها لقاءها. ولا يمكن لهذه الثورة النفسية أن تظهر إلاّ حين تعلم التجربة الناس أن المجتمع الاشتراكي يضمن فعليا، وبصورة دائمة، كفاية حاجاتهم الأساسية، دون حساب كل واحد منهم، بالمقابل، في الثروة الاجتماعية.

إن مجانية الغداء واللباس الضروري، والخدمات العامة، والعناية بالصحة، والتعليم، والخدمات الثقافية، سوف تسمح ببلوغ هذا الهدف بعدما يكون قد مر على اعتمادها جيلان أو ثلاثة. فمنذ ذاك لا يعود ينظر إلى العمل كوسيلة «لكسب المعيشة» أو لتأمين الاستهلاك الجاري، بل يصبح حاجة للنشاط الخلاق الذي يساهم كل واحد عبره في رخاء الجميع وتطورهم.

إن التبديل الراديكالي لبنى القمع المتمثلة بالعائلة البطريركية وبالمدرسة المتسلطة المتقوقعة في برجها العاجي، وبالاستهلاك السلبي للأفكار و«الخيرات الثقافية»، سوف يتلازم مع هذه التحولات الاجتماعية والسياسية.

لن تتولى ديكتاتورية البروليتاريا قمع أية فكرة وأي تيار علمي أو أدبي أو ثقافي أو فني، فهي لن تخاف من الأفكار، لقناعتها بتفوق الأفكار الشيوعية. ومع ذلك فلن تكون حيادية إزاء النضال الأيديولوجي الذي يستمر. وسوف تخلق كل الشروط الملائمة من أجل أن تتمثل البروليتاريا المتحررة أفضل منتجات الثقافية القديمة، وتبني بالتدريج عناصر الثقافة الشيوعية الموحدة للبشرية القادمة.

إن الثورة الثقافية التي ستطبع بخاتمها بناء الشيوعية ستكون قبل كل شيء ثورة الشروط التي يخلق الناس من ضمنها ثقافتهم الخاصة بهم، وتحويل جمهور المواطنين من مستهلكين سلبيين إلى منتجين ثقافيين فاعلين وخلاقين.

والعائق الأكبر الذي يبقى على البشرية أن تتخطاه لخلق عالم شيوعي إنما هو المسافة الضخمة التي تفصل الإنتاج ومستوى معيشة الفرد في البلدان المتقدمة صناعيا عنهما في البلدان المتخلفة. فالماركسية تنبذ الطوبى الرجعية لشيوعية قائمة على التقشف والعسر. إن تفتح الحياة الاقتصادية والاجتماعية لشعوب نصف الكرة الجنوبي لا يتطلب فقط تخطيطا اشتراكيا للاقتصاد العالمي، بل كذلك إعادة توزيع جذرية للموارد لصالح تلك الشعوب.

إن تبديل أنماط التفكير الأنانية وقصيرة النظر البورجوازية الصغيرة التي تواصل الحياة اليوم على مستوى جزء مهم من الطبقة العاملة في نصف الكرة الشمالي سيسمح وحده ببلوغ هذا الهدف. وعلى التربية الأممية أن تسير نحو هذا الهدف جنبا إلى جنب مع عادة الوفرة التي ستبرهن أنه يمكن القيام بإعادة التوزيع تلك دون إحداث تراجع في مستوى معيشة الجماهير الشمالية.

 

4- أطوار المجتمع غير الطبقي

 

على أساس التجربة الغنية للثورات البروليتارية منذ أكثر من قرن -أي منذ كومونة باريس- يمكن أن نميز ثلاثة أطوار من بناء مجتمع لا طبقي:

- طور الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، وهو طور ديكتاتورية البروليتاريا، واستمرار الرأسمالية في بلدان مهمة، والاستمرار الجزئي للإنتاج البضاعي والاقتصاد النقدي، واستمرار العديد من الطبقات والشرائح الاجتماعية داخل البلدان المنخرطة في هذا الطور، وبالتالي ضرورة استمرار الدولة من أجل الدفاع عن مصالح الشغيلة ضد جميع أنصار العودة إلى مملكة رأس المال.

- طور الاشتراكية، التي ينجز بناؤها والتي تتميز بزوال الطبقات الاجتماعية («الاشتراكية هي المجتمع اللا طبقي» حسب تعبير لينين)، وبزوال الاقتصاد البضاعي والنقدي واخفتاء الدولة وانتصار المجتمع الجديد على المستوى العالمي. إلاّ أنّ مكافأة كل شخص في الطور الاشتراكي (بغض النظر عن الكفاية المجانية للحاجات الأساسية) سيستمر قياسها تبعا لكمية العمل الذي يقدمه هذا الشخص للمجتمع.

- طور الشيوعية، الذي يتميز بالتطبيق الكامل لمبدأ «من كل حسب قدرته، ولكل حسب حاجته»، وبزوال التقسيم الاجتماعي للعمل والفصل بين العمل اليدوي والعمل الذهني، وبزوال الفروق بين المدينة والريف. سوف تعيد البشرية تنظيم نفسها بشكل كومونات حرة من المنتجين-المستهلكين، القادرين على إدارة أوضاعهم بأنفسهم دون أي جهاز منفصل، وقد أعيد دمجهم في وسط طبيعي معاد تأهيله، وقدمت لهم الحماية ضد مخاطر تدمير توازن البيئة.

إلا أنه حين نجد أنفسنا أمام مجتمع لاحق للرأسمالية تخلص من احتكار السلطة بين يدي شريحة بيروقراطية -أي إزاء سلطة فعلية للشغيلة- لن تعود هناك حاجة لأية ثورة وأية قطيعة مفاجئة لتسجيل تعاقب هذه الأطوار، فهي ستنتج عن تطور تدريجي لعلاقات الإنتاج والعلاقات الاجتماعية، وستكون تعبيرا عن الاضمحلال التدريجي للمقاولات البضاعية والمال والطبقات الاجتماعية والدولة والتقسيم الاجتماعي للعمل والبنى الذهنية التي نجمت عن كل الماضي القائم على اللا مساواة والصراع الاجتماعيين. إن الجوهري يكمن في الشروع حالا بسيرورات الاضمحلال وعدم تأجيلها لأجيال قادمة.

هذا هو مثلنا الأعلى الشيوعي، وهو يشكل الحل الوحيد للمشكلات الحادة التي تواجهها الإنسانية. وتكريس الحياة لتحقيقه يبرهن عن الجدارة بفطنة أفضل أولاد جنسنا وشهامتهم، بالمفكرين الأكثر جسارة والمقاتلين الأكثر جرأة من أجل تحرير العمل، بالأمس كما اليوم.

*******

 

16/ الدياليكتيك المادي

 

1- الحركة الشاملة

 

إذا عدنا إلى مضمون الفصول الخمسة عشر السابقة وحاولنا أن نختصرها بصيغة واحدة، لا يمكننا أن نجد أفضل من الصيغة التالية: كل شيء يتغير، كل شيء في حركة دائمة.

لقد انتقلت البشرية من المجتمع البدائي غير الطبقي إلى المجتمع المنقسم إلى طبقات، الذي سيكون بدوره منطلقا للمجتمع الاشتراكي اللا طبقي اللاحق. إن أنماط الإنتاج تتعاقب، وحتى قبل أن تزول تخضع لتبدلات متواصلة. تختلف الطبقة المسيطرة اليوم كثيرا عن طبقة مالكي العبيد التي كانت مهيمنة في الإمبراطورية الرومانية، والبروليتاري المعاصر يختلف كليا عن القن في القرون الوسطى. وبين الرأسمالي صاحب المعمل الصغير في بداية القرن التاسع عشر، والسيد روكفلر أو صاحب تروست رون بولنك في أيامنا هذه، بون شاسع. كل شيء يتغير، كل شيء في حركة دائمة.

هذه الحركة الشاملة يمكن أن نجدها على كل مستويات الواقع، وليس فقط مستوى تاريخ المجتمعات البشرية. فالأفراد يتبدلون، خاضعين لقدر محتوم. إنهم يولدون ويكبرون وينضجون ويرشدون، ثم يشرعون بالانحدار وينتهون إلى الموت، وهذا القدر يصيب الأنواع الحية كما يصيب الأفراد. فالجنس البشري لم يكن حيا على الدوام، والعديد من الأنواع التي كانت تقطن في الماضي كوكبنا، من مثل الزواحف العملاقة في العصر الثالث، قد اندثرت، بينما تندثر الآن تحت أعيننا أنواع أخرى نباتية وحيوانية، وذلك جزئيا كنتيجة لأشكال الخلل الفوضوية التي أحدثها نمط الإنتاج الرأسمالي في البيئة الأرضية.

إن كوكبنا بدوره لن يحيا إلى الأبد، ففقدان الطاقة يحكم عليه بالزوال حتما في يوم من الأيام. كما أنه لم يكن موجودا منذ البدء، فقد ولد من مجموعة نجوم ليست بحد ذاتها إلاّ واحدة من مجموعات لا تحصى مشابهة لها في الكون. إن الحركة أو التطور الشامل تتحكم بكل وجود، وهذا الوجود مادي بحت، وفي أساس المادة ذرات تتألف هي الأخرى من دقائق أصغر، وإدغامات الذرات تشكل جزيئات تكوّن فيما بينها العناصر الأساسية المختلفة للقشرة الأرضية والجو. هكذا فإن الأوكسجين والهيدروجين، بعد أن يدخلا في إدغام معيّن، مرموز إليه بـ H2O يؤلفان الماء، بينما تشكل الجزيئات الأسس التي تقود عملية تكوين الحوامض الأمينية.

هكذا نرى أن تطور المادة غير العضوية أدى إلى ولادة المادة العضوية، ضمن شروط محددة. فالحوامض الأمينية تشكل البروتيينات التي تعمل كخلايا، وهذه الأخيرة تستثير تطور الأنواع الحية، أكانت نباتية أو حيوانية. وتولد في مجرى هذا التطور الكائنات الحية العليا، أو الثدييات، وتتفرع عنها القرديات التي تحدر منها النوع البشري.

 

2-الدياليكتيك، منطق الحركة

 

بما أن حركة شاملة تميز -كما يبدو- كل وجود، فينبغي أن نستخلص ملامح مشتركة بين حركة المادة (أو الطبيعة) وحركة المجتمع الإنساني وحركة معارفنا (أو العلم، الفكر الإنساني). إن الدياليكتيك المادي الذي بلوره ماركس وإنجلز يؤكد أنه عرّى في الواقع هذه الملامح المشتركة للحركة الشاملة.

يتجلى الدياليكتيك إذا، أو منطق الحركة، على ثلاثة مستويات:

 

  ديالكتيك الطبيعة وهو ديالكتيك موضوعي كليا، أي مستقل عن الوجود الإنساني وعن مشاريع الإنسان ونواياه أو حوافزه، وهو لا يفعل مباشرة في التاريخ البشري. لا يستبعد ذلك أن تتمكن البشرية مع تطور قوى الإنتاج من استخدام قوانين الطبيعة من أجل إعادة تكييف بيئتها الطبيعية.

 

  ديالكتيك التاريخ، وهو ديالكتيك موضوعي إلى حد بعيد أولا، ولكن يشكل اقتحامه من جانب مشروع البروليتاريا، القاضي بإعادة بناء المجتمع وفقا لبرنامج معد مسبقا، إنعطافا ثوريا، حتى لو ارتبط وضع هذا المشروع وتحقيقه بشروط مادية موضوعية موجودة مسبقا ومستقلة عن إرادة البشر.

 

  ديالكتيك المعرفة (الفكر الإنساني) الذي هو ديالكتيك الموضوع-الذات بامتياز، وناتج تفاعل مستمر بين الموضوعات المطلوبة معرفتها (موضوعات كل فرع من العلوم) وعمل الذوات التي تسعى لفهمها والتي يشرطها وضعها الاجتماعي، ووسائل التقصي الموروثة الموضوعة تحت تصرفها -وسائل العمل كما المفاهيم- وتحويل تلك الوسائل عبر النشاط الاجتماعي الجاري، الخ.

بمقدار ما يشكل اكتشاف الديالكتيك الموضوعي طورا من تاريخ المعارف والفكر البشري (بلور الديالكتيك في البدء فلاسفة إغربق مثل هيراقليط، ثم استعاده سبينوزا وطوّره هيغل)، يمكن أن نخضع لإغراء إرجاع كل الديالكتيك إلى ديالكتيك الموضوع-الذات، وهو ما يمكن اعتباره خطأ.

واضح أن كل ما نعرفه، ومن بينه ما له علاقة بديالكتيك الطبيعة، إنما نعرفه بواسطة دماغنا وأفكارنا وممارستنا الاجتماعية، التي تحددها شروط وجودنا الاجتماعي. إلاّ أن هذا الواقع البديهي لا يحول دون أن نتمكن من معرفة أن الحياة أقدم من الفكر الإنساني (ومن التأكيد من صحة ذلك، ورؤية إثبات ذلك عن طريق براهين عملية متعددة)، وأن الأرض أقدم من الحياة، والكون أقدم من الأرض، وأن كل هذه الحركة هي حركة مستقلة عن العمل وعن وجود الإنسان أو فكره، وأنّ الفكر الإنساني ذاته هو ناتج تلك الحركة: فالفكر هو المادة التي تعي ذاتها. ذلكم هو المعنى الدقيق لمفهوم: «الديالكتيك المادي».

أكثر من ذلك، فبقدر ما تتحسن معارفنا وتصبح علمية أكثر فأكثر، وبقدرما تقترب المعرفة من الواقع (إن تطابقا كليا للمعرفة والواقع مستحيل، لا سيما لكون هذا الأخير في حالة تبدل دائم)، بمقدار ما تتابع مسيرة تلك المعرفة الحركة الموضوعية للمادة أكثر فأكثر. إن بوسع ديالكتيك فكرنا العلمي، أو الديالكتيك المادي، أن يقارب الواقع، بالضبط لكون حركته الخاصة تتوافق أكثر فأكثر مع حركة المادة، لا سيما بفضل الممارسة الاجتماعية التي تعبر عن سيطرة متنامية على قوى الطبيعة، لأن قوانين المعرفة والفهم الذهني للواقع الذي تطبقه تتوافق أكثر فأكثر مع القوانين التي تقود الحركة الشاملة للواقع الموضوعي.

ينبغي أن نشير إلى وجود اختلاف كبير بين تطور العلوم الطبيعية وتطور العلوم الاجتماعية أي معارفنا المتعلقة بكل ما يتخذ الحياة الاجتماعية موضوعا للبحث، بما فيها معارفنا حول بدايات تطور العلوم جميعا، ومن بينها العلوم الطبيعية، وحول ديالكتيكها.

إن تطور العلوم الطبيعية محدد هو الآخر تاريخيا واجتماعيا، فالناس، ومن بينهم العباقرة الأكثر جسارة، عاجزون عن أن يطرحوا أكثر من عدد معين من المشكلات العلمية في كل عصر، وعن أن يحلوا أكثر منه. إنهم يخضعون للأفكار والتربية المتلقاة، والإشكاليات الجديدة تولد في هذا السياق، في علاقة مع تبدلات مادية، لا سيما تلك المتعلقة بالعمل وبأدوات العمل وأدوات الاستقصاء العلمية، الخ. إلاّ أن الأمر يتعلق بتحديد غير مباشر، لا تتوسطه بشكل مباشر مصالح مادية طبقية. ولا يمكن دحض نظريات علمية تقوم على براهين اختبارية عن طريق الرجوع إلى الديالكتيك عموما أو إلى الأصل الاجتماعي أو المواقف السياسية لدى العلماء الذين صاغوا تلك النظريات. لا يمكن دحضها إلاّ عبر نظريات علمية أخرى جرى البرهان على صحتها اختباريا، نظريات تحلل بشكل أفضل واقعا أكثر تعقيدا.

يختلف الأمر مع العلوم الاجتماعية، إذ هي تتناول عن كثب أكثر تنظيم المجتمع الطبقي وبنيته. ووزن «الأفكار المتلقاة والموروثة» أكبر فيها، لا سيما أن هذه الأفكار ليست سوى التعبير، على المستوى الإيديولوجي، عن مصالح ترمي للمحافظة على الواقع الاجتماعي أو للثورة الاجتماعية، مصالح يمكن إرجاعها في نهاية المطاف إلى مواقف طبقية متضادة. ودون أن نريد تحويل الفلاسفة والمؤرخين والاقتصاديين وعلماء الاجتماع والأنتبولوجيا إلى «عملاء» واعين لهذه أو تلك من الطبقات الاجتماعية، منخرطين في «مؤامرة» للدفاع عن الوضع القائم أو لـ«تنظيم التخريب»، من البديهي أن التحديد الاجتماعي لتطور العلوم الاجتماعية هو أكثر مباشرة وفورية بكثير من تطور العلوم الطبيعية. وفي الوقت ذاته، فإن موضوع العلوم الاجتماعية يتحدد فورا، وبقوة الأشياء، ببنية المجتمعات التي ترتبط بها الوقائع المدروسة وبتاريخها، وهو ما ليس حال موضوع العلوم الطبيعية.

 

3- الديالكتيك والمنطق الصوري

 

يتميز الديالكتيك، أو منطق الحركة، عن المنطق الصوري أو المنطق السكوني. فالمنطق الصوري يقوم على ثلاثة قوانين أساسية:

أ- قانون التماثل: أ = أ. يبقى الشيء مساويا لداته على الدوام.

ب- قانون التضاد: أ، مختلفة عن لا-أ، أ لا يمكن أن تكون مساوية أبدا للا -أ.

ج- قانون الثالث المستبعد: أمّا أ، وأمّا لا-أ. لا يمكن لشيء أن لا يكون أ، وأن لا يكون لا-أ.

تسمح لنا لحظة من التأمل بالاستنتاج أن ما يميز المنطق الصوري هو المسار الذي يكمن في وضع الحركة والتبدل بين هلالين. كل القوانين التي أوردنا صحيحة، إذا لم نأخذ الحركة بالاعتبار. أ تبقى مساوية لذاتها طالما لم تتغير. أ تختلف عن لا-أ طالما لم تتحول إلى نقيضها. هنالك أ، او لا-أ طالما ليست هناك حركة تدغم أ مع لا-أ، الخ، الخ. إزاء لآتحول الشرقنة إلى فراشة والمراهق إلى راشد، يصبح «قانون التماثل» غير كاف، بوضوح.

إن غض النظر عن الحركة والتحول والتبدلات مفيد من زاويتين: أولا للتمكن من دراسة ظاهرات معينة بصورة معزولة ومتواصلة، وهو ما يسمح، دون شك، بتعميق معارفنا حول هذه الظاهرات. وبالتالي، من زاوية عملية، حين تكون التبدلات الحادثة طفيفة للغاية بحيث يمكن تجاهلها عمليا.

فإذا اشتريت كيلو سكر من حانوت السمان، فالمساواة التي يشير إليها الميزان: 1 كغ سكر = 1 كغ، ذات قيمة بالنسبة إلي، نظرا للهدف العملي للشراء. فللتمكن من تحلية قهوتي والإبقاء على توازن موازنتي المنزلية، لا يهم كثيرا ألاّ يكون الوزن الفعلي لهذه الرزمة كيلو غراما، بل فقط 999 غ، وأن يكون وزن تلك الرزمة الأخرى 980 غ (بسبب رطوبة الجو على الأقل)، ففرق صغير جدا يمكن تجاهلها من الزاوية العملية.

هذا هو السبب في أن المنطق الصوري ما يزال يستخدم في النظرية كما في الممارسة، وفي أن الديالكتيك المادي لا «ينكر» المنطق الصوري بل يستوعبه، يعتبره أداة تحليل ومعرفة مقبولة -لكن مقبولة شرط فهم حدودها: أي فهم استحالة تطبيقها على ظاهرات الحركة وسيرورة التبدل. فمذ نصبح إزاء هكذا ظاهرات يفرض اللجوء إلى مقولات الديالكتيك، أو منطق الحركة، نفسه، وهي مقولات مختلفة عن مقولات المنطق الصوري.

 

4- الحركة، تبعا للتناقض

 

الحركة بطبيعتها عبور وتخطّ. فمن زاوية سكونية، لا يمكن لشيء محدد أن يكون في مكانين مختلفين في الوقت ذاته (ولو كان هذا الوقت في منتهى القصر). وحركة الشيء، من وجهة النظر الدينامية، هي بالتحديد انتقاله من نقطة إلى أخرى.

يدرس الدياليكتيك أو منطق الحركة إذا قوانين الحركة على وجه الخصوص، والأشكال التي تتبناها. وسوف نتفحص تلك القوانين من وجهتين: الحركة تبعا للتناقض، والحركة تبعا للكلية.

لكل حركة سبب دائما، والسببية واحدة من مقولات الدياليكتيك الأساسية، تماما كما هي مقولة أساسية في كل علم. وإنكار السببية هو إنكار لإمكانية المعرفة، في نهاية المطاف.

إن السبب الأخير لكل حركة، ولكل تبدل، يكمن في التناقضات الداخلية للموضوع المتبدل. كل موضوع، كل ظاهرة، يتغير، يتحرك، يتعدل، ويتحول في التحليل الأخير تحت تأثير تناقضاته الداخلية والتناقضات التي تنتج عن علاقاته بظاهرات أخرى (تناقضات داخلية في «نظام» الموضوعات والظاهرات التي هو جزء منها). بهذا المعنى، غالبا ما سمي الدياليكتيك، بحق، علم التناقضات. إن منطق الحركة ومنطق التناقضات تعريفان متماثلان عمليا للديالكتيك.

ينبغي إذا لتحليل كل موضوع، وكل ظاهرة أو مجموعة من الظاهرات، أن يهدف لتحديد ما هي عناصره المكونة المتناقضة، وما هي الحركة أو الدينامية التي تستثيرها تلك التناقضات.

هكذا رأينا على امتداد عرضنا إلى أي حد يقوم الصراع الطبقي -وهو محصلة وجود طبقات اجتماعية متضادة داخل المجتمع- بتوجيه حركة تاريخ المجتمعات المنقسمة إلى طبقات. يمكننا أن نقول، ونحن نشمل في الوقت ذاته المجتمع البدائي غير الطبقي والمجتمع المنقسم إلى طبقات والمجتمع الاشتراكي القادم، أن التناقض بين المستوى الذي بلغه في بعض العهود تطور قوى الإنتاج (درجة تحكم الإنسان بالطبيعة)، وعلاقات الانتاج (التنظيم الاجتماعي) المنبثقة في التحليل الأخير من مستويات تطور سابقة لقوى الانتاج ذاتها، إنما يوجه كل التطور البشري.

يمكننا ونحن نختصر الأمور إلى درجة لا متناهية أن نشير إلى القوانين التالية للحركة، أو الأشكال الرئيسية التي تتخذها، والتي تقدم مقولات أساسية للمنطق الدياليكتيكي أو منطق الحركة:

أ- وحدة الأضداد وتداخلها وصراعها

من يقل حركة يقل تناقضا، ومن يقل تناقضا يقل تعايشا بين عناصر متعارضة بعضها مع البعض الآخر، تعايشا وصراعا في الوقت ذاته بين تلك العناصر. إذا كان ثمة تجانس كلي وانعدام كامل لعناصر متعارض بعضها عن البعض الآخر، فليس هناك تناقض وليس هناك حركة، لا حياة هنالك ولا وجود. يتشكل الوجود من وحدة عناصر متضادة ومن تداخلها وصراعها، أي من حركتها.

إن وجود عناصر متناقضة يشمل (تعايشها في كلية مبنية totalité structurée، في مجموع لكل من هذه العناصر مكانه ضمنه، وفي الوقت ذاته صراع تلك العناصر لتحطيم هذا المجموع. ليست الرأسمالية ممكنة دون الوجود المتلازم لرأس المال والعمل المأجور، للبورجوازية والبروليتاريا. ولا يمكن للواحد أن يوجد دون الآخر، إلا أن هذا لا يعني أن لا يسعى الواحد باستمرار ليكبت الآخر، وأن لا تسعى البروليتاريا لإلغاء رأس المال والعمل المأجور، إذا لتخطي الرأسمالية.

ب- تحولات كمية وتحولات نوعية

تتخذ الحركة شكل تحولات تبقي على بنية (أو نوعية) الظاهرات، وسوف نتكلم في هذه الحالة على تبدل كمي، غالبا ما يكون غير ملحوظ. منذ بلوغ «عتبة» معينة، يتحول التبدل الكمي إلى تبدل نوعي، ومنذ تلك «العتبة»، بدل أن يحدث التبدل الكمي تدريجيا يتم بـ«قفزة»، وتظهر للحال «نوعية» جديدة. يمكن لقرية صغيرة أن تتحول تدريجيا إلى قرية كبيرة أو دسكرة، لا بل إلى مدينة صغيرة. لكن بين مدينة وقرية، ليس هنالك فرق كمي (عدد السكان والأبنية، الخ) وحسب، بل كذلك فرق نوعي. فالنشاط المهني لاغلبة السكان قد تغير، وحل محل المزارع العامل والمستخدم. لقد ولدت بيئة اجتماعية جديدة تطرح مشكلات اجتماعية لم تكن قائمة في القرية، من مثل مشكلة النقل المشترك، وتظهر طبقات اجتماعية جديدة وتناقضات جديدة فيما بينها.

ج- النفي والتخطي

كل حركة تميل لانتاج نفي لبعض ظاهراتها، ولتحويل موضوعات إلى نقيضها. الحياة تنتج الموت، ولا يمكن الشعور بالحرارة إلاّ تبعا للبرد، والمجتمع اللا طبقي ينتج المجتمع المنقسم إلى طبقات، الذي ينتج بدوره مجتمعا غير طبقي. إلاّ أنه ينبغي التمييز بين النفي «الصرف» و«نفي النفي»، الذي هو تخطي التناقض إلى مستوى أعلى، يستتبع في الوقت ذاته نفيا ومحافظة وارتفاعا إلى مستوى أعلى. لقد كان للمجتمع البدائي اللاطبقي مستوى عال من التماسك الداخلي، تبعا لفقره على وجه التحديد، ولخضوعه شبه الكلي لقوى الطبيعة. إن المجتمع المنقسم إلى طبقات هو مرحلة من السيطرة العليا للإنسان على قوى الطبيعة، ثمنها تمزق أعمق للتنظيم الاجتماعي. أمّا في المجتمع الاشتراكي القادم فهذا التناقض سيتم تخطيه، وسوف يندمج إذاك شكل رفيع من سيطرة الإنسان على الطبيعة بشكل رفيع أيضا من التماسك الاجتماعي والتعاضد، بفضل وجود مجتمع لا طبقي.

 

5- بعض المشكلات الإضافية بخصوص ديالكتيك المعرفة

 

أ- المضمون والشكل

كل حركة تتخذ بالضرورة أشكالا متتالية، يمكن أن تتبدل وفقا لعدد كبير من الظروف، وليس بوسعها أن تتخلص آليا من هذا الشكل أو ذاك الذي تم تبنيه من قبل، فهو يقاوم وهذه المقاومة ينبغي تحطيمها. ينبغي أن يتوافق الشكل مع المضمون، وهو يتوافق معه إذا، إلاّ أن ذلك لا يتعدى درجة معينة. فطبيعة الشكل الأكثر تحجرا تتعارض مع كل توافق مطلق ودائم مع حركة هي النقيض بالذات لكل ما هو متحجر.

ب-الأسباب والنتائج

كل حركة تبرز كسلسلة متداخلة من الأسباب والنتائج، يمزجها بعضها ببعض تفاعل معقد جدا، للوهلة الأولى. إن سبب العمل المأجور هو التملك الخاص لوسائل الانتاج التي أصبحت حكرا على طبقة اجتماعية، إلاّ أن هذا الاحتكار يستمر بالضبط كنتيجة للعمل المأجور. فالأجور لا تسمح باكتساب العمال وسائل الإنتاج، والعمل المأجور ينتج فائض قيمة يستملكه الرأسماليون ويتحول إلى ملكية بورجوازية لوسائل إنتاج إضافية، وهكذا دواليك.

لكي لا نقع في انتقائية مبتذلة وعقيمة، علينا تطبيق الطريقة التكونية، أي البحث عن الأصل التاريخي للحركة التي نحن بصددها. هكذا نجد أن رأس المال وفائض القيمة سابقان للعمل المأجور، وأنهما انبثقا من خارج دائرة الإنتاج، وأنه قد حصل تراكم بدائي لرأس المال، يكسر حلقة الأسباب والنتائج، عمل مأجور-رأس المال-عمل مأجور، هذه الحلقة المقفلة في الظاهر.

ج- العام والخاص

لكل حركة وكل ظاهرة ميزات خاصة بها. ورغم هذه الميزات النوعية الخاصة، فكل حركة، كل ظاهرة، لا يمكن فهمها وتفسيرها إلاّ في إطار مجموعات أوسع وأعم، فالرأسمالية البريطانية في القرن التاسع عشر لا تشبه الرأسمالية البريطانية في النصف الثاني من القرن العشرين، ولا الرأسمالية الأمريكية الحالية. كل من هذه الرأسماليات يمثل تكوينا اجتماعيا خاصا، مع الانخراط الخاص في اقتصاد عالمي تغير جدا في ظرف قرن. بيد أنه لا يمكن فهم الرأسمالية البريطانية في العصر الفيكتوري، ولا الرأسمالية البريطانية الآفلة المعاصرة، ولا الرأسمالية الأمريكية الحالية، خارج قوانين التطور العامة التي تطبع الرأسمالية عموما. فالديالكتيك العام والخاص لا يكتفي بـ«دغم» تحليل «العام» و«الخاص». إنه يجتهد في تفسير الخاص تبعا للقوانين العامة، وفي تعديل القوانين العامة تبعا لفعل العديد من العوامل الخاصة.

هـ-النسبي والمطلق

إن فهم الحركة أو التبدل الشامل هو فهم وجود ما لا نهاية له من الحالات الانتقالية. «الحركة هي وحدة التواصل والانقطاع» (هيغل). لذا فإن واحدة من الميزات الأساسية للديالكتيك هي فهم نسبية الأشياء، هي رفض إقامة حواجز مطلقة بين المقولات، السعي وراء توسطات بين العناصر المتعارضة. ويستتبع التطور الشامل وجود ظاهرات هجينة، وجود أوضاع وحالات «انتقالية» بين الحيات والموت، بين الأنواع النباتية والحيوانية، بين العصافير والثيديات، بين القرود والإنسان، تجعل التمايزات بين كل هذه المقولات نسبية.

بيد أن الدياليكتيك قد استخدم مرارا عديدة بصورة ذاتية، كـ«فن خلط المفارقات» أو «فن الدفاع عن المفارقات». ويكمن الفرق بين الدياليكتيك العلمي، أداة معرفة الواقع، والديالكتيك الذاتي أو السفسطائية، في أن نسبية الظاهرات والمقولات تصبح بدورها شيئا مطلقا لدى السفسطائيين. إنهم ينسون (أو يتناسون) أن نسبية المقولات ليست سوى نسبية جزئية، لا نسبية مطلقة، وأنه ينبغي إذا تنسيب النسبية.

يقول الديالكتيك العلمي أن الفرق «المطلق» بين الحياة والموت يحد من إطلاقيته وجود حالات إنتقالية. كل شيء نسبي، فليس الفرق بين الحياة والموت إذا إلا نسبيا، إذا لم يكن معدوما، حسب ادعاء السفسطائي. إلاّ أن الديالبكتيكي يرد عليه بقوله: ثمة شيء مطلق في الفرق بين الحياة والموت، لا نسبي وحسب. يجب ألاّ نخرج بالاستنتاج العبثي الذي يكمن في إنكار أن الموت يبقى نفي الحياة، إنطلاقا من الواقع الثابت أن ثمة العديد من المراحل الوسطية.


 6- الحركة، تبعا للكلية-المجردة والملموس

 

 

رأينا أن كل حركة ترتبط على الدوام بالتناقضات الداخلية للظاهرة أو لمجموعة الظاهرات المأخوذة بالاعتبار. كل ظاهرة -أكانت خلية حية، أو بيئة طبيعية تتعايش فيها أجناس متنوعة، أو مجتمعا إنسانيا، أو نظاما كواكبيا- تنطوي مع ذلك على ما لا يحصى من الوجوه والعناصر المكونة. ولا تتجمع هذه العناصر بعضها مع بعض بصورة عرضية ومتبدلة باستمرار، بل تشكل مجموعات مبنية، تشكل كلية مركبة بناء على قوانين محددة.

هكذا فالعلاقات المتبادلة والمتضادة، في المجتمع البورجوازي، بين رأس المال والعمل ليست عرضية على الاطلاق، بل يحددها الاضطرار الاقتصادي للعامل المأجور إلى بيع قوة عمله للرأسمالي مالك وسائل الإنتاج ووسائل الاستمرار على قيد الحياة، بشكل بضائع. إن علاقات متبادلة مختلفة نوعيا عن هذه العلاقات أنتجت مجتمعات أخرى قائمة على الاستغلال، إلاّ أنها لم تكن بمجتمعات رأسمالية.

على الدياليكتيك المادي إذا أن يتناول كل ظاهرة، وكل موضوع تحليل ومعرفة، لا فقط ليحدد تناقضاته الداخلية التي تتحكم بتطوره («قوانين تطوره»)، بل عليه أن يسعى كذلك لتناول تلك الظاهرة بصورة اجمالية، وأن يفهمها بكل جوانبها، ويعتبرها بكليتها، ويتحاشى كل مقاربة من جانب واحد، تعزل هذا الوجه الخاص أو ذاك من وجوه الواقع عزلا اعتباطيا، وتلغي بالاعتباط ذاته هذا أو ذاك من وجوه، وتعجز بالتالي عن فهم التناقضات بمجملها، إذا عن فهم الحركة بكليتها.

إن قدرة الدياليكتيك هذه على أن يدمج في تحليله المنهج «الشمولي» (أو Allseitigkeit كما يقول لينين بالألمانية والروسية) هي إحدى جداراته الرئيسية. و«منطق الحركة» و«منطق التناقض» و«منطق الكلية» مرادفات على المستوى العملي. إن بعض المفكرين غير الديالكتيكيين يمضون من الكلي إلى الجزئي، مفرغين التناقض والكلية في الوقت ذاته، وذلك فيما يغمضون الأعين إزاء بعض عناصر الواقع المتناقضة التي تبدو كما لو كانت تجعل التحليل «عظيم التعقيد».

طبعا إن اختزالا ما، «حصرا» لـ«الكلية» بعناصرها المكونة الحاسمة، أمر محتوم كمسعى أول لمقاربة أي تحليل علمي. وهذا الأخير هو في البدء مجرد بالضرورة، فبدون هذا التجريد يستحيل تحليل الظاهرة في حركتها ومع تناقضاتها. كل «تفسير» يبقى متعلقا بالظاهرات الظاهرة هو وصف أكثر منه تفسير علمي لجوهر تلك الظاهرات. إن الأسعار مثلا هي ظاهرات ظاهرة، والقيمة، أو العمل الاجتماعي، هي الجوهر.

إلاّ أنه ينبغي ألاّ ننسى أن سيرورة التجريد المحتومة هذه تفقر الواقع. فكلما اقتربنا أكثر من الواقع كلما اقتربنا من كلية غنية بما لا يحصى من الوجوه التي على التحليل العلمي والمعرفة أن يفسراها في علاقاتها المتبادلة وفي علاقاتها المتناقضة في الوقت ذاته: «الحقيقة دائما ملموسة» (لينين). «الحقيقي هو الكلية» (هيغل). إن الكلية هي مجمل الجوهر، ومظاهره، والتوسطات التي تفسر لماذا يتجلى الجوهر في هذه المظاهر بالضبط لا في مظاهر أخرى.

 

7- النظرية والممارسة

 

إن الدياليكتيك نظرية، أو أداة، للمعرفة. يمكن أن نعرف الدياليكتيك المادي، تاريخيا، كنظرية المعرفة لدى البروليتاريا (وهو ما لا ينقص في شيء طابعها العلمي الموضوعي الذي يتطلب تثبتا دائما، وصارما، وموضوعيا، من دون مسبقات أو تحيّزات، في الميدان العلمي أيضا). وكل نظرية للمعرفة تخضع لامتحان صارم هو امتحان الممارسة.

ليست المعرفة ذاتها، في التحليل الأخير، ظاهرة منفصلة عن حياة الناس ومصالحهم. فهي سلاح للمحافظة على النوع، وسلاح يسمح للانسان بالسيطرة على قوى الطبيعة، وسلاح لفهم (لاحق) لجذور «المسألة الاجتماعية» ووسائل حلها. لقد انبثقت المعرفة إذا من الممارسة الاجتماعية لدى الانسان، ووظيفتها تحسين هذه الممارسة. وتقاس فعاليتها في التحليل الأخير بنتائجها العملية، فالتثبت العملي من صحتها أفضل سلاح ضد السفسطائيين والمتشككين.

لا يعني ذلك أن النظرية تذوب في برنامج مبتذل قصير النظر. فغالبا ما لا تظهر فورا الفعالية العملية، والطابع «الصحيح» أو«المغلوط» لفرضية علمية. هنالك حاجة للوقت، للمسافة، لتجارب جديدة، ولسلسلة متتالية من «امتحانات الممارسة» قبل أن يتمكن الطابع العملي لنظرية محددة من فرض نفسه فعليا في الممارسة. يمكن للعديد من الرجال والنساء، أسرى المظاهر، وأسرى رؤية جزئية وسطحية للواقع، رؤية مؤقتة للسيرورة الثورية (التي تحددها بدورها أيديولوجية الطبقات أو الشرائح الاجتماعية غير الثورية)، أن يشكوا، رغم أفضل النوايا والقناعات الاشتراكية، بعضهم بالطابع البورجوازي للديموقراطية البرلمانية، وبعضهم بضرورة ديكتاتورية البروليتاريا، والبعض الآخر بضرورة انتصار الثورة الأممية لاستكمال بناء مجتمع اشتراكي حقا في الاتحاد السوفياتي أو في بلد آخر.

بيد أن الوقائع تنتهي في خاتمة المطاف باثبات أي نظرية كانت علمية حقا، أي قادرة على فهم الواقع بكل تناقضاته، وكل حركته الاجمالية وأي الفرضيات كانت خاطئة، إي قادرة على أن تفهم فقط أجزاء من الواقع، عبر عزلها عن الكلية المبنية، وبالتالي عاجزة عن فهم الحركة على المدى الطويل بالدياليكتيكها الأساسي. إن انتصار الثورة الاشتراكية العالمية، وبلوغ مجتمع لا طبقي، سوف يثبتان عمليا صحة النظرية الماركسية الثورية.

********

 

 

17/ المادية التاريخية

 

نرى في الختام أن نصوغ بصورة أكثر منهجية الموضوعات الأساسية للمادية التاريخية، التي جرى الإلمام بها سريعا في الفصول الأولى من هذا الكتيب

***

 

 

1- الإنتاج والتواصلات الإنسانية

 

المخلوق الذي أصبح إنسانا حيوان خاص من حيث مواصفاته ونقاط ضعفه البدنية. فمن جهة هناك القامة الواقفة، واليد ذات الإبهام الحر والمطواع، والعينان المرتفعتان اللتان تسمحان بالرؤية الناتئة, واللسان والحلق والأوتار الصوتية التي تسمح بالتلفظ بأصوات متقطعة ومدموجة، والفص الجبهي من الدماغ والتلافيف المخية وقشرة الدماغ المتطورة جدا، والتكوير الجمجمي والحد من مساحة الوجه، التي تسمح بهذا التطور: هذه الصفات الجسدية جميعا لا غنى عنها من أجل صنع الأدوات، وهي تتحسن مع تحسن الأدوات والعمل الإنتاجي.

لكن من جهة أخرى، معظم الحواس والأعضاء البشرية أقل تطورا منها لدى أنواع حيوانية متخصصة جدا. فلم يكن بوسع الإنسان البدائي، المضطر تحت وطأة تغيير في المناخ حتما للترجل من الأشجار والعيش في السهول المعشبة على غذاء متنوع، أن يدافع عن نفسه ضد آكلات اللحوم من الحيوانات عن طريق الركض كالضبي، ولا عن طريق التسلق كالشمبانزي، ولا عن طريق الطيران كالعصفور، ولا بالاكتفاء بقوته البدنية كالجاموس أو الغوريلا، ولا بفضل قوقعة كتلك التي لوحيد القرن. لم يكن بوسعه الحصول لوحده على الغداء الأكثر إثارة للقابلية، نظرا لوجود عدد لا يحصى من المجترات التي تعيش معه في السهل المعشب. ثم أن الوليد البشري كان سريع العطب وعاجزا بوجه خاص، وغرائزه قليلة النمو بوضوح، وهو بمثابة جنين حقيقي خارج الرحم محتاج كليا لعناية أمهات الجماعة (إن وضع الوقوف الذي ضيّق حوض النساء ساهم بالتأكيد في هذا الطابع المبكر للوضع لدى أفراد الجنس البشري).

في هذا الخليط من الميزات ونقاط الضعف تمد الجذور إمكانية التنظيم الاجتماعي وضرورته. فالإنسان عاجز عن الحياة منعزلا وعن تأمين معيشته خارج التعاون مع آخرين من نوعه. ولا تسمح له أعضاء جسده غير النامية بالحصول مباشرة على طعامه، إذ عليه أن ينتج هذا الطعام بصورة جماعية، بواسطة أدوات تشكل امتدادا لأعضائه وتحسينا لها. ذلك هو اللعمل المشترك لمجموعة بشرية تؤمن هذا الإنتاج. إن الأطفال البشريين يندمجون بالجماعة عن طريق الكسب التدريجي للطابع الاجتماعي ويتعلمون قواعد الاستمرار في الحياة وتقنيته كأعضاء في الجماعة.

إن التنظيم الاجتماعي للبشر واكتساب الأطفال الطابع الاجتماعي يفرضان مسبقا أشكالا عالية نوعيا من التواصلات بين أعضاء الجماعة البشرية، بالنسبة إلى تلك التي تعرفها أنواع حيوانية أخرى. هذه الأشكال الرفيعة من اللغة، المرتبطة بتطور القشرة الدماغية، تسمح بانطلاق القدرة على التجريد، وعلى التعلم، أي حفظ دروس التجارب ونقلها، كما تسمح بإنتاج المفاهيم والفكر والوعي. بهذا المعنى، ترتبط مواصفات الإنسان المختلفة -«صفتنا الأنتربولوجية»- ارتباطا وثيقا بعضها بالبعض الآخر. فلكون الانسان «قردا عاريا يسير واقفا» ولأنه يبقى بعد ولادته «جنينا خارج الرحم»، عليه أن يصير صانع أدوات، حيوانا اجتماعيا مطورا للغته، يختزن الانطباعات والصور المتتالية، قادرا على استخدامها لغايات التجريد، قادرا على التفكير والتخيل والاختراع.

إن التفاعل بين هذه المواصفات ودغمها أمر حاسم، فثمة قرود متطورة جدا تستخدم أدوات وتستطيع حتى أن تتخطى أحيانا عتبة صناعتها البدائية، وثمة العديد من الأنواع التي تعرف أشكالا غريزية من التعاون الجماعي، لا بل ثمة أنواع كثيرة تعرف أشكالا بدائية من التواصل. إلاّ أن النوع البشري هو الوحيد القادر على صنع الأدوات بصورة واعية أكثر فأكثر، من أجل أن تصير أكثر فأكثر اتقانا، بعد أن تم تصميمها على هذا الحال بشكل واع، على قاعدة التجربة التدريجية، التي يتم نقلها بفضل وسائل اتصال أكثر فأكثر تنوعا وأكثر فأكثر اتقانا. فالأدات تسمح بتحرير الفهم، وهو ما يسمح بتحسين الأداة عن طريق إتقان اللغة والقدرة علىالتجريد. أمّا اليد فتطور الدماغ الذي يخلق شروط تحسين قدراته عن طريق تحسين استخدام اليد.

إذا كان تحويل المقدمات البشرية إلى بشر مشروطا بوجود بنية تحتية تشريحية وعصبية، فهو لا يقتصر على هذه البنية التحتية. فالديالكتيك «إنتاج/ وسائل اتصال» يخلق إمكانية تطور غير محدود لصنع الأدوات، وبالتالي الإنتاج البشري، تطور غير محدود للتجارب وإمكانات التعلم البشرية، إذا مطواعة وقدرة على التكيف غير محدودتين عمليا لدى الجنس البشري. يصبح المجتمع وثقافة الإنسان المادية طبيعته الثانية.

ينتج عن ذلك أنه من العبث إعلان هذه أو تلك من المؤسسات الاجتماعية (الملكية الخاصة، انعدام الملكية الخاصة) «متعارضة مع الطبيعة البشرية»، فالإنسان عاش، ويمكنه أن يعيش، ضمن أقصى الشروط تنوعا، وما من مؤسسة بدت ممتنعة على التحول أو شرطا مسبقا مطلقا لاستمرار الإنسان على قيد الحياة. إن التأكيد أن «الغريزة العدوانية» سوف تهيمن على التطور البشري إنما هو الخلط بين وجود ميل (يتعايش في كل حال مع نفيه، الذي هو غريزة الحس الاجتماعي والتعاون) وتحقيقه. فالتاريخ وما قبل التاريخ يؤكدان وجود مؤسسات وشروط اجتماعية تسمح باحتواء هذا الاتجاه وكبته، بينما ثمة مؤسسات أخرى تشجع على العكس تجليه الأكثر فأكثر إفراطا.

إن ديالكتيك «الإنتاج-التواصل» يتحكم بالشرط الإنساني بكامله. فكل ما يصنعه الإنسان «يمر عبر رأسه»، والإنتاج البشري يتميز عن التملك الحيواني للغذاء بواقع كونه ليس نشاطا غريزيا. إنه يشكل عموما تنفيذا لمشروع يجول أولا في رأسه، إلاّ أن هذا «المشروع» لا يسقط من السماء، وهو ليس سوى عمد دماغ الإنسان إلى إعادة إنتاج، أو تأليف، عناصر نشاطات لا غنى عنها لاستمراره ومشكلاتها، التي اختبرها هذا الدماغ وسجلها مئات المرات على أساس ممارسة فعلية. إن المادية التاريخية هي علم المجتمعات الإنسانية الذي يحاول أن يعطي صورة عن ديالكتيك «الإنتاج-التواصلات البشرية» وأن يشرحه.

 

2- القاعدة والبنية الفوقية الاجتماعيتان

 

على كل مجتمع بشري أن ينتج لكي يستمر على قيد الحياة، فإنتاج وسائل العيش -بالمعنى الضيق أو الواسع للكلمة، أي كفاية الحاجات الاستهلاكية- وأدوات العمل ومواده الضرورية لهذا الإنتاج، هو الشرط المسبق لكل تنظيم أو نشاط اجتماعي أكثر تعقيدا.

تعتبر المادية التاريخية أن الطريقة التي ينظم الناس وفقا لها إنتاجهم المادي تشكل أساس كل تنظيم اجتماعي. ويحدد هذا الأساس بدوره كل النشاطات الاجتماعية الأخرى، من مثل إدارة العلاقات بين الجماعات البشرية (لا سيما ظهور الدولة وتطورها)، والإنتاج الفكري، والقانون والأخلاق والدين الخ. وهذه النشاطات العائدة -كما يقال- للبنية الفوقية في المجتمع، يتم ربطها بالأساس دائما، بصورة أو بأخرى.

لقد صدمت هذه الفكرة الكثير من الناس ولا تزال تصدمهم. فهل يمكن للأناجيل، وشعر هوميروس، ومبادئ الحق الروماني، ومسرح شكسبير، ورسم ميكايلانج، وإعلان حقوق الإنسان، والبيان الشيوعي بالذات، أن تتوقف على الطريقة التي كان معاصروها يحرثون حقولهم وفقا لها أو يدعكون الأجواخ؟ إن فهم موضوعة المادية التاريخية يتطلب البدء بصياغتها بشكل صحيح.

لا تؤكد المادية التاريخية أبدا أن الإنتاج المادي («العامل الاقتصادي») يحدد بصورة مباشرة وفورية مضمون كل النشاطات، التي تنسب إلى البنية الفوقية، وشكلها. والأساس الاجتماعي - ليس النشاط الإنتاجي من حيث هو كذلك، كما ليس «الإنتاج المادي» منظورا إليه لوحده، بل هو العلاقات الاجتماعية التي يعقدها الناس فيما ينتجون حياتهم المادية. فالمادية التاريخية ليست إذا حتمية اجتماعية-اقتصادية.

ثم إن النشاطات على مستوى البنية الفوقية لا تنجم مباشرة عن علاقات الإنتاج الاجتماعية هذه، ولا تتحدد بها إلاّ بالدرجة الأخيرة. فبين مستويي النشاط الاجتماعي سلسلة من التوسطات سوف نمر بها بإيجاز في النقطة الثالثة من هذا الفصل.

أخيرا، إذا كان الأساس الاجتماعي يحدد بالتحليل الأخير الظاهرات والنشاطات على مستوى البنية الفوقية، يمكن لهذه الإخيرة أن تبادله الفعل. ونكتفي بمثال في هذا المجال. فللدولة على الدوام طبيعة طبقية محددة، وهي تتناسب ذا مع قاعدة اجتماعية -اقتصادية محددة، إلاّ أنها تستطيع بدورها تعديل تلك القاعدة جزئيا. فدولة الملكية المطلقة (في القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر، في أوروبا) التي علمت خلال قرون عديدة على انقاد طبقة النبلاء الإقطاعية من الدمار الاقتصادي عن طريق اقتطاعات من مداخيل طبقة اجتماعية أخرى، كانت إلى حد بعيد وراء إحلال نمط الإنتاج الرأسمالي محل نمط الإنتاج الإقطاعي عبر تطوير المركنتيلية والاستعمار وتشجيع المانيفكتورات والنظام النقدي القومي، الخ

إن كون النشاطات على مستوى البنية الفوقية تتحدد في التحليل الأخير بالقاعدة الاجتماعية يمكن تفسيره بعدة أسباب. فمن يشرفون على الإنتاج المادي وفائض الإنتاج الإجتماعي يشرفون في الوقت ذاته على من يتعيشون على فائض الإنتاج الاجتماعي. وسواء وافق المنظرون والفنانون والعلماء على هذه التبعية أو تمردوا عليها، فهي تحدد مع ذلك إطار نشاطهم. والعلاقات الاجتماعية على صعيد الإنتاج تولد نتائج من حيث أشكال النشاط في دائرة البنية الفوقية، وهذا أيضا من قبيل التكييف لها والتحكم بها. إن علاقات الإنتاج تترافق بأشكال تواصل مسيطرة في كل نموذج من المجتمعات، وهو ما يؤدي إلى ظهور بنى ذهنية مسيطرة تكيّف أشكال الفكر والخلق الفني الخ. الخ.

 

3- الإنتاج المادي والإنتاج الفكري

 

إن ديالكتيك الأساس/البنية الفوقية الاجتماعيين يعيدنا إلى العلاقات بين الإنتاج المادي والإنتاج الفكري. ويسمح تفحص أكثر تعمقا لهذه العلاقات بفهم افضل لتعقيد هذا الدياليكتيك، كما يسمح كذلك بإبراز أهمية العنصر الفاعل في هذا الدياليكتيك، وهو عنصر ستتم معالجته في نهاية هذا الفصل.

تعتبر المادية التاريخية أن علاقات الإنتاج تشكل أساس كل مجتمع، الذي تقوم عليه البنية الفوقية: هذان المستويان يتعلقان في الواقع بشكلين متمايزين من النشاط الاجتماعي. فالإنتاج المادي هو الموضوع الأساسي للنشاطات على مستوى الأساس الاجتماعي والإنتاج الأيديولوجي (الفلسفي والديني والقانوني والسياسي، الخ) والإنتاج الفني والعلمي هو الموضوع الأساسي للنشاطات على مستوى البنية الفوقية الاجتماعية. طبعا تشمل هذه الأخيرة أيضا نشاطات جهاز الدولة التي لا تقتصر أبدا على الميدان الإيديولوجي وحده (عالجنا مشكلة الدولة في الفصل الثالث). لكن إذا استثنينا ذلك، يبدو التمييز الذي أدخلناه ملائما.

وتجتهد المادية التاريخية في شرح تطور كل من هاتين الدائرتين، وتداخلهما وعلاقاتهما المتبادلة، هذا الشرح يدمج أربعة مستويات من التحديد:

أ- كل إنتاج فكري مرتبط بصورة أو بأخرى بسيرورات عمل مادي، وهو يعمل على الدوام مع بنية تحتية مادية خاصة به. إن بعض الفنون هي في البدء انبثاق مباشر من العمل المادي (الوظيفة السحرية للرسم البدائي، أصول الرقص في وضع قواعد الحركات الإنتاجية، دمج الأناشيد في الإنتاج، الخ.).

إن الثورات التكنولوجية تؤثر تأثيرا عميقا في الفن والعلم والإنتاج الأيديولوجي، وثمة علوم كالهندسة وعلم الفلك والهيدروغرافيا والبيولوجيا والكيمياء انبثقت في علاقة وثيقة مع الزراعة المروية والتربية المتقدمة للمواشي وعلم التعدين الوليد. أمّا تقنية الطباعة في القرن السادس عشر، والراديو والتلفزيون في القرن العشرين، فهي لم تؤثر فقط تأثيرا عميقا على نشر الأفكار، بل كذلك على شكلها، وبعض مضامينها. ولا جدال في تأثير الآلات الإليكترونية على تطور العلم خلال الثلاثين سنة الأخيرة.

ب- كل إنتاج فكري يتطور تبعا لدياليكتيك داخلي خاص بتاريخه. فكل فيلسوف، أو حقوقي، أو كاهن، أو عالم، يبدأ طالبا، وعبر دراساته يتمثل مفاهيم (أو أنظمة مفاهيم) تم إنتاجها سابقا ونقلها من حيث هي مفاهيم إلى الجيل الحالي. إن المنتجين الفكريين يحفظون هذه المفاهيم، أو فرضيات العمل أو يعدلونها أو يقلبونها رأسا على عقب، وفقا لطرق إنتاج يستعيرونها أو يبتدعونها في إطار الدياليكتيك الخاص لنشاطهم. وكل جيل جديد يعمل على الإحتفاظ بأجوبة على استفهامات ناجمة عن المادة المعالجة، أو على تعميقها، أو نفضها من الأساس. ويمكنه في بعض الأحيان أن يكتشف استفهامات جديدة (تتطلب مذاك أجوبة «ثورية»: الثورات العلمية، والفنية، والفلسفية، الخ.)، أو إعادة اكتشاف استفهامات نحتها جانبا أجيال عديدة سابقة.

ج- إلا أن هذه التعديلات في معالجة المفاهيم الأيديولوجية، والأشكال الفنية، وفرضيات العمل العلمية، لا تحصل بشكل اعتباطي، ولا ضمن أي من الشروط الاجتماعية-التاريخية، بل يكيفها، أو يستثيرها، أو يسمح بها سياق وحاجات اجتماعية-اقتصادية. إن الانتقال من الاروحية animisme [20] إلى الإيمان بالاله الواحد لم يتحقق داخل جماعات بدائية صغيرة متقوقعة في القطاف والصيد، كما لم يظهر المفهوم الثوري للحق الخاص قبل التأسيس الاجتماعي للملكية الخاصة، ولم يمكن للنظرية العلمية حول القيمة-العمل أن تتطور قبل ظهور الرأسمالية الحديثة، كما أن تطور الفيزياء الميكانيكية وثيق الارتباط بتطور الآلات.

هذه التحولات الكبيرة في الإنتاج الفكري مرتبطة ببنى ذهنية خاصة، تحددها مسبقا بنى اجتماعية. فليس صدفة أن كل المحاولات الكبرى للثورة السياسية والاجتماعية من القرن الثالث عشر إلى القرن السابع عشر قد عبرت عن نفسها جميعا بالشكل الأيديولوجي للنضالات الدينية، نظرا للأولوية التي اكتسبها الدين في البنية الفوقية للمجتمع الإقطاعي. كذلك فإن صعود البورجوازية الحديثة خلق ابتداء بالنصف الثاني من القرن السادس عشر بنية ذهنية تنقل الاستقلال والمنافسة لدى مالكي السلع إلى كل حقوق الإنتاج الفكري (الحق الطبيعي، المذاهب التربوية الانسية، الفلسفة المثالية الألمانية، رسوم الأشخاص والطبيعة الميتة في الرسم، الليبرالية السياسية، الاقتصاد السياسي الكلاسيكي الليبرالي، الخ.).

د- يتحدد تطور الإنتاج الفكري أخيرا بالصراعات بين المصالح الاجتماعية. فالكل يعرف أن أعمال الانسيكلوبيديين ومحاجات فولتر وفلسفة جان جاك روسو السياسية أو تحليل ماديي القرن الثامن عشر، كانت جميعها قذائف مدفعية أطلقتها البورجوازية المانيفاكتورية الصاعدة ضد الملكية المطلقة وبقايا المجتمع الإقطاعي. إن الوظيفة التي لعبها الإشتراكيون الطوباويون، ثم ماركس وإنجلز، لتسريع وعي البروليتاريا لطبيعتها الطبقية ولموقعها ومهامها تجاه المجتمع البورجوازي هي كذلك أمر بديهي. واليوم أيضا، لا يمكن الشك بوظيفة التنجيم وبعض البدع الدينية والصوفية، والفلسفات التي تمجد اللاعقلاني ومذاهب «الدم والأرض» (Blut und Boden) من حيث هي أسلحة معادية للعمال ومعادية للثورة تشجع نمو مناخ سابق للفاشية.

لا تستتبع هذه التحديدات فكرة «مؤامرة منظمة» بين طبقات اجتماعية محددة ومنتجين فكريين من حيث هم أفراد، ولا فكرة تواطؤ واع من جانب كل هؤلاء المنتجين مع مشاريع سياسية محددة. إنها تعكس تفاعلا موضوعيا، يمكن أن يتم أحيانا، لكن ليس بالضرورة. فالمنتجون الفكريون يمكن أن تستخدمهم قوى اجتماعية من دون علمهم، لكن ذلك لا يفعل أكثر من تأكيد أن الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي، لا فقط بمعنى تكييفه في التحليل الأخير، بل كذلك بمعنى تعيين وظيفة محددة له في بنية مجتمع معين وفي تطور هذا المجتمع.


 4- قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج الاجتماعية وأنماط الإنتاج

 

 

كل منتَج يصنعه الإنسان هو ناتج دمج عناصر ثلاث هي: موضوع العمل وهو مادة أولية أنتجتها الطبيعة مباشرة أو مداورة، وأداة العمل، وهي وسيلة إنتاج متطورة إلى هذا الحد أو ذاك خلقها الإنسان (من قضبان الخشب الأولى ومضارب الحجر المقطوع إلى الماكينات الآلية الأكثر تطورا حاليا، والذات القائمة بالعمل، أي الشغيل. ولما كان العمل دائما اجتماعيا وغير فردي بالدرجة الأخيرة، فإن الذات العاملة تدخل حتما في علاقة إنتاج اجتماعية.

وحتى لو كان موضوع العمل وأداة العمل عنصرين لا غنى عنهما لكل إنتاج، لا يمكن تصور علاقات الإنتاج الاجتماعي بصورة «مشيأة» أي لا ينبغي النظر إليها كما لو كانت تتعلق بعلاقات بين الأشياء، أو بين ناس وأشياء. إن علاقات الإنتاج الاجتماعية تتعلق بعلاقات بين البشر، وفقط بعلاقات بين البشر. وتشمل مجموع العلاقات التي يعقدها الناس فيما بينهم أثناء إنتاج حياتهم المادية. ولا يعني «مجموع العلاقات» العلاقات في أمكنة العمل بحصر المعنى («at the point of production») وحسب، بل كذلك العلاقات التي تتعلق بتداول مختلف عناصر الناتج الاجتماعي الضرورية لهذا الانتاج المادي، وبتوزيع تلك العناصر، لاسيما الطريقة التي تصل بها موضوعات العمل وأدوات العمل إلى المنتجين المباشرين، والطريقة التي يحصل بها هؤلاء على معاشهم، الخ.

يتوافق عموما مع درجة محددة من تطور قوى الإنتاج، مع مقدار محدد من وسائل إنتاج، ومع تقنية عمل وتنظيم له محددين، علاقات إنتاج تلائمها. فلقد كان صعبا في عصر الحجر المقطوع تخطي الشيوعية البدائية للجماعة أو القبيلة. إن الزراعة على أساس الري أو بواسطة أدوات حديدية تنتج فائض إنتاج دائم مهم يؤدي إلى ولادة مجتمع طبقي (المجتمع العبودي ومجتمع نمط الإنتاج الآسيوي، الخ). وتخلق الزراعة على أساس إراحة الأرض مرة كل ثلاث سنوات أسس المجتمع الإقطاعي المادية. أمّا ولادة استخدام الآلات فكفلت نهائيا صعود الرأسمالية الحديثة. إنه لصعب أن نتصور التأليل المعمم دون زوال الإنتاج البضاعي والاقتصاد النقدي، أي خارج مجتمع اشتراكي مكتمل التطور ومستقر.

لكن إذا كان هنالك توافق عام بين درجة تطور قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج الاجتماعية، فهذا التوافق ليس مطلقا ولا دائما. يمكن أن ينتج فيما بينها اختلال مزدوج في التمفصل. فعلاقات إنتاج محددة يمكن أن تصير معيقات لانطلاق قوى الإنتاج، وتلك هي أوضح علامة على أن شكلا اجتماعيا معينا محكوم عليه بالزوال. على عكس ذلك، يمكن لعلاقات انتاج جديدة انبثقت من ثورة اجتماعية ظافرة أن تكون متقدمة على درجة تطور قوى الإنتاج في البلد المعني. تلك كانت حال الثورة البرجوازية الظافرة في هولندا في القرن السادس عشر، والثورة الاشتراكية الظافرة في روسيا في أكتوبر 1917.

ليس صدفة أن تتعلق هاتان الحالتان الرئيسيتان من اختلال التمفصل بفترات تاريخية تشهد هزات اجتماعية عميقة وثورات اجتماعية. ويمكن لاختلال التمفصل أن يحدث كذلك بمعنى تراجع دهري لقوى الإنتاج، كما في عصر انحطاط الإمبراطورية الرومانية في الغرب، أو انحطاط الخلافة المشرقية في الشرق الأوسط.

إن الدياليكتيك بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج الاجتماعية هو الذي يحدد في القسم الأكبر توالي العصور الكبرى في التاريخ الإنساني، وهذا أصح من تصور التفاعل فيما بينها كما لو كان توافقا آليا. كل نمط إنتاج يمر بمراحل متتالية من الولادة والصعود والنضج والانحطاط والسقوط والزوال. هذه المراحل تتوقف في التحليل الأخير على الطريقة التي تلائم بها علاقات الإنتاج -التي تكون في البدء جديدة، ثم تتوطد، ثم تدخل في أزمة- إنطلاق قوى الإنتاج، أو تسمح به، أو تعيقه يوما بعد يوم. إن التمفصل بين هذا الدياليكتيك والصراع الطبقي أمر بديهي، فعبر عمل طبقة اجتماعية أو عدة طبقات اجتماعية معينة وحسب، يمكن لعلاقات انتاج محددة أن تُدخل أو يحافظ عليها أو يتم قلبها.

إن كل تشكيل اجتماعي، أي كل مجتمع في بلد محدد وفترة محددة، يتسم دائما بمجموعة علاقات إنتاج، فتشكيل اجتماعي ليس فيه علاقات إنتاج هو بلد لا عمل فيه ولا إنتاج، أي بلد لا سكان فيه ولا مجتمع. إلاّ أن كل مجموعة من علاقات الإنتاج الاجتماعية لا تستتبع بالضرورة وجود نمط إنتاج مستقر، ولا تجانس علاقات الإنتاج المشار إليها.

إن نمط انتاج مستقر هو مجموعة علاقات إنتاج تعيد إنتاج ذاتها بصورة آلية إلى هذا الحد أو ذاك، عبر سير الاقتصاد بالذات، أو الحركة العادية لإعادة إنتاج قوى الإنتاج، مع وجود دور ملائم، مهم إلى هذا الحد أو ذاك، تتولاه بعض عوامل البنية الفوقية الاجتماعية. كانت تلك هي الحال خلال قرون عديدة، وفي بلدان كثيرة، مع نمط الإنتاج الأسيوي، والعبودي، والإقطاعي، والرأسمالي، كما كانت تلك هي حال نمط إنتاج الشيوعية القبلية، خلال آلاف السنين. إن نمط إنتاج هو بهذا المعنى بنية لا يمكن تعديلها بشكل أساسي عن طريق التطور، أو التوفيق أو الإصلاح الذاتي، إذ لا يمكن تخطي منطقه الداخلي إلاّ عبر قلبه.

بالمقابل، يمكن أن نشهد في فترات تاريخية من الخضات الاجتماعية العميقة مجموعات علاقات إنتاج ليست لها طبيعة نمط إنتاج مستقر، والمثال النموذجي على ذلك هو عصر سيطرة الإنتاج البضاعي الصغير (في القرنين الخامس عشر والسادس عشر في هولندا وإيطاليا الشمالية ثم إنكلترا) حيث لا تتفوق العلاقات بين السادة والأقنان، ولا علاقات الرأسماليين والمنتجين المأجورين، بل علاقات المنتجين الأحرار غير المفصولين عن وسائل إنتاجهم. والأمر ذاته بالنسبة لعلاقات الإنتاج المميزة للدول العمالية المبقرطة اليوم، ففي كلا الحالين لا نجد نمط إنتاج مستقرا. في كل مجتمعات مراحل الانتقال تلك، لا تكون علاقات الإنتاج الهجينة بنى تعيد إنتاج ذاتها بذاتها بصورة آلية إلى هذا الحد أو ذاك. يمكنها أن تقود إما إلى إعادة المجتمع القديم أو إلى قيام نمط إنتاج جديد. هذا الخيار التاريخي تحسمه مجموعة من العوامل التي يدخل فيها على وجه الخصوص الانطلاق الكافي أو غير الكافي لقوى الإنتاج، ونتيجة الصراع الطبقي في البلد المعني وعلى المستوى العالمي، وتأثير عناصر تابعة للبنية الفوقية وذاتية (دور الدولة، دور الحزب، مستوى كفاحية الطبقة الثورية ووعيها، الخ).

من جهة أخرى حتى حين يوجد نمط إنتاج مستقر، لا تكون علاقات الإنتاج متجانسة بالضرورة، لا بل لا تكون كذلك أبدا. ثمة دائما في كل تشكيل اجتماعي ملموس، إدغام بين علاقات إنتاج مميزة لنمط إنتاج قائم، ورواسب لم يتم امتصاصها كليا لعلاقات إنتاج سابقة تم تخطيها تاريخيا منذ زمن طويل. إن كل البلدان الإمبريالية ما تزال تعرف عمليا، على سبيل المثال، رواسب الإنتاج البضاعي الصغير (فلاحون صغار، مالكون يعملون دون اللجوء ليد عالمة مأجورة)، لا بل رواسب علاقات إنتاج إقطاعية (كالمزارعة). إنه لمبرر أن نتكلم في تلك الحالات على نمط إنتاج مستقر حين تكون سيطرة علاقات الإنتاج المميزة له قوية لدرجة إعادة إنتاجها آليا، وفرض سيطرة منطقها الداخلي وقوانين تطورها على مجمل الحياة الاقتصادية.

إن المثل المميز لعلاقات إنتاج هجينة يسيطر فيها نمط إنتاج مهيمنة هو مثل التشكيلات الاجتماعية المسماة «عالمثالثية» (نسبة للعالم الثالث أو البلدان المتخلفة، أنظر الفصل السابع). تتجاور هنا علاقات إنتاج سابقة للرأسمالية، ونصف رأسمالية، ورأسمالية، مندمجة بصورة جامدة تحت ضغط بنى الاقتصاد العالمي الإمبريالية.رغم هيمنة رأس المال، ورغم الانخراط في النظام الامبريالي، لا تتعمم علاقات الإنتاج الرأسمالية (وقبل كل شيء العلاقة «عمل مأجور-رأس مال منتج»)، رغم أنها قائمة وتتمدد ببطء. إلاّ أن هذا الواقع لا يبرر أبدا اعتبار هذه التشكيلات الاجتماعية كما لو كانت «بلدانا إقطاعية» ولا فرضية هيمنة علاقات الإنتاج الإقطاعية أو نصف الإقطاعية داخلها، وهو خطأ نظري يقترفه العديد من المنظرين الستالينيين أو الماويين.

 

5- الحتمية التاريخية والممارسة الثورية

 

المادية التاريخية مذهب حتمي. فموضوعته الأساسية تؤكد أن الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي الاجتماعي. وتاريخ المجتمعات الإنسانية قابل للتفسير وليس عرضيا أو اعتباطيا، فمسيرته لا تتوقف على نزوات غير متوقعة للتحولات الوراثية، أو لبعض «الرجال العظام» أو لحشد تعرض للإشعاعات الذرية، وهو يفسر في التحليل الأخير بنية المجتمع الأساسية في كل عصر محدد وبالتناقضات الجوهرية لتلك البنية. وطالما بقي المجتمع منقسما إلى طبقات، فهو يفسر إذا بالصراع الطبقي.

بيد أنه إذا كانت المادية التاريخية مذهبا حتميا، فهي كذلك بالمعنى الديالكتيكي للكلمة لا بالمعنى الميكانيكي، إذ الماركسية تستبعد الجبرية. ولمزيد من الدقة، فإن كل محاولة لتحويل الماركسية إلى جبرية أو إلى تطورية آلية، إنما تزيل منها بعدا أساسيا.

ومع أن خيارات البشرية تحددها مسبقا ضغوطات مادية واجتماعية لا يمكنها أن تتلافاها، فهي قادرة على أن تصنع مصيرها في إطار هذه الضغوطات. إن الناس يصنعون تاريخهم، فإذا كانوا نتاج شروط مادية محددة، فهذه الشروط المادية هي بدورها نتاج ممارسة الناس الاجتماعية.

هذا التخطي للمثالية التاريخية القديمة («الأفكار، أو الرجال العظام، يصنعون التاريخ») وللمادية الميكانيكية القديمة («الناس نتاج الظروف») هو بشكل ما وثيقة ولادة الماركسية. نجده في «الموضوعات حول فيورباخ» التي تشكل خلاصة «الأيديولوجية الألمانية» لماركس وإنجلز.

يعني هذا بين ما يعني أن نتيجة كل عصر كبير من التشنجات الاجتماعية في التاريخ غير أكيدة، فقد تؤدي إلى انتصار الطبقة الثورية، وقد تؤدي إلى الانحلال المتبادل لكل الطبقات الأساسية في المجتمع المعين، كما كانت الحال في نهاية نمط الإنتاج العبودي القديم. فليس التاريخ مجموع تطورات مستقيمة، والكثير من التشكيلات الاجتماعية الماضية زالت دون أن تترك آثارا، لاسيما بفعل غياب طبقة ثورية قادرة على شق الطريق إلى التقدم، أو بفعل ضعفها.

إن الانحطاط الواضح للرأسمالية المعاصرة لا يصب في انتصار الاشتراكية الجبري، بل في الخيار بين الاشتراكية والبربرية. فالاشتراكية ضرورة تاريخية للسماح بانطلاق جديد لقوى الإنتاج موافق لإمكانات العلم والتقنية المعاصرين. وهي ضرورة إنسانية على وجه الخصوص، للسماح بكفاية الحاجات التي أيقضتها تطورات العالم الثقنية لدى الناس، ولكفاية هذه الحاجات ضمن شروط تضمن تفتح كل الطاقات البشرية الكامنة، لدى كل الأفراد، من كل الشعوب، دون تدمير توازن البيئة. إلا أن ما هو ضروري لا يتحقق حتما، فأمل البروليتاريا الثوري والواعي وحده هو الذي يضمن انتصار الاشتراكية، وإلاّ فإن الطاقة الإنتاجية الضخمة الكامنة للعلم والتقنية المعاصرين ستظهر في شكل أكثر فأكثر تدميرا للحضارة والثقافة والانسان والطبيعة، لا بل للحياة على كوكبنا.

إن ممارسة الناس الاجتماعية هي التي تخلق البنى الاجتماعية التي تحتويهم فيما بعد، وبالممارسة الاجتماعية الثورية يمكن قلب هذه البنى بالذات. والماركسية حتمية بقدرما تؤكد أن هذه الخضات لا يمكن أن تحصل في أي من الاتجاهات، فعلى أساس القوى الإنتاجية المعاصرة تستحيل إعادة إدخال الإقطاعية أو شيوعية جماعات صغيرة مكتفية ذاتيا من المنتجين-المستهلكين. إنها حتمية بمعنى أن ثورات اجتماعية تقدمية («fortschrittliche») غير ممكنة إلاّ إذا نضجت داخل المجتمع القديم الشروط المادية المسبقة والقوى الاجتماعية التي تسمح بخلق تنظيم اجتماعي أعلى.

إلاّ أن الماركسية ليست جبرية لأنها لا تفترض أن مجيئ هذا المجتمع الجديد سيكون الناتج الحتمي لنضج الشروط المسبقة المادية والاجتماعية الضرورية لظهوره. فهذا المجيء لا يمكن أن ينجم إلا عن نتيجة الصراعات القوى الاجتماعية الحية. إنه ينتج إذا في التحليل الأخير عن درجة فعالية العمل الثوري. فإذا كان هذا بدوره مشروطا جزئيا بظروف وموازين قوى اجتماعية، يمكن للعمل الثوري أن يقلب بدوره تطور هذه الظروف وموازين القوى أو يكبحه أو يسرّعه. حتى موازين قوى ملائمة للغاية يمكن أن «تخربها» نقاط ضعف ذاتية لدى الطبقة الثورية. بهذا المعنى يلعب «العامل الذاتي التاريخي» (الوعي الطبقي والقيادة الثورية للبروليتاريا)، في عصرنا عصر الثورات والثورات المضادة، دورا رئيسيا في تحديد نتيجة المعارك الطبقية الكبرى، لتقرير مستقبل النوع البشري.

 

6- الاستلاب والتحرر

 

لقد عاشت البشرية طوال آلاف السنين حياة التبعية الشديدة لقوى الطبيعة الهوجاء. لم يكن في وسعها إلاّ أن تسعى للتكيف مع بيئة طبيعية معينة، وكل تجمع بشري صغير مع بيئته الخاصة به، وكانت أسيرة أفق ضيق ومحدود حتى ولو استطاعت مجتمعات بدائية عديدة أن تطور بعض الإمكانات البشرية بشكل مرموق (كالرسم الباليوليتي مثلا).

ومع تطور قوى الانتاج تتوصل البشرية شيئا فشيئا إلى قلب علاقة التبعية المطلقة تلك، وتنجح في إخضاع قوى الطبيعة أكثر فأكثر، وفي الإشراف عليها وتدجينها واستخدامها بوعي بهدف زيادة إنتاجها وتنويع حاجاتها وتطوير طاقاتها، وتوسيع علاقاتها الاجتماعية التي تخلص إلى شمول كل كوكبنا وإلى احتمال توحيد البشرية جمعاء.

لكن كلما تحرر الناس حيال قوى الطبيعة كلما استلبهم تنظيمهم الاجتماعي الخاص بهم. فبقدر ما تزيد قوى الإنتاج، ويتقدم الانتاج المادي، وتصبح علاقات الإنتاج علاقات مجتمع منقسم إلى طبقات، لا تعود البشرية تشرف على مجمل إنتاجها ولا على مجمل نشاطها الإنتاجي، ولا تعود تشرف بالتالي على مصيرها الاجتماعي، وفقدان الإشراف هذا في المجتمع الرأسمالي يصبح كليا. إن البشرية التي تتحرر من الخضوع لجبرية الطبيعة، تبدو أكثر فأكثر خضوعا لجبرية تنظيمها الاجتماعي. كما لو أن مصيرا أعمى يحكم عليها بأن تخضع، لا للنتائج الحتمية للفيضانات والزلازل والأوبئة وتموجات الجفاف، بل لنتائج الحروب والأزمات الاقتصادية والديكتاتوريات الدموية والتدمير الإجرامي لقوى الإنتاج، لا بل الإبادة النووية. ويوحي الخوف من هذه الكوارث بقلق أعظم مما كان يوحي به الخوف من الصواعق والمرض والموت.

إلاّ أن التطور الجامح ذاته، على صعيد قوى الإنتاج، الذي يدفع إلى الحدود القصوى استلاب الإنسان حيال إنتاجه ومجتمعه الخاصين به، يخلق في ظل الرأسمالية إمكانية تحرر حقيقي للإنسان، كما سبق وأشرنا في نهاية الفصل الثاني. وينبغي أن نتصور هذه الإمكانية بمعنى مزدوج، فالإنسانية سوف تصبح أكثر فأكثر تمكنا من الإشراف على تطورها الاجتماعي كما على خضات البيئة الطبيعية التي يحدث ضمنها، ومن التحكم بذلك كله ذاتيا. سوف تتمكن أكثر فأكثر من تفجير كل امكانات التطور الفردي والإجتماعي التي يخنقها أو يشوهها إلى الآن تقصيرها في الاشراف على قوى الطبيعة وعلى التنظيم والصيرورة الاجتماعيين.

ويستتبع بناء مجتمع غير طبقي، ثم قيام مجتمع شيوعي، تحرر العمل أو تحرر الانسان من حيث هو منتج. يصبح الشغيلة أسياد منتجاتهم وسيرورات عملهم، فيختارون بحرية سلم الأولويات في توزيع الناتج الاجتماعي، ويقررون جماعيا وديموقراطيا أعباء الإنتاج والتضحيات بأوقات الفراغ وبالاستهلاك الجاري، التي سوف تتحكم بعملية التوزيع.

هذه الخيارات ستظل تتم بالطبع في إطار لا يخلو من الإكراه، فما من مجتمع بشري قادر على أن يستهلك أكثر مما ينتج، من دون أن يحد من احتياطيه ومن موارده الإنتاجية، أو أن يحكم على نفسه بالحد لاحقا من استهلاكه المعتاد، مذ يبلغ نفاد الاحتياطي والحد من الموارد الإنتاجية مستوى معينا. بهذا المعنى فإن عبارة فريديريك إنجلز، التي ترى أن الحرية هي الاعتراف بالضرورة، تبقى صحيحة حتى بالنسبة للإنسانية الشيوعية. وقد يكون استبدال تعبير «الاعتراف بالضرورة» بتعبير «الاضطلاع بأعباء الضرورة» أصح، لأنه كلما زاد إشراف الإنسان على شروط وجوده الطبيعية والاجتماعية كلما زادت أشكال الردود الممكنة على الشروط الاكراهية وكلما تحرر الإنسان من واجب تبني شكل واحد من الرد.

إلاّ أن هنالك بعدا ثانيا لتحرير الإنسان من الاستلاب يوسع بصورة فريدة دائرة الحرية الإنسانية، فعندما تتم كفاية كل حاجات الناس الأساسية، وعندما تتأمن إعادة إنتاج هذه الوفرة، يتوقف حل المشكلات المادية عن أن يكون المهمة الأولى أمام البشرية، ويتحرر الإنسان من استعباد العمل الآلي غير الخلاق، ويتحرر من ضرورة الوزن الوضيع لاستخدام وقته، وتخصيصه للإنتاج المادي على وجه الخصوص. يتفوق إذاك تطوير النشاطات الخلاقة لديه وشخصيته الغنية، وتطوير علاقات إنسانية أوسع فأوسع، على المراكمة المتواصلة لخيرات مادية أقل فأقل نفعا.

إن الممارسة الاجتماعية الثورية سوف لا تكتفي مذاك بقلب علاقات الإنتاج، بل ستقلب كل التنظيم الاجتماعي، وكل العادات التقليدية، كما ستقلب ذهنية الناس ونفسيتهم. وتذبل الأنانية المادية وروح المنافسة بعد أن تكون التجربة اليومية والمصالح العظمى توقفت عن مدهما بالغذاء.

وسوف تخص البشرية بيئتها الجغرافية، وتبدل شكل الكرة وطبيعة المناخ، وتوزيع احتياطات المياه الكبرى، في حين تحفظ التوازن البيئي أو تعيده، لا بل ستهز إلى الأعماق أساساتها البيولوجية الخاصة بها. وهي لن تتمكن من انجاح هذه المراهنات بصورة إرادية مطلقة، بالاستقلال عن شروط مسبقة وبنية تحتية مادية كافية. لكن ما أن تتأمن هذه البنية التحتية حتى تصبح البشرية الفاعلة، والأكثر فأكثر حرية في خياراتها، الرافعة الرئيسية لخلق إنسان جديد، الإنسان الشيوعي الحر والمتخلص من الاستلاب. بهذا المعنى يصح أن نتكلم على أنسية ماركسية وشيوعية.

*********