اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ألمكتبة

• الإسلام وحقوق المرأة

تأليف هيثم مناع

                   الإسلام وحقوق المرأة

 

مقدمة

مدخل إلى التكوين الاقتصادي الاجتماعي للحجاز

مقدمات التصور الإسلامي حول الجنسين

بناء الإيديولوجية الإسلامية

لمحات من التاريخ العربي الإسلامي

عودة الوعي

الإصلاح الإسلامي والمرأة

الزواج : بين الفقه التقليدي واتفاقية إلغاء جميع أشكال التمييز ضد المرأة

حقوق المرأة في الدين والشريعة والفقه

 

مقدمة

 

قبل عشرين عاما من اليوم (1980)، وفي أوج نشاط الحركة الإسلامية السياسية في العالم الإسلامي، صدر كتاب "المرأة في الإسلام" صرخة للدفاع عن حقوق المرأة في لحظة تَهاَوَن في حقوقها جلّ الرجال والنساء تجنبا لعدم فتح ملف "شائك وحساس". وكان من الطبيعي أن تشن حملات أصولية ضد الكتاب، ولكنه أيضا هوجم من قبل العديد من الكتّاب التقدميين والعلمانيين الذين اعتبروا صدوره عملا استفزازيا. وأصدر الناشر كتابا يرد فيه على وجهة نظري. وأذكر أن أحد الصحفيين المسيحيين  المتحمسين للحركة الإسلامية طالب بعدم توزيع الكتاب، واتصل بي صديق يدرس في الجامعة اللبنانية يقول لي بالحرف: "مادام القاضي راضي شوبدك بالنسوان؟".

 

وللتاريخ، أود الإشارة إلى أن اهتمامي بقضية المرأة والإسلام سبق المد السياسي الإسلامي. فقد نشرت في سبتمبر 1973 في مجلة "دراسات عربية" دراسة بعنوان "الأسرة الأبوية في الإسلام". وألقيت عدة محاضرات في قضية المرأة في سورية واليمن ولبنان. ولا يعود هذا الاهتمام إلى اعتناق أفكار اشتراكية كما ظن البعض، وإن كان تعزز بقراءاتي الاشتراكية والديمقراطية بالتأكيد. ولكنه كان ابن معاناة شخصية بدأت باعتقال والدي وقيام والدتي المدرسة بإعالة أطفالها الستة. ثم الصعوبات التي عاشتها صديقتي منى في الجامعة لاختيارها لشخص من غير ديانتها شريكا لحياتها، والتي انتهت بمأساة اجتماعية دفعت ثمنها حياتها بعد خمسة أيام من زواجنا. وكان لا بد من تكريم متميز لنساء كان لهن الفضل في لقمتي وتكويني الذهني وتوازني النفسي. هذا التكريم لا يأتي فقط بالشعر والأدب، وإنما بالدفاع العنيد عن حقوق كل امرأة في المساواة الكاملة مع الرجل مع حقها في الاختلاف عنه.

 

لم تصدر طبعة ثانية من كتاب "المرأة في الإسلام" ، والنسخ المتداولة هي طبعات مصورة للطبعة الأولى لم تهتم حتى بتنقيح الأخطاء المطبعية. وقد طالبني العديد من الأصدقاء والصديقات بطبعة ثانية مزيدة ومنقحة. وعندما عزمت على ذلك في العام الماضي وجدت من الأنسب إصدار كتاب جديد يأخذ بعض ما في الكتاب السابق ويضاف إليه عدة أبحاث جديدة غير منشورة إضافة إلى تقديم نقدي يتعرض لنقاط ضعف الكتاب، باعتبار أن "المرأة في الإسلام" يمثل مرحلة من النمو الفكري للمؤلف ومن الأفضل أن يبقى كنص يعبر بأمانة عن هذه المرحلة.

 

ليس بالإمكان القول أن كتاب "المرأة في الإسلام"  قد تعرض لانتقادات جوهرية. فتهمة "الأوربية المركزية" في قضية حقوق المرأة تعني استثناء العربيات والمسلمات من أهم إنجاز حصلت عليه المرأة  منذ أربعة آلاف قرن من منظمة عالمية الطابع (تضم بين عضو ومراقب مجموع دول العالم)، ونقصد بذلك اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة. والتي علمت بإقرار نصها من قبل الأمم المتحدة وقتئذ وإن لم تكن بعد قد دخلت حيز التطبيق (تاريخ بدء النفاذ كان في 3 سبتمبر 1981). ومن المؤكد أن قراءة هذه الاتفاقية تظهر بوضوح أن الكتاب لا يطالب إلا بإقرار ما فيها من قبل الدول العربية والإسلامية. أما تهمة التوقيت، فكما أوضحت، كان من الضروري برأيي، صدور صوت يدافع عن المرأة في وقت تَوَظّفَ فيه إعلام الحركة الأصولية لخنق حقوق النساء باسم الدين.

 

إلا أن في الكتاب نقاط ضعف هامة، أولها: عدم توضيح عملية تكون الإيديولوجية الإسلامية المعادية للمرأة. وإن كنت قد تداركت ذلك في كتاباتي اللاحقة منذ 1983، إلا أن هذه النقطة تحتاج مراجعة توضح كيف تراكمت عملية عزل المرأة من الحياة العامة وإضعاف دورها وصوتها عبر النصوص الدينية الفقهية من جهة والقهر الاجتماعي من جهة أخرى.

 

نقطة الضعف الثانية، هي تأكيد الكتاب على أن كل السبل الإصلاحية لم تقدم للمرأة شيئا يذكر، إن لم تؤكد عبوديتها، عبر البحث عن صيغ "ملطفة" في ظاهرها، تكفل تخديرها (1). وهنا أيضا ثمة تشوش في المفاهيم، فقد كنت اعتبر حينئذ قاسم أمين راديكاليا لموقفه من قضية المرأة وكذلك هدى شعراوي. ولعلي كنت متأثرا حينها بكتابات الإسلاميين الذين يصفونهم بالراديكالية، إضافة لمحبتي لهذه الكلمة التي تعود بنا إلى الجذر، أي الإنسان. وبالتالي فمفهوم الإصلاح يتناول من حاول التوفيق بين رجالية المجتمع وبعض حقوق المرأة التي لا "تخلق مشاكل" عند الدفاع عنها. ولا تشمل الاتجاه الإصلاحي في الدين والمجتمع الذي دافع عن حقوق المرأة. وقد سئلت عن الموضوع ولعلها فرصة جديدة للتوضيح وتجنب استعمال المصطلح بهذا الشكل الضيق والمحدود وذلك عبر تخصيص فصل يعرف بأطروحات رواد الإصلاح في هذا الكتاب.

 

أما نقطة الضعف الثالثة، فهي التسرع في تأييد رواية عمر بن الخطاب بوجود آية في الرجم وتبني موضوع الرجم كأمر واقع تمت ممارسته في عهد النبي محمد. ولا شك بدور الشيخ عبد الله العلايلي الذي يرفض وجود الرجم في الإسلام في سعيي للتحقق والتعمق في المخطوطات الإسلامية والروايات، واليوم يراودني الشك أكثر فأكثر بوجود نص ديني يتعلق برجم المحصن والمحصنة في حال ممارسة الجنس خارج الأطر الشرعية، وقد أصبحنا من مؤيدي الرأي القائل بأن عقوبة بهذه الأهمية لو وجدت لما كانت غائبة عن النص القرآني أو طالب القرآن بنصفها للأمة؟ وما هو نصف عقوبة الموت؟.

 

                                  *          *           *

إن كانت المرأة هي المرأة، باستعارة تعبير إسماعيل مظهر، فالحديث عن الإسلام أصعب وأعقد. وفي هذا الموضوع من المفيد قراءة ما يقوله الدكتور محمد خاتمي، قبل أن يصبح رئيسا للجمهورية الإسلامية في إيران: "أي إسلام نريد ونعني حين نتحدث عن الإسلام؟ أ إسلام أبي ذر؟ أم إسلام ابن سينا؟ أو إسلام الغزالي؟ أم إسلام محيي الدين بن عربي؟ أ إسلام الأشاعرة؟ أ إسلام المتصوفة؟ أم إسلام الظاهرية؟ أي إسلام؟ بلى إنها كلها شواهد تاريخية لا يطالها الشك على نسبية معرفة الإنسان حتى عن الدين. إننا جميعا، كائنا ما كان الدين الذي يؤمن به أحدنا، لا نتفق مع آبائنا لا في التفكير ولا في العمل. على أنني لا أقول بأن سنّة التغيير تدرك كل شئ، بل تدرك جلّ شؤون الوجود الإنساني، ومن هنا نسبية العقل والحياة أمر جدي وأساس"(2).

 

من هذا المنطلق يفترض قراءة عنوان هذا الكتاب على أساس أن ما يسمى بالإسلام فيه، هو القراءة التكوينية لإيديولوجية سادت عبر الدولة (أو الخلافة) وصادرت فيما صادرت هذه التسمية مطلقة على غيرها اسم الخارجي أو المعتزل أو الرافض الخ. وقد أطلق عليها منصور فهمي في مطلع القرن اسم "الإسلامية" تمييزا عن الدين الإسلامي(3).

 

لا يمكننا تتبع مسيرة حقوق المرأة (و/أو الرجل) فقط عبر البناء الأسطوري والإيديولوجي للأبوية. وإن كان هذا البناء يؤثر بشكل حاسم كما يتأثر، بالتكوين الاقتصادي الاجتماعي والمنظومة الاجتماعية السياسية. ومن الضروري تتبع أوليات هامة لإزالة اللثام عن وضع محدد، مثل: "مجال التفرد (إمكانية الفرد، ذكرا كان أو أنثى الاستقلال عن الجماعة)، استقلالية الأسرة (إمكانية الأسرة الوجود والاستمرار بمعزل عن العصبة أو الجماعة القربوية)، التمايز على أساس الاختلاف (ما يترتب على الاختلاف البيولوجي في العمل والهيمنة والأعراف: ذكورة-أنوثة، بكر-ثيّب، بكورة-ثني، قريب نسب-قريب رحم، قرابة- غرابة..)، طبيعة تقسيم العمل الأولي (عمل الرجل- عمل المرأة) وتقسيم العمل الاجتماعي (وجود أو غياب س من الناس لعمل محدد)، طبيعة العمل (كيف نفعل هذا فرديا أم جماعيا). الجماعية البسيطة في العمل (كل الناس يقومون بنفس العمل في نفس الوقت)، والجماعية المركبة (كل الناس يقومون بعمل مختلف في الوقت نفسه). درجة التخصص (ثبات فرد أو جماعة في عمل محدد) والعمل نفسه (استعماليا للجماعة، مأجورا، أو رقيا)، ملكية أو حيازة الأشياء والأحياء والخبرات (حيازة أو ملك أرض أو بئر أو عين ماء أو قطيع، مالك رقيق أو سبي، تملك، وضع يد، معرفة حرفية..)، وجود المقايضة والنقد وحركتهما"(4). يضاف لهذا تكّون الدولة وعلاقتها بالبنى الاجتماعية العضوية، العنف وتأثيره على علاقة الجنسين واستعباد النساء، العزل والاختلاط كمحددين لطبيعة العمل والدور الاجتماعيين الخ.

 

من الصعب تتبع جملة هذه العوامل في هذه الدراسة، إلا أننا نتوجه لكل الباحثات والباحثين للمطالبة بإعطائها حقها مكتفين هنا بالمثل القائل "ما لا يعرف كله، لا يترك كله".

 

لقد تجنبت قدر الإمكان تكرار أفكار ومعطيات وردت في دراستي "المرأة في معركة النهضة" المنشورة في كتاب "المرأة!" أو في كتاب "الحجاب". وأعفيت نفسي والقارئ من موضوعات عديدة وردت في كتابات لي أو لأصدقاء أشاطرهم الرأي ساعيا لتوسيع نطاق التناول وإغناء ما صدر.

 

في لحظة صفاء كتب ابن حزم الأندلسي عميد المدرسة الظاهرية في "طوق الحمامة" : "لقد شاهدت النساء وعلمت من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيري، لأني ربيت في حجورهن، ونشأت بين أيديهن، ولم أعرف غيرهن، ولا جالست الرجال إلا وأنا في حدّ الشباب وحين تبقل وجهي؛ وهن علمنني القرآن وروّينني كثيرا من الأشعار ودربنني في الخط، ولم يكن وكدي وإعمال ذهني مذ أول فهمي وأنا في سن الطفولة جدّا إلا تعرّف أسبابهن، والبحث عن أخبارهن، وتحصيل ذلك"..

 

بعيدا عن الآيات والأحاديث، المرأة هي هذه المدرسة، مدرسة الحياة.. وإن كانت الكتابة عنصرا هاما في فكفكة هالة القدسية البطرياركية وإعادة بناء وعي العالم، فإن الحياة هي المدرسة الكبرى لإدراك معنى العطاء النسوي ولنيل الحقوق. ورغم كل النكسات واللحظات الصعبة في الوجود النسائي، يبقى التغيير في مناهج الحياة كعقارب الزمن، نشعر بها بطيئة أحيانا، ومنسية أحيانا أخرى،  ولكن ليس بوسع أحد وقفها.

 

مدخل إلى التكوين الاقتصادي الاجتماعي للحجاز

 

لو كان تاريخ البشرية كتابا مكونا من سبعين صفحة، لكان ما نعرفه ونتحدث فيه ونتصارع على امتلاك تصور له، هو الصفحة الأخيرة. ومن مصائب البشرية، أن الصفحة الأخيرة هذه، ومنذ بدأ النطق البشري يسجل حروفا، تسجل بأحرف سوداء (باستثناء بقع نجت من هذا الاسوداد بنسبة أو بأخرى). هذه الصفحة، سجلت أول ما سجلت، التفاوت البشري الأول، والاضطهاد المجتمعي والطبقي الأول، ألا وهو اضطهاد الذكر للأنثى.. ومجال تناولنا هنا، يرمي إلى تتبع هذا الاضطهاد مع دخول ما يسمى بالحضارة، في مرحلة ومكان محددين.

 

في شاسع رمال الصحراء، لم تمتلك جماعات الصحراء البدائية في الجزيرة العربية القديمة، وعموم شرق المتوسط، المادة الخام لتخطي الملكية الجماعية، باختلاف طبيعتها ومفهومها وشبكة علاقاتها، عبر توجيه ضربة قاضية إليها. ولعل في انتقال الجماعات البدوية التدريجي، إلى مرحلة العبودية الجماعية، عبر عهود تاريخية طويلة وفي خطوط غير متوازية، أساسا لتعايش أشكال متعددة ومتباينة للقبيلة البدوية، بحيث حملت أكثر من قبيلة، من عهود ما قبل الطوفان، إلى عهود ما بعد الإسلام، العلاقات المشاعية الأولى، وجسدت في سياق التاريخ المكتوب، أشكالا لعلاقات الجنسين القادمة من التاريخ غير المكتوب. مبقية جزرا شتى تعيش تعدد الأزواج (الرجال) وأسرة تعايش حقوقا للمرأة وسلطة لها بين القبائل البدوية.

 

لقد بدأت صراعات القبائل في الجزيرة العربية وأطراف سورية الطبيعية على الماء والمرعى، ومن أجل تجاوز قحط موارد الحياة بالسلب والنهب والغنائم غزوا أو مصادرة (بقطع الطريق)، مرحلة هيمنة ما يمكن أن نطلق عليه اسم "العبودية الجماعية"، ونعني بالعبودية الجماعية هنا انعدام إمكانية انفصال الفرد عن الجماعة إلا بوصفه طريدا مفردا إفراد البعير المعبد (أي المبعد عن غيره لإصابته بالمرض) باستعارة بيت شعر طرفة بن العبد. ونجمل في تعريفها تقسيم العمل بين الإنتاج الإنساني وتأمين موارد الإنسان نفسه، بمعنى تقسيم العمل بين المرأة والرجل، وبداية الهرمية في التركيب الاجتماعي وفق الغزو، وبداية الأسر، بما يترتب عليه من أسر النساء واعتبارهن حوزة لمن أسرهم من المحاربين.

 

وقد توافقت هذه المرحلة التاريخية –على الأغلب- (5) مع استقرار بعض القبائل وقيام المدن المنشأة وفق علاقات القربى.

 

أعطت علاقات الإنتاج الناجمة عن التطور السلحفاتي للقوى المنتجة هذه التركيبة الاجتماعية-السياسية مظهر القوة الأساسية باعتبارها مصدر حماية الأفراد، وأداة رأب التفاوت المراتبي-الهرمي أو غير الهرمي داخل المجتمع المؤطر في القبيلة. وبينما أدى تطور الأوضاع الاقتصادية إلى إتمام مرحلة "الشرنقة" داخل المدن في أكثر من حضارة بدءا بسومر وأكد ومدن الفراعنة ومن بعدهم الساحل الشرقي للبحر المتوسط، فإن عوامل قيام المدن هذه نفسها، كانت على الغالب سببا في غيابها ضمن دورة ابتلاع المجتمع القائم بالغزاة وانهيار المجتمع القادم أمام جديد الغزوات.

 

ولم يكن لحركة السلعة التبادلية هذه أن تجد متنفسها، إلا بعد أن عرف البشر تربية المواشي والزراعة. مع ما نشأ عنهما من تقسيم عمل في البداوة والحضر.

 

هذه السيرورة، يمكن تلمسها في أخذ مقاطع عديدة من التاريخ ومعطياته، ولو جربنا تناول حقبة زمنية تمتد من نهاية القرن الخامس الميلادي، لثلاثمائة سنة بعدها عبر مثال بسيط جد معبر: المثل البدوي القائل : "الناس شركاء في ثلاث، الكلأ والماء والنار.

 

هذا المثال يعني في المجتمع البدوي مقومات وجوده: الطاقة، الماء والغذاء.

 

في النصف الأول من القرن السابع الميلادي، أقره النبي محمد حرفيا فيما أعطاه أول الصحابة معنى كلأ المراعي جميعا والماء الذي لا يملك ولا يصح بيعه، كونه مصدر الحياة (وجعلنا من الماء كل شئ حي-قرأن)، والزيت المستعمل للنار في المدن وبعض الأرياف. وبعد حقبة زمنية، يتناول ابن الأثير الحديث نفسه ليشرحه بالقول: "أراد بالماء ماء السماء والعيون والأنهار الذي لا مالك له، وأراد بالكلأ المباح الذي لا يخص أحد، وأراد بالنار الشجر  الذي يحتطبه الناس من المباح فيوقدونه.

 

يوضح هذا المثال، هذه السيرورة للتملك والتفاوت من جهة وضرب الشيوع والاشتراك من جهة أخرى، والتحول من الشراكة العامة إلى الشراكة خارج التملك والحيازة.. كذلك نرى كيف تنامى مفهوم المباح، المتروك، الموات الخ من جهة، والمتملك، المقطَع، الخاص، غير المباح الخ من جهة ثانية.

 

هذا المقطع الصغير، يمكن أن يعطي صورة عن سيرورة سلحفاتية عامة شهدها المشرق العربي في بحر سبعة آلاف عام من يومنا.

 

نعود لظهور الاقتصاد السياسي (اللحظة التي بدأت فيها مبادلة المنتجات لقاء بعضها بعضا، سواء من قبل الأفراد أو من قبل الجماعات البدائية).

 

لقد شكل ظهور الاقتصاد السياسي انقلابا جذريا على صعيد إنتاج وتجديد إنتاج الحياة المباشرة، وبالطبع لم يكن ذلك فحسب على صعيد إنتاج وسائل الحياة، وإنما على صعيد إنتاج الإنسان نفسه، مع كامل العلاقات التي تحكم إنتاج الإنسان (علاقات الجنسين، وضع المرأة، علاقات الآباء والأبناء، روابط القربى والمصاهرة…). فمع التغيير الجذري في وضع القوى المنتجة الإنسانية، استجدت مجمل تغييرات أساسية تناولت جدل العلاقة بين إنتاج الإنسان وإنتاج وسائل الحياة من جهة، وطبيعة منظومة القيم الأبوية وقواعد ارتكازها من جهة ثانية. وانعكس ذلك بشكل مباشر على العلاقة الطبيعية والمباشرة بين المرأة والرجل. فقد جاء تحول المنتجات، لتصبح أول بأول، منتجات للتبادل، لتصبح بتعبير آخر سلعا، مع نشوء كل مصطلحات توفير وتيسير وإشكالية التبادل: طرق تجارية، حماية الطرق من البدو بالبدو مع مقابل، غزو القوافل … ، جاء هذا التحول ليعزز فقدان العمل المنزلي في المجتمع البدوي لطابعه الاجتماعي العام، بتحويله إلى خدمة خاصة مع صعود قانون السعر ومفهوم القيمة (قيمة الأشياء والبشر المشيئين) حيث تراجعت القيم الاستعمالية أمام زحف السلع التبادلية.

 

هكذا قام انفصال العمل المنزلي عن الإنتاج المجتمعي العام ليكمل دورة دونية المرأة، عبر تبلور الأسرة الأبوية داخل الجماعة القربوية.

 

كيف نلاحظ هذا التغير بشكل عياني في التجربة المكية؟

 

شكل نجاح قصي بن كلاب (مطلع القرن الخامس للميلاد) في السيطرة على مكة، بداية مركزة القوة والزعامة السياسية والاجتماعية والاقتصادية على أساس علاقات القربى لقريش في المجتمع المكي، حيث مثل قصي، قمة الجهاز القبلي في القبيلة الظافرة المنتصرة.. عبر جمع كامل السلطة في شخصه، فكان مسؤولا عن السقاية والرفادة والحجابة ودار الندوة واللواء.. بتعبير معاصر، مجمل المسؤوليات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية والدينية.

 

وسواء علم جيل بني هاشم من بعده، بأنهم يزرعون ألغام تفجير المجتمع المكي القائم على السيطرة القبلية، على سيطرتهم هم، أم لم يعلموا، عندما باشروا التجارة من بلاد الشام ووسعوها في كل اتجاه، سواء علموا بأنهم، إنما يباشرون تمزيق علاقات إنتاج الإنسان التي عرفها المجتمع المكي في بحر القرن السادس الميلادي، أم لم يعلموا، فليس لنا إلا أن نقول، بأن الظروف الموضوعية التي جعلت من مكة مركزا تجاريا هاما لطريق تجارية أضحت غاية في الأهمية، وضعت الأرضية المادية لتغيرات أساسية في المجتمع المكي. 

 

فمع الانحسار الحبشي عن الجزيرة العربية، وفشل أبرهة في تحقيق أهداف حملته الاقتصادية والسياسية، وفي وقت احتدم فيه الصراع بين الإمبراطوريتين البيزنطية والساسانية وداخلهما ومع مجاوراتهما، وانحسر فيه الأسطول الساساني عن السواحل العربية الجنوبية. أصبحت الطريق التجارية عبر مكة ذات أهمية متميزة وأصبحت تجارة مكة من أهم مراكز التجارة في المنطقة. لقد أصبح التبادل من أجل توفير وسائل الحياة الضرورية ، لهذا البلد غير ذي الزرع، مهمة ثانوية أمام الوظيفة الاقتصادية الاجتماعية الدائمة المتنامية بشكل كبير: التجارة الربوية، هذا الغازي المتضخم بنمو سرطاني عشوائي غير محدود.

 

هذا الانقلاب الجذري في حياة المكيين ، أوجد في حياتهم طوطما جديدا اسمه "الثروة"، هذا الطوطم، الذي يقف تاجا على رأس سوق السلع المكية يدخل حياة المكيين بكل ما فيها ، فأكبر قبائلهم تكنى بقريش (من يتقرش المال : يجمعه، والتقرش: التجارة والاكتساب حسب ابن هشام وابن منظور) وأهم مقومات الحياة القبلية حينئذ (الغزو) يصبح وفق العرف والقانون ممنوعا، لعدم انسجامه مع الازدهار التجاري. التفاوت الاجتماعي يبدو في مكة بأبشع صوره (رأسمال أبو بكر – وكان من تجار قريش- أربعون ألف درهم وثمن زيد بن حارثة – مولى النبي محمد – أربعمائة درهم). ومهما كان مبالغا في قول أصحاب "الإصابة" و "الاستيعاب" و "تاريخ العرب قبل الإسلام"، في أن ابن عوف قد أعتق ثلاثين ألف عبدا بعد الإسلام في حياته، إلا أن في هذا القول ما يدل على اتساع تجارة الرقيق في هذه المدينة الصغيرة التي يبلغ مجمل عدد سكانها وقتئذ عشرين ألف نسمة.

 

البيع والشراء يدخلان عالم الآلهة ومعلقات الأدب والبشر والمال. ستة وعشرون صنفا للبيع والشراء تنسب لتجار مكة، وأشكال متعددة لتبادل المال (الربا) تصبح من عاديات المجتمع. وأمام أكثر من ثلاثة عشر سوقا تجاريا وموسميا في الجزيرة العربية، دشنت مكة سوق عكاظ لرفد سوقها الدائمة بسوق موسمية للأدب والبضاعة  وعرفت الرهون العقارية والتسليف والقروض والتكاتب والسمسرة بأشكال جعلت صاحب نهاية الأرب يقول : "أصبحت قريش تربح في تجارتها للدينار دينارا". ولا تعني هذه التغيرات فقط تحريك الغرائز الأسوأ للناس عبر قانون الجشع، وإنما أيضا سيادة لغة ولهجة مكة وقيام شبكات التصاهر التجاري وعقد الحبال مع سادات القبائل لضمان أمن التجارة (الإيلاف)، وظهور أكثر من اتجاه حنفي توحيدي في المدينة.

 

أصبح النقد أداة التعامل الرئيسية  وساد التعامل النقدي والربوي وتميز تجار مكة طبقة واضحة المعالم ضمن وخارج علاقات إنتاج الإنسان والاتساع الكبير للعبيد بالمعنى الآسيوي وحيازة وتملك وإقطاع الأرض مثلت جميعا أساس وصول المجتمع المكي إلى درجة تشكل الأرضية الموضوعية للحضارة. هذه الكلمة التي حققت وأعطت الكثير الكثير مما عجز عنه المجتمع القبلي القديم، ولكن، عبر تحريك أحط غرائز الناس وشهواتهم، وقتلها من مؤهلاتهم الطبيعية ما قتلت عبر قانون الجشع: الثروة، الثروة أولا، الثروة أيضا، والثروة دائما، والذي يعبر عنه حديث ينسب للنبي محمد يقول: "لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثا، ولا يشبع عيني ابن آدم إلا التراب".

 

رسم دخول الحضارة صورة جديدة لعلاقات إنتاج الإنسان، سواء في تعبيرها القبلي وجملة أشكال علاقات القربى الواسعة، أو في البنية الأولية لعلاقة الجنسين "الأسرة الأبوية" ووضع المرأة.

 

فقد تهاوت ركائز عديدة للمجتمع القبلي عبر دخول الثروة سببا وموضوعا في الزواج والتصاهر إلى جوار القربى والنسب. ومركزة الثروة تبعا للهرم القبلي وخارجه أحيانا. وقد دخلت المرأة سوق السلعة المكية كإمرأة، دخلته عبر التبادل والإنتاج الواسع للعبيد (نساء ورجال) حيث تفنن المجتمع المكي في استغلال واضطهاد الإماء، فكن يشاركن في العمل المنزلي ويقدمن أجسادهن لأسيادهن الذين ينشدوهن للمتعة الجنسية ويملكون حق تقرير مصير أبنائهم من هكذا علاقة، وحق بيع الأمة ما أن أنجبت، وجني المال منهن عبر إرسالهن بغايا مقابل أجر إلى من يشاؤون، ويستعملوهن أدوات إنتاج للعبيد في مزارع إنتاج العبيد التي باشرها المجتمع المكي، وتستغل أثدائهن للإرضاع وجمال صوتهن وأجسادهن لحانات الخمرة والأسواق..

 

وإن كان للقرشيات حصن سيادة القبيلة على السوق، فقد دخل عدد من العربيات غير القرشيات وغير العربيات سوق المتعة الرجالية، وكن يعلقن على حجرهن أعلاما بيضاء بمثابة عرف على وجود بيوت البغاء. كما عملت العديد من النسوة البدويات مرضعات بالأجرة لأطفال قريش والتجار.

 

لقد تجرد طواف النساء شبه عاريات حول الكعبة، هذا العرف القديم جدا من كل معانيه الأصلية مع صعود جسد المرأة سلعة من سلع السوق هذا الجسد الذي استعمل له في مكة أكثر من أربعين كلمة.

 

أما المرأة المكية، فإذا استثنينا من استثنتهن الثروة والمنزلة القبلية بشئ من رحمتها (؟)، فقد عانت من اضطهاد كبير في علاقتها مع زوجها، حيث ملك مجتمع الرجال حق تطليقها، ولم تملكه إلا في حال موافقة الرجل على دفعها فدية مالية لنفسها للزوج. وقد مارس المجتمع الرجالي أشكالا شتى للقمع الجنسي كالطلاق والعودة أثناء العدة، الإيلاء (أي حرمان الزوجة من ممارسة الجنس مع زوجها إلى أمد غير محدود في أسرة متعددة الزوجات!)، والمخالعة الرجالية (سوء العشرة والقهر الجنسي إلى أن تفدي المرأة نفسها بمالها)، الظهار (حرمانها من كلا الجنس والطلاق مدى الحياة).

 

النكاح لم يكن عقدا، أو حصرا بزواج البعولة الأبوي ( يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها-بتعريف عائشة بنت أبي بكر)، والمتعدد الزوجات ( إن قريشا كان الرجل منهم يتزوج العشر من النساء والأكثر والأقل- تفسير الطبري 4/156) بل يتحفنا المجتمع بأشكال شتى نتابع فيها تداخل القديم والجديد فيما نحصي منه:

 

-    نكاح الاستبضاع: كان الرجل يقول لإحدى نسائه، إذا طهرت من طمثها- ارسلي إلى فلان فاستبضعي منه. ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب.

 

-     نكاح الرهط: يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها، أرسلت إليهم، فلم يستطيع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، تقول قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان.

 

-         نكاح صواحبات الرايات (البغي) ونكاح المتعة: نكاح مؤقت بالنقود أو شئ ما يدفع للمرأة  ويحدد زمن نهايته.

 

-          نكاح البدل: أن يقول الرجل للرجل: انزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي.

 

-         نكاح الشغار: يزوج الرجل ابنته أو وليته على أن يزوجه الآخر ابنته أو وليته ليس بينهما صداق (مهر).

 

-         نكاح الضغينة: إذا سبى رجل امرأة له أن يتزوجها إن شاء.

 

-    ويدخل في صلب نسب النبي نكاح المقت (الضيزن: وراثة زوجة الأب للابن وتزوجها منه، أو زواج الأختين بنفس الوقت) لتأتي الآيات القرآنية بالسماح به بتشريع متقدم (أي لمن سلف وسبق المنع كونه يؤثر عن النبي قوله أنا من نكاح لا من سفاح).

 

-     وأخيرا، وليس آخرا، نكاح الخدان، أو رد فعل النساء على قمعهن باتخاذ عشيق تعاشره سرا، وقد اختلفت فيه المواقف بين اعتباره زنى وبين الاكتفاء بالسجن المنزلي لمن يكشف أمرها وقد أشار له القرآن باسم "متخذات الأخدان" ناهيا عنه.

 

أما الطلاق، فطالقة الثالثة تجعله طلاقا بائنا (دون رجعة) سواء نطق : أنت خلية أو قال أنت برية، أو جعل حبلها على غاربها، أو كانت مخلى كهذا البعير.. إلى آخره من مصطلحات تفنن الرجال في استعمالها لإعلان الطلاق، وعلى أعتاب الطلاق كان العضل يقول فيه صاحب تاج العروس: "كان العضل في قريش بمكة. ينكح الرجل المرأة الشريفة فلعلها لا توافقه، فيفارقها، على أن لا تتزوج إلا بإذنه فيأتي بالشهود، فيكتب ذلك عليها، ويشهد، فإن خطبها خاطب، فإن أعطته وأرضته، أذن لها، وإلا عضلها /تاج العروس، عضل، 8/21).

 

وليس لنا أن نتحدث عن المرأة والإرث في مجتمع المرأة فيه بحد ذاتها إرثا.

 

لم يحقق الرأسمال التجاري الربوي تحولا في كامل الحجاز والجزيرة العربية، بل أوجد تحولا في المدن التجارية ومجاوراتها وفي تنظيم القوافل التجارية. ولم يدخل إلى المجتمع البدوي الرعوي المختلط ليمزقه من داخله، بل اتصل به ليقدم له رسوم "عدم الاعتداء" على القوافل التجارية من جهة وتبادلا محدودا وغير متكافئ مع نتاجه من جهة أخرى. ودخل المستوطنات الزراعية بوصفه الجرثومة التي تعطيها المرض لا الازدهار، الإفقار وليس الغنى، عبر كونها لا تملك وسائل مقاومته الاقتصادية وتحتاجه طردا مع أهمية النقد في عملية إعادة إنتاجها المحلية، فيما ينال تعبيره في اتساع عمليات الربا وتنوعها، وتوفير التجارة للسلع المحدودة الإنتاج محليا مع ما يترتب عليه من تقوقع داخلي أحيانا، للحماية  والبؤس أحيانا أخرى في الانفتاح على السوق الذي يجسد أول ما يجسد دخول أشكال التملك الفردي والمراتبية الطبقية حياة المستوطنات الزراعية.

 

تكونت يثرب (المدينة المنورة وأول مدينة وعاصمة في الإسلام) من عناصر مهاجرة بالأساس، حيث الأوس والخزرج قبيلتان يمنيتان جاءتا من منطقة زراعية متقدمة، وقبلهما كانت هجرة اليهود. ويبدو من أبيات الشعر ومختلف الروايات قدم الصراع بين الأوس والخزرج من جهة، واليهود من جهة أخرى. كانت أغلبية السكان إبان الإسلام يمنية عربية وكان بني قريظة وبني النضير من اليهود يحتلون الأراضي الأكثر خصوبة في حين اشتهر بني قينقاع بالحرفة والتجارة والسوق المعروفة باسمهم ولم يكن لهم حيازات أرض. وقد عرفت المدينة عدة تحالفات قائمة على القرابة والجوار كالتحالف بين الخزرج الذين يحتلون مركز المدينة وغربها وجنوبها بشكل أساسي مع قينقاع المجاورين لهم بيوتا وآطاما (أبنية مرتفعة) وسوقا من جهة، وبين الأوس المحتلين لشرق وجنوب يثرب الشرقي مع بني قريظة والنضير الذين تتداخل ربعاتهم من الأرض في أراضي الأوس.

اعتمدت يثرب الزراعة أساسا لمعيشة أهلها، ووقفت إنتاجها على التمور أولا والخضر ثانيا، تساعدها ثلاثة أودية تجمع الماء: (العقيق وبطحان وقناة). كما حفر أهلها الآبار وبنوا المصانع (أحواض للاستفادة من ماء المطر).

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.